خطب ومحاضرات
ألوان من الجود
الحلقة مفرغة
الحمد لله تعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، الذي حمل الرسالة، وبلغ الأمانة، وكشف الله تعالى به الغمة، وجاهد في الله تعالى حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه، فصلوات الله وسلامه عليه، وجزاه الله تعالى عنا خير ما جزى نبياً عن أمته يقول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
يحسب كثير من الناس أن القدوة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنما تكون في جزئيات وتفاصيل الأعمال الظاهرة، ويغفلون عن أن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأعمال الباطنة، التي هي أعمال القلوب أعظم وأولى، فإن ربه جل وعلا وصفه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] فأولى بالمسلم أن يقتبس من نور هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الخلق العظيم، ما يكون زاداً له في هذه الدنيا وسعادةً له في الآخرة.
ومن الأخلاق التي بعث بها الرسول عليه الصلاة والسلام خلق الكرم والجود؛ حتى إنه لا يدخل الجنة بخيل، والسخي الكريم قريب من الله تعالى، وقريب من الناس والجنة، والبخيل بعيد من الله تعالى بعيد من الجنة.
وهكذا المسلم في قلبه إعراض عن هذه الدنيا، وإقبال على الآخرة، يتمثل في كرمه وجوده وسخائه، فلننظر كيف يكون الكرم، وكيف يكون البذل والجود، وكيف يكون العطاء.
بلا شك أن أغلى ما يملكه الإنسان روحه التي بين جنبيه، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كريماً في بذل نفسه ومهجته وروحه في ذات الله عز وجل، حتى إنه أُوذي في الله ما لم يؤذَ أحد، حتى إن زعماء قريش أتوه صلى الله عليه وآله وسلم وهو ساجدٌ أمام الكعبة -في هذا المكان الطاهر المقدس، الذي تأمن فيه حتى الحيوانات- فذهبوا إلى جزور قد ذبحت بالأمس، فأخذوا سلاها ووضعوه على ظهره صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي، فلم يرفع رأسه، حتى ذهب أحدهم إلى بنته فاطمة وأخبرها الخبر، فجاءت وأزالت السلا عن ظهر أبيها عليه الصلاة والسلام، وهي تسبهم وتبكي، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لها: {اصبري يا بنية فإن الله مانع أباك} ثم قام صلى الله عليه وآله وسلم واستقبل الكعبة وقال: {اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بـ
وضُرب صلى الله عليه وآله وسلم في عرقوبيه حتى سال الدم من ورائه، وشج وجهه صلى الله عليه وآله وسلم، وكسرت رباعيته -سنه- في معركة أحد، فكان يقول:{كيف يفلح قومٌ شجوا نبيهم فأنـزل الله تعالى قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] } بل أشد من ذلك وأعظم أنه عرض نفسه صلى الله عليه وآله وسلم للموت في سبيل الله، وكان يطلب الموت مظانه، حتى إنه قال: {والله لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل} وفي إحدى المعارك ودّع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه الذين استشهدوا في تلك المعركة مضرجين بدمائهم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشهدهم وجثثهم وقد صبغت بهذا اللون الأحمر من الدم، تمنى أن يكون نال مثل مصيرهم وقتل في تلك المعركة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: {والله لوددت أني غدرت مع أصحابي بحصن الجبل} أي: تمنيت أني قتلت كما قتلوا، إعلاناً أن هذا الجسد وقف لله تعالى، عليه (ختم الوقفية) فلا يصرف إلا في مرضاة الله؛ لهذا لا غرابة أن يقول الصحابة رضي الله عنهم: [[كنا إذا احمرت الحدق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم]].
وفي يوم من الأيام أصابهم في المدينة لكن أغرب وأعجب من ذلك ما حصل في معركة
فـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه نموذج من الشجعان، خرج إليه في معركة خيبر رجل من اليهود يقال له: مرحب، كأنه قطعة من الموت وهو يرتجز والسيف في يده يهزه ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب |
أطعن أحياناً وحيناً أضرب إن حماي لحمي لا يقرب |
فخرج إليه علي بن أبي طالب حين تأخر الأبطال كلهم وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه المنظره |
نكيلكم بالصاع كيل السندره |
(والحيدرة هو الأسد)فتوجه إليه وقطعه بالسيف نصفين، وكان يقول وهو في المعركة رضي الله عنه:
أي يوميَّ من الموت أفر يوم لا قُدِّر أم يوم قدر |
يوم لا قُدِّر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر |
انظر كيف هذا الكلام المنطقي والسليم، يقول: لماذا أهرب من المعركة، أأهرب من المعركة لأن أجلي مكتوب فيها؟ إذا كان أجلي مكتوباً فلن ينفعني الفرار، قال تعالى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً [الأحزاب:16] أم أهرب من المعركة وأنا أعلم أن أجلي غير مكتوب فيها، إذاً فلن أموت وأجلي لم يأت بعد، فلا معنى للفرار أبداً، وهذا لون من أرقى أنواع الشجاعة والجود! إنه الجود بالنفس! قال الشاعر:
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود |
واسأل نفسك يا أخي الكريم وأنت المسلم! ما الذي يمنعك من الصبر والشجاعة في سبيل الله، الآن القضية ليست قضية معركة دامية يدعى المسلم إلى نـزولها، بل القضية قضية معركة الكلمة؛ كلمة الحق، ما الذي يمنع المسلم من أن يقول كلمة الحق ويجهر بها؟! وما هو الذي جعل الكلمة تتلجلج في أفواه الناس؟! وما هو الذي زرع الرعب والخوف في قلوبهم؟! حتى إنهم إذا اجتمع منهم أربعة أو خمسة؛ ولو كانوا في مجلس فقال أحدهم كلمة الحق قال له الآخر: يا فلان! اسكت فإن للجدران آذاناً، ما هو الذي جعل الرعب يفتك بقلوبنا؟! إنه حب الحياة! وقد قال الشاعر:
يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول |
أما لو علم الإنسان أن الأجل لا يتقدم ولا يتأخر فلن يكون في فمه ماء، بل سيكون قائلاً بالحق لا يخشى في الله لومة لائم، ولن يقدم على هذا من أجل أحد، ولن يؤخر -أيضاً- من أجل أحد، وقد قال: الإمام ابن حزم وهو من الشجعان الصرحاء في الحق:
قالوا: تحفظ فإن الناس قد كثرت أقوالهم وأقاويل الورى محن |
فقلت هل عيبهم لي غير أني لا أدين بالدجل إذ في دجلهم فتن |
وأنني مولع بالحق لست إلى سواه أنحو ولا في نصره أهن |
دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً من مات من غيظه منهم له كفن |
وهناك لون آخر من ألوان شجاعته صلى الله عليه وآله وسلم، أو من ألوان كرمه صلى الله عليه وآله وسلم وهو: كرمه بالمال، وكرمه بالمال لون آخر لا يكاد يأتي عليه الكلام، حتى إنه ليصدق عليه قول القائل:
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله |
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله |
وقد خرج عليه الصلاة والسلام في يوم عليه بُرد لا يملك غيره، بُرد جميل أهداه إليه رجل فلبسه عليه الصلاة والسلام، فلما خرج به على أصحابه فرحوا بذلك وسرّوا؛ لأنه يسرهم أن يلبس مثل هذا عليه الصلاة والسلام، فجاء رجل فقال: { يا رسول الله: اكسني هذا -أعطني إياه- فخرج النبي عليه الصلاة والسلام من بين أظهرهم ودخل بيته فخلعه، ثم خرج وأعطاه هذا الرجل فأقبل الناس عليه يلومونه ويعاتبونه ويقولون له: تعلم أننا فرحنا بهذا، وأنه لا يملك صلى الله عليه وآله وسلم غيره، وتعلم أنه لا يرد أحداً سأله ثم تطلبه منه، قال: إنني ما طلبته منه حتى ألبسه إنما طلبته منه عليه الصلاة والسلام حتى يكون كفني (أي حتى أكفن فيه إذا مت) قالوا: فكفن فيه رضي الله عنه وأرضاه }.
