تابع تفسير سورة الفتح [10]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فقد قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الشروط: [ باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط. حدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر قال: أخبرني الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة؛ فخذوا ذات اليمين)، فوالله! ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته، فقال الناس: حل! حل! فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال: والذي نفسي بيده! لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، ثم زجرها فوثبت، قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله! مازال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره)، فقال بديل : سأبلغهم ما تقول. قال: فانطلق حتى أتى قريشاً، قال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم! ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أو لست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته، قالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لـبديل ، فقال عروة عند ذلك: أي محمد! أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوهاً، وإني لأرى أوباشاً من الناس، خليقاً أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات! أنحن نفر عنه وندعه؟! فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر ، قال: أما والذي نفسي بيده! لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة يده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة فقال: أي غدر! ألست أسعى في غدرتك، وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء). ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه قال: فوالله! ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! والله! لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله! إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله! إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له! وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له)، فبعثت له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص فقال: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا مكرز وهو رجل فاجر)، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو . قال معمر : فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد سهل لكم من أمركم). قال معمر : قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال سهيل : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي؟ ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب باسمك اللهم)، ثم قال: (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)، فقال سهيل : والله! لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله)، قال الزهري : وذلك لقوله: (لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها). فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به)، فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب ].

إتيان صاحب بني كنانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم

انتهينا في شرح هذا الحديث عند قول عروة لما رجع إلى أصحابه وقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك.. إلى قوله: وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته. قوله: (فقال رجل من بني كنانة) وفي رواية: فقام الحليف ، وقيل: إنه من رءوس الأحابيش، وقال: أبى الله أن تحج لخم وجذام وكندة وحمير ويمنع ابن عبد المطلب ، فقام رجل من بني كنانة فقال: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن - يعني: الجمال- فابعثوها له) يعني: أثيروها دفعة واحدة. وزاد ابن إسحاق : فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي بقلائده قد حبس عن محله، رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: سلك هذه الطريقة ليبين لهذا المبعوث أنهم ما أتوا لقتال وإنما أتوا معتمرين، وآية ذلك أن الرسول عليه السلام أمرهم أن يدفعوا البدن دفعة واحدة حتى يراها، ثم إن البدن كانت مقلدة ومشعرة، وهذا يؤكد أنهم ما أتوا لقتال؛ فلذلك لم يصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولم يقترب منه حتى عاد إليهم ليحذرهم. وفي مغازي عروة عند الحاكم : فقام الحليف -يعني: لما رأى الجمال بهذه الهيئة- فقال: هلكت قريش ورب الكعبة، إن القوم إنما أتوا عماراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجل يا أخا بني كنانة! فأعلمهم بذلك)، وهذا لا يتعارض مع قوله: ولم يصل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، يعني: لعله يحتمل أن يكون الرسول خاطبه من بعد لما قال: هلكت قريش ورب الكعبة! إن القوم إنما أتوا عماراً أي: استعظم كيف يأتون محرمين بهذه الهيئة ثم يصدون عن البيت! وكانوا يعرفون في الجاهلية أن هذا سبب من أسباب الهلكة، فقال: (هلكت قريش ورب الكعبة)؛ لأنهم يصدون من قصد هذا البيت للعمرة، فلذلك قال له النبي عليه السلام: (أجل يا أخا بني كنانة! فأعلمهم بذلك). يقول: فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثت له)، واستقبله الناس يلبون -حتى يشعروه بأنهم ما أتوا إلا للاعتمار- فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت! فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت. والتقليد في هذا السياق هو التقليد للبدن يعني: أن يعلق في عنق الهدي قطعة من جلد وغيره يكون علامة على أنه هدي، وأما الإشعار فهو أن يطعن صفحة سنام الإبل اليمنى، وهي مستقبلة القبلة، ويلطخها؛ بالدم ليعلم أنها هدي، والتقليد والإشعار من تعظيم وإظهار شعائر الله، وربما أحياناً يضع بعض الناس على الجمال نوعاً من القماش الأبيض إشارة أيضاً إلى أنها هدي، والإشعار أيضاً علامة على أن هذا الهدي مسوق إلى بيت الله عز وجل، فهذه من أمارات إظهار شعائر الله سبحانه وتعالى. فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت. وزاد ابن إسحاق : وغضب وقال: يا معشر قريش! ما على هذا عاقدناكم! أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له؟! فقالوا: كف عنا -يا حليف- حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى. ويؤخذ من هذا أن كثيراً من المشركين كانوا يعظمون حرمات الإحرام والحرم، وكانوا ينكرون على من يصد عن ذلك، وهذه من بقايا دين إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

