ألوان من الجود


الحلقة مفرغة

الحمد لله تعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، الذي حمل الرسالة، وبلغ الأمانة، وكشف الله تعالى به الغمة، وجاهد في الله تعالى حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه، فصلوات الله وسلامه عليه، وجزاه الله تعالى عنا خير ما جزى نبياً عن أمته يقول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].

يحسب كثير من الناس أن القدوة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنما تكون في جزئيات وتفاصيل الأعمال الظاهرة، ويغفلون عن أن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأعمال الباطنة، التي هي أعمال القلوب أعظم وأولى، فإن ربه جل وعلا وصفه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] فأولى بالمسلم أن يقتبس من نور هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الخلق العظيم، ما يكون زاداً له في هذه الدنيا وسعادةً له في الآخرة.

ومن الأخلاق التي بعث بها الرسول عليه الصلاة والسلام خلق الكرم والجود؛ حتى إنه لا يدخل الجنة بخيل، والسخي الكريم قريب من الله تعالى، وقريب من الناس والجنة، والبخيل بعيد من الله تعالى بعيد من الجنة.

وهكذا المسلم في قلبه إعراض عن هذه الدنيا، وإقبال على الآخرة، يتمثل في كرمه وجوده وسخائه، فلننظر كيف يكون الكرم، وكيف يكون البذل والجود، وكيف يكون العطاء.

بلا شك أن أغلى ما يملكه الإنسان روحه التي بين جنبيه، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كريماً في بذل نفسه ومهجته وروحه في ذات الله عز وجل، حتى إنه أُوذي في الله ما لم يؤذَ أحد، حتى إن زعماء قريش أتوه صلى الله عليه وآله وسلم وهو ساجدٌ أمام الكعبة -في هذا المكان الطاهر المقدس، الذي تأمن فيه حتى الحيوانات- فذهبوا إلى جزور قد ذبحت بالأمس، فأخذوا سلاها ووضعوه على ظهره صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي، فلم يرفع رأسه، حتى ذهب أحدهم إلى بنته فاطمة وأخبرها الخبر، فجاءت وأزالت السلا عن ظهر أبيها عليه الصلاة والسلام، وهي تسبهم وتبكي، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لها: {اصبري يا بنية فإن الله مانع أباك} ثم قام صلى الله عليه وآله وسلم واستقبل الكعبة وقال: {اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بـعتبة بن ربيعة، وشيبة، والوليد، وفلان وفلان} وذكر سبعة، قال الراوي: فلقد رأيتهم والله صرعى في القليب -قليب بدر- ذبحوا في معركة بدر كما تذبح الشياه، ثم جروا بعدما انتفخت جثثهم إلى القليب وألقوا فيه، وأتبعوا لعنة، ويوم القيامة هم من المقبوحين.

وضُرب صلى الله عليه وآله وسلم في عرقوبيه حتى سال الدم من ورائه، وشج وجهه صلى الله عليه وآله وسلم، وكسرت رباعيته -سنه- في معركة أحد، فكان يقول:{كيف يفلح قومٌ شجوا نبيهم فأنـزل الله تعالى قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] } بل أشد من ذلك وأعظم أنه عرض نفسه صلى الله عليه وآله وسلم للموت في سبيل الله، وكان يطلب الموت مظانه، حتى إنه قال: {والله لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل} وفي إحدى المعارك ودّع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه الذين استشهدوا في تلك المعركة مضرجين بدمائهم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشهدهم وجثثهم وقد صبغت بهذا اللون الأحمر من الدم، تمنى أن يكون نال مثل مصيرهم وقتل في تلك المعركة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: {والله لوددت أني غدرت مع أصحابي بحصن الجبل} أي: تمنيت أني قتلت كما قتلوا، إعلاناً أن هذا الجسد وقف لله تعالى، عليه (ختم الوقفية) فلا يصرف إلا في مرضاة الله؛ لهذا لا غرابة أن يقول الصحابة رضي الله عنهم: [[كنا إذا احمرت الحدق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم]].

وفي يوم من الأيام أصابهم في المدينة فزع وسمعوا أصواتاً فتوقعوا أن هناك هجوماً مباغتاً مفاجئاً على المدينة، فخرج الناس الشجعان والأبطال الأشاوس، خرجوا بعدما استعدوا بلأمتهم وركبوا خيولهم، فلما خرجوا خارج المدينة إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاقيهم راجعاً، وقد أتى على فرسٍ جوادٍ قد رجع واطمأن من الأمر، وقال: { ما رأينا من فزع، وإن وجدناه لبحراً } هذا الفرس الذي عليه الصلاة والسلام كالبحر يهتز ويسرع ويعدو براكبه: {وما هناك من فزع فلن تراعوا فعودوا إلى بيوتكم} فعادوا فسبقهم صلى الله عليه وسلم إلى الاطمئنان على وضع المدينة.

لكن أغرب وأعجب من ذلك ما حصل في معركة حنين فقد ذهب المسلمون وعددهم اثنا عشر ألفاً، في عماية الصبح والليل والظلام، وقد لقيتهم قبيلة بني نصر وهوازن وهم من العرب الذين يملكون قوة وقدرة في الرماية عجيبة، وقد استعدوا للمسلمين، فلما نـزل المسلمون في الوادي، لقيتهم هوازن بسيل من السهام، فضربت المسلمين ضربة مباغتة ومفاجئة، ففروا كلهم - الإثنا عشر ألفاً- انهزموا وهربوا، أما محمد عليه الصلاة والسلام فظل ثابتاً في موقعه كأنه جبل لا يتزحزح، ولم يثبت معه إلا أربعة فقط هم العباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبو سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا عباس ناد أصحاب الشجرة، فناداهم العباس فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وظلوا يقاتلون دونه، فثبت صلى الله عليه وآله وسلم يوم فر الأبطال الشجعان، وكان لا يتزحزح ولا يتراجع ولا يتأخر إلى الوراء أبداً، بل يهجم على الموت فيفر منه، وما ذلك إلا لإيمانه المطلق بأن الأعمار والآجال بيد الله: {وأن الناس لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} ولهذا ربى وعلم وأعدَّ أصحابه على الشجاعة.

فـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه نموذج من الشجعان، خرج إليه في معركة خيبر رجل من اليهود يقال له: مرحب، كأنه قطعة من الموت وهو يرتجز والسيف في يده يهزه ويقول:

قد علمت خيبر أني مرحب     شاكي السلاح بطل مجرب

أطعن أحياناً وحيناً أضرب     إن حماي لحمي لا يقرب

فخرج إليه علي بن أبي طالب حين تأخر الأبطال كلهم وهو يقول:

أنا الذي سمتني أمي حيدره     كليث غابات كريه المنظره

نكيلكم بالصاع كيل السندره

(والحيدرة هو الأسد)فتوجه إليه وقطعه بالسيف نصفين، وكان يقول وهو في المعركة رضي الله عنه:

أي يوميَّ من الموت أفر     يوم لا قُدِّر أم يوم قدر

يوم لا قُدِّر لا أرهبه     ومن المقدور لا ينجو الحذر

انظر كيف هذا الكلام المنطقي والسليم، يقول: لماذا أهرب من المعركة، أأهرب من المعركة لأن أجلي مكتوب فيها؟ إذا كان أجلي مكتوباً فلن ينفعني الفرار، قال تعالى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً [الأحزاب:16] أم أهرب من المعركة وأنا أعلم أن أجلي غير مكتوب فيها، إذاً فلن أموت وأجلي لم يأت بعد، فلا معنى للفرار أبداً، وهذا لون من أرقى أنواع الشجاعة والجود! إنه الجود بالنفس! قال الشاعر:

يجود بالنفس إن ضن البخيل بها     والجود بالنفس أقصى غاية الجود

واسأل نفسك يا أخي الكريم وأنت المسلم! ما الذي يمنعك من الصبر والشجاعة في سبيل الله، الآن القضية ليست قضية معركة دامية يدعى المسلم إلى نـزولها، بل القضية قضية معركة الكلمة؛ كلمة الحق، ما الذي يمنع المسلم من أن يقول كلمة الحق ويجهر بها؟! وما هو الذي جعل الكلمة تتلجلج في أفواه الناس؟! وما هو الذي زرع الرعب والخوف في قلوبهم؟! حتى إنهم إذا اجتمع منهم أربعة أو خمسة؛ ولو كانوا في مجلس فقال أحدهم كلمة الحق قال له الآخر: يا فلان! اسكت فإن للجدران آذاناً، ما هو الذي جعل الرعب يفتك بقلوبنا؟! إنه حب الحياة! وقد قال الشاعر:

يقرب حب الموت آجالنا     لنا وتكرهه آجالهم فتطول

أما لو علم الإنسان أن الأجل لا يتقدم ولا يتأخر فلن يكون في فمه ماء، بل سيكون قائلاً بالحق لا يخشى في الله لومة لائم، ولن يقدم على هذا من أجل أحد، ولن يؤخر -أيضاً- من أجل أحد، وقد قال: الإمام ابن حزم وهو من الشجعان الصرحاء في الحق:

قالوا: تحفظ فإن الناس قد كثرت     أقوالهم وأقاويل الورى محن

فقلت هل عيبهم لي غير أني لا     أدين بالدجل إذ في دجلهم فتن

وأنني مولع بالحق لست إلى     سواه أنحو ولا في نصره أهن

دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً     من مات من غيظه منهم له كفن

وهناك لون آخر من ألوان شجاعته صلى الله عليه وآله وسلم، أو من ألوان كرمه صلى الله عليه وآله وسلم وهو: كرمه بالمال، وكرمه بالمال لون آخر لا يكاد يأتي عليه الكلام، حتى إنه ليصدق عليه قول القائل:

هو البحر من أي النواحي أتيته     فلجته المعروف والجود ساحله

تراه إذا ما جئته متهللاً     كأنك تعطيه الذي أنت سائله

وقد خرج عليه الصلاة والسلام في يوم عليه بُرد لا يملك غيره، بُرد جميل أهداه إليه رجل فلبسه عليه الصلاة والسلام، فلما خرج به على أصحابه فرحوا بذلك وسرّوا؛ لأنه يسرهم أن يلبس مثل هذا عليه الصلاة والسلام، فجاء رجل فقال: { يا رسول الله: اكسني هذا -أعطني إياه- فخرج النبي عليه الصلاة والسلام من بين أظهرهم ودخل بيته فخلعه، ثم خرج وأعطاه هذا الرجل فأقبل الناس عليه يلومونه ويعاتبونه ويقولون له: تعلم أننا فرحنا بهذا، وأنه لا يملك صلى الله عليه وآله وسلم غيره، وتعلم أنه لا يرد أحداً سأله ثم تطلبه منه، قال: إنني ما طلبته منه حتى ألبسه إنما طلبته منه عليه الصلاة والسلام حتى يكون كفني (أي حتى أكفن فيه إذا مت) قالوا: فكفن فيه رضي الله عنه وأرضاه }.

فكان عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلاً، وربما استدان فأعطى، وربما اشترى شيئاً فدفع أضعاف ثمنه، وربما اشترى شيئاً فرد الثمن ورد المشترى نفسه، كما فعل مع جابر رضي الله عنه: {حينما اشترى منه جمله ثم أعطاه القيمة، وقال: خذ جملك ودراهمك فهو لك} فأعطاه الجمل والدراهم صلى الله عليه وآله وسلم.

جوده في زكاة البحرين

في يوم من الأيام جاءت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أموالٌ كثيرة من الذهب والفضة، من البحرين، فجاءه الأنصار وصلوا معه صلاة الفجر ينتظرون منه صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رآهم تبسم وقال: {أظنكم سمعتم بالمال الذي قدم من البحرين قالوا: نعم يا رسول الله! قال: أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من كان قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم } ثم أعطاهم صلى الله عليه وآله وسلم.

وجاء العباس رضي الله عنه إلى أكوام من الذهب والفضة فأخذ في حجره وحثا ثم حثا ثم حثا، فذهب ليقوم فلم يستطع أن يقوم من ثقل ما حمل، فطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يساعده فقال له: لا، لا أساعدك. فطلب من رجل آخر أن يساعده، فقام العباس رضي الله عنه، وقد ملأ حجره من هذا الذهب، شيء عجيب.

جوده في غنائم معركة حنين

وفي معركة حنين آل الأمر إلى انتصار المسلمين فغنموا أموالاً كثيرةً جداً، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أقوام من الذين هم حديثو عهد بالإسلام، فهم مسلمون يحتاجون إلى تأليف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مائة من الإبل، أعطى عيينة بن الحصن مائة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة أخرى، وأعطى العباس بن مرداس خمسين، فجاء العباس بن مرداس وهو شاعر فحل؛ وقال بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معاتباً له لماذا تعطيني خمسين وتعطي هؤلاء مائة فقال: يا رسول الله!

أتجعـل نهـبي ونهب العبيد     بين عيينة والأقرع

أي الشيء الذي أنا حصلت عليه بشجاعتي أعطيت الأقرع وعيينة ولم تعطني أنا:

فما كان حصن ولا حابس      يفوقان مرداس في مجمـع

يقول آباؤهم ليسوا أحسن من أبي:

وما كنتُ دون امرئ منهما     ومن يخفض اليوم لا يرفع

آباؤهم ليسوا أحسن من أبي، وهم ليسوا أحسن مني، ومن خفضته اليوم لا يرفع إلى يوم القيامة، فأكمل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة، وبقي الأنصار رضي الله عنهم، فلم يحصلوا على ما حصل عليه هؤلاء، وهم المسلمون القدماء والمجاهدون البواسل والشجعان، فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغطاً في مجالسهم وأحاديثهم، فجمعهم في خيمة ثم أتى إليهم وقال: {لا يأتي إلا أنصاري} فلما اجتمع الأنصار، جاء عليه الصلاة والسلام. ماذا تتصور أن يعطي الأنصار؟ المال؟ انتهى وما بقي في يده مال؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أعطى هؤلاء المؤلفة قلوبهم ودياناً من الإبل والبقر والغنم وغيره، فماذا بقي لهم؟ فجاءهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاهم شيئاً آخر أثمن من الذهب والفضة، وأثمن من الإبل، فخطب وقال: {يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ قالوا: بلى. قال: وعالة فأغناكم الله بي؟ قالوا: بلى، قال: ومتفرقين فجمعكم الله بي؟ قالوا: بلى. فلله ولرسوله المن والفضل، قال: مقالة بلغتني عنكم وحديثاً سمعته منكم، في أموال أو لعاعة من الدنيا أعطيتها أقواماً أتألفهم على الإسلام، -من أجل أن أؤلف قلوبهم على الإسلام- ألا يسركم أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، فبكى الأنصار حتى اخضلت لحاهم من الدموع، وهم يقولون: رضينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسماً وحظاً، رضينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسماً وحظاً} تكفينا أنت يا رسول الله، تكفينا أننا سوف ننقلب وأنت بين أظهرنا، وأنت عندنا نذهب بك إلى رحالنا فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه إلى السماء، وقال:{اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار} كرم لا حدود له، إذا انتهى المال جاد بألوان أخرى من الأعطيات، كما رأيت عليه الصلاة والسلام.

وكرمه صلى الله عليه وسلم بالمال شيء عجيب! حتى إنه لا يقول: لا. أبداً صلى الله عليه وآله وسلم:

ما قال "لا" قط إلا في تشهده     لولا التشهد كانت لاؤه نعم

حتى إنه يعطي أحياناً أناساً قد لا يكونون مستحقين في نظر الإنسان العادي، ويترك من هو أحق منه في نظره رعاية للمصلحة، كما في حال المؤلفة قلوبهم، فهذا شأنه صلى الله عليه وسلم.

بخل بعض الناس في الإنفاق

قارن جود النبي صلى الله عليه وسلم بأحوال كثير من الأثرياء والموسرين من المسلمين اليوم، الذين مد الله تعالى لهم في الأجل، ووسع لهم في الرزق، وأعطاهم وأكثر جل وعلا.

ومع ذلك تجد الواحد منهم إذا أراد أن يخرج زكاة ماله انقبضت يده، وبعضهم قد يسهل عليه إخراج الزكاة؛ لأنها حق مطلوب، لكن إذا أراد أن يتصدق ثقل عليه ذلك، حتى إنه يكاد ينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه: {مثل المتصدق أو المنفق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبتان أو جُنتان} ثم ذكر صلى الله عليه وآله وسلم أن الرجل المنفق الكريم كلما أراد أن ينفق اتسعت هذه الجبة، حتى تعفي أثره، وأما ذلك البخيل فإنها تتضايق عليه حتى لا يستطيع أن ينفق، فيقبض يده، حتى ذكر الله تعالى من علامات المنافقين أنهم يقبضون أيديهم، يعني: بالعطاء.

ألا تتذكر أيها المسلم قول سيدي وسيدك محمد عليه الصلاة والسلام: { يد الله ملئا لا تغيضها نفقة <يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، أرأيتم ما أنفق ربنا جل وعلا منذ أن خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه جل وعلا ولم ينقص منه شيئاً، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: {لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر } تصور ماذا ينقص؟ لا ينقص شيئاً.

فالله الجواد أعطاك ما أعطاك، وابتلاك فيما ابتلاك، لينظر أتشكر أم تكفر قال تعالى: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40].

إخلاف الله للمنفقين

فيا أيها الأخ الكريم الذي أعطاك الله من الرزق وألوانه ما أعطاك! حتى لو لم تكن من الأثرياء الكبار، لو كنت من أصحاب الدخل المتوسط، ضع بين عينيك أن المعطي الكريم في السماء، وأن موزع الأرزاق في السماء، وأنه إذا علم من قلبك أنك كريم جواد سوف يوسع لك في الرزق، وكلمة الله تعالى لا تخلف أبداً.

وفي صحيح مسلم -رحمه الله- ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصة: {رجل من بني إسرائيل، كان يمشي فرأى سحابة في السماء، فسمع صوتاً في السحابة يقول: اسق حديقة فلان -ينص على شخص معين- فمشى هذا الرجل حتى رأى السحابة توسطت المزرعة فأفرغت كل ما فيها في تلك المزرعة، فدخل المزرعة فإذا رجل داخل المزرعة يسوي الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ فقال: اسمي فلان، فذكر الاسم الذي سمعه هذا الرجل في السحابة، فقال: بالله عليك ماذا تصنع؟ قال: ماذا تريد بي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السماء يقول: اسق حديقة فلان، فأحببت أن أعرف ماذا تصنع؟ قال: لا شيء، أنا عندي هذا البستان إذا خرجت غلته قسمتها ثلاثة أثلاث: ثلث آكله أنا وأولادي، وثلث أرده فيها، وثلث للفقير وابن السبيل والمسكين}.

فلا توجد معجزة، والأمر واضح، فعرف أن الله تعالى سخر السحاب بل أرسل ملكاً مخصصاً يسوق السحاب إلى حديقة فلان بن فلان، لماذا؟ لأن هذا برنامجه، لماذا لا تجعل أيها المسلم برنامجك مثل برنامج صاحب الحديقة، ثلث ما يعطيك الله من المرتب إذا لم يكن عليك ديون تستغرق المرتب أو غيره، تصرفه في سبيل الله تعالى للفقراء والمساكين وأبناء السبيل والمجاهدين، وأعمال الخير من طباعة الكتب وطباعة الأشرطة والقيام بشئون الدعوة إلى الله، ومساعدة المسلمين المحتاجين من الفقراء والمستضعفين والمنكوبين والمهاجرين وغيرهم، ممن يعانون اليوم ألواناً من الفقر لا يعلمها إلا الله.

وضع فقراء المسلمين

ألا يسوؤك أن تعلم أن أفقر الشعوب على الإطلاق هي الشعوب الإسلامية، حتى إنني سمعت بنفسي تقريراً عن بعض الأماكن التي يوجد فيها مسلمون، يهربون من جحيم الحروب فيقام لهم ملاجئ، يقول: إن هذه الملاجئ فيها من البؤس والمرض والجوع والعطش ما الله به عليم، حتى إنهم يقفون طوابير لا يرى الإنسان نهايتها، ويجلس الواحد منهم في الطابور اثنتي عشرة ساعة، لا ينتظر ملابساً ولا خبزاً له ولأولده ولا علاجاً بل ينتظر جرة من الماء لا تكفيه ولا بعض اليوم، ثم يضطر من الغد ليقف في الطابور نفسه من أجل أن يحصل على حصة الغد من الماء، من هؤلاء؟ هؤلاء المسلمون، وأقسم بالله لو كانت هذه الشعوب التي تعاني هذا البؤس والفقر، من شعوب الصليب أو من شعوب اليهود، لوجدت المؤسسات الضخمة والدول والأعمال والأثرياء يقومون بجهود كبيرة، ويجمعون الأموال، ويخصصون العمارات، وقد رأينا النصارى يفعلون ذلك، وآلاف المؤسسات التنصيرية لا هم لها إلا إغاثتهم، بل إن النصارى يغيثون حتى هؤلاء المسلمين ولكن يعطونهم العلاج في يد، ويعطونهم الإنجيل في اليد الأخرى.

فأين أنتم يا أثرياء المسلمين؟! وأين أنتم يا أنصاف الأثرياء؟! وأين أنتم يا أرباع الأثرياء؟! إنكم مسئولون، ما لكم لا تنصرون إخوانكم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بل ربما يوجد في جيرانكم اليوم في هذه البلاد ولا أقول في غيرها، ربما يوجد الجياع كثيراً، وقد وقفنا على أحوال كثيرة من أحوال الجياع وقد يوجد في البيت عشرات من الرجال والنساء والأطفال ولا يوجد من يقوم عليهم أبداً، ولهم أحوال إذا سمعها الأثرياء قالوا: ما كنا نتصور أن يوجد مثل هذا؛ لأن كل إنسان يقيس على نفسه، يرى أنه يعيش في رغد من العيش، وفي بحبوحة ونِعَم، وبيت واسع، فيظن أن الناس مثله، ولا يتحسس آلام ومصائب هؤلاء المسلمين المحتاجين هنا وهناك.

في يوم من الأيام جاءت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أموالٌ كثيرة من الذهب والفضة، من البحرين، فجاءه الأنصار وصلوا معه صلاة الفجر ينتظرون منه صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رآهم تبسم وقال: {أظنكم سمعتم بالمال الذي قدم من البحرين قالوا: نعم يا رسول الله! قال: أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من كان قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم } ثم أعطاهم صلى الله عليه وآله وسلم.

وجاء العباس رضي الله عنه إلى أكوام من الذهب والفضة فأخذ في حجره وحثا ثم حثا ثم حثا، فذهب ليقوم فلم يستطع أن يقوم من ثقل ما حمل، فطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يساعده فقال له: لا، لا أساعدك. فطلب من رجل آخر أن يساعده، فقام العباس رضي الله عنه، وقد ملأ حجره من هذا الذهب، شيء عجيب.

وفي معركة حنين آل الأمر إلى انتصار المسلمين فغنموا أموالاً كثيرةً جداً، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أقوام من الذين هم حديثو عهد بالإسلام، فهم مسلمون يحتاجون إلى تأليف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مائة من الإبل، أعطى عيينة بن الحصن مائة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة أخرى، وأعطى العباس بن مرداس خمسين، فجاء العباس بن مرداس وهو شاعر فحل؛ وقال بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معاتباً له لماذا تعطيني خمسين وتعطي هؤلاء مائة فقال: يا رسول الله!

أتجعـل نهـبي ونهب العبيد     بين عيينة والأقرع

أي الشيء الذي أنا حصلت عليه بشجاعتي أعطيت الأقرع وعيينة ولم تعطني أنا:

فما كان حصن ولا حابس      يفوقان مرداس في مجمـع

يقول آباؤهم ليسوا أحسن من أبي:

وما كنتُ دون امرئ منهما     ومن يخفض اليوم لا يرفع

آباؤهم ليسوا أحسن من أبي، وهم ليسوا أحسن مني، ومن خفضته اليوم لا يرفع إلى يوم القيامة، فأكمل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة، وبقي الأنصار رضي الله عنهم، فلم يحصلوا على ما حصل عليه هؤلاء، وهم المسلمون القدماء والمجاهدون البواسل والشجعان، فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغطاً في مجالسهم وأحاديثهم، فجمعهم في خيمة ثم أتى إليهم وقال: {لا يأتي إلا أنصاري} فلما اجتمع الأنصار، جاء عليه الصلاة والسلام. ماذا تتصور أن يعطي الأنصار؟ المال؟ انتهى وما بقي في يده مال؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أعطى هؤلاء المؤلفة قلوبهم ودياناً من الإبل والبقر والغنم وغيره، فماذا بقي لهم؟ فجاءهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاهم شيئاً آخر أثمن من الذهب والفضة، وأثمن من الإبل، فخطب وقال: {يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ قالوا: بلى. قال: وعالة فأغناكم الله بي؟ قالوا: بلى، قال: ومتفرقين فجمعكم الله بي؟ قالوا: بلى. فلله ولرسوله المن والفضل، قال: مقالة بلغتني عنكم وحديثاً سمعته منكم، في أموال أو لعاعة من الدنيا أعطيتها أقواماً أتألفهم على الإسلام، -من أجل أن أؤلف قلوبهم على الإسلام- ألا يسركم أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، فبكى الأنصار حتى اخضلت لحاهم من الدموع، وهم يقولون: رضينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسماً وحظاً، رضينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسماً وحظاً} تكفينا أنت يا رسول الله، تكفينا أننا سوف ننقلب وأنت بين أظهرنا، وأنت عندنا نذهب بك إلى رحالنا فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه إلى السماء، وقال:{اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار} كرم لا حدود له، إذا انتهى المال جاد بألوان أخرى من الأعطيات، كما رأيت عليه الصلاة والسلام.

وكرمه صلى الله عليه وسلم بالمال شيء عجيب! حتى إنه لا يقول: لا. أبداً صلى الله عليه وآله وسلم:

ما قال "لا" قط إلا في تشهده     لولا التشهد كانت لاؤه نعم

حتى إنه يعطي أحياناً أناساً قد لا يكونون مستحقين في نظر الإنسان العادي، ويترك من هو أحق منه في نظره رعاية للمصلحة، كما في حال المؤلفة قلوبهم، فهذا شأنه صلى الله عليه وسلم.

قارن جود النبي صلى الله عليه وسلم بأحوال كثير من الأثرياء والموسرين من المسلمين اليوم، الذين مد الله تعالى لهم في الأجل، ووسع لهم في الرزق، وأعطاهم وأكثر جل وعلا.

ومع ذلك تجد الواحد منهم إذا أراد أن يخرج زكاة ماله انقبضت يده، وبعضهم قد يسهل عليه إخراج الزكاة؛ لأنها حق مطلوب، لكن إذا أراد أن يتصدق ثقل عليه ذلك، حتى إنه يكاد ينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه: {مثل المتصدق أو المنفق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبتان أو جُنتان} ثم ذكر صلى الله عليه وآله وسلم أن الرجل المنفق الكريم كلما أراد أن ينفق اتسعت هذه الجبة، حتى تعفي أثره، وأما ذلك البخيل فإنها تتضايق عليه حتى لا يستطيع أن ينفق، فيقبض يده، حتى ذكر الله تعالى من علامات المنافقين أنهم يقبضون أيديهم، يعني: بالعطاء.

ألا تتذكر أيها المسلم قول سيدي وسيدك محمد عليه الصلاة والسلام: { يد الله ملئا لا تغيضها نفقة <يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، أرأيتم ما أنفق ربنا جل وعلا منذ أن خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه جل وعلا ولم ينقص منه شيئاً، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: {لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر } تصور ماذا ينقص؟ لا ينقص شيئاً.

فالله الجواد أعطاك ما أعطاك، وابتلاك فيما ابتلاك، لينظر أتشكر أم تكفر قال تعالى: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40].