تفسير سورة طه [128-132]


الحلقة مفرغة

قال تبارك وتعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى [طه:128]، (( أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ )) أي: لهؤلاء المكذبين، (( كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ )) أي: الأمم المكذبة للرسل، (( يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ )) يريد قريشاً حيث يتقلبون في بلاد عاد وثمود ولوط، ويعاينون آثار هلاكهم، فقوله: (( مَسَاكِنِهِمْ )) يعود إلى هؤلاء المعذبين من القرون المهلكة، أما قوله: (( يَمْشُونَ )) فالواو تعود إلى كفار قريش، أي: هم يتقلبون في بلاد عاد وثمود ولوط، ويعاينون آثار هلاكهم، وأنه ليس لهم باقية ولا عين ولا أثر. (( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى )) أي: العقول السليمة، كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].

قال عز وجل: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى [طه:129]، هذا بيان لحكمة تأخير عذابهم، مع إشعار قوله تبارك وتعالى: (( أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ )) بإهلاكهم مثل هلاك أولئك، يعني: كما كذب هؤلاء المكذبون من قريش فلهم نفس المصير الذي لقيه المكذبون فيما مضى، لكن يمنع من نزول العذاب بهم الآن كما نزل على من قبلهم أن لذلك أجلاً محتماً لا يخلفه الله سبحانه وتعالى، وما هي هذه الكلمة السابقة؟ قال القاشاني : هو القضاء السابق ألا يستأصل هذه الأمة بالدمار والعذاب في الدنيا؛ لأن محمداً عليه الصلاة والسلام نبي الرحمة، فقد قضى الله سبحانه وتعالى ألا يهلك أمته إهلاكاً عاماً يستأصل شأفة المكذبين منهم كما حصل في الأمم السابقة. وقال الزمخشري في تفسير الكلمة السابقة: هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة، فقد وعد الله سبحانه وتعالى أنه يؤجل عذابهم إلى الآخرة، فلولا هذه العدة؛ لكان مثل إهلاكنا عاداً وثمود لازماً لهؤلاء الكفرة. وقوله: (( لَكَانَ لِزَامًا )) يعني: كان إهلاكهم لازماً ومحتماً كما أهلك الأولون، واللزام مصدر لازم كالخطاب، وصف بالