تفسير سورة المجادلة [1-4]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المجادلة:1-4]. قال الجوهري: (قد) حرف لا يدخل إلا على الأفعال، وقال الزمخشري : معنى (قد) التوقع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا متوقعين أن ينزل الله في شكواها ما يفرج عنها. ومعنى سماع الله تعالى لقولها إجابة دعائها لا مجرد علمه تعالى بذلك، فهذا كقول المصلي: (سمع الله لمن حمده). قوله تعالى: (( وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ))، هذه الواقعة تدل على أن من قطع رجاؤه عن الخلق فلم يبق له فيما أهمه أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك الأمر. وصيغة المضارع: يسمع: يفيد التجدد: (( وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ))، للدلالة على استمرار السمع، حسب استمرار التحاور وتجدده، ويأتي بالمضارع هنا؛ لأن فيه تحاوراً ومراجعة في الكلام، فكلما ترد الكلام فإن الله سبحانه وتعالى يسمعه، وذكرها مع الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الخطاب في قوله: (( تَحَاوُرَكُمَا ))، تكريم لها بهذا الخطاب الكريم، فقد ذكرت مقترنة باسمه الشريف عليه الصلاة والسلام، فهذا بلا شك تكريم عظيم لها، وإظهار الاسم الجليل في الموضعين لغرض المهابة والروعة في قلوب المؤمنين: (( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا )).

معنى الظهار لغة وشرعاً

قال ابن منظور : كانت العرب تطلق النساء في الجاهلية بهذه الكلمة: أنت علي كظهر أمي، كأنه يحرم نكاحها بهذه اللفظة؛ لأن الظهر ما يركب، وفي بعض الأحاديث: (ما لنا من ظهر سوى هذا البعير)، يعني: من مركوب، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له)، فالمقصود بالظهر المركوب. وقال الرازي : ليس الظهار مأخوذاً من الظهر الذي هو عضو من الجسد؛ لأنه ليس الظهر أولى بالذكر في هذا الموضع من سائر الأعضاء، بل الظهر هنا مأخوذ من العلو، ومنه قوله تعالى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الكهف:97] يعني: إن يعلوه، وكل من علا شيئاً فقد ظهر، ومنه سمي المركوب ظهراً؛ لأن راكبه يعلوه. ويدل على صحة هذا المعنى: أن العرب تقول في الطلاق: نزلت عن امرأتي، أي: طلقتها. وفي قولهم: أنت علي كظهر أمي: حذف وإضمار؛ لأن تأويله ظهرك علي، أي: ركوبي إياك وعلوي عليك حرام كما أن علوي على أمي وملكها حرام علي. أيضاً المظاهر شبه الزوجة بالأم، ولم يقل: هي أم، فكيف كان ذلك منكراً وزوراً؟ وأجيب عن ذلك بأن الكذب إنما لزم لأن قوله: أنت علي كظهر أمي، إما أن يكون إخباراً أو إنشاء، فعلى الأول: إن قصد أنها كظهر أمه فقد كذب؛ لأن الزوجة محللة والأم محرمة، وتشبيه المحللة بالمحرمة في ضبط الحل والحرمة كذب، وعلى الإنشاء كان ذلك أيضاً كذب؛ لأن معناه أن الشرع جعله سبباً في حصول الحرمة، فلما لم يرد الشرع بهذا التشبيه كان جعله إنشاء لوقوع هذا الحكم كذباً وزوراً. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر في خلافته على امرأة وكان راكباً على حمار والناس معه، فاستوقفته تلك المرأة طويلاً ووعظته، وقالت له: عهدي بك يا عمر ! وأنت صغير تدعى عميراً، ثم قيل لك: يا أمير المؤمنين : فاتق الله يا عمر في الرعية، واعلم أن من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هذه خولة بنت ثعلبة التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر ؟! قوله تعالى: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ [المجادلة:2] الخطاب في لفظ: ( منكم ) فيه مزيد توبيخ للعرب، وتهجين لعاداتهم في الظهار؛ لأنه كان من أيمان الجاهلية خاصة دون سائر الأمم. أيضاً مما يناسب ذكره عن الكفارة: ما رواه الإمام الترمذي عن سلمة بن صخر البيهقي أنه قال: (كنت امرأً أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً يتابع بي حتى أصبح، فظاهرت منها حتى ينسلخ رمضان، فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء، فما لبثت أن نزوت عليها، فلما أصبحت أخبرت قومي، فقلت: امشوا معي إلى النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: ليستفتي- فقالوا: لا والله، فانطلقت فأخبرته صلى الله عليه وسلم فقال: أنت بذاك يا سلمة ؟! قلت: أنا بذاك يا رسول الله! مرتين، وأنا صابر لأمر الله؛ فاحكم فيَّ بما أراك الله، قال: حرر رقبة. قلت: والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها، وضربت صفحة رقبتي، قال: فصم شهرين متتابعين. قلت: هل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام. قال: فأطعم ستين وسقاً من تمر ستين مسكيناً. فقلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين ما لنا طعام -يعني: مقفرين لا طعام لهم- قال: فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك؛ فأطعم ستين مسكيناً وستين وسقاً من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها، فرجعت إلى قومي أقول: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي، وقد أمرني بصدقتكم).

