تفسير سورة البقرة [189-195]


الحلقة مفرغة

قال الله تبارك وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة:189]، يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ( يسألونك ) يعني: يا محمد صلى الله عليه وسلم. ( عن الأهلة ) جمع هلال، لم تبدو دقيقة ثم تزيد حتى تمتلئ ثم تعود كما بدأت ولا تكون على حالة واحدة كالشمس؟! ( قل هي مواقيت ) يعني: قل لهم: هي مواقيت، جمع ميقات. ( للناس ) يعني: يعلمون بها أوقات زرعهم ومتاجرهم وعدد نسائهم. العدد جمع عدة، أي: ليحصوا عدة المطلقة أو المتوفى عنها زوجها، وصيامهم وإفطارهم. ( والحج ) الحج يدخل فيما سبق لكن الله سبحانه وتعالى أفرد الحج بالذكر لبيان شرفه وفضيلته على ما عداه من الأعمال. ( قل هي مواقيت للناس والحج ) عطف على الناس، أي: ليعلم بها وقت الحج، فلو استمرت على حالة واحدة لم يعرف ذلك. ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) يعني: في الإحرام، بأن تنقبوا فيها نقباً تدخلون منه وتخرجون، وتتركوا الباب، وهم ناس من الأنصار كانوا يفعلون ذلك ويزعمونه براً. ( ولكن البر ) يعني: ولكن ذا البر ( من اتقى ) يعني: الذي يتقي الله بترك مخالفته. ( وأتوا البيوت من أبوابها ) يعني: في الإحرام وغيره، يعني: في حالة الإحرام كغير الإحرام ائتوا البيوت من أبوابها. ( واتقوا الله لعلكم تفلحون ) أي: تفوزون. أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله! لم خلقت الأهلة؟ فنزلت هذه الآية. وروى أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يطلع دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان، ولا يكون على حال واحدة؟ يعني: لماذا القمر تعتريه هذه التغييرات زيادة ونقصاناً في حين الشمس تكون ثابتة على حال واحدة؟ فنزلت هذه الآية.

معنى قوله تعالى: (قل هي مواقيت للناس)

قوله تعالى: (( قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ )) يعني: معالم لهم في حل دينهم، فيعتمدون عليها في مواعيد حلول الدين، ولصومهم ولفطرهم وأوقات حجهم، وأجائرهم -يعني الإجارات- وأوقات الحيض، وعدد نسائهم، والشروط التي إلى أجل، فكل هذا مما لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الاختلاف في شكل القمر زيادة ونقصاً؛ ولهذا ميزها عن الشمس التي تبقى دائماً على حالة واحدة. قال بعض المفسرين: ثمرة الآية أن الأحكام الشرعية كالزكاة والعدد للنساء والحمل تتعلق بشهور الأهلة لا بشهور الفرس، أما ما يتعلق بالعقود والأفعال المتعلقة بفعل بني آدم فيتبع فيه العرف من حسابهم بالأهلة أو بشهور الفرس فهذا حكم وذاك حكم آخر. إذاً: أي فعل علق الله سبحانه وتعالى عمله على زمن معين فهذا يجب الالتزام فيه بالأهلة وليس بالتقويم الشمسي، كالزكاة مثلاً، إذا أراد الإنسان أن يبحث هل حال الحول على زكاته أم لا، فلابد أن ينتبه إلى أن المقصود الحول الهجري وليس الحول الميلادي، فلابد من اعتبار حول السنة الهجرية المعروفة. كذلك عدد النساء لا تحسب إلا بالشهور الهجرية، كذلك أيضاً الحمل، وغير ذلك، فهذه الأحكام التي لها علاقة بالأحكام الشرعية لابد من الالتزام فيها بالشهور الهلالية، أما العقود التي ينشئها الناس فيما بينهم أو غير ذلك من الأعمال التي لم تربط بأفعال شرعية فهذه يرجع فيها إلى العرف بالأهلة أو بغيرها. وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في آيات كقوله سبحانه وتعالى: وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [يونس:5]، وقال تعالى: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [الإسراء:12]، آية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس، وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [الإسراء:12] أي: من غير افتقار إلى مراجعة المنجم وحساب الحاسب رحمة منه تعالى وفضلاً. وإفراد الحج بالذكر هنا تنويه بشأنه، وتشريف له، وقال القفال : نكتة إفراده -يعني: النكتة في إفراد الحج بالذكر رغم دخوله في عموم ما قبلها- بيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه، وأنه لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر غيرها كما كانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية. والجمهور من القراء على فتح الحاء من كلمة (الحج)، والحسن على كسرها في جميع القرآن، وقال سيبويه : هما مصدران كالرد والذكر، وقيل: بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم. والأهلة جمع هلال، وجمعه باختلاف زمانه، والمقصود هنا جمع هلال بمعنى أنه يختلف في الزمان من وقت إلى آخر، فالهلال غرة القمر إلى ثلاث ليال أو سبع، غرة القمر من أول ما يبدو الهلال من الليلة الأولى إلى ثلاث أو سبع ليال يسمى هلالاً، ثم يسمى بعد ذلك قمراً، وليلة البدر لأربعة عشرة. قال أبو العباس : سمي الهلال هلالاً؛ لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه، فالإهلال رفع الصوت بالإخبار عن الهلال، وسمي بدراً لمبادرته الشمس بالطلوع كأنه يعجلها المغيب، وسمي بدراً لتمامه وامتلائه، وكل شيء تم فهو بدر.

سبب نزول هذه الآية

روى أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يطلع دقيقاً مثل الخيط؟ يعني: كان يشغل السائلين تفسير هذه الظاهرة وبتعبير معاصر كأنهم كانوا يسألوه عن التفسير العلمي للزيادة والنقصان في الهلال، وكان يمكن أن يقول لهم النبي عليه الصلاة والسلام: إن هذا ناشئ عن الظل حينما تكون الأرض بين الشمس والقمر، فإذا حجب ظل الأرض القمر لا يظهر منه شيء، ثم إذا انحسر قليلاً يبدو الهلال، وكلما مر الوقت فإنه يزيد حتى يصير بدراً ثم ينعكس كما هو معروف في دورة القمر. فهذا كأنه سؤال عما لا يغني وعما لا يفيد، فلذلك كان الجواب بما ينفع، فلم يفسر لهم هذا الذي كانوا يسألون عنه، وإنما انتقل إلى ما يفيدهم ويعود عليهم بالنفع تماماً كما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي سأله: متى الساعة؟ فقال: (ما أعددت لها؟) فهو انصرف عن جواب سؤاله الذي لا يعنيه إلى ما يعنيه، ليس المهم متى الساعة، الساعة آتية ولو بعد أربعمائة سنة أو خمسمائة سنة أو أكثر أو أقل، وهذا لا يعنيك أنت، أنت لن تخلد شئت أم أبيت، أنت لك ساعتك، وقيامتك أنت يوم تموت، أما عمر الدنيا فهذا لا يعنيك، وهذا مما استأثر الله بعلمه، فانتقل إلى جوابه عما يفيده وما يعنيه، فقال: (ما أعددت لها؟ قال: لا شيء غير أني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت). كذلك هذان الصحابيان قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يبدو أو يطلع دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان، ولا يكون على حال واحدة؟ فنزلت هذه الآية: (( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ))، فهنا أجاب السائل بغير ما كان يطلب، ونزل سؤاله منزلة غيره تنبيهاً للسائل على أن ذلك الغير هو الأولى بحاله، أو هو المهم له، فلما سأله عن السبب الفعلي للتشكلات النورية في الهلال، أجيب بما ترى من السبب الغائي تنبيهاً على أن السؤال عن الغاية والفائدة هو أليق بحالهم؛ لأن درك الأسباب الفاعلية لتلك التشكلات مبني على أمور من علم الهيئة لا عناية للشرع بها، وهذه تترك لأهل الدنيا يتكلمون فيها، كعادة القرآن في أن أمور الدنيا يترك الله سبحانه وتعالى الأمر فيها للناس؛ لأن الله أوضع فيهم القوة والقدرة العقلية على استنباط واكتشاف هذه الأشياء، لكن الشرع يخبرنا بالأمور المهمة التي تفيدنا، مثلاً: صراخ المولود الطبيعي حين يولد نجد الأطباء لهم تفسيرات تتواءم مع علمهم وأمور الدنيا، فيقولون مثلاً: من أجل أن يتنفس ويتفتق حلقه وغير ذلك من الأشياء التي هي من فوائد هذا الصراخ، في حين أن الوحي أخبرنا عن سبب آخر لا يتعارض مع هذه الأمور التي يمكن أن يعلمها الناس من أمور الدنيا، فتركها لهم ليكتشفوها، أما الذي لا سبيل إلى دركه فهو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ما من مولود يولد إلا ويستهل صارخاً إلا ابن مريم وأمه)؛ وذلك استجابة لدعوة امرأة عمران وهي أم مريم عليها السلام حينما قالت: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36]، فيثبت النبي عليه الصلاة والسلام أن كل مولد يولد يطعنه الشيطان في خاصرته؛ إعلاناً له بالعداوة من أول لحظة، وأنه سيتلقاه بالعداوة كما عادى أبويه من قبل، فهذا إعلان لعداوته له من أول لحظة ينزل فيها إلى الدنيا، فهذا لا يمكن أن يصل إليه العلم