فكان عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلاً، وربما استدان فأعطى، وربما اشترى شيئاً فدفع أضعاف ثمنه، وربما اشترى شيئاً فرد الثمن ورد المشترى نفسه، كما فعل مع جابر رضي الله عنه: { وجاء العباس رضي الله عنه إلى أكوام من الذهب والفضة فأخذ في حجره وحثا ثم حثا ثم حثا، فذهب ليقوم فلم يستطع أن يقوم من ثقل ما حمل، فطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يساعده فقال له: لا، لا أساعدك. فطلب من رجل آخر أن يساعده، فقام العباس رضي الله عنه، وقد ملأ حجره من هذا الذهب، شيء عجيب. أي الشيء الذي أنا حصلت عليه بشجاعتي أعطيت الأقرع وعيينة ولم تعطني أنا: يقول آباؤهم ليسوا أحسن من أبي: آباؤهم ليسوا أحسن من أبي، وهم ليسوا أحسن مني، ومن خفضته اليوم لا يرفع إلى يوم القيامة، فأكمل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة، وبقي الأنصار رضي الله عنهم، فلم يحصلوا على ما حصل عليه هؤلاء، وهم المسلمون القدماء والمجاهدون البواسل والشجعان، فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغطاً في مجالسهم وأحاديثهم، فجمعهم في خيمة ثم أتى إليهم وقال: {لا يأتي إلا أنصاري} فلما اجتمع الأنصار، جاء عليه الصلاة والسلام. ماذا تتصور أن يعطي الأنصار؟ المال؟ انتهى وما بقي في يده مال؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أعطى هؤلاء المؤلفة قلوبهم ودياناً من الإبل والبقر والغنم وغيره، فماذا بقي لهم؟ فجاءهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاهم شيئاً آخر أثمن من الذهب والفضة، وأثمن من الإبل، فخطب وقال: {يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ قالوا: بلى. قال: وعالة فأغناكم الله بي؟ قالوا: بلى، قال: ومتفرقين فجمعكم الله بي؟ قالوا: بلى. فلله ولرسوله المن والفضل، قال: مقالة بلغتني عنكم وحديثاً سمعته منكم، في أموال أو لعاعة من الدنيا أعطيتها أقواماً أتألفهم على الإسلام، -من أجل أن أؤلف قلوبهم على الإسلام- ألا يسركم أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، فبكى الأنصار حتى اخضلت لحاهم من الدموع، وهم يقولون: رضينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسماً وحظاً، رضينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسماً وحظاً} تكفينا أنت يا رسول الله، تكفينا أننا سوف ننقلب وأنت بين أظهرنا، وأنت عندنا نذهب بك إلى رحالنا فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه إلى السماء، وقال:{اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار} كرم لا حدود له، إذا انتهى المال جاد بألوان أخرى من الأعطيات، كما رأيت عليه الصلاة والسلام. وكرمه صلى الله عليه وسلم بالمال شيء عجيب! حتى إنه لا يقول: لا. أبداً صلى الله عليه وآله وسلم: حتى إنه يعطي أحياناً أناساً قد لا يكونون مستحقين في نظر الإنسان العادي، ويترك من هو أحق منه في نظره رعاية للمصلحة، كما في حال المؤلفة قلوبهم، فهذا شأنه صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك تجد الواحد منهم إذا أراد أن يخرج زكاة ماله انقبضت يده، وبعضهم قد يسهل عليه إخراج الزكاة؛ لأنها حق مطلوب، لكن إذا أراد أن يتصدق ثقل عليه ذلك، حتى إنه يكاد ينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه: {مثل المتصدق أو المنفق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبتان أو جُنتان} ثم ذكر صلى الله عليه وآله وسلم أن الرجل المنفق الكريم كلما أراد أن ينفق اتسعت هذه الجبة، حتى تعفي أثره، وأما ذلك البخيل فإنها تتضايق عليه حتى لا يستطيع أن ينفق، فيقبض يده، حتى ذكر الله تعالى من علامات المنافقين أنهم يقبضون أيديهم، يعني: بالعطاء. ألا تتذكر أيها المسلم قول سيدي وسيدك محمد عليه الصلاة والسلام: { يد الله ملئا لا تغيضها نفقة <يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، أرأيتم ما أنفق ربنا جل وعلا منذ أن خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه جل وعلا ولم ينقص منه شيئاً، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: {لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر } تصور ماذا ينقص؟ لا ينقص شيئاً. فالله الجواد أعطاك ما أعطاك، وابتلاك فيما ابتلاك، لينظر أتشكر أم تكفر قال تعالى: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40]. وفي صحيح مسلم -رحمه الله- ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصة: {رجل من بني إسرائيل، كان يمشي فرأى سحابة في السماء، فسمع صوتاً في السحابة يقول: اسق حديقة فلان -ينص على شخص معين- فمشى هذا الرجل حتى رأى السحابة توسطت المزرعة فأفرغت كل ما فيها في تلك المزرعة، فدخل المزرعة فإذا رجل داخل المزرعة يسوي الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ فقال: اسمي فلان، فذكر الاسم الذي سمعه هذا الرجل في السحابة، فقال: بالله عليك ماذا تصنع؟ قال: ماذا تريد بي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السماء يقول: اسق حديقة فلان، فأحببت أن أعرف ماذا تصنع؟ قال: لا شيء، أنا عندي هذا البستان إذا خرجت غلته قسمتها ثلاثة أثلاث: ثلث آكله أنا وأولادي، وثلث أرده فيها، وثلث للفقير وابن السبيل والمسكين}. فلا توجد معجزة، والأمر واضح، فعرف أن الله تعالى سخر السحاب بل أرسل ملكاً مخصصاً يسوق السحاب إلى حديقة فلان بن فلان، لماذا؟ لأن هذا برنامجه، لماذا لا تجعل أيها المسلم برنامجك مثل برنامج صاحب الحديقة، ثلث ما يعطيك الله من المرتب إذا لم يكن عليك ديون تستغرق المرتب أو غيره، تصرفه في سبيل الله تعالى للفقراء والمساكين وأبناء السبيل والمجاهدين، وأعمال الخير من طباعة الكتب وطباعة الأشرطة والقيام بشئون الدعوة إلى الله، ومساعدة المسلمين المحتاجين من الفقراء والمستضعفين والمنكوبين والمهاجرين وغيرهم، ممن يعانون اليوم ألواناً من الفقر لا يعلمها إلا الله. فأين أنتم يا أثرياء المسلمين؟! وأين أنتم يا أنصاف الأثرياء؟! وأين أنتم يا أرباع الأثرياء؟! إنكم مسئولون، ما لكم لا تنصرون إخوانكم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بل ربما يوجد في جيرانكم اليوم في هذه البلاد ولا أقول في غيرها، ربما يوجد الجياع كثيراً، وقد وقفنا على أحوال كثيرة من أحوال الجياع وقد يوجد في البيت عشرات من الرجال والنساء والأطفال ولا يوجد من يقوم عليهم أبداً، ولهم أحوال إذا سمعها الأثرياء قالوا: ما كنا نتصور أن يوجد مثل هذا؛ لأن كل إنسان يقيس على نفسه، يرى أنه يعيش في رغد من العيش، وفي بحبوحة ونِعَم، وبيت واسع، فيظن أن الناس مثله، ولا يتحسس آلام ومصائب هؤلاء المسلمين المحتاجين هنا وهناك. جوده في زكاة البحرين
جوده في غنائم معركة حنين
أتجعـل نهـبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع فما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمـع وما كنتُ دون امرئ منهما ومن يخفض اليوم لا يرفع ما قال "لا" قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم بخل بعض الناس في الإنفاق
إخلاف الله للمنفقين
وضع فقراء المسلمين
في يوم من الأيام جاءت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أموالٌ كثيرة من الذهب والفضة، من البحرين، فجاءه الأنصار وصلوا معه صلاة الفجر ينتظرون منه صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رآهم تبسم وقال: {أظنكم سمعتم بالمال الذي قدم من البحرين قالوا: نعم يا رسول الله! قال: أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من كان قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم } ثم أعطاهم صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاء العباس رضي الله عنه إلى أكوام من الذهب والفضة فأخذ في حجره وحثا ثم حثا ثم حثا، فذهب ليقوم فلم يستطع أن يقوم من ثقل ما حمل، فطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يساعده فقال له: لا، لا أساعدك. فطلب من رجل آخر أن يساعده، فقام العباس رضي الله عنه، وقد ملأ حجره من هذا الذهب، شيء عجيب.
وفي معركة حنين آل الأمر إلى انتصار المسلمين فغنموا أموالاً كثيرةً جداً، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أقوام من الذين هم حديثو عهد بالإسلام، فهم مسلمون يحتاجون إلى تأليف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مائة من الإبل، أعطى عيينة بن الحصن مائة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة أخرى، وأعطى العباس بن مرداس خمسين، فجاء العباس بن مرداس وهو شاعر فحل؛ وقال بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معاتباً له لماذا تعطيني خمسين وتعطي هؤلاء مائة فقال: يا رسول الله!
أتجعـل نهـبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع |
أي الشيء الذي أنا حصلت عليه بشجاعتي أعطيت الأقرع وعيينة ولم تعطني أنا:
فما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمـع |
يقول آباؤهم ليسوا أحسن من أبي:
وما كنتُ دون امرئ منهما ومن يخفض اليوم لا يرفع |
آباؤهم ليسوا أحسن من أبي، وهم ليسوا أحسن مني، ومن خفضته اليوم لا يرفع إلى يوم القيامة، فأكمل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة، وبقي الأنصار رضي الله عنهم، فلم يحصلوا على ما حصل عليه هؤلاء، وهم المسلمون القدماء والمجاهدون البواسل والشجعان، فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغطاً في مجالسهم وأحاديثهم، فجمعهم في خيمة ثم أتى إليهم وقال: {لا يأتي إلا أنصاري} فلما اجتمع الأنصار، جاء عليه الصلاة والسلام. ماذا تتصور أن يعطي الأنصار؟ المال؟ انتهى وما بقي في يده مال؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أعطى هؤلاء المؤلفة قلوبهم ودياناً من الإبل والبقر والغنم وغيره، فماذا بقي لهم؟ فجاءهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاهم شيئاً آخر أثمن من الذهب والفضة، وأثمن من الإبل، فخطب وقال: {يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ قالوا: بلى. قال: وعالة فأغناكم الله بي؟ قالوا: بلى، قال: ومتفرقين فجمعكم الله بي؟ قالوا: بلى. فلله ولرسوله المن والفضل، قال: مقالة بلغتني عنكم وحديثاً سمعته منكم، في أموال أو لعاعة من الدنيا أعطيتها أقواماً أتألفهم على الإسلام، -من أجل أن أؤلف قلوبهم على الإسلام- ألا يسركم أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، فبكى الأنصار حتى اخضلت لحاهم من الدموع، وهم يقولون: رضينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسماً وحظاً، رضينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسماً وحظاً} تكفينا أنت يا رسول الله، تكفينا أننا سوف ننقلب وأنت بين أظهرنا، وأنت عندنا نذهب بك إلى رحالنا فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه إلى السماء، وقال:{اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار} كرم لا حدود له، إذا انتهى المال جاد بألوان أخرى من الأعطيات، كما رأيت عليه الصلاة والسلام.
وكرمه صلى الله عليه وسلم بالمال شيء عجيب! حتى إنه لا يقول: لا. أبداً صلى الله عليه وآله وسلم:
ما قال "لا" قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم |
حتى إنه يعطي أحياناً أناساً قد لا يكونون مستحقين في نظر الإنسان العادي، ويترك من هو أحق منه في نظره رعاية للمصلحة، كما في حال المؤلفة قلوبهم، فهذا شأنه صلى الله عليه وسلم.
قارن جود النبي صلى الله عليه وسلم بأحوال كثير من الأثرياء والموسرين من المسلمين اليوم، الذين مد الله تعالى لهم في الأجل، ووسع لهم في الرزق، وأعطاهم وأكثر جل وعلا.
ومع ذلك تجد الواحد منهم إذا أراد أن يخرج زكاة ماله انقبضت يده، وبعضهم قد يسهل عليه إخراج الزكاة؛ لأنها حق مطلوب، لكن إذا أراد أن يتصدق ثقل عليه ذلك، حتى إنه يكاد ينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه: {مثل المتصدق أو المنفق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبتان أو جُنتان} ثم ذكر صلى الله عليه وآله وسلم أن الرجل المنفق الكريم كلما أراد أن ينفق اتسعت هذه الجبة، حتى تعفي أثره، وأما ذلك البخيل فإنها تتضايق عليه حتى لا يستطيع أن ينفق، فيقبض يده، حتى ذكر الله تعالى من علامات المنافقين أنهم يقبضون أيديهم، يعني: بالعطاء.
ألا تتذكر أيها المسلم قول سيدي وسيدك محمد عليه الصلاة والسلام: { يد الله ملئا لا تغيضها نفقة <يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، أرأيتم ما أنفق ربنا جل وعلا منذ أن خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه جل وعلا ولم ينقص منه شيئاً، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: {لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر } تصور ماذا ينقص؟ لا ينقص شيئاً.
فالله الجواد أعطاك ما أعطاك، وابتلاك فيما ابتلاك، لينظر أتشكر أم تكفر قال تعالى: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40].
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5118 استماع |
حديث الهجرة | 5007 استماع |
تلك الرسل | 4155 استماع |
الصومال الجريح | 4146 استماع |
مصير المترفين | 4123 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4052 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3976 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3929 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3872 استماع |
التخريج بواسطة المعجم المفهرس | 3833 استماع |