إرسال قريش مكرز بن حفص إلى رسول الله

قال: فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص فقال: دعوني آته فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا مكرز وهو رجل فاجر). قيل: إن وصفه بالفجور له أكثر من سبب منها: أنه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية فخرج في خمسين رجلاً، فأخذهم محمد بن مسلمة وهو على الحرس، وانفلت منهم مكرز ، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك. فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو ، وفي رواية ابن إسحاق : فدعت قريش سهيل بن عمرو فقالوا: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أرادت قريش الصلح حين بعثت هذا). فحين بعثت قريش سهيل بن عمرو فهذه أمارة على أنهم وافقوا على عقد معاهدة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

إرسال قريش سهيل بن عمرو لعقد الصلح

وفي حديث سلمة بن الأكوع قال: (بعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصالحوه، فلما رأى النبي سهيلاً قال: (قد سهل لكم من أمركم) يعني: تفاؤلاً باسمه، فأتى سهيل بن عمرو النبي صلى الله عليه وسلم -يقول الزهري في حديثه- فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً يعني: هلم نعقد عقد المصالحة هذا؛ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب). قوله: (فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً) وفي راوية ابن اسحاق : (فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جرى بينهم القول -التصالح- حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهما عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامهم هذا). وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقيل: لا تجاوز عشر سنين، استدلالاً بهذا الحديث، وهو قول الشافعي والجمهور، وقيل: تجوز الزيادة، وقيل: لا تجاوز أربع سنين، وقيل: ثلاثاً، وقيل: سنتين، والأول هو الراجح والله تعالى أعلم، وهو مذهب الجمهور ومنهم الشافعي أن المدة لا تزيد عن عشر سنوات، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب -والكاتب هو علي رضي الله تعالى عنه- فقال له: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم)، يملي على علي أن يكتب نص عقد الصلح، فأملاه: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي! ولذلك قال تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30]، وهذا الكفر باسم الرحمن كان عناداً منهم، وإلا ففي أشعارهم ما يدل على أنهم يعرفون أن من أسماء الله عز وجل الرحمن. فقال سهيل : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي! ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب باسمك اللهم)، ثم قال: (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله) (قاضى) بوزن فاعل من قضيت الشيء، أي: فصلت الحكم فيه، وفيه جواز كتابة مثل ذلك في المعاقدات، والرد على من منعه معتلاً بخشية أن يظن أنها نافية، نبه عليها الخطابي أي: أن بعض الناس كره استعمال كلمة: (هذا ما قاضى)؛ لأنه يمكن أن يفسرها أحد الطرفين بالنفي فيكون معناها: الذي لم يقاض عليه، لكن (ما) هنا ليست نافية، بل موصولة، (هذا ما قاضى) يعني: هذا الذي قاضى عليه، فهذا الحديث دليل على جواز استعمال عبارة: هذا ما قاضى عليه كذا وكذا. فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني)، هذا لن يغير في الحقيقة شيئاً، فبعد شهادة الله عز وجل لرسوله عليه السلام بالرسالة وبالشهادة وبالصدق، فهو مستغن عن شهادة غيره، فقال: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله). قال الزهري : وذلك لقوله، يعني: تساهل معهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه منذ البداية تعهد وأقسم: (والله لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، وما المقصود بحرمات الله؟ قلنا: يحتمل أن تكون حرمة الإحرام، وحرمة الشهر، وحرمة البدن، وقلنا: إن هذا القول مرجوح، والمقصود بالحرمات هنا صلة الرحم وحقن الدماء، وإلا فجميع العلماء يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أقسم وقال: (والله لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله) فالواو هنا بمعنى الفاعل، والمراد: المشركين، لو كانوا يعظمون الإحرام أو الحرم أو الشهر ما كانوا صدوهم من الأصل، ولكن المقصود بالحرمات هنا: صلة الرحم والقرابة بينهم وبين المسلمين. وبسبب أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أقسم وقال: (لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) فلأجل ذلك تساهل معهم، وتجاوز عن كتابة البسملة: بسم الله الرحمن الرحيم، وتجاوز عن إثبات (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله). فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به) يعني: من شروط الاتفاق: أن تتركونا ولا تحولوا بيننا وبين الطواف في البيت وأداء العمرة، فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة. هذه هي حمية الجاهلية، يعني: كيف يشيع في العرب أنكم أتيتم وأكرهتمونا على أن تأتوا وتعتمروا، لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة أي: قهراً، وفي رواية ابن إسحاق : أنه دخل علينا عنوة. قال: ولكن ذلك من العام المقبل، يعني: العام المقبل تأتونا، ونسمح لكم بدخول مكة لأداء العمرة، فكتب. فقال سهيل - وهذه مادة أخرى من مواد الاتفاق- : وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. أي: من شروط المعاهدة أن أي رجل من قريش يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة حتى لو كان مسلماً فتتعهد أن ترده إلينا. وفي رواية ابن إسحاق : على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه. وفي الظاهر هذا فيه غاية الإجحاف بالنسبة للمسلمين، يعني: أنهم اشترطوا عليه: أنه لو أتاك رجل من مكة إلى المدينة مهاجراً مسلماً فلا بد أن ترده إلينا، ومن أتانا من عندك لا نرده إليك؛ فقال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟! كيف نوافق على هذا البند المجحف؟ كيف نرد رجلاً أتانا من المسلمين إلى المشركين وقد جاءنا مسلماً؟! يقول الحافظ رحمه الله تعالى: زاد ابن إسحاق في قصة الصلح بهذا الإسناد: (وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة) يعني: أمراً مطوياً في صدور سليمة، فتترك المؤاخذة لما تقدم بينهم من أسباب الحروب وغيرها، كأنه قال: عفا الله عما سلف لما حصل بيننا من الحروب والاحتكاكات، ونحافظ على العهد الذي وقع بيننا. قال: (وأنه لا إسلال ولا إغلال) يعني: لا سرقة ولا خيانة، والمراد أن يأمن بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سراً وجهراً. وقال ابن إسحاق في حديثه: (وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه) يعني: من القبائل التي تريد أن تتحالف مع الرسول عليه السلام أو مع قريش. فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم. قال: (وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل مكة علينا، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها في أصحابك فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تدخلها بغيره). قال ابن إسحاق : فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل ، وقد قال سهيل : على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وقال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو : يعني: ابن سهيل بن عمرو نفسه، وكان قد حبسه في مكة، وكان يعذبه عذاباً شديداً لأنه أسلم، فبينما هم يتباحثون هذه المباحثات إذا بـأبي جندل بن سهيل بن عمرو قد هرب من المحبس الذي حبسه فيه، وجاء يركض في أغلاله، وهي أغلال ثقيلة كانت عليه، وهو يمشي ببطء حتى ألقى نفسه أمام النبي عليه السلام وأمام الصحابة. يقول: فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يركض في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل أبوه: هذا -يا محمد- أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نقض الكتاب بعد) قال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأجزه لي)، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: (ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال صلى الله عليه وسلم: بلى، قلت: فعلام نعطي الدنية في ديننا إذاً؟! قال: إني رسول الله، ولست أعصيه وهو ناصري، قال: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به). قال عمر : (فأتيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت: يا أبا بكر ! أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعط الدنية في ديننا إذاً؟! قال: أيها الرجل! إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه، فوالله! إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال الزهري : قال عمر : فعملت لذلك أعمالاً. أي: هذا الموقف كان عمر يندم عليه؛ لأنه راجع الرسول عليه السلام هذه المراجعة ولم يسلم وينقاد لحكمه من أول وهلة، فاعتبر هذه معصية، فأخذ يكثر من الأعمال الصالحة حتى تكفر عنه ما فعله في هذا الم