البشري، فلذلك تكفل الله سبحانه وتعالى بإيحائه إلى نبيه عليه الصلاة والسلام. أما تفسيرات الظواهر الموجودة والمبثوثة في الآفاق وفي الكون وفي أنفسنا فتركت لأهل الدنيا يكتشفونها ويتحدثون عنها، أما الشرع فلا يهمه تفسير الهلال لماذا ينقص ويزيد وغير ذلك، فإنما يهمه الحكمة من وراء ذلك والغاية. فذكر أن الغاية هي أن ذلك مواقيت للناس والحج. يقول: فلو أجيبوا بأن اختلاف تشكلات الهلال بحسب محاذاته للشمس فإذا حاذاها طرف منه استنار ذلك الطرف، ثم تزداد المحاذاة والاستنارة حتى إذا تمت بالمقابلة امتلأ، ثم تنقص المحاذاة والاستنارة حتى إذا حصل الاجتماع أظلم بالكلية؛ لكان هذا الجواب اشتغالاً بعلم الهيئة الذي لا ينتفع به في الدين ولا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث لبيان ما يصلح ديننا ودنيانا. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال علي رضي الله عنه: من طلب علم النجوم تكهن. وهو من العلم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علم لا ينفع وجهل لا يضر) وإن كان لا يصح هذا الحديث . على أي حال هذا أسلوب من الأساليب الحسنة في الجواب، إشعاراً بأن الأولى السؤال عن الحكمة فيه وليس عن كيفية تشكله، ونظيره عند العرب أن شاعراً أتته امرأته تشكو إليه من كثرة الضيفان وقرى الأضياف، ونحتاج إلى الاستشهاد بهذه الأشعار؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، يقول الشاعر: أتت تشتكي عندي مداولة القرى وقد رأت الضيفان ينحون منزلي فقلت كأني ما سمعت كلامها هم الضيف جدي في قراهم وعجلي فلم يجبها فيما شكت إليه، وانتقل إلى ما يفيد ويجدي. وكما قال أيضاً تبارك وتعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [البقرة:215]، سألوا عن بيان الشيء الذي يخرجونه، فأجيبوا ببيان المصرف الذي ينفقونه؛ لأن هذا هو الذي يفيدهم، فينزل سؤال السائل منزلة غير سؤاله لتوخي التنبيه له بألطف وجه على موضع سؤال هو أليق بحاله أن يسأل عنه، أو هو أهم له إذا تأمله، وهذا بلا شك: ينشط السامع إلى ما سمعه، وهذا الأسلوب الحكيم لربما طابق المقام فحرك من نشاط السامع ما سلبه حكم الوقوف، وأبرزه في معرض المذكور، وهل ألان شكيمة الحجاج في ذلك الخارجي، وسل سخيمته حتى آثر أن يحسن على أن يسيء، غير أن سحره بهذا الأسلوب؟ إذ توعده الحجاج بالقيد في قوله: لأحملنك على الأدهم، فقال متغاضياً -أي: الرجل قالها بصيغة التغاضي-: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب! فـالحجاج كان يتهدده أنه يركبه على الفرس الأدهم، ويطاف به في الأسواق، وهذا أسلوب من أساليب المعاقبة من قبل. فالرجل تغاضى عن ذلك وسحر الحجاج بأسلوبه حينما لجأ إلى هذا الأسلوب الحكيم الذي نتحدث عنه، فلما قال له: لأحملنك على الأدهم، أظهر له أنه فهم غير ما أراد، وهو يعلم حقيقة ذلك، ولكنه تغابى، وكأنه فهم أنه يريد أن يكرمه، وسيحمله على الفرس الأدهم، فقال: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب يعني: مثلك رجل شريف ذو سلطان ولا يليق بك أن تحمل على الأدهم، بل تحملنا على شيء أعظم من ذلك، فقال متغاضياً: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب، مبرزاً وعيده في معرض الوعد، مترتباً بأن يريه بألطف وجه أن امرأ مثله في مكمل الإمرة المطاعة خليق بأن يفد لا أن يوفد، وأن يعد لا أن يوعد.