تحريم الظهار

أما ما يتعلق بالأحكام الشرعية؛ فالحكم الأول: هل الظهار مشروع كالطلاق أم هو محرم؟ كان الظهار في الجاهلية طلاقاً، بل كان أشد أنواع الطلاق عندهم؛ لما فيه من تشبيه الزوجة بالأم التي تحرم على التأبيد، وجاء الإسلام فأبطل هذا الحكم، وجعل الظهار محرماً قربان المرأة حتى يكفر زوجها، ولم يجعله طلاقاً كما كانوا يعتبرونه في الجاهلية. فلو ظاهر الرجل يريد الطلاق كان ظهاراً، ولو طلق يريد به الظهار كان طلاقاً، والعبرة باللفظ لا بالنية؛ فلا يقوم أحدهما مقام الآخر. قال ابن القيم : وهذا لأن الظهار كان طلاقاً في الجاهلية فنسخ فلم يجز أن يعاد إلى الحكم المنسوخ، أي: أن يتلفظ بلفظ الظهار وهو يريد به الطلاق، وأيضاً إن نوى به الطلاق فعلى ما كان عليه، وأجري عليه حكم الظهار دون الطلاق، وأيضاً فإنه صريح في حكمه؛ فلم يجز جعله كناية في الحكم الذي قضاه الله بشرعه، وقضاء الله أحق، وحكم الله أوجب. وقد دلت الآية الكريمة: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [المجادلة:2]، على أن الظهار حرام، بل قال فقهاء الشافعية إنه من الكبائر، فمن أقدم عليه اعتبر كاذباً معانداً للشرع. وقد اتفق العلماء على حرمته، فلا يجوز الإقدام عليه لأنه كذب وزور وبهتان؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [الأحزاب:4]. فالظهار محرم بالكتاب والسنة والإجماع، وهو يختلف عن الطلاق؛ فالطلاق مشروع وهذا ممنوع، ولو أقدم الإنسان عليه فيكون قد ارتكب محرماً، ويجب عليه كفارة بالتفصيل الذي ذكرناه.

حرمة إتيان الزوجة قبل الكفارة

ما الذي يترتب على الظهار من أحكام؟ إذا ظاهر الرجل من امرأته ترتب على ذلك أمور: فأول ما يترتب على الظهار: حرمة إتيان الزوجة حتى يكفر كفارة الظهار؛ لقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3]. أما الثاني فهو وجوب الكفارة بالعود؛ لقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا [المجادلة:3]. والعود له مبدأ وله منتهى، فمبدأ العود هو العزم على الوطء، ومنتهاه هو: الوطء بالفعل، فمن عزم على الوطء فقد عاد في النية فينطبق عليه قوله تعالى: (( ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ))، فتلزمه الكفارة لإباحة الوطء، ومن وطأ بالفعل تحتم في حقه اللزوم وخالف بالإقدام على الوطء قبل التكفير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، فبين أن العزم على الفعل عمل يؤخذ به الإنسان، فمثلاً من ذهب إلى المكان الذي فيه الخمر ليشتري الخمر فهو حريص وعازم لكن وجد المكان مغلقاً، فقد وصلت النية لمرحلة العزم والإصرار. والنبي عليه السلام قال: (إذا اقتتل المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) ، فالعزم مما يؤاخذ به الإنسان. وكما يحرم المسيس تحرم مقدماته. وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة. وقال الثوري والشافعي في أحد القولين: إن المحرم هو الوطء فقط؛ لأن المسيس كناية عن الجماع. واستدل الجمهور بالعموم الوارد في قوله تعالى: (( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ))، فقالوا: إن هذا يعم جميع أوجه الاستمتاع. واستدلوا أيضاً بمقتضى التشبيه الذي هو سبب الحرمة في قوله: ( كظهر أمي ). كذلك استدلوا بأمر النبي عليه الصلاة والسلام الرجل الذي ظاهر من زوجته بالاعتزال حتى يكفر، وفي الحديث: (فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به). أما الشافعي في أحد قوليه والثوري فقد استدلا على قصر الحكم على الوطء بأن الآية ذكرت المسيس، وهو كناية عن الوطء فيقتصر عليه، وأن الحرمة ليست هي معنى يخل بالنكاح، فأشبه الحيض الذي يحرم الاستمتاع فيه فيما بين السرة والركبة. على أي الأحوال ربما يكون الأحوط هو الأخذ بمذهب الجمهور لما ذكرناه.

المراد بالعود في قوله: (ثم يعودون لما قالوا ...)

اختلف الفقهاء -كما ذكرنا آنفاً- في المراد من العود في قوله تعالى: ((ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا)). قال أبو حنيفة: العود: هو عبارة عن العزم على استباحة الوطء والملامسة، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة:6] المقصود: إذا أردتم القيام إلى الصلاة. وقال أيضاً: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل:98]، معناها: إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله، فكذلك قوله: ((ثم يعودون لما قالوا))، يعني: ثم يريدون أو يعزمون على أن يرجعوا إلى ما قالوا. وقال الشافعي : العود هو أن يمسكها بعد الظهار مع القدرة على الطلاق فلا يطلق، أي: يمسكها بعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فيه مع القدرة على الطلاق ومع ذلك لا يطلق، فالمعنى: والذين يظاهرون ثم يعزمون على الجماع مع الإمساك فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا. وقال مالك وأحمد : العود: هو العزم على الوطء والإمساك. يعني: إمساك الزوجة معه. وقال أهل الظاهر فقال أبو الظاهر : العود أن يكرر لفظ الظهار مرة ثانية؛ فإن لم يكرر لم يقع الظهار. والآراء الثلاثة الأولى متقاربة في المعنى؛ لأن العودة إلى الإمساك، أو الوطء، أو إبقاؤها بعد الظهار بدون طلاق كلها تدل على معنى الندم، وإرادة المعاشرة للزوجه التي ظاهر منها، فاللام في (لما) بمعنى: إلى، أي: ثم يعودون إلى ما قالوا، والمعنى: يرجعون إلى تحليل ما حرموا على أنفسهم بالعزم على الوطء ... إلى آخر الأقوال فيها. وقال الفراء : معنى الآية: لا يرجعون عما قالوا، وفي نقض ما قالوا. وقال بعض العلماء: معنى قوله: (( ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا )) أي: ثم يعودون لما قالوا إنه حرام عليهم، وهو الجماع، ونظيره قول الله تبارك وتعالى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ [مريم:80]، من أنه يؤتى مالاً وولداً، عندما قال: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [مريم:77]. استدل أهل الظاهر: بأن العود معناه تكرار لفظ الظهار وإعادته، بقوله: (( ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ))؛ قالوا: فلا تلزم الكفارة إلا إذا أعاد اللفظ، وظاهر مرة ثانية، لكن لا تلزم كفارة الظهار لأول مرة، وقالوا: الذي يعقل من قولهم: عاد إلى الفعل أنه فعله مرة ثانية، كما قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28] ، فإذا لم يتكرر الظهار لا يقع التحريم. قال الزجاج راداً على أهل الظاهر: هذا قول من لا يدري اللغة، وقال أبو علي الفارسي : (ليس هو كما ادعوا؛ لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن عليه الإنسان قبل وقد سميت الآخرة معاداً ولم يكن فيها أحد، ثم عاد الناس إليها. قال الهذلي : وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل سوى الحق شيئاً واستراح العواذل وقال ابن العربي راداً على الظاهرية أيضاً: ويشبه أن يكون هذا من جهالة داود وأشياعه، وهو باطل قطعاً؛ لأنه قد رويت قصص المظاهرين، وليس فيها ذكر لعود القول منهم، وأيضاً فإن المعنى ينقضه؛ لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزوراً، فكيف يقال له: إذا أعدت القول المحرم، والسبب المحذور؛ وجبت عليك الكفارة! كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستفصل المرأة التي نزلت فيها آية الظهار، هل كرر زوجها لفظ الظهار أو لا؟ وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال. فما قاله جمهور الفقهاء من أن المراد بالعود ليس تكرار اللفظ، وإنما هو معاشرتها والعزم على وطئها، هو الصحيح المعقول لغة وشرعاً؛ لأن المظاهر قد حرم على نفسه قربان الزوجة؛ فهو يريد أن ينقض ذلك ويعيدها إلى نفسه، فيلزمه التكفير بهذا العزم. وأما ما قاله أهل الظاهر فباطل لا يقوم عليه دليل، بل هو من آثار الفهم السقيم الذي تخبط بهؤلاء في كثير من الأحكام الشرعية، ويكفي لبطلانه حديث أوس بن الصامت ؛ فإنه لم يكرر الظهار، وقد ألزمه النبي صلى الله عليه وسلم الكفارة، وحديث سلمة بن صخر ؛ فقد أمره صلى الله عليه وسلم بالكفارة، مع أنه لم يكرر اللفظ وقد تقدم ذكرهما، وكفى بذلك حجة قاطعة، ولا رأي لأحد أمام قول المعصوم صلى الله عليه وسلم.

حكم ظهار غير المسلم

هل يصح ظهار غير المسلم كالذمي والكتابي؟ ذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن ظهار الذمي لا يقع؛ لأن الله تعالى يقول: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ [المجادلة:2] وظاهر قوله: (( مِنْكُمْ )): أن غير المسلم لا يتناوله الحكم. وقالوا أيضاً: إن الذمي ليس من أهل الكفارة؛ لأن فيها إعتاق رقبة وصوماً، ولما كان الصوم عبادة لا تصح من غير المسلم فلا يصح ظهاره، فالظهار لا يكون إلا من الزوج العاقل البالغ المسلم. وقال الشافعي : كما يصح طلاق الذمي وتترتب عليه أحكامه كذلك يقع ظهاره. وقالوا: يكفر بالإعتاق والإطعام ولا يكفر بالصوم؛ لأنه عبادة ولا تصح إلا من المسلم. قال الألوسي : والعجب من الإمام الشافعي عليه الرحمة أن يقول بصحته، مع أنه اشترط النية في الكفارة، والإيمان في الرقبة، والكافر لا يملك المؤمن. يعني: الشافعية تشترط في الرقبة أن تكون مؤمنة، وهنا يجيز أن يكفر الذمي بتحرير رقبة، والكافر لا يملك المؤمن فكيف يجيز الإمام الشافعي رحمه الله تعالى إعتاق هذه الرقبة للذمي. على أي الأحوال فإن مذهب الجمهور قوي. أما الاستدلال بمفهوم الصفة في قوله: (( مِنْكُمْ )) فليس بذاك؛ لأن الآية وردت مورد التهجين والتشنيع، لما مر أن الظهار لم يعرف إلا عند العرب، فليس فيها ما يدل عليه، والله تعالى أعلم.

حكم ظهار المرأة

هل يقع ظهار المرأة؟ اتفق الفقهاء على أنه ليس للنساء ظهار، فلو ظاهرت امرأة من زوجها بقولها: أنت علي كظهر أمي فلا كفارة عليها، ولا يلزمها شيء، وكلامها لغو. قال ابن العربي : وهو صحيح في المعنى: بأن الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح من الرجال، ليس بيد النساء منه شيء.

ما يقع به الظهار من الألفاظ

هل الظهار مختص بالأم؟ ذهب الجمهور إلى أن الظهار يختص بالأم كما ورد في القرآن الكريم وكما جاء في السنة المطهرة، فلو قال لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي كان مظاهراً، ولو قال لها: أنت عليَّ كظهر أختي أو بنتي لم يكن ذلك ظهاراً. وذهب أبو حنيفة والشافعي في أحد القولين: إلى أنه يقاس على الأم جميع المحارم، فالظهار عندهم تشبيه الرجل زوجته بإحدى المحرمات عليه على وجه التأبيد بالنسب أو الرضاع إذ العلة هي التحريم المؤبد. وأما من قال لامرأته: يا أختي أو يا أمي على سبيل الكرامة والتوقير فإنه لا يكون مظاهراً، ولكن يكره له ذلك، واستدل من كره ذلك بما رواه أبو داود عن أبي تميمة الهذلي : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول لامرأته: يا أخية! فكره ذلك ونهى عنه) وهذا الحديث مضطرب. ومما ورد أيضاً في بعض الروايات: (أن رجلاً قال لامرأته: يا أختي! فقال عليه الصلاة والسلام: أختك هي؟). وقد قال الخليل عليه السلام عن زوجته سارة : (إنها أختي) ثم قال لها: (إن هذا سألني عنك فأنبأته أنك أختي، وإنه ليس اليوم مسلم غيري وغيرك، وإنك أختي في كتاب الله، فلا تكذبيني عنده! وهذا متفق عليه، وهذا من التعظيم. لكن بعض العلماء قالوا: لو خاطب الرجل امرأته بقوله: يا أختي أو يا أمي صار مظاهراً إذا قصد الظهار، والحديث كما ذكرنا حديث ضعيف مرسل، ولو قلنا بصحته يكون فيه تنبيه بأن يجتنب الإنسان الألفاظ المتشابهة.

كفارة الظهار

كفارة الظهار واجبة على الترتيب بلا خلاف، ولابد فيها من النية سواء كانت عتقاً أو صياماً أو إطعاماً. وفي حالة الصيام لابد أن ينوي في الليل أن صيامه فريضة وأنه واجب عليه، كصيام رمضان. أما في عتق الرقبة فالنية تكون مع نفس فعل العتق أو قبله. كذلك في إطعام ستين مسكيناً تكون النية مع الفعل أو قبله؛ لأن النية تفرق بين أنواع الكفارات؛ ولأن النية أيضاً تفرق بين الفرض والنفل، فلذلك لابد لهذه الأفعال من النية. أول ما يجب في كفارة الظهار الإعتاق، وقد أطلقت الرقبة في الآية، فهل تجزئ أي رقبة ولو كانت كافرة؟ ذهب الحنفية إلى أنه يجزئ في الكفارة إعتاق الرقبة الكافرة والمؤمنة والذكر والأنثى والكبير والصغير ولو رضيعاً؛ لأن الاسم ينطبق على كل ذلك. وذهب الشافعية والمالكية إلى اشتراط الإيمان في الرقبة، فلا يصح عتق غير المؤمن حملاً للمطلق على المقيد في آية القتل في قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] بجامع السبب في كل منهما، أي أن سبب هذا محرم وهو القتل الخطأ، وسبب الكفارة هنا محرم وهو الظهار. وقال الحنفية: لا يحمل المطلق على المقيد إلا بحكم واحد في حادثة واحدة؛ لأنه حينئذ يلزم ذلك لزوماً عقلياً، إذ الشيء نفسه لا يكون مطلوباً إدخاله في الوجوب مطلقاً ومقيداً، كالصوم في كفارة اليمين ورد مطلقاً ومقيداً بالتتابع في القراءة المشهورة التي تجوز القراءة بمثلها. أما الإمام أحمد ففي المسألة عنه روايتان على التفصيل الذي ذكرناه. فمن لم يستطع عتق رقبة ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين، ولابد أن يعتبر الشهر بالهلال، فلا فرق بين التام والناقص، فلو شرع في أول يوم من رجب وكان رجب تسعة وعشرين يوماً، وشعبان مثله، لم يعد ناقصاً؛ لأنه صام شهرين متتابعين، فيعتبر الشهر بالهلال وليس بعدد الأيام، فلا فرق بين التام والناقص. أما إن صام بغير الأهلة، كأن صام يوم خمسة عشر من شهر جماد الآخر، فلابد من ستين يوماً عند الحنفية، وعند الشافعية والمالكية يصوم إلى الهلال ثم يصوم شهراً بالهلال ثم يتم الأول بالعدد حتى يتم شهرين متتابعين، وبالمعنى الشرعي لا يجوز له أن يفطر فيهما، ولا أن يصوم فيهما عن غير الكفارة، فلو صام أثناء الشهرين تطوعاً أو قضاء أو عن نذر أو غير ذلك انقطع التتابع، فيعيد صيام شهرين متصلين. وكذلك لو أفطر لغير عذر يعيد الصوم من جديد. فإن تخلل صومهما صوم شهر رمضان، بأن بدأ صيام الشهرين في شعبان، ثم بدأ بصيام شهر رمضان، ففي هذه الحالة لا ينقطع التتابع لتعين رمضان للصوم الواجب فيه، أو تخلله فطر يجب كعيد وأيام التشريق لم ينقطع التتابع لتعين الفطر فيه؛ لأنه زمن منعه الشرع عن صومه. وإن أفطر لعذر يبيح الفطر كسفر لم ينقطع التتابع. هذا باختصار فيما يتعلق بصيام الشهرين متتابعين. والحالة الثالثة: إن عجز عن عتق رقبة وعن صيام شهرين؛ فيطعم ستين مسكيناً، فمن لم يستطع الصيام أو لم يستطع تتابعه لسبب من كبر أو فرط شهوة أو مرض لا يرجى زواله عادة بقول طبيب فعليه إطعام ستين مسكيناً.

حكم إخراج القيمة بدل الإطعام

ولا تجزئ القيمة عند الحنابلة ومالك والشافعي بخلاف أصحاب الرأي. ودليل القول الأول قول الله: ((إطعام ستين مسكيناً)) وأوله أهل الرأي بأن المعنى: (فقيمة إطعام)، وهذا من التأويل الذي لا يقوم عليه دليل. قال أبو حيان : والظاهر مطلق الإطعام، وتخصصه ما كانت في العادة في الإطعام وقت النزول وهو ما يجزي من غير تحديد بمدّ. ولا يجزي عند مالك والشافعي أن يطعم أقل من ستين مسكيناً. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لو أطعم مسكيناً واحداً كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه. وإن عجز عن الإطعام، فلم يقدر على أن يعتق رقبة، ولا استطاع أن يصوم شهرين متتابعين، ولا إطعام ستين مسكيناً، سقطت الكفارة. والعبرة بحالة وقت العود لا وقت المظاهرة؛ لأنه الوقت الذي تجب فيه الكفارة، فربما كان عندما ظاهر يستطيع الصيام؛ لكن طرأ عليه مرض يمنعه من الصيام حينما أراد العود، فالعبرة بحاله عند العود لا حالة المظاهرة.

حكم جماع المظاهر قبل التكفير

هل تتغلظ الكفارة بالمسيس قبل التكفير؟ قلنا: إن العود له مبدأ وله منتهى، فالأدنى هو العزم، فإذا عزم على العود وأراد أن يعود ففي هذه الحالة يجب عليه أن يكفر. وإذا ارتكب الحد الأقصى وهو أنه عاد بالفعل بالمسيس قبل أن يكفر؛ ففيه الآتي: ذهب أبو حنيفة إلى أن المظاهر إذا جامع زوجته قبل أن يكفر أثم وعصى الله، وتسقط عنه الكفارة لفوات وقتها. وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه أثم وعصى ويستغفر ويتوب، ويمسك عن زوجته حتى يكفر كفارة واحدة. ومعنى: (( ثُمَّ يَعُودُونَ )) عند الإمام أحمد كما قلنا: يعود إلى الوطء أو إلى العزم عليه؛ فإن ظاهر وجامع قبل التكفير لزمه الكف عن المسيس مرة أخرى حتى يكفر، ويلزم من هذا جواز الجماع الأول قبل التكفير، فهذا الواضح في قوله: (( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا )) ؛ لأن الآية على هذا القول إنما بينت حكم ما إذا وقع الجماع قبل التكفير، وأن وجوب التكفير قبل مسيس آخر، ففي هذه الحالة إذا حصل المسيس قبل التكفير فيجب عليه أن يتوقف عن هذا المسيس إلى أن يكفر. قال الجصاص: إن الظهار لا يوجب كفارة وإنما يوجب تحريم الوطء، ولا يرتفع التحريم إلا بالكفارة، فإذا لم يرد وطأها فلا كفارة عليه، وإن ماتت أو عاشت فلا شيء عليه، إذ كان حكم الظهار أيام التحريم مؤقتاً بأداء الكفارة، وأنه متى لم يكفر فالوطء محظور عليه، فإن وطئ سقط الظهار والكفارة، وذلك لأنه علق حكم الظهار وما أوجب به من الكفارة بأدائها قبل الوقت لقوله: (( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا )) ، فمتى وقع المسيس فقد فات الشرط فلا تجب الكفارة؛ لأن كل فرض محصور بوقت أو معلق على شرط، فإنه متى فات الوقت وعدم الشرط لم يجب باللفظ الأول، واحتيج إلى دلالة أخرى في الإيجاب مثله في الوقت الثاني. فهذا حكم الظهار إذا وقع المسيس قبل التكفير، إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً ظاهر من امرأته فوطئها قبل التكفير، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (استغفر الله، ولا تعد حتى تكفر)، فصار التحريم الذي بعد الوطء واجباً بالسنة، وهذا رواه ابن ماجة والنسائي والدارقطني والترمذي وأبو داود . والظاهر والله تعالى أعلم أن مذهب الجمهور هو الصحيح، وأنه يأثم بهذا الفعل، وأنه تجب عليه كفارة واحدة.

خلاصة ما ترشد إليه الآيات في الظهار

خلاصة ما تشير إليه الآية: استجابة الله سبحانه وتعالى دعاء الشاكي الصادق إذا أخلص الدعاء. عدم جواز تشبيه الزوجة بمحرم من المحرمات على التأبيد. عدم جواز مس المرأة قبل أداء كفارة الظهار. الكفارة مرتبة ولا يصار إلى التالية قبل العجز عن التي قبلها. حدود الله يجب التزامها ولا يجوز تعديها. وأما عن حكمة التشريع في هذا الموضوع: فإن الإسلام شرع الزواج عقداً دائماً غير مؤقت لا يقطعه إلا هادم اللذات أو أبغض الحلال إلى الله. وبالزواج يحل للرجل كل شيء من زوجه في حدود ما أباحه الله تعالى له. فإذا جاء الإنسان يريد أن يغير ما أباحه الله له فيجعل الحلال حراماً فقد ارتكب كبيرة لا محالة وتجاوز بذلك الحدود التي شرعها الله له، فلهذا كان عقابه كبيراً، وكانت أولى أمور الكفارة ما فيه فائدة للمجتمع، ألا وهي تحرير رقاب العبيد، وهذه إحدى سبل تحريرهم، فإذا لم يستطع شراء العبد وعتقه فليصم شهرين متتابعين، والصوم مدرسة تهذب خلقه، وتربي نفسه، وتقوي ما اعوج من تربيته، هذا إذا كان صحيح الجسم موفور الصحة، وإلا فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فالمريض الذي لا يستطيع الصوم ينتقل الواجب في حقه إلى المجتمع أيضاً؛ فيطعم ستين مسكيناً، وهكذا تنتقل خصال الكفارة بين فائدة المجتمع وفائدة الرجل نفسه.