خطب ومحاضرات
المشي .. كيف وإلى أين؟
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
انتهينا -أيها الإخوة- من الكلام عن آداب تلاوة القرآن الكريم، نتحدث اليوم -إن شاء الله- عن أدب إسلامي آخر وهو المشي، وربما يستغرب الإنسان ويقول: ماذا يمكن أن يوجد على المشي في هذه الشريعة؟! والحقيقة أن هناك كلاماً كثيراً في هذه الشريعة ورد في النصوص الشرعية يتعلق بالمشي، فلعلنا نذكر بعضه إن شاء الله في هذا الموضع.
أولاً: بالنسبة للقرآن الكريم، فإنه قد جاء ذكر آداب المشي في القرآن الكريم في عددٍ من السور مثل سورة لقمان وسورة الفرقان، قال الله سبحانه وتعالى عن وصية لقمان لولده: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:18-19].
ومعنى قول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً [الإسراء:37] أي: لا تمش مشية الخيلاء متكبراً جباراً عنيداً؛ فإن فعلت ذلك أبغضك الله، ولهذا قال: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18] والمختال: المعجب في نفسه، والفخور: أي على غيره.
وأوصى ولده بقوله: ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ) أي: امشِ مقتصداً ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط، بل عدلاً وسطاً بين بين، هذا ما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله، وقال العلامة الألوسي رحمه الله تعالى في تفسيره روح المعاني قال: (ولا تمش في الأرض) التي هي أحط الأماكن منزلةً (مرحاً) أي: فرحاً وبطراً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18] هذا هو التعليل للنهي، والمختال من الخيلاء، وهي التبختر في المشي كبراً، ولذلك قيل: إن اشتقاق اسم الخيل من الخيلاء، لأنه ما ركبها أحدٌ إلا وجد في نفسه خيلاء، فسميت الخيل خيلاً من هذا.
وقوله تعالى: ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ) قال رحمه الله: بعد اجتناب المرح فيه، توسط فيه بين الدبيب والإسراع، من القصد وهو الاعتدال، وقال ابن مسعود : [كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى، ولكن مشياً بين ذلك].
و في البداية والنهاية أن عائشة نظرت إلى رجلٍ كان يتماوت في مشيته فقالت: ما لهذا؟ فقيل: إنه من القراء، فقالت: [كان عمر رضي الله عنه سيد القراء وكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع] فالمراد إذاً بالإسراع فيه ما فوق دبيب التماوت، وعلق في الحاشية بقوله: ورأى عمر رضي الله عنه رجلاً متماوتاً فقال: [لا تمت علينا ديننا أماتك الله تعالى] ورأى رجلاً مطأطئاً رأسه فقال: [ارفع رأسك إن الإسلام ليس بمريض].
فيكره مشي التماوت الذي يخفى فيه الصوت وتقل الحركات ويتزيا صاحبه بزي العباد كأنه يتكلف في صفاته بما يقربه من صفات الأموات، ليُوهم أنه ضعف من كثرة العبادة، وكأن هذا الذي يمشي مشية التماوت يريد أن يقول للناس: من كثرة عبادتي وصيامي أنني متعب في المشي، وهذا من أنواع الرياء، لأن المسلم مطالب بإخفاء عمله، والسلف رحمهم الله كان بعضهم من كثرة الصيام يصفر لونه، فكانوا يدَّهنون حتى لا يظهر جفاف الشفاه ولصوق الجلد من كثرة الصيام، وكانوا يدهنون في نهار اليوم الذي يصومون فيه، حتى لا يظهر أثر العبادة وأثر الصيام؛ فيكون خفياً، فهو أقرب إلى الله عز وجل.
