تفسير سورة الحشر [11-24]


الحلقة مفرغة

يقول الله سبحانه وتعالى تعجباً من اغترار اليهود بما وعدهم المنافقون به من النصر، مع علم اليهود أن هؤلاء المنافقين لا يعتقدون ديناً ولا كتاباً، فكيف صدقوهم واغتروا بهم؟! فقال تعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [الحشر:11] وهم بنو النضير المتقدم ذكرهم، وأخوتهم معهم ليست أخوة نسب، وإنما هي أخوة دين واعتقاد، أو أخوة صداقة وموالاة؛ لأنهم كانوا معهم سراً على المؤمنين، فانظر كيف وصف هؤلاء المنافقين بأنهم إخوان لليهود أهل الكتاب! هذا خبر من الله سبحانه تعالى الصادق أن هؤلاء الكفار جميعهم على المؤمنين، وأنهم: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] فقوله: (ولا يزالون) تفيد الاستمرار، والعالم كله يشاهد انحياز الشيطان الأكبر أمريكا إلى جانب اليهود لعنهم الله سبحانه وتعالى وأذلهم، فرغم كل هذا الظلم ترى التكاتف العجيب الغريب من هؤلاء الكفار مع إخوانهم الذين كفروا. فاليوم هناك مظاهرة يهودية في نيويورك يقوم بها جماعات يهودية تساند عصابة اليهود، وتتزعم وتشترك في هذه المظاهرة زوجة كلينتون؛ لأنها رشحت نفسها لعمدة مدينة نيويورك، فتخرج لتؤيد اليهود مع كل جرائمهم التي أجمع كل العقلاء من البشر أنها عدوان وحشي، وليس هذا فحسب، بل حصل اليوم في رام الله أن قتل الفلسطينيون جاسوسين مجرمين دخلا متنكرين، فانهالت عبارات الاحتجاج، وحصل القصف بالطائرات والصواريخ للمدينة، وقصفوهم أيضاً من البحر، وقصفوا مدينة غزة أيضاً، فالدمار شامل للمدينتين، وهو في مدينة غزة بالذات، ويقول اليهود: إن ما فعله هؤلاء الفلسطينيون بالجنديين الإسرائيليين هو منتهى الوحشية، وهذه أشياء لا تفعلها حتى الحيوانات، وأنه لا مكان لهذه التصرفات في العالم المتحضر، فنقول: نحن الآن صرنا وحوشاً! وصرنا نفعل فعل الحيوانات! وأنه لا مكان لهذه التصرفات في العالم المتحضر! فماذا تقولون فيما حصل مع الطفل رامي أو محمد بن الدرة وأبيه، وفيما حصل بالأمس في تل أبيب، فقد تجمع اليهود على ثمانية من العرب وضربوهم ضرباً مبرحاً، وكلهم موجودون حتى الآن في العناية المركزة، وحصل قبل يومين أن ما يسمى بالمستوطنين أخذوا رجلاً وعذبوه بالإحراق والضرب، حتى أحرقوا عينيه وكل جسده بالسجائر، حتى قتلوه ثم ألقوه، أليست هذه وحشية من اليهود أم أنها شيء جائز عندهم؟! وأما إذا صدر رد فعل من المسلمين فهذه وحشية وهمجية، وهذا يذكرنا تماماً بنفس منطق بعض المستعمرين الأوروبيين في إحدى الدول الإسلامية، فقد كانت مجموعة منهم تحاول قتل أو ذبح مسلم، فبعدما فرغوا من ذبحه وتقطيع جثته التفت واحد منهم إلى من حوله وقال: هؤلاء أناس متوحشون، لماذا متوحشون؟ لأنه وهو يحاول أن يذبحه عض يده!! فهكذا حضارة الغرب المجرمة، تتمسح بالكلاب، والكلاب هناك تعظم وتوقر، وتوهب لها الهبات، وتعيش حياة في غاية الترف، فهذه هي الحضارة الغربية، وقد بدت كل سوءاتها، حتى لم يعد شيء يرغِّب فيها. فنحن بلا شك في وضع مؤلم، خاصة وأننا منذ هذه المعاهدات ونحن في ذلّ، ونحارَب بكل الصور: في عقيدتنا، وفي أخلاقنا، وفي كل شيء، وأما اليهود فقد حوّلوا أماكنهم إلى ترسانة من الأسلحة النووية والذرية ونحو ذلك، ومع ذلك فنحن على ثقة بوعد الله سبحانه وتعالى؛ لأن الهزيمة ليست حالة عسكرية، وإنما هي حالة نفسية، فالله سبحانه وتعالى قد تكفل بأنه يبعث على اليهود من يسومهم سوء العذاب، وهذا الضمان إلهي: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167] ، فاليهود لن يستريحوا أبداً، ولن يذوقوا طعم الراحة حتى ولو قامت لهم دولة، ورُفع فوق رءوسهم علم، فهذه آية من آيات الله، فإنهم مع ما هم فيه من العتاد العسكري، والقوة العسكرية الشديدة إلا أنهم في حالة ضعف وخور وجبن وهلَع كما هو معلوم، فهذه سنة ماضية من الله سبحانه وتعالى، ولن ينعم اليهود أبداً بهذا السلام الذين يزعمون أو يتطلعون إليه، وعزاؤنا في ما يلقاه إخواننا الآن في فلسطين هو ما فعله المشركون بالصحابة من قبل في غزوة أحد حينما قالوا للمشركين: (قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار)، فمن يقتل من المسلمين فهو إلى الجنة بإذن الله، وقتلاهم في النار، ونقول لهم أيضاً: الله مولانا ولا مولى لكم، فهم يحتمون وراء أمريكا، ووراء الغرب الكافر الظالم، وينبغي لنا أن نأوي إلى الله سبحانه وتعالى، وأن نعتصم بحبله من شر هؤلاء أجمعين. فقول الله تعالى هنا: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [الحشر:11] وهم بنو النضير، وأخوتهم معهم أخوة دين واعتقاد، أو أخوة صداقة وموالاة، فقد كانوا معهم سراً على المؤمنين. قوله: (( لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ )) أي: من دياركم، (( لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا )) لا نطيع في خذلانكم أحداً أبداً، يعني: سواء الرسول صلى الله عليه وسلم أو المؤمنين، (( وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ )) أي: لنعاونّنكم. قال ابن جرير : ذُكر أن الذين نافقوا هم: عبد الله بن أبي بن سلول ووديعة ومالك ابنا نوفل وسويد وداعس ، فقد بعثوا إلى بني النضير حين نزل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للحرب: أن اثبتوا وتمنعوا فإنّا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا لذلك من نصرهم -أي: ترقبوا أن يأتوا لينصروهم ضد الرسول عليه الصلاة والسلام- فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يجليهم، ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة، وهي السلاح كما تقدم بيان ذلك.

قال الله تعالى: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الحشر:11] لعلمه بأنهم لا يفعلون ذلك، كما قال: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [الحشر:12] وقوله: (ليولن الأدبار) أي: منهزمين، (ثم لا ينصرون) أي: بنوع ما من أنواع النصر. ففي هذه الآية دليل على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة علم الغيب؛ لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا معهم، وقوتلوا فلم ينصروهم، (والله يشهد إنهم لكاذبون)، والضمير هنا في قوله تعالى: ( وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ) يعود إلى المنافقين أو إلى اليهود.

قال الله تعالى: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الحشر:13] أي: أنهم يرهبونكم أشد من رهبتهم من الله عز وجل؛ لاحتجابهم بالخلق عن الحق، وذلك بسبب جهلهم بالله، وعدم معرفتهم له، إذ لو عرفوه لشعروا بعظمته وقدرته وعلمه، ولم يستخفوا بمعاصيه، ولم يستخفوا بأوامره، والضمير هنا يعود إلى المنافقين أو إلى اليهود. ومن هذه الآية نستنبط: أن الفقيه هو من يخشى الله سبحانه وتعالى، وليس من يحشد المعلومات في ذهنه، والدليل على ذلك هذه الآية الكريمة: (( لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ))، ثم علل ذلك بقوله: (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ))؛ لأنهم لا يخشون الله سبحانه وتعالى حق الخشية. والمقصود بقوله تعالى: (( وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ )) أي: ولئن قُدِّر وجود نصرهم، لكن لا يمكن أن يكون نصراً حقيقياً، فالاحتمال هنا في هذه الآية ليس على ظاهره، وبفرض أنهم ينصروهم: (( وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ )). إذاً: فلابد أن نفهم قوله وتعالى: (( وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ )) أنه على سبيل التقدير فقط، ولا يمكن أن يقع؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (( وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ ))، فالله تعالى نفى نصرهم، فلا يجوز وجوده.

قال الله تعالى: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [الحشر:14]. قوله: (( لا يُقَاتِلُونَكُمْ )) أي: اليهود وإخوانهم، (( جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ )) أي: في الحصون، فلا يبرزون إلى البراز وهو المكان الفضاء، (( لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ )) أي: من خلف حيطان؛ لفرط رهبتهم منكم، فهم لابد أن يستتروا بالحيطان والدور؛ لجبنهم ورغبتهم في الحياة، وهذه الصفة تكاد تكون صفة لازمة من صفات اليهود، والذي نسمعه جميعاً من العسكريين خاصة الذين حاربوا اليهود في حرب رمضان يدلنا على هذه الصفة الملازمة لليهود، فقد كانوا -خاصة في الريف- يتحصنون انطلاقاً من هذه الطبيعة التي لا تتخلف عنهم أبداً. قوله: (( بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ )) أي: أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا، فإنهم إذا اقتتلوا فيما بينهم يكونون ذوي بأس شديد على بعضهم البعض، ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة؛ لأن الشجاع يجبن، والعزيز يذل عند محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وهذه العبارة في غاية القوة وهي للزمخشري . قوله: (( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى )) أي: تظنهم مجتمعين لاتفاقهم في الظاهر، والحال أن قلوبهم متفرقة لاختلاف مقاصدها، وتجاذب أدوائها، وتفرقها عن الحق بالباطل، فأهل الباطل تفرقهم الأهواء شتى، وآية ذلك: أن هذا الخبيث المدعو باراك حينما دعا إلى حكومة وحدة وطنية ويسمونها حكومة طوائف رفض ذلك زعيم المعارضة الخبيث السفاح شارون ، وتتكلم الأحزاب اليهودية الآن وتقول: لا يُعقل أن نقعد معهم! فلا يمكن أن يجتمع هؤلاء أبداً مع بعضهم في ساعة واحدة، وذلك من شدة العداوة التي بينهم. ونرجو ألا ينطبق هذا الوصف على حكام العرب: (( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ))، فالذي يجمع ويوحد هي وحدة العقيدة، وعلل الله سبب تفرقهم بقوله: (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ))، فمتى ما تخلف العقل والحكمة وجد التفرق، فدل هذا على أن الذين يتفرقون هم قوم لا يعقلون. فمعنى قوله: (( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى )) أي: تظنهم مجتمعين لاتفاقهم في الظاهر، والحال أن قلوبهم متفرقة؛ لاختلاف مقاصدها، وتجاذب دواعيها، وتفرقها عن الحق بالباطل، (( ذَلِكَ )) أي: ذلك الاجتماع في الظاهر مع افتراق البواطن (( بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ )) أي: أن ذلك يوجب جبنهم المفضي إلى الهلاك الكلي. وفي هذه الآيات الثلاث تشجيع للمؤمنين على منازلتهم والحمل عليهم، وتذكير لهم بأنهم المنصورون الغالبون. وانظروا إلى الحزب المسمى: بحزب الله، فعلى ما هم فيه من الضلال المبين إلا أنهم يرغمون أنف اليهود في التراب، وباللغة التي يفهمها اليهود جيداً، ونحن نسمع الأخبار في ذلك، وكيف أنهم أجبروهم على الخروج من الجنوب اللبناني بدون مقابل، وبدون أي اشتراط، فهرعوا كالجرذان الهاربة خوفاً من هؤلاء مع بدعتهم وضلالتهم، فكيف يكون الأمر لو كان الذين يقاتلونهم هم أهل الحق وأهل السنة؟! فلا يستطيع أن يرد للأمة المسلمة اعتبارها إلا المجاهدون الذين ينطلقون من عقيدة التوحيد، وعقيدة القتال في سبيل الله، فلا ينفعنا شيء آخر: لا وطنية، ولا قومية، ولا هذه الشعارات الرنانة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تدخل الجنة ولا تنقذ من النار، وإنما يكون ذلك بأن ترفع راية لا إله إلا الله، وقبل ذلك بأن نعود إلى ديننا عوداً جميلاً، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام حينما توعدنا إذا تخلينا عن ديننا: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلّاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، فهذا شرط يشترطه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حتى تتألف وتجتمع هذه الأمة، وهو: أن تراجع الأمة دينها، كما قال تعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]، فالمطلوب من جميع من حاربوا المسلمين أن يكفروا عما مضى، وأن ينووا في المستقبل الكف عن محاربة الدين، فقد حورب هذا الدين بشتى الطرق التي فيها إضعاف لقوة هذه الأمة، وذلك منذ بداية هذه المعاداة المشئومة مع أعداء الله اليهود الذين لا يعرفون إلا الغدر والخيانة، وهذا كله من الوحشية.

قال الله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الحشر:15]. أي: مَثل هؤلاء اليهود من بني النضير فيما نزل بهم من العقوبة كمثل من نال جزاء بغيهم من قبلهم، وهم كفار قريش في وقعة بدر، أو بنو قينقاع، قال ابن كثير : والثاني أشبه بالصواب، فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا، قال قتادة : إن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوه فيما بين بدر وأحد. وكان من أمرهم -فيما روي- أن أمرة من العرب قدمت بجلَب لها فباعته بسوق بني قينقاع، فجلست إلى صائغ، فجعلوا -أي: اليهود- يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها -وهي جالسة على الأرض- فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهودياً، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستطرق أهلُ المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الثأر بينهم وبين بني قينقاع، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى الشام. وقال ابن جرير : وأولى الأقوال بالصواب أن يقال إن الله عز وجل مثّل هؤلاء الكفار من أهل الكتاب مما هو مذيقهم من نكاله بالذين من قبلهم من مكذبي رسوله صلى الله عليه وسلم الذين أهلكهم بسخطه، وأمْر بني قينقاع ووقعة بدر كانا قبل جلاء بني النضير، وكل أولئك قد ذاقوا وبال أمرهم، فمن قربت مدته منهم قبلهم فهم ممثلون بهم فيما عنوا به من المثل. أي: أن ابن جرير -وهو إمام المفسرين وشيخهم- يرى تعميم الآية وعدم تخصيصها ببني قينقاع، بل هي تشمل بني قينقاع، وتشمل أيضا المشركين في بدر، (( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ )) يقول كل ذائق وبال أمره ممن قربت مدته منهم قبلهم فهم ممثلون به فيما عنوا به من المثل. يقول صاحب (الظلال) رحمه الله تعالى: وحين ينتهي السياق من رسم هذه الصورة الوضيئة، ورفعها على الأفق في إطار النور يعود إلى الحادث الذي نزلت فيه السورة؛ ليرسم صورة لفريق آخر ممن اشتركوا فيها: فريق المنافقين. قال تعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا [الحشر:11] يقول: وهي حكاية لما قاله المنافقون ليهود بني النضير، ثم لم يفوا به، وخذولهم فيه حتى أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، ولكن في كل جملة قرآنية لفتة تقرر الحقيقة، وتمسّ قلباً، وتبعث انفعالاً، وتقرّ مقوِّماً من مقومات التربية والمعرفة والإيمان العميق، وأول لفتة هي تقرير القرابة بين المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب، (( أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ))، فأهل الكتاب كفار، والمنافقون إخوانهم ولو أنهم لبسوا رداء الإسلام. ثم هذا التوكيد الشديد في وعد المنافقين لإخوانهم (( لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ ))، فاللام لام القسم، (( لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ))، فالله الخبير بحقيقتهم يقرر غير ما يقررون، ويؤكد غير ما يؤكدون (( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ))، (( لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ )) أي: لو احتُمل وقُدّر نصرهم هذا مع أنه لا يقع، (( لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ )) وكان ما شهد به الله، وكذَب ما أعلنوه لإخوانهم وقرروه. ثم يقرر حقيقة قائمة في نفوس المنافقين وإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب، لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الحشر:13]، فهم قوم يرهبون المؤمنين أشد مما يرهبون الله، ولو خافوا الله ما خافوا أحداً من عباده، فإنما هو خوف واحد ورهبة واحدة، ولا يجتمع في قلب خوف من الله وخوف من شيء سواه، فالعزة لله جميعاً، وكل قوى الكون خاضعة لأمره، مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود:56]، فمم يخاف إذن ذلك الذي يخاف غير الله، ولكن الذين لا يفقهون يخافون عباد الله أشد مما يخافون الله، (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ))، وهكذا يكشف عن حقيقة القوم الواقعة، ويقرر في الوقت ذاته تلك الحقيقة المجردة، ويمضي يقرر حالة قائمة في نفوس المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب تنشأ من حقيقتهم السابقة، ورهبتهم للمؤمنين أشد من رهبتهم لله، وهي أنهم لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [الحشر:14] ، وهذا وصف لحالة مستقرة، وصفة لازمة من صفاتهم، فقد أتت هذه الصفة بصيغة الخبر: (( لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ ))، ثم يقول: (( بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ )) وهذا مبتدأ وخبر، وهذا الخبر حقيقة واقعة لا تتغير أبداً، (( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ))، والفعل المضارع يفيد الاستمرار أيضاً، (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ )) يقول -وما أعجب ما يقول! فإنه قال هذا من عدة عقود رحمه الله- يقول: وما تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في تشخيص حالة المنافقين وأهل الكتاب حيثما التقى المؤمنون بهم، في أي زمان وفي أي مكان، بشكل واضح للعيان. ولقد شهدتْ -ولا أدري هل هذا الكلام كان في سنة ثمانٍ وأربعين مثلا- الاشتباكات الأخيرة أو بعدها في الأرض المقدسة بين المؤمنين الفدائيين وبين اليهود مصداق هذا الخبر بصورة عجيبة، فما كانوا يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة في أرض فلسطين، فإذا انكشفوا لحظة واحدة ولّوا الأدبار كالجرذان، حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداء، وسبحان العليم الخبير. وتبقى الملامح النفسية الأخرى (( بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ))، على خلاف المؤمنين الذين تتوحد أجيالهم، وتربط بينهم العقيدة، وتقفز وراء حدود الزمان والمكان والجنس والنوع والانتماء لتوحد قلوبهم، فتتضامن أجيالهم حتى إن الخلَف ليدعون للسلف الأول: (( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا )). وعلى خلاف المؤمنين الذين تتضامن أجيالهم، وتجمعهم آصرة الإيمان من وراء فواصل الزمان والمكان والجنس والوطن والعشيرة. قوله: (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ))، والمظاهر قد تخدع، فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم، ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض، كما نرى تجمع المنافقين أحياناً في معسكر واحد، والناس الذي يتابعون الأخبار منذ مدة يحكون كيف أنهم في مجلس الكنيسة يضربوا بعض نساءهم ضرباً حقيقياً، وهذا شيء سهل معتاد عندهم، فهذا كله يعكس ظلال هذه الآية: (( بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا )) في الظاهر، وأما في الخفاء: (( وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ )). يقول: والمظاهر قد تخدع فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم، ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض، كما نرى تجمع المنافقين أحيانا في معسكر واحد، ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم، إنما هو مظهر خارجي خادع، وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخدّاع، فيبدو من وراءه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور، وينكشف الحال عن نزاع في داخل معسكر واحد قائم على اختلاف المصالح، وتفرق الأهواء، وتصادم الاتجاهات. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل بأسهم بينهم شديداً، وما صدَق المؤمنون مرة وتجمعت قلوبهم إلّا وقُذف في قلوب أعدائهم الرعب، فإنه من أعظم جنود الله، ولنا في هذه السورة عبرة، قال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]. فالله سبحانه وتعالى قال للمؤمنين في هذه الغزوة: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ [الحشر:5]، فهم لم يفعلوا شيئاً، وإنما الذي فعل هذا هو الله، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر:2] أي: أن القوة في الحقيقة هي القوة القلبية، وهذا من آيات الله سبحانه وتعالى، فنحن نرى هذا الجيش المدجج بالسلاح أمام أناس عُزَّل، فأقصى شيء يملكه الشباب والأطفال الفلسطينيون هي الحجارة، ومع ذلك فانظر إلى الفزع والهلع الذي هم فيه، وانظر إلى سعيهم لإدخال القريب والبعيد، وقد أعلنت إسرائيل اليوم عن غضبها من أمريكا؛ لأن أمريكا لم تضغط على الفلسطينيين بالصورة الكافية حتى يكفوا عن هذه العمليات، فماذا يصنع أطفال وشباب بالحجارة إزاء هذا الجيش المدجج بالسلاح؟! يقول: وما صدق المؤمنون مرة، وتجمعت قلوبهم على الله حقاً إلا وانكشف المعسكر الآخر أمامهم عن هذه الاختلافات فهذا التضارب، وهذا الرياء الذي لا يمثل حقيقة الحال، وما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا مظهر التماسك بين أهل الباطل يتفسخ وينهار، وينكشف عن الخلاف الحاد، والشقاق والكيد، والدس في القلوب الشتيتة المتفرقة. إنما ينال المنافقون والذين كفروا من أهل الكتاب من المسلمين عندما تتفرق قلوب المسلمين، فلم يعودوا يمثلون حقيقة المؤمنين الذي عرضتها الآية في المقطع السابق في هذه السورة، فأما بغي

قال الله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [الحشر:16-17]. وصورة الشيطان هنا ودوره مع من يستجيب له من بني الإنسان، تتفقان مع طبيعته ومهمته، فأعجب العجب أن يجتمع إليه الإنسان وحاله هو هذا الحال، وهي حقيقة دائمة ينتقل السياق القرآني إليها من تلك الواقعة العارضة، فيربط بين الحادث المفرد والحقيقة الكلية في مجال حي من الواقع، ولا ينعزل بالحقائق المجردة في الذهن، فالحقائق المجردة لا تؤثر في المشاعر، ولا تستجيش القلوب للاستجابة، وهذا فصلُ ما بين منهج القرآن في خطاب القلوب ومنهج الفلاسفة والدارسين والباحثين، وتنتهي قصة بني النضير وقد ضمت في ثناياها وفي أعقابها هذا الحشد من الصور والحقائق والتوجيهات، واتصلت أقداسها المحلية الواقعة بالحقائق الكبرى المجردة الدائمة، وكانت رحلة في عالم الواقع وفي عالم الضمير تمتد إلى أبعد من حدود الحادث ذاته، وتختلف روايتها في كتاب الله عن روايتها في كتب البشر، فكم ما بين صنع الله وصنع البشر من فوارق لا تقارن. يقول القاسمي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [الحشر:16-17]، (كمثل الشيطان) أي: مثَل المنافقين في إغراء بني النضير على القتال، ووعدهم النجدة أو الصمود معهم، ومثَل انخداع بني النضير لوعد أولئك الكاذب كمثل الشيطان، (( إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ )) أي: إذ غر إنساناً ووعده على اتباعه وكفره بالله النصرة عند الحاجة إليه، (( فَلَمَّا كَفَرَ )) أي: بالله، واتبعه وأطاعه (( قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ )) أي: مخافة أن يسنده في عذابه متيماً له، (( إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ )) أي: فلا أعيذك، (( إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ )) أي: في نصرتك، فلم ينفعه التبرؤ كما لم ينفع الأول وعده الإعانة، فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [الحشر:17] أي: في حق الله تعالى، وحق العباد، وهكذا جزاء اليهود من بني النضير والمنافقين الذين وعدوهم النصرة، وكل كافر بالله ظالم لنفسه على كفره به؛ إنهم في النار مخلدون. وقيل: إن المقصود بهذه الآية: (( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ )) هو راهب تُركت عنده امرأة، فزين له الشيطان وطأها فحملت، ثم قتلها خوفاً من أن يفتضح، فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه، فجاء الشيطان فوعده أنه إن سجد له أنجاه منهم، فسجد له، فتبرأ منه وأسلمه، وهذه القصة مذكورة في كتب التفسير بطولها، وهي في حديث صححه الحاكم وسلم له الذهبي هذا التصحيح، وقال ابن الجوزي : إن الصحيح أن هذه القصة موقوفة على علي رضي الله تعالى عنه، وهذا خلاف قول ابن عطية، فإنه لما علقها قال: منسوبة للقصاص ضعيفة، وقال بعض العلماء: لعلها من الإسرائيليات. قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: (( إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ )): المعروف أن إبليس مُنظَر ومؤجّل، فقد سأل الله سبحانه وتعالى أن ينظره ويؤجله إلى يوم القيامة، قال: قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ [الأعراف:14-15]، فإبليس ما زال حياً إلى الآن، وهو الآن ليس في النار، بل لا يزال يمارس مهمته في إغواء البشر، (( إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ )) قال بعض المفسرين: يعني: إني أخاف أن يعجل لي عذابي الآن في الدنيا، فهو الآن ما زال موجوداً في الدنيا كما هو معلوم.

قال الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]. قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي: بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، قال المهايمي : يعني: أن مقتضى إيمانكم ألا تأمنوا مكر الله، فاتقوه أن يسلط عليكم الشيطان ليغويكم بالكفر، ثم يتبرأ منكم، (( وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ )) أي: لما بعد الموت من الصالحات، (( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )) يعني: فيجازيكم بحسبها. يقول صاحب (الظلال): وعند هذا الحد من رواية الحادث والتعقيب عليه، وربطه بالحقائق البعيدة المدى، يتجه الخطاب في السورة إلى المؤمنين، فيهتف بهم باسم الإيمان، ويناديهم بالصفة التي تربطهم بصاحب الخطاب، وتيسر عليهم الاستجابة لتوجيهه وتكليفه، ويتجه إليهم ليدعوهم إلى التقوى، والنظر فيما أعدوه للآخرة، واليقظة الدائمة، والحذر من نسيان الله كالذين نسوه من قبل، ممن رأوا مصير فريق منهم، وممن كتب عليهم أنهم من أصحاب النار. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:18-20]. والتقوى حالة في القلب يشير إليها اللفظ بظلاله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ))، ولكن العبارة لا تبلغ تصوير حقيقتها، فهي حالة تجعل القلب يقظاً حساساً، شاعراً بالله في كل حالة، خائفاً متحرجاً مستحيياً أن يطلع عليه الله في حالة يكرهها، وعين الله على كل قلب في كل لحظة، فمتى يأمن ألّا يراه؟! وقوله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ )) تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه، ومجرد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله، بل صفحة حياته، ويمد ببصره في سطورها كلها يتأملها، وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته؛ لينظر ماذا قدم لغده في هذه الصفحة. وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع خطأ، ومواضع نقص، ومواضع تقصير مهما يكن قد أسلف من خير، وبذل من جهد، فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً، ونصيبه من البر ضئيلاً؟! إنها لمسة لا ينام عن معناها القلب أبداً، ولا يكف عن النظر والتقليب، ولا تنتهي الآية التي تثير كل هذه المشاعر حتى تلح على القلوب المؤمنة بمزيد من الإيقاع. قوله: (( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ))، فتزيد هذه القلوب حساسية ورهبة واستحياء، والله خبير بما يعملون، وبمناسبة ما تدعو إليه هذه الآية من يقظة وتذكُّر يحذرهم في الآية الثانية من أن يكونوا (( كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ))، وهي حالة عجيبة، ولكنها حقيقة، فالذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى، وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى، وفي هذا نسيان لإنسانيته، وهذه الحقيقة تنشأ عنها حقيقة أخرى وهي: نسيان هذا المخلوق لنفسه، فلا يدخر لها زاداً للحياة الطويلة الباقية، ولا ينظر فيما قدم لها في الغداة من رصيد.

قال الله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19] أي: المنحرفون الخارجون، وهذه الآية إحدى الآيات التي يستدل بها في حظر التشبه بالكفار. وفي الآية التالية يقرر أن هؤلاء هم أصحاب النار، ويشير للمؤمنين ليسلكوا طريقاً غير طريقهم، وهم أصحاب الجنة، فطريق أصحاب الجنة غير طريق أصحاب النار لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:20] لا يستويان طبيعة وحالاً، ولا طريقاً وسلوكاً، ولا وجهة ومصيراً. فهنا على مفرق طريقين لا يلتقيان أبداً في طريق، ولا يلتقيان أبداً في سمة، ولا يلتقيان أبداً في خطة، ولا يلتقيان أبداً في سياسة، ولا يلتقيان أبداً في خط واحد في دنيا ولا آخرة، (( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ))، فيثبت مصيرهم، ويدع مصير أصحاب النار مسكوتاً عنه معروفاً وكأنه ضائع لا يُعنى به التعبير. ويقول القاسمي في تفسير قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:18-19]، قال ابن جرير أي: لا تكونوا كالذين تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم فأنساهم فضول أنفسهم من الخيرات، وأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيراً. ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (مفتاح دار السعادة): تأمل هذه الآية تجد تحتها معنى فريداً عظيماً، وهو: أن من نسي ربه أنساه ذاته ونفسه، فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه، بل نسي ما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده، فصار معطلاً مهملاً بمنزلة الأنعام السائبة، بل ربما كانت الأنعام أخبر بمصالحها منه؛ لبقائها على هداها الذي أعطاها أياه خالقها، وأما هذا فخرج عن فطرته التي خلق عليها، فنسي ربه، فأنساه نفسه وصفاتها، وما تكمل وتزكو وتسعد به في معاشها ومعادها، يقول تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، فغفل عن ذكر ربه فانصرف عليه أمره وقلبه، فلا التفات له إلى مصالحه وكماله وما تزكوا به نفسه وقلبه، بل هو مشتت القلب مضيعه، مفرط الأمر حيران لا يهتدي سبيلاً. فالعلم بالله أصل كل علم، وهو أصل علم العبد لسعادته، وكماله، ومصالح دنياه وآخرته، والجهل به مستديم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها، وما تزكوا وتفلح به، فالعلم به سعادة العبد، والجهل به أصل شقاوته، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19] أي: الذين خرجوا عن الدين القيم الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وقالوا وغدروا ونبذوا عهد الله وراء ظهورهم فخسروا. ومن المعلوم أن عقوبات الله سبحانه وتعالى تتنوع، فمن العقوبة ما يكون ظاهراً ملموساً محسوساً، ومنها ما يكون خفياً وهو أخطر، والعقوبات الظاهرة: منها عقوبات كونية قدرية كالزلازل والمكر والخسف والصواعق ونحو ذلك، ومنها عقوبات شرعية: كالحدود الشرعية: من رجم وجلد وقطع، ونحو ذلك. ومنها ما يصيب الإنسان في بدنه، ومنها ما يصيبه في ماله أو في عافيته وهكذا، فقد يعاقب الله سبحانه وتعالى العبد على ذنوبه بمثل هذه العقوبات، وهذه العقوبات ظاهرة واضحة. وهناك نوع آخر من العقوبات، وهي أخطر العقوبات على الإطلاق وهي: العقوبات الخفية التي لا تظهر ولا يحس صاحبها أنه معاقب، فالإنسان إذا عوقب ربما انتبه، وإذا أحس أن هذا العذاب من الله سبحانه وتعالى إنما هو من جراء ما هو فيه فربما أقلع، وهذا كالزلزال مثلاً الذي حصل هنا في مصر، أو الذي حصل في تركيا، فهذه الأشياء إشارة بلا شك من الله سبحانه وتعالى إلى عدم رضاه عن أفعال العباد، فهذه عقوبة لهم؛ لتذكرهم وتنبههم، قال تعالى: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42] أي: لعلهم يتوبون، فهذا تنبيه وإيقاظ، وهذه رسائل من الله سبحانه وتعالى إلى العباد. فأقسى العقوبات ما كان خفياً كهذه العقوبة المشار إليها هنا في هذه الآية: (( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ )) أي: عن أن ينظروا فيما يصلحها، فيزين لهم سوء أعمالهم، فإذا زُيِّن للعبد سوء عمله فرآه حسنا فممَ يتوب؟! فإنه لن يستقبح فعلاً يراه حسنا، فبالتالي يتمادى فيه ولا يستيقظ منه حتى يستدرك، ولذلك تجد الله سبحانه وتعالى كلما أمعن العبد في المعاصي زاده من النعم استدراجاً، حتى إذا أخذه لم يفلته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، فالله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل، وأخذه أخذ عزيز مقتدر. فيسلط الله النسيان على العبد حتى ينسى مصالح نفسه، فينسى الآخرة فلا يراجع نفسه ولا يحاسبها؛ لأن هذه وسيلة التصحيح، فلذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد على معاصيه) أي: على تماديه في المعاصي، والله سبحانه وتعالى يعطيه ويعطيه ويعطيه فاعلم أنه استدراج، ثم تلى قوله تعالى حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44].

قال الله تبارك وتعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:20]. كما قال أيضا: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100] ، وقال تعالى أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28]. قوله: (( لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ )) وهم الناسون الغادرون، (( وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ )) وهم المؤمنون المتقون الموفون بعهدهم، (( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ )) أي: بالنعيم المقيم. وقد استدل أصحاب الشافعي بهذه الآية الكريمة على أن المسلم لا يقتل بالكفار، لأنهما لا يستويان. ونوقش هذا: بأنه لم يسوّ أحد العلماء بينهما، فهل أبو حنيفة الذي يقول بقتل المسلم بالكافر يساوي بين المسلم والكافر؟ الجواب: لا يسوي بينهما، فإيجاب القصاص ليس بتسوية؛ لأنه ما من متباينين من وجوه إلا وقد استويا في وجه أو وجوه، فلا يكون إيجاب القَوَد استواء، كما لا يكون إيجاب الدية والكفارة استواءً.

قال الله تبارك وتعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21]. قوله: (( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ )) أي: الجامع للمواعظ، والموجب للنظر والتقوى لكل حال، (( عَلَى جَبَلٍ )) أي: بأن يفهمه الجبل ويكلف بما فيه، (( لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا )) أي: متذللاً لعظمة الله، (( مُتَصَدِّعًا )) أي: متشققاً، (( مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ )) وذلك مع عظم مقداره، فالجبل على صلابته وتناهي قساوته وقوته لو أنزل عليه القرآن لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله عز وجل. يقول القاشاني : أي: أن قلوب هؤلاء الكافرين أقسى من الحجر في عدم التأثر والقبول؛ إذ الكلام الإلهي بلغ من التأثير ما لا إمكان للزيادة وراءه، حتى لو فرض إنزاله على جبل لتأثر منه بالخشوع والانصداع. فهذه الآية الكريمة تدل على أنه لا عذر لأحد في ترك تدبر القرآن الكريم، فالقرآن هو هو كما أنزله الله سبحانه وتعالى، لكن القلوب هي التي تغيرت، وهي التي اختلفت، وأما لو سلم القلب من الحجب والحواجز لكان بلا شك أشد انفعالاً بالقرآن الكريم من هذا الجبل. يقول ابن الجوزي في تفسير هذه الآية الكريمة: وهذا توبيخ لمن لا يحترم القرآن، ولا يؤثر في قلبه مع الفهم والعقل. قوله: (( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ )) أي: وتلك الأمور (( نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )) أي: ليعلموا أنهم أولى بذلك الخشوع والتصدع، والغرض من ذلك توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشعه عند تدبر القرآن، وتدبر قوارعه وزواجره، فهذا هو التفسير المشهور لهذه الآية، وهو المعتمد فيها. وهناك تفسير آخر في الآية وهو: أن المخاطب بهذه الآية هو النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله سبحانه وتعالى يمتن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذا القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، ومع ذلك امتن عليك يا محمد! بأن ثبتك لما لا تثبت له الجبال، فثبتك لنزول الوحي والقرآن عليك. ثم أشار تعالى إلى أنه كيف يترك العباد الخشوع لكلام الله الذي يحتوي على أسمائه وصفاته، مع أنه عز وجل هو الله الذي لا إله إلا هو؟! أي: كيف لا تخشعون لهذا الكلام الذي يحتوي على أسماء الله وصفاته وأفعاله مع أن مُنزله هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [الحشر:22]؟! يقول صاحب (الظلال): ثم يجيء الإيقاع الذي يتخلل القلب ويهزه، وهو يعرض أثر القرآن في الصخر الجامد لو تنزل عليه، لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21] وهي صورة تمثل حقيقة، فإن لهذا القرآن ثقلاً وسلطاناً وأثراً مزلزلاً لا يثبت له شيء يتلقاه في حقيقته، ولقد وجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما وجد عندما سمع قارئاً يقرأ: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [الطور:1-8]، فارتكن إلى الجدار، ثم عاد إلى بيته يعوده الناس شهراً مما ألمّ به. واللحظات التي يكون فيها الكيان الإنساني متفتحاً لتلقي شيء من حقيقة القرآن فإنه يهتز فيها اهتزازاً، ويرتجف ارتجافاً، ويقع فيه من التغيرات والتحولات ما يمثله في عالم المادة فعل المغناطيس والكهرباء بالأجسام أو أشد، والله خالق الجبال ومنزل القرآن يقول: (( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ )). والذين أحسوا شيئاً من مس القرآن في كيانهم يتذوقون هذه الحقيقة تذوقاً لا يعبر عنه إلا هذا النص القرآني المشع بالوحي: (( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ))، وهي خليقة بأن توقظ القلوب للتأمل والتفكر.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2813 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2613 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2577 استماع
تفسير سورة البلد 2562 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2555 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2531 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2497 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2434 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2407 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2396 استماع