معنى قوله تعالى: (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها..)

قوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة:189]. الباب: معروف، واستعير لمدخل الأمور المتوصل به إليها، فكل شيء يوصل إلى شيء يسمى باباً، ويقال في العلم: باب كذا. وقد ذكرنا أن سبب نزول الآية السابقة أنهم سألوا: ما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يكبر ويزيد إلى أن يصير بدراً؟ وكأن هذه الآية أيضاً فيها توبيخ لهم على الاهتمام بمالا يعنيهم في أمر العلم: (( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا )) يعني: انشغلوا بما يفيدكم، وهذا المعنى فصله ووضحه الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى بكلام رائع في مقدمة كتابه الموافقات، وبفصل مستقل، وجعل ذلك مثلاً لسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عما ليس من العلم المختص بالنبوة؛ لأن ذلك عدول عن المنهج؛ وذلك أن العلوم ضربان: ديني ودنيوي يتعلق بأمر المعاش، كمعرفة الصنائع، ومعرفة حركات النجوم، ومعرفة المعادن والنبات وطبائع الحيوانات، وقد جعل لنا سبيلاً إلى معرفته من غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم، تصوروا لو أن الصحابة أنفقوا عمرهم مع النبي عليه الصلاة والسلام في تفسير كيف تهطل الأمطار، وكيف تدور الأفلاك، وكيف ينشأ عنها الليل والنهار، وكيف كذا وكذا مما يدرس الآن في العلوم الحديثة، فأي خسارة كانت ستعود على المسلمين إذا انشغل المسلمون والصحابة بذلك عما يصلح الدين وما يصلح الآخرة، وعن أركان هذا الدين، وعن تفاصيل العبادات والمعاملات، وتفاصيل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتفاصيل الأخلاق الإسلامية؟! هذه الأمور نعرفها بالخبرة البشرية، وبمرور الوقت تنكشف علوم الدنيا؛ لأنها متعلقة بالمعاش وبالدنيا. أما الأمور الشرعية -وهو البر- فلا سبيل إلى أخذه إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحكام التقوى: (( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ))، فعوتبوا عندما جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عما يمكنهم معرفته من غير جهته، فلو سألوا عالماً من أهل الهيئة فإنه سيشرح لهم موضوع الهلال كيف يزيد وينقص، فلما جاءوا يسألونه عما أمكنهم معرفته من غير جهته بين لهم أنه ليس البر سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما ليس مختصاً بعلم نبوته، ولكن البر هو مجرد التقوى؛ وذلك يكون بالعلم والعمل المختص بالدين. قال أبو مسلم الأصبهاني : المراد بهذه الآية ما كانوا يعملونه من النسيء، فإنهم كانوا يؤخرون الحج عن وقته الذي عينه الله له، فيحرمون الحلال ويحلون الحرام، فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثل لمخالفة الواجب في الحج وشهوره. وقد روى البخاري وغيره عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء رضي الله تعالى عنه يقول: نزلت هذه الآية فينا، كان الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها -يعني: من النافذة أو من فتحة الجدار- قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه، وخالف هذه العادة التي كانت عند الأنصار في الجاهلية، فعيروه فنزلت: (( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ))، وقول البراء : نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا.. إلى آخر الأثر؛ هذا بحسب ما ظنه هو، وليس معنى ذلك أنها نزلت فيهم فقط، ولكن نقول: هي تصدق على هذا الحال، لا أن ذلك كان سبب نزولها، فأحياناً يقول العلماء: نزلت هذه الآية في كذا، وليس المقصود أن هذا هو سبب النزول، وإنما المقصود أن هذه الآية تصدق على هذا الحال، وإن لم يكن هو سبب النزول. (( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا )) أي: تحروا لكل عمل إتيان الشيء الديني منه، تنبيهاً على أن ما يطلب من غير وجهه يصعب تناوله. ثم قال: (( وَاتَّقُوا اللَّهَ ))، حثاً لنا أن نجعل تقوى الله شعارنا في كل ما نتحراه، وبين أن ذلك ذريعة إلى تحصيل الفلاح.

قوله تعالى: (( قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ )) يعني: معالم لهم في حل دينهم، فيعتمدون عليها في مواعيد حلول الدين، ولصومهم ولفطرهم وأوقات حجهم، وأجائرهم -يعني الإجارات- وأوقات الحيض، وعدد نسائهم، والشروط التي إلى أجل، فكل هذا مما لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الاختلاف في شكل القمر زيادة ونقصاً؛ ولهذا ميزها عن الشمس التي تبقى دائماً على حالة واحدة. قال بعض المفسرين: ثمرة الآية أن الأحكام الشرعية كالزكاة والعدد للنساء والحمل تتعلق بشهور الأهلة لا بشهور الفرس، أما ما يتعلق بالعقود والأفعال المتعلقة بفعل بني آدم فيتبع فيه العرف من حسابهم بالأهلة أو بشهور الفرس فهذا حكم وذاك حكم آخر. إذاً: أي فعل علق الله سبحانه وتعالى عمله على زمن معين فهذا يجب الالتزام فيه بالأهلة وليس بالتقويم الشمسي، كالزكاة مثلاً، إذا أراد الإنسان أن يبحث هل حال الحول على زكاته أم لا، فلابد أن ينتبه إلى أن المقصود الحول الهجري وليس الحول الميلادي، فلابد من اعتبار حول السنة الهجرية المعروفة. كذلك عدد النساء لا تحسب إلا بالشهور الهجرية، كذلك أيضاً الحمل، وغير ذلك، فهذه الأحكام التي لها علاقة بالأحكام الشرعية لابد من الالتزام فيها بالشهور الهلالية، أما العقود التي ينشئها الناس فيما بينهم أو غير ذلك من الأعمال التي لم تربط بأفعال شرعية فهذه يرجع فيها إلى العرف بالأهلة أو بغيرها. وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في آيات كقوله سبحانه وتعالى: وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [يونس:5]، وقال تعالى: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [الإسراء:12]، آية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس، وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [الإسراء:12] أي: من غير افتقار إلى مراجعة المنجم وحساب الحاسب رحمة منه تعالى وفضلاً. وإفراد الحج بالذكر هنا تنويه بشأنه، وتشريف له، وقال القفال : نكتة إفراده -يعني: النكتة في إفراد الحج بالذكر رغم دخوله في عموم ما قبلها- بيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه، وأنه لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر غيرها كما كانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية. والجمهور من القراء على فتح الحاء من كلمة (الحج)، والحسن على كسرها في جميع القرآن، وقال سيبويه : هما مصدران كالرد والذكر، وقيل: بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم. والأهلة جمع هلال، وجمعه باختلاف زمانه، والمقصود هنا جمع هلال بمعنى أنه يختلف في الزمان من وقت إلى آخر، فالهلال غرة القمر إلى ثلاث ليال أو سبع، غرة القمر من أول ما يبدو الهلال من الليلة الأولى إلى ثلاث أو سبع ليال يسمى هلالاً، ثم يسمى بعد ذلك قمراً، وليلة البدر لأربعة عشرة. قال أبو العباس : سمي الهلال هلالاً؛ لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه، فالإهلال رفع الصوت بالإخبار عن الهلال، وسمي بدراً لمبادرته الشمس بالطلوع كأنه يعجلها المغيب، وسمي بدراً لتمامه وامتلائه، وكل شيء تم فهو بدر.

روى أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يطلع دقيقاً مثل الخيط؟ يعني: كان يشغل السائلين تفسير هذه الظاهرة وبتعبير معاصر كأنهم كانوا يسألوه عن التفسير العلمي للزيادة والنقصان في الهلال، وكان يمكن أن يقول لهم النبي عليه الصلاة والسلام: إن هذا ناشئ عن الظل حينما تكون الأرض بين الشمس والقمر، فإذا حجب ظل الأرض القمر لا يظهر منه شيء، ثم إذا انحسر قليلاً يبدو الهلال، وكلما مر الوقت فإنه يزيد حتى يصير بدراً ثم ينعكس كما هو معروف في دورة القمر. فهذا كأنه سؤال عما لا يغني وعما لا يفيد، فلذلك كان الجواب بما ينفع، فلم يفسر لهم هذا الذي كانوا يسألون عنه، وإنما انتقل إلى ما يفيدهم ويعود عليهم بالنفع تماماً كما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي سأله: متى الساعة؟ فقال: (ما أعددت لها؟) فهو انصرف عن جواب سؤاله الذي لا يعنيه إلى ما يعنيه، ليس المهم متى الساعة، الساعة آتية ولو بعد أربعمائة سنة أو خمسمائة سنة أو أكثر أو أقل، وهذا لا يعنيك أنت، أنت لن تخلد شئت أم أبيت، أنت لك ساعتك، وقيامتك أنت يوم تموت، أما عمر الدنيا فهذا لا يعنيك، وهذا مما استأثر الله بعلمه، فانتقل إلى جوابه عما يفيده وما يعنيه، فقال: (ما أعددت لها؟ قال: لا شيء غير أني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت). كذلك هذان الصحابيان قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يبدو أو يطلع دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان، ولا يكون على حال واحدة؟ فنزلت هذه الآية: (( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ))، فهنا أجاب السائل بغير ما كان يطلب، ونزل سؤاله منزلة غيره تنبيهاً للسائل على أن ذلك الغير هو الأولى بحاله، أو هو المهم له، فلما سأله عن السبب الفعلي للتشكلات النورية في الهلال، أجيب بما ترى من السبب الغائي تنبيهاً على أن السؤال عن الغاية والفائدة هو أليق بحالهم؛ لأن درك الأسباب الفاعلية لتلك التشكلات مبني على أمور من علم الهيئة لا عناية للشرع بها، وهذه تترك لأهل الدنيا يتكلمون فيها، كعادة القرآن في أن أمور الدنيا يترك الله سبحانه وتعالى الأمر فيها للناس؛ لأن الله أوضع فيهم القوة والقدرة العقلية على استنباط واكتشاف هذه الأشياء، لكن الشرع يخبرنا بالأمور المهمة التي تفيدنا، مثلاً: صراخ المولود الطبيعي حين يولد نجد الأطباء لهم تفسيرات تتواءم مع علمهم وأمور الدنيا، فيقولون مثلاً: من أجل أن يتنفس ويتفتق حلقه وغير ذلك من الأشياء التي هي من فوائد هذا الصراخ، في حين أن الوحي أخبرنا عن سبب آخر لا يتعارض مع هذه الأمور التي يمكن أن يعلمها الناس من أمور الدنيا، فتركها لهم ليكتشفوها، أما الذي لا سبيل إلى دركه فهو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ما من مولود يولد إلا ويستهل صارخاً إلا ابن مريم وأمه)؛ وذلك استجابة لدعوة امرأة عمران وهي أم مريم عليها السلام حينما قالت: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36]، فيثبت النبي عليه الصلاة والسلام أن كل مولد يولد يطعنه الشيطان في خاصرته؛ إعلاناً له بالعداوة من أول لحظة، وأنه سيتلقاه بالعداوة كما عادى أبويه من قبل، فهذا إعلان لعداوته له من أول لحظة ينزل فيها إلى الدنيا، فهذا لا يمكن أن يصل إليه العلم البشري، فلذلك تكفل الله سبحانه وتعالى بإيحائه إلى نبيه عليه الصلاة والسلام. أما تفسيرات الظواهر الموجودة والمبثوثة في الآفاق وفي الكون وفي أنفسنا فتركت لأهل الدنيا يكتشفونها ويتحدثون عنها، أما الشرع فلا يهمه تفسير الهلال لماذا ينقص ويزيد وغير ذلك، فإنما يهمه الحكمة من وراء ذلك والغاية. فذكر أن الغاية هي أن ذلك مواقيت للناس والحج. يقول: فلو أجيبوا بأن اختلاف تشكلات الهلال بحسب محاذاته للشمس فإذا حاذاها طرف منه استنار ذلك الطرف، ثم تزداد المحاذاة والاستنارة حتى إذا تمت بالمقابلة امتلأ، ثم تنقص المحاذاة والاستنارة حتى إذا حصل الاجتماع أظلم بالكلية؛ لكان هذا الجواب اشتغالاً بعلم الهيئة الذي لا ينتفع به في الدين ولا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث لبيان ما يصلح ديننا ودنيانا. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال علي رضي الله عنه: من طلب علم النجوم تكهن. وهو من العلم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علم لا ينفع وجهل لا يضر) وإن كان لا يصح هذا الحديث . على أي حال هذا أسلوب من الأساليب الحسنة في الجواب، إشعاراً بأن الأولى السؤال عن الحكمة فيه وليس عن كيفية تشكله، ونظيره عند العرب أن شاعراً أتته امرأته تشكو إليه من كثرة الضيفان وقرى الأضياف، ونحتاج إلى الاستشهاد بهذه الأشعار؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، يقول الشاعر: أتت تشتكي عندي مداولة القرى وقد رأت الضيفان ينحون منزلي فقلت كأني ما سمعت كلامها هم الضيف جدي في قراهم وعجلي فلم يجبها فيما شكت إليه، وانتقل إلى ما يفيد ويجدي. وكما قال أيضاً تبارك وتعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [البقرة:215]، سألوا عن بيان الشيء الذي يخرجونه، فأجيبوا ببيان المصرف الذي ينفقونه؛ لأن هذا هو الذي يفيدهم، فينزل سؤال السائل منزلة غير سؤاله لتوخي التنبيه له بألطف وجه على موضع سؤال هو أليق بحاله أن يسأل عنه، أو هو أهم له إذا تأمله، وهذا بلا شك: ينشط السامع إلى ما سمعه، وهذا الأسلوب الحكيم لربما طابق المقام فحرك من نشاط السامع ما سلبه حكم الوقوف، وأبرزه في معرض المذكور، وهل ألان شكيمة الحجاج في ذلك الخارجي، وسل سخيمته حتى آثر أن يحسن على أن يسيء، غير أن سحره بهذا الأسلوب؟ إذ توعده الحجاج بالقيد في قوله: لأحملنك على الأدهم، فقال متغاضياً -أي: الرجل قالها بصيغة التغاضي-: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب! فـالحجاج كان يتهدده أنه يركبه على الفرس الأدهم، ويطاف به في الأسواق، وهذا أسلوب من أساليب المعاقبة من قبل. فالرجل تغاضى عن ذلك وسحر الحجاج بأسلوبه حينما لجأ إلى هذا الأسلوب الحكيم الذي نتحدث عنه، فلما قال له: لأحملنك على الأدهم، أظهر له أنه فهم غير ما أراد، وهو يعلم حقيقة ذلك، ولكنه تغابى، وكأنه فهم أنه يريد أن يكرمه، وسيحمله على الفرس الأدهم، فقال: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب يعني: مثلك رجل شريف ذو سلطان ولا يليق بك أن تحمل على الأدهم، بل تحملنا على شيء أعظم من ذلك، فقال متغاضياً: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب، مبرزاً وعيده في معرض الوعد، مترتباً بأن يريه بألطف وجه أن امرأ مثله في مكمل الإمرة المطاعة خليق بأن يفد لا أن يوفد، وأن يعد لا أن يوعد.

قوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة:189]. الباب: معروف، واستعير لمدخل الأمور المتوصل به إليها، فكل شيء يوصل إلى شيء يسمى باباً، ويقال في العلم: باب كذا. وقد ذكرنا أن سبب نزول الآية السابقة أنهم سألوا: ما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يكبر ويزيد إلى أن يصير بدراً؟ وكأن هذه الآية أيضاً فيها توبيخ لهم على الاهتمام بمالا يعنيهم في أمر العلم: (( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا )) يعني: انشغلوا بما يفيدكم، وهذا المعنى فصله ووضحه الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى بكلام رائع في مقدمة كتابه الموافقات، وبفصل مستقل، وجعل ذلك مثلاً لسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عما ليس من العلم المختص بالنبوة؛ لأن ذلك عدول عن المنهج؛ وذلك أن العلوم ضربان: ديني ودنيوي يتعلق بأمر المعاش، كمعرفة الصنائع، ومعرفة حركات النجوم، ومعرفة المعادن والنبات وطبائع الحيوانات، وقد جعل لنا سبيلاً إلى معرفته من غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم، تصوروا لو أن الصحابة أنفقوا عمرهم مع النبي عليه الصلاة والسلام في تفسير كيف تهطل الأمطار، وكيف تدور الأفلاك، وكيف ينشأ عنها الليل والنهار، وكيف كذا وكذا مما يدرس الآن في العلوم الحديثة، فأي خسارة كانت ستعود على المسلمين إذا انشغل المسلمون والصحابة بذلك عما يصلح الدين وما يصلح الآخرة، وعن أركان هذا الدين، وعن تفاصيل العبادات والمعاملات، وتفاصيل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتفاصيل الأخلاق الإسلامية؟! هذه الأمور نعرفها بالخبرة البشرية، وبمرور الوقت تنكشف علوم الدنيا؛ لأنها متعلقة بالمعاش وبالدنيا. أما الأمور الشرعية -وهو البر- فلا سبيل إلى أخذه إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحكام التقوى: (( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ))، فعوتبوا عندما جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عما يمكنهم معرفته من غير جهته، فلو سألوا عالماً من أهل الهيئة فإنه سيشرح لهم موضوع الهلال كيف يزيد وينقص، فلما جاءوا يسألونه عما أمكنهم معرفته من غير جهته بين لهم أنه ليس البر سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما ليس مختصاً بعلم نبوته، ولكن البر هو مجرد التقوى؛ وذلك يكون بالعلم والعمل المختص بالدين. قال أبو مسلم الأصبهاني : المراد بهذه الآية ما كانوا يعملونه من النسيء، فإنهم كانوا يؤخرون الحج عن وقته الذي عينه الله له، فيحرمون الحلال ويحلون الحرام، فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثل لمخالفة الواجب في الحج وشهوره. وقد روى البخاري وغيره عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء رضي الله تعالى عنه يقول: نزلت هذه الآية فينا، كان الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها -يعني: من النافذة أو من فتحة الجدار- قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه، وخالف هذه العادة التي كانت عند الأنصار في الجاهلية، فعيروه فنزلت: (( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ))، وقول البراء : نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا.. إلى آخر الأثر؛ هذا بحسب ما ظنه هو، وليس معنى ذلك أنها نزلت فيهم فقط، ولكن نقول: هي تصدق على هذا الحال، لا أن ذلك كان سبب نزولها، فأحياناً يقول العلماء: نزلت هذه الآية في كذا، وليس المقصود أن هذا هو سبب النزول، وإنما المقصود أن هذه الآية تصدق على هذا الحال، وإن لم يكن هو سبب النزول. (( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا )) أي: تحروا لكل عمل إتيان الشيء الديني منه، تنبيهاً على أن ما يطلب من غير وجهه يصعب تناوله. ثم قال: (( وَاتَّقُوا اللَّهَ ))، حثاً لنا أن نجعل تقوى الله شعارنا في كل ما نتحراه، وبين أن ذلك ذريعة إلى تحصيل الفلاح.

قال تبارك وتعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا [البقرة:190]، لما صد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية، وصالح الكفار على أن يعود العام القادم، ويخلوا له مكة ثلاثة أيام، وتجهز لعمرة القضاء؛ خاف المسلمون ألا تفي قريش بذلك ويقاتلونهم، وكره المسلمون قتالهم في الحرم والإحرام والشهر الحرام؛ فنزلت هذه الآية: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا يعني: لا تتحرجوا عن القتال إذا قاتلكم المشركون أثناء إرادتكم عمرة القضاء، حتى ولو كنتم محرمين، ولو كنتم داخل البلد الحرام، ولو كنتم في الشهر الحرام؛ لأنكم لستم البادئين بهذا العدوان. (( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ )) أي: لإعلاء دينه. (( الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ )) أي: من الكفار. (( وَلا تَعْتَدُوا )) أي: لا تعتدوا عليهم بابتداء القتال. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190] أي: المتجاوزين ما حُد لهم، وهذا منسوخ بآية براءة: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]، وبقوله: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة:191] وقد سبق أن تكلمنا بالتفصيل في معنى النسخ هنا، وأنه ليس المقصود به المعنى الاصطلاحي المتأخر، وهو أن يرد دليل شرعي متراخياً عن دليل شرعي آخر مقتضياً خلاف حكمه، ولكن النسخ هنا رفع الإيهام والإبهام يعني: حسب حال المسلمين من القوة والضعف، فإن كانوا في حال قوة وتمكين فإنهم يبدءون المشركين بالقتال، كما قال تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5] إلى آخر الآية، وإن كانوا لا يستطيعون إلا الدفاع فيجب عليهم الدفاع، وإن كانوا لا يستطيعون الدفاع فيصبروا ويأخذوا بآيات الإعراض عن المشركين والصفح والصبر على الأذى، وقد سبق أن تكلمنا عن هذا بالتفصيل مراراً.

قال تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة:191] أي: حيث وجدتموهم، وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [البقرة:191] أي: من مكة، وقد فعل بهم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح. وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:191] (الفتنة) أي الشرك الذي يقع منهم (أشد) أي: أعظم، (من القتل) أي: من قتالهم في الحرم أو في الإحرام الذي استعظمتموه؛ لأنه إن كنتم تخافون أن يقاتلوكم وتنتهكوا بقتالهم حرمة الإحرام والشهر الحرام والبلد الحرام، فما هم عليه من الشرك وهم داخل الحرم الشريف وفي الشهر الحرام أشد من قتلكم إياهم. وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:191] يعني: في الحرم؛ لأن المسجد الحرام يطلق على عدة إطلاقات: يطلق على الكعبة نفسها كقوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة:97]، ويطلق على المسجد، ويطلق على مكة ومنى، قال الله: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الفتح:25]، وقال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الإسراء:1]، ومعلوم أن الإسراء كان من بيت أم هانئ من داخل مكة، فقوله هنا: (( وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ )) يعني: في الحرم، وحدود الحرم أوسع من حدود مكة. حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة:191] يعني: فإن قاتلوكم فيه، (فاقتلوهم) يعني: فيه، وفي قراءة: بلا ألف في الأفعال الثلاثة، يعني: (ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم). كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [البقرة:191] يعني: كذلك القتل والإخراج جزاء الكافرين.

قال تعالى: فَإِنِ انتَهَوْا [البقرة:192] أي: عن الكفر وأسلموا، لا بد أن ننتبه لهذا؛ لأن الله قال في آخرها: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:192]، والله سبحانه لا يغفر للمشرك، أو لا يرحم المشرك، فلا بد أن نفسر الانتهاء هنا بمثل قوله تبارك وتعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، فإن انتهوا عن الكفر وأسلموا: فإن الله غفور لهم، رحيم بهم.

قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193]، ما إعراب كلمة (فتنة). (كان) هنا ليست ناسخة، بل هي تامة، والتقدير: وقاتلوهم حتى لا توجد فتنة، فكان هنا تامة مثل كان الله ولم يكن شيء معه، فالله: لفظ الجلالة هنا فاعل، ومثله قوله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ [البقرة:280]، ذُو: فاعل. (( حَتَّى لا تَكُونَ )) أي: حتى لا توجد، (( فِتْنَةٌ )) أي: شرك. ثم قال تعالى: (( وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ )) يعني: وحده لا يعبد إلا هو، (( فَإِنِ انتَهَوْا )) يعني: عن الشرك، فلا تعتدوا عليهم، دل على هذا التفسير قوله تعالى: (( فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ )) يعني: فلا تعتدوا عليهم بقتل أو غيره، ومن انتهى وتوقف فليس بظالم، فلا عدوان عليه.

قال تعالى: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ [البقرة:194]، المقصود بالشهر الحرام: الشهر المحرم، فكما قاتلوكم فيه فاقتلوهم في مثله، وهذا رد لاستعظام المسلمين ذلك؛ لأن المسلمين استعظموا أن يقاتلوا المشركين في الشهر الحرام، فبين الله سبحانه وتعالى أنه إذا كان قتالكم إياهم على سبيل المقابلة بالمثل، فلا حرج عليكم في ذلك. وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [البقرة:194] الحرمات: جمع حرمة، وهو ما يجب احترامه. (( قِصَاصٌ )) أي: يقتص بمثلها إذا انتهكت. فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194] أي: بقتال في الحرم أو في الإحرام أو في الشهر الحرام، فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194] هذا من باب المقابلة فقط، ولكن هو في الحقيقة لا يسمى عدواناً بل هذا من العدل، فمن اعتدى عليك فقابلته بالمثل لا يسمى عدواناً، ولكن أطلق الله سبحانه وتعالى عليه عدواناً من باب المقابلة فقط؛ لاجتماعهما في نص واحدٍ كما قال تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، فهل السيئة الثانية التي تقابل أنت بها الأولى تعتبر سيئة؟ لا، بل هذا من العدل، وهي حسنة، وهذا من باب المشاكلة اللفظية لوجودهما في نص واحد، ومثل ذلك قوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126]، فأطلق على الفعل الأول لفظ العقوبة من باب المشاكلة أو المقابلة. وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:194] يعني: في الانتصار وترك الاعتداء. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة:194] أي: بالعون والنصر.

قال تعالى: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:195] أي: في طاعته كالجهاد أو في غيره، وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ [البقرة:195] أي: بأنفسكم، عبر عن الأنفس بالأيدي، وهذه الباء يقول عنها النحاة: إنها زائدة، أي: لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بترك الجهاد؛ لأن هذا يقوي العدو عليكم. وَأَحْسِنُوا [البقرة:195] أي: بالنفقة وغيرها، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195] أي: يثيبهم على هذه النفقة.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2817 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2615 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2579 استماع
تفسير سورة البلد 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2557 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2541 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2501 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2436 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2408 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2399 استماع