فمشية التماوت التي يظهر صاحبها أنه عنده تعبٌ شديدٌ من العبادة هي أمرٌ مذموم، وورد في صفته صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وقال تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ [لقمان:19]وكونه عليه الصلاة والسلام كأنه ينحط من صبب لا يتنافى مع قوله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] لأن بعض الناس إذا علم أن مشية النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث كأنه ينحط من صبب، وأنه يسير بشيءٍ من الإسراع، وأنه يتقلع تقلعاً: (كان إذا مشى يتقلع) -كما سيأتي معنا بعد قليل- ظن أن هناك تعارضاً بين هذا وبين قوله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] فيظن أن الهون في المشي يتنافى مع كونه أنه ينحط من صبب -كأنه ينحط من مكان مرتفع- وأنه يتقلع تقلعاً.
فقال الألوسي رحمه الله: إذ ليس الهون فيه المشي كدبيب النمل، وذكر بعض الأفاضل أن المذموم اعتياد الإسراع بالإفراط فيه، وقال السخاوي : محل ذم الإسراع ما لم يخش من بطء السير تفويت أمرٍ ديني، لكن أنت تعلم أن الإسراع المذهب للخشوع لإدراك الركعة مع الإمام مما لا ينبغي.
وعن مجاهد أن القصد في المشي التواضع فيه، وقيل: جعل البصر موضع القدم، فإن من عيوب الإنسان أن يتلفت وهو يمشي يميناً وشمالاً يتفرج، وربما وقعت عيناه على امرأة ونحو ذلك، وقد ذكروا -في مسألة غض البصر- أن رجلاً كان يمشي وينظر إلى امرأة في جانب الطريق فارتطم بعمودٍ فسال دمه من هذه الصدمة؛ فالالتفات يميناً وشمالاً لا إلى الأمام لا شك أنه من عيوب المشي.
قال: وقيل جعل البصر موضع القدم، هذا بالنسبة لما ذكره في هذا الموضع.
وقال: ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ) من أَقْصَدَ الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية ووجهه إليها ليصيبها، أي: سدد في مشيك، والمراد: امش مشياً حسناً، وكأنه أُريد التوسط به بين المشيين السريع والبطيء، هذا بالنسبة لما ذكره في هذا الموضع.
وذكر الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان في تفسير سورة الإسراء عند قوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [الإسراء:37]: نهى الله جل وعلا الناس في هذه الآية الكريمة عن التجبر والتبختر في المشية، (وقُرئ مرَحاً ومرِحاً) إذا قرأنا: ( ولا تمش في الأرض مَرِحاً ) أي لا تمش في الأرض في حال كونك متبختراً متمايلاً مشي الجبارين، قال: وأصل المرح في اللغة شدة الفرح والنشاط، وأطلق على مشي الإنسان متبختراً لأن ذلك من لوازم شدة الفرح والنشاط عادةً.
ولا شك أن الذي يمشي مشية الخيلاء متبختراً متفاخراً عُرضة لعذاب الله، والدليل على ذلك ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره عن مسلم بن جحاشن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: يا بن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذا، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد -وهذا مشي الجبارين المتغطرسين- فجمعت ومنعت -جمعت الأموال ومنعت الفقراء- حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق، وأنّى أوان الصدقة)؛ لأنه إذا بلغت الروح التراقي فلا توبة ولا تنفع التصرفات المالية، أو لا تنفذ التصرفات المالية في تلك اللحظة.
وكذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الرجل الذي كان يمشي متبختراً فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، فهناك عقوبة للمتجبرين في مشيتهم، فالذي يمشي مشية الخيلاء متغطرساً مهدد بعقوبة من الله، ويوم القيامة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون كأمثال الذر على صور الرجال يطؤهم الناس بأقدامهم).
انتبهوا يا أيها الإخوة! قضية المشي هذه قضية مهمة ورد ذكرها في القرآن في هذه السور الثلاث في لقمان والفرقان والإسراء، فالمسألة مهمة.
يقول الله تعالى في سورة الفرقان: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] أول صفة لعباد الرحمن ذكرها أنهم يمشون على الأرض هوناً قال ابن كثير رحمه الله: هوناً أي بسكينةٍ ووقار من غير جبرية -أي بدون تجبر ولا استكبار- كما قال الله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [الإسراء:37].
فأما هؤلاء -أي: المؤمنون عباد الله- فإنهم يمشون من غير استكبارٍ ولا مرح ولا أشرٍ ولابطر، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعاً ورياءً -يمثلون تمثيلاً ويتظاهرون تظاهراً ويتماوتون تماوتاً- فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب، هذا في قوة مشيته وسرعته عليه الصلاة والسلام، فلا تفهم من قوله تعالى: يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] أن تلك مشية المتماوت البطيء المتثاقل في الحركة؛ بل لا تبختر ولا تماوت، وامش بين بين، وكأنما الأرض تطوى له، وقد كره بعض السلف المشي بتضعفٍ وتصنع، حتى روي عن عمر أنه رأى شاباً يمشي رويداً فقال: ما بالك أأنت مريض؟! قال: لا يا أمير المؤمنين، فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة، وإنما المراد بالهون هاهنا السكينة والوقار كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون -ركضاً وهرولةً وإسراعاً مفرطاً مبالغاً فيه- وائتوها وعليكم السكينة والوقار -والسكينة والوقار ليس معناها أن نسحب أرجلنا سحباً على الطريق- فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) هذا بالنسبة لما ذكره رحمه الله في سورة الفرقان.
لنشرع الآن في ذكر بعض الأحاديث التي وردت في صفة مشي النبي صلى الله عليه وسلم، ورد في الصحيح -والصحيح من الأحاديث إما أن يكون في البخاري أو في مسلم أو في كليهما أو ما ورد مستكملاً لشرط الحديث الصحيح- ففي الصحيح -أي في البخاري ومسلم - من حديث أنس رضي الله عنه وهذا اللفظ لفظ مسلم : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ إذا مشى تكفأ).
وكان صلى الله عليه وسلم أيضاً: (إذا مشى لم يتلفت) رواه الحاكم رحمه الله تعالى وهو حديثٌ صحيح، صححه الألباني في صحيح الجامع ، وقال المناوي في شرح الحديث: لم يلتفت لأنه كان يواصل السير ويترك التواني والتوقف.
والالتفات للحاجة لا بأس به، الإنسان يحتاج للالتفات إذا مشى من سيارةٍ أتت ونحو ذلك أو ليرى شيئاً؛ لكن ليس تلفت المتفرجين الذي يحصل من الناس اليوم وهم يسيرون في الشوارع وتقع أعينهم على ما لا يرضي الله، وكذلك التلفت يبطئ السير، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى لحاجة مشى ومضى وعزم؛ ولم يكن يتباطأ في مشيته ولم يلتفت؛ لأنه كان يواصل السير ويترك التواني والتوقف، والتلفت في المشي يسبب التواني والتوقف والتلكؤ في المشي، فإذا لم تكن حاجة للتلفت فمن الأدب ألا يتلفت الإنسان في مشيته وهو يمشي: (وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشى مشى أصحابه أمامه وترك ظهره للملائكة) والملائكة كانوا يحرسونه من أعدائه، والله سبحانه وتعالى حسبه.
(وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشى أسرع) وهذا الحديث قد جاء مرسلاً فهو حديث ضعيف، وكذلك مما ورد مما لم يصح وهو مشهور عند الناس حديث الترمذي : (ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه، ولا رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تُطوى له، إنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث) هذا جاء في الترمذي عن أبي هريرة وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف، لكن معناه موجود، أنه عليه الصلاة والسلام: (كان إذا مشى أقلع) وصححه في صحيح الجامع ومعنى أقلع: مشى بقوة، كأنه يرفع رجليه من الأرض رفعاً قوياً، أقلع: يتقلع في المشي، لا كمن يمشي على طريقة النساء، وجاء في الحديث الصحيح أيضاً: (كان صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنه يتوكأ) فهو إذا مشى صلى الله عليه وسلم كانت خطواته جادة، كأنما ينحدر من صبب.