رد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جندل أثناء الصلح

قوله: (فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل ) جندل على وزن جعفر، وكان اسمه العاصي فغيره عندما أسلم، وهذه سنة، فالأسماء المنفرة أو القبيحة من السنة أن تغير إلى اسم أفضل، فهذا الرجل أبو جندل كان اسمه العاصي فغيره عندما أسلم، ولزمته هذه الكنية: أبو جندل ، وله أخ اسمه عبد الله أسلم قديماً، وحضر مع المشركين بدراً ففر منهم، وانضم إلى جيش المسلمين في بدر، ثم كان معهم بالحديبية، واستشهد عبد الله باليمامة قبل أبي جندل بمدة، وأما أبو جندل فكان حبس بمكة ومنع من الهجرة وعذب بسبب الإسلام. وفي رواية: (فإن الصحيفة لتكتب إذ طلع أبو جندل بن سهيل وكان أبوه حبسه فأسلم). وفي رواية عن عروة : (وكان سهيل أوثقه وسجنه حين أسلم، فخرج من السجن وتنكب الطريق وركب الجبال حتى هبط على المسلمين، ففرح به المسلمون وتلقوه، فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل يرسف) يعني: يمشي مشياً بطيئاً بسبب القيد، فإنه ثقيل، فهذا معنى (يرسف) يعني: يمشي مشياً بطيئاً بسبب القيد، فقال سهيل : هذا -يا محمد- أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي، وفي رواية ابن إسحاق : فقام سهيل بن عمرو إلى أبي جندل -ابنه- فضرب وجهه وأخذ يلببه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نقض الكتاب بعد)، قال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأجزه لي)، من الإجازة يعني: استثنيه أو سامح في هذا، وفي بعض الروايات: (فأجره لي). وفيه: أن الاعتبار في العقود بالقول ولو تأخرت الكتابة والإشهاد، فالعبرة باللفظ حتى لو تأخرت الكتابة عن الكلام والإشهاد، ولأجل ذلك أمضى النبي صلى الله عليه وسلم لـسهيل الأمر في رد ابنه إليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تلطف معه بقوله: (لم نقض الكتاب بعد) رجاء أن يجيبه لذلك، ولا ينكره بقية قريش لكونه ولده، فلما أصر على الامتناع تركه له؛لأنهم كانوا قد اتفقوا على هذا البند. قال: (فأجزه لي، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل)، هذا نوع من التلطف به والإلحاح (بلى فافعل) قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز : بلى قد أجزناه لك، ومكرز كان شريكاً له في الوفد المفاوض، وليس معنى قوله: (أجزناه لك) أن نتركه عندك، لا، فالمعنى: نأخذه لكن لا نعذبه، فالتزموا على أنهم لا يعذبوه، فهو أراد أن يظهر أنه ليس متصفاً بالصفة التي أخبر عنه النبي عليه السلام بقوله: (وهو رجل فاجر)، فهو يريد أن يقول أنه ليس بفاجر، وأنه موافق على أن يجيبه. قال أبو جندل : (أي معشر المسلمين! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت؟! وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله). زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا جندل ! اصبر واحتسب فإنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً). يعني: ما دمنا عقدنا عقداً فلا بد أن نلتزم به؛ لأن الرسول عليه السلام لم يوافق على أنه إذا جاءه مسلم يقهره على أن يعود إلى الكفر، لكن هو فقط لا يقبله التزاماً بهذا العقد، ووفاءً بالقسم الذي أقسمه أنهم لا يدعونه إلى خطة فيها تعظيم حرمات الله إلا أجابهم إليها، فقال: (يا أبا جندل ! اصبر واحتسب فإنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً). وفي رواية أبي المليح : (فأوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: فوثب عمر مع أبي جندل يمشي إلى جنبه، عمر اقترب منه وأخذ يقول له: اصبر فإنما هم مشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب، ويدني بقائم السيف منه؛ يحرضه ليأخذ السيف ويضرب به أباه، فانظر إلى هذا الفعل من عمر ! فـعمر كان لا يستطيع أن يصرح له بقلته احتراماً للعهد، وحتى لا يغدر، فهو يعرض له بطريقة غير صريحة، حتى لا يكون ذلك طعناً في العقد. قال: (فوثب عمر مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر فإنما هم مشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب قال: ويدني قائم السيف منه، قال عمر : رجوت أن يأخذه مني فيضرب به أباه؛ فضن الرجل بأبيه) يعني: بخل بأبيه، وعز عليه أن يقتل أباه. قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين: أحدهما: أن الله قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان إن لم تمكنه التورية، يعني: السبب أن الرسول عليه السلام رده إليهم أن له سعة ورخصة في أن يتقيهم كما قال تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، فيستطيع أن يستعمل التقية أو التعريض والتورية بحيث يوهم أنه ما زال مثلهم؛ حتى لا يصيبه الأذى الذي يصيبه، يعني: له سعة ورخصة في أن يكف عنه الأذى عن طريق التورية والتعريض، فلم يكن رده إليهم تسليماً لـأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية. الوجه الثاني: أنه إنما رده إلى أبيه، وغالب الظن أن أباه لا يبلغ به الهلاك، ومهما عذبه فلن يبلغ به إلى حد أن يهلكه. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله يبتلي به عباده المؤمنين، واختلف العلماء: هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلماً من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا؟ فقيل: نعم لما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير ، وقيل: لا، وأن الذي وقع في قصة الحديبية منسوخ، وأن ناسخه حديث: (أنا بريء من كل مسلم أقام بين ظهراني المشركين)، هذا قول الحنفية، وعند الشافعية تفصيل: فالعاقل يرد، والمجنون والصبي لا يردان، وقال بعض الشافعية: ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب، والله تعالى أعلم.

مراجعة عمر للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر

قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى) وزاد الواقدي من حديث أبي سعيد قال عمر : (لقد دخلني أمر عظيم، وراجعت النبي صلى الله عليه وسلم مراجعة ما راجعته مثلها قط)، وفي حديث سهل بن حنيف فقال عمر : (ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟! فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟! فقال: (يا ابن الخطاب ! إني رسول الله ولن يضيعني الله)، فرجع عمر متغيظاً فلم يصبر حتى جاء أبا بكر ، وظل يردد نفس العبارات لـأبي بكر ، والعجيب أن أبا بكر رد بنفس الأجوبة مع أنه لم يكن حاضراً الموقف! وهذا التوافق في هذه الردود من أمارات شدة المحبة. قوله: (فرجع متغيظاً فلم يصبر حتى جاء أبا بكر ) وفي رواية أخرى: فقال عمر : (اتهموا الرأي على الدين) يعني: يحذر المسلمين من أن يقابلوا أمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام وخبر الله وخبر رسوله بالتكذيب، فيجب على المسلم أن يسلم لأمر الله ورسوله عليه السلام، ولا يكون له الخيرة في أمره إذا قضى الله ورسوله أمراً، فيقول للصحابة: خذوا درساً وعبرة من موقفي هذا! وفي رواية ابن إسحاق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح؛ لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في آخر سورة الفتح: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ [الفتح:27]، فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، وعند الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رأى في منامه قبل أن يعتمر أنه دخل هو وأصحابه البيت، فلما رأوا أن ذلك في السنة المقبلة شق عليهم ذلك. ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى، فيجوز للإنسان أن يسأل ويناقش إلى أن يتضح له المعنى؛ بدلالة هذا الحوار بين النبي عليه السلام وبين عمر ، وبين عمر وأبي بكر رضي الله تعالى عنهما وعن الصحابة أجمعين. ويستفاد منه: أن الكلام يحمل على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد. وهذا مأخوذ من قوله: (أأخبرتك أنك آتيه العام) يعني: أأخبرتك أنك تأتيه هذا العام؟ لكن هذا وعد، وهل هو موعد في وقت معين؟ لا، يعني: أنا أخبرتك أنك سوف تأتي البيت وتطوف به، لكن هل ذكرت لك الوقت الذي سوف تدخله؟ قال: لا، قال: (فإنك آتيه ومطوف به)، فهذا دليل على أن الكلام يحمل على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد، وإذا لم يرد مخصص ولا مقيد فالكلام على عمومه. وفيه: أن من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته.

ثبات أبي بكر وموقفه الراسخ في صلح الحديبية

قوله: (فأتيت أبا بكر ): لم يذكر عمر أنه راجع أحداً في ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ وذلك لجلالة قدره، وسعة علمه عنده، ومثل هذه المواقف تثبت فعلاً أن أبا بكر هو الرجل الثاني في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتجد في سيرة أبي بكر العقل والثبات مع ما لـعمر رضي الله عنه من الفضائل، لكن عمر بعد أبي بكر في الترتيب. ومن ذلك أيضاً موقف عمر عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حين تقارن بين موقف أبي بكر وموقف عمر رضي الله تعالى عنهما، وموقفهما عند قتال أهل الردة؛ هذه المواقف بلا شك تبين فضيلة أبي بكر رضي الله تعالى عنه على عمر . وجواب أبي بكر لـعمر بنظير ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم سواء، دلالة على أنه كان أكمل الصحابة وأعرفهم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بأمور الدين، وأشدهم موافقة لأمر الله تعالى. ومواقف أبي بكر في هذا كثيرة جداً منها: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قبيل وفاته صعد المنبر وقال: (إن عبداً قد خيره الله بين زهرة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله)، فبكى أبو بكر في الحال، فتعجب الصحابة لبكائه! فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (هناك عبد خيره الله بين زهرة الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله) فلماذا يبكي أبو بكر ؟! الجواب: لأن أبا بكر كان أفهم الصحابة وأعلمهم، وأحبهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكملهم، ففهم أبو بكر من ذلك أن هذا العبد هو الرسول عليه السلام، وأنه على وشك أن يفارقهم، وأن الرسول كان ينعي نفسه إلى الصحابة رضي عنهم، لكن لم يفقه هذا إلا

انتهينا في شرح هذا الحديث عند قول عروة لما رجع إلى أصحابه وقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك.. إلى قوله: وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته. قوله: (فقال رجل من بني كنانة) وفي رواية: فقام الحليف ، وقيل: إنه من رءوس الأحابيش، وقال: أبى الله أن تحج لخم وجذام وكندة وحمير ويمنع ابن عبد المطلب ، فقام رجل من بني كنانة فقال: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن - يعني: الجمال- فابعثوها له) يعني: أثيروها دفعة واحدة. وزاد ابن إسحاق : فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي بقلائده قد حبس عن محله، رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: سلك هذه الطريقة ليبين لهذا المبعوث أنهم ما أتوا لقتال وإنما أتوا معتمرين، وآية ذلك أن الرسول عليه السلام أمرهم أن يدفعوا البدن دفعة واحدة حتى يراها، ثم إن البدن كانت مقلدة ومشعرة، وهذا يؤكد أنهم ما أتوا لقتال؛ فلذلك لم يصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولم يقترب منه حتى عاد إليهم ليحذرهم. وفي مغازي عروة عند الحاكم : فقام الحليف -يعني: لما رأى الجمال بهذه الهيئة- فقال: هلكت قريش ورب الكعبة، إن القوم إنما أتوا عماراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجل يا أخا بني كنانة! فأعلمهم بذلك)، وهذا لا يتعارض مع قوله: ولم يصل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، يعني: لعله يحتمل أن يكون الرسول خاطبه من بعد لما قال: هلكت قريش ورب الكعبة! إن القوم إنما أتوا عماراً أي: استعظم كيف يأتون محرمين بهذه الهيئة ثم يصدون عن البيت! وكانوا يعرفون في الجاهلية أن هذا سبب من أسباب الهلكة، فقال: (هلكت قريش ورب الكعبة)؛ لأنهم يصدون من قصد هذا البيت للعمرة، فلذلك قال له النبي عليه السلام: (أجل يا أخا بني كنانة! فأعلمهم بذلك). يقول: فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثت له)، واستقبله الناس يلبون -حتى يشعروه بأنهم ما أتوا إلا للاعتمار- فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت! فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت. والتقليد في هذا السياق هو التقليد للبدن يعني: أن يعلق في عنق الهدي قطعة من جلد وغيره يكون علامة على أنه هدي، وأما الإشعار فهو أن يطعن صفحة سنام الإبل اليمنى، وهي مستقبلة القبلة، ويلطخها؛ بالدم ليعلم أنها هدي، والتقليد والإشعار من تعظيم وإظهار شعائر الله، وربما أحياناً يضع بعض الناس على الجمال نوعاً من القماش الأبيض إشارة أيضاً إلى أنها هدي، والإشعار أيضاً علامة على أن هذا الهدي مسوق إلى بيت الله عز وجل، فهذه من أمارات إظهار شعائر الله سبحانه وتعالى. فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت. وزاد ابن إسحاق : وغضب وقال: يا معشر قريش! ما على هذا عاقدناكم! أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له؟! فقالوا: كف عنا -يا حليف- حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى. ويؤخذ من هذا أن كثيراً من المشركين كانوا يعظمون حرمات الإحرام والحرم، وكانوا ينكرون على من يصد عن ذلك، وهذه من بقايا دين إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.