وجاء عند ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي مشياً يُعرف فيه أنه ليس بعاجزٍ ولا كسلان) حديث صحيح.
وكان أشبه الناس بمشية النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة ؛ فقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم أيضاً عن عائشة قالت: (كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده لم يغادر منهن واحدة، فأقبلت
مشية النساء
ابن القيم يصف مشية الرسول صلى الله عليه وسلم
فلا يسحب رجليه سحباً كما يفعل بعض الناس، بل كان صلى الله عليه وسلم يرفعها رفعاً ويضعها وضعاً.
فإذاً كان يرتفع من الأرض بجملته كحال المنحط من صبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة، وهي أعدل المشيات وأروحها للأعضاء، وأبعدها من مشية الهوج والمهانة والتماوت، فإن الماشي إما أن يتماوت في مشيه ويمشي قطعة ًواحدة كأنه خشبةٌ محمولة، وهي مشيةٌ مذمومةٌ قبيحة، وإما أن يمشي بانزعاج واضطراب كمشي الجمل الأهوج وهي مشيةٌ مذمومة أيضاً، تجد أن كل شيء يتحرك فيه وهو يمشي، فهذه مشية الأهوج، وهي دالةٌ على خفة عقل صاحبها، أي إذا رأيت من يمشي مشي الأهوج في الشارع، وكل شيء يتحرك فيه، فاعلم أن في عقله خفة، وليس من اللازم أن يكون مجنوناً، لكن في عقله خفة، ولا سيما إذا كان يكثر الالتفات حال مشيه يميناً وشمالاً.
وإما هذا الاحتمال الآخر: أن يمشي هوناً، وهي مشية عباد الرحمن كما وصفهم بها في كتابه فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] قال غير واحد من السلف: بسكينة ووقار من غير تكبرٍ ولا تماوت، وهي مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه مع هذه المشية كان كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، حتى كان الماشي معه يجهد نفسه ورسول الله صلى الله عليه وسلم غير مكترث، وهذا يدل على أمرين، أن مشيته لم تكن بتماوت ولا بمهانة، بل كانت أعدل المشيات.
ومشية النساء في الشارع تختلف عن مشية الرجال، فلابد أن تمشي المرأة على جانب الطريق والرجال في الوسط، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن المرأة إذا جاءت إلى رجل أجنبي للحاجة تكون مشيتها ما أخبر الله تعالى به في كتابه في سورة القصص عن بنت الرجل الصالح لما جاءت إلى موسى عليه السلام، لأن أباها لا يستطيع أن يأتيه بنفسه، قال الله: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25] ليست بسلفع خراجة ولاجة، بل تمشي على استحياء، ما جاءت إليه جريئة سليطة، لأن مخاطبة المرأة لرجل أجنبي صعبة على العفيفة، أما الآن فصارت أسهل عندهن من شرب الماء من كثرة المكالمات الهاتفية والاختلاط في العمل، وكثير من الأماكن صار كلام المرأة مع الرجل الأجنبي عادياً جداً، فأصبحت المرأة تأتي الرجل الأجنبي بكل ثقة وجرأة ولم تعد تمشي على استحياء كما يقتضي الأدب الإسلامي في مشية المرأة المسلمة.
وقد وصف ابن القيم رحمه الله مشية النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه زاد المعاد فقال رحمه الله: كان إذا مشى تكفأ تكفؤاً، وكان أسرع الناس مشيةً وأحسنها وأسكنها، قال أبو هريرة : (ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه) وذكر حديث الترمذي الذي تقدم ذكر ضعفه، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفؤاً كأنما ينحط من صبب) وقال مرةً: (إذا مشى تقلع) قلت: والكلام لـابن القيم رحمه الله، والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته.
فلا يسحب رجليه سحباً كما يفعل بعض الناس، بل كان صلى الله عليه وسلم يرفعها رفعاً ويضعها وضعاً.
فإذاً كان يرتفع من الأرض بجملته كحال المنحط من صبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة، وهي أعدل المشيات وأروحها للأعضاء، وأبعدها من مشية الهوج والمهانة والتماوت، فإن الماشي إما أن يتماوت في مشيه ويمشي قطعة ًواحدة كأنه خشبةٌ محمولة، وهي مشيةٌ مذمومةٌ قبيحة، وإما أن يمشي بانزعاج واضطراب كمشي الجمل الأهوج وهي مشيةٌ مذمومة أيضاً، تجد أن كل شيء يتحرك فيه وهو يمشي، فهذه مشية الأهوج، وهي دالةٌ على خفة عقل صاحبها، أي إذا رأيت من يمشي مشي الأهوج في الشارع، وكل شيء يتحرك فيه، فاعلم أن في عقله خفة، وليس من اللازم أن يكون مجنوناً، لكن في عقله خفة، ولا سيما إذا كان يكثر الالتفات حال مشيه يميناً وشمالاً.
وإما هذا الاحتمال الآخر: أن يمشي هوناً، وهي مشية عباد الرحمن كما وصفهم بها في كتابه فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] قال غير واحد من السلف: بسكينة ووقار من غير تكبرٍ ولا تماوت، وهي مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه مع هذه المشية كان كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، حتى كان الماشي معه يجهد نفسه ورسول الله صلى الله عليه وسلم غير مكترث، وهذا يدل على أمرين، أن مشيته لم تكن بتماوت ولا بمهانة، بل كانت أعدل المشيات.
ثم قال رحمه الله: والمشيات عشرة أنواع:
منها: هذه الثلاثة التي مضت، وهي: التماوت، والهوجاء، والهون.
الرابعة: السعي.
الخامسة: الرمل؛ والرمل أسرع من السعي، وهو إسراع المشي مع تقارب الخطى، ويسمى الخبب أيضاً، وفي الصحيح من حديث ابن عمر : (أن النبي صلى الله عليه وسلم خب في طوافه ثلاثاً ومشى أربعاً).
السادسة: النسلان، والنسلان هو العدو الخفيف الذي لا يزعج الماشي ولا يكرثه، ولا يسبب الإجهاد الكثير، الهرولة اليسيرة، وفي بعض المسانيد أن المشاة شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشي في حجة الوداع -أي: من عرفة إلى مزدلفة ، ومن مزدلفة إلى منى - شكوا إليه تعب المشي فأوصاهم عليه الصلاة والسلام بوصية فيها تخفيف عليهم، تتعلق بسرعة المشي، قال: (استعينوا بالنسلان) وهذا الحديث صحيح، رواه الحاكم وصححه الذهبي ، فإذا كنت تمشي مسافة طويلة وأردت أن تستعين بشيءٍ يخفف عنك المشي الطويل فعليك بالنسلان، وهو الهرولة الخفيفة، فعند ذلك ستجد أنك قطعت مسافة أكثر براحة أكثر.
السابعة: الخوزلة: وهي مشية التمايل وهي مشيةٌ يقال: إن فيها تكسراً وتخنثاً.
الثامنة: القهقرى: وهي المشي إلى الوراء، وسيأتي حديث يتعلق بها.
التاسع: الجمزى: وهي مشيةٌ يثب فيها الماشي وثباً، ويقفز قفزاً.
العاشر: التبختر، وهي مشية أولي العجب والتكبر، وهي التي خسف الله سبحانه بصاحبها لما نظر في عطفيه وأعجبته نفسه فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة، قيل: إنه قارون.
وأعدل هذه المشيات مشية الهون والتكفؤ، أما مشيه مع أصحابه فكانوا يمشون بين يديه وهو خلفهم، ويقول: دعوا ظهري للملائكة ولهذا جاء في الحديث: (وكان يسوق أصحابه) ومعنى (يسوق أصحابه) أنهم يمشون أمامه ويمشي وراءهم، وكان يمشي حافياً ومنتعلاً.
ومما يتعلق بآداب المشي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يحتفوا أحياناً لأجل أن يتعود الإنسان على الخشونة -يخشوشن- كما قال: (تمعددوا) انتسبوا إلى معد بن عدنان يعني في هيئته وشمائله، (واخشوشنوا) وفي رواية: (واخشوشبوا).
إذاً: اعتادوا الخشونة، لأن الإنسان تتعاوره الظروف؛ فلن يكون دائماً في أماكن الترف والأماكن المهيأة، قد يضطر أن ينام أحياناً على الحجارة، وأن يمشي بدون نعال، فإذا كان هذا الإنسان مرفهاً مترفاً فلن يستطيع أن يتحمل، ولذلك تجد أصحاب الترف والميوعة لا يكادون يطيقون الحج، ويقولون: تعبنا وجهدنا ونحو ذلك، لأنه ليس متعوداً على المشقة، وأول ما يقع في شيء من المشقة في الطواف من زحام أو نحو ذلك يتأفف تأففاً عظيماً، وربما قال: ليتني ما حججت، وهذه عبارة سمعناها من بعضهم، قال: لو أدري أن الحج هكذا ما جئت.
وكان صلى الله عليه وسلم يماشي أصحابه فرادى وجماعات، وكان في السفر ساقة أصحابه؛ أي: يمشي وراءهم: (يزجي الضعيف ويردفه ويدعو له) وهذا الحديث رواه أبو داود وهو حديثٌ صحيح.
وقد ذكر العلامة السفاريني رحمه الله في غذاء الألباب شرح منظومة الآداب بعنوان المشيات عشرة أنواع، ونقل كلام ابن القيم رحمه الله، وأضاف إليه بعض الإضافات، فمن الإضافات التي أضافها السفاريني على كلام ابن القيم ، لما عرض أحاديث مشية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه إذا مشى كأنه ينحدر من صبب وأنه يمشي بنشاط وقوة، قال: فدلت هذه الأحاديث وأمثالها مما لم نذكر أن مشيته صلى الله عليه وسلم لم تكن بمماتةً ولا مهانة، والصبب الموضع المنحدر من الأرض، وذلك دليلٌ على سرعة مشيه، لأن المنحدر لا يكاد يثبت في مشيه، والتقطع الانحدار من الصبب، والتقطع من الأرض قريب لبعضه من بعض، وأراد به قوة المشي وأنه يرفع رجليه من الأرض رفعاً قوياً لا كمن يمشي اختيالاً يقارب خطوه، فإن ذلك من مشي النساء.
لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء؛ أن يمشي الرجل مشية المرأة.
ثم قال متعقباً في قضية المشي إلى الصلاة ومستدركاً: نعم. ينبغي للإنسان أن يقارب خطاه إذا كان ذاهباً إلى المسجد لأجل الصلاة، لأن كل خطوة تكتب حسنة وتمحو سيئة وترفع درجة، فمن أجل هذا استحب بعض العلماء تكثير الخطى بتقاربها حتى تكون أكثر.
استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
اقتضاء العلم العمل | 3615 استماع |
التوسم والفراسة | 3614 استماع |
مجزرة بيت حانون | 3543 استماع |
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] | 3500 استماع |
اليهودية والإرهابي | 3429 استماع |
إن أكرمكم عند الله أتقاكم | 3429 استماع |
حتى يستجاب لك | 3396 استماع |
المحفزات إلى عمل الخيرات | 3376 استماع |
ازدد فقهاً بفروض الشريعة | 3350 استماع |
الزينة والجمال | 3339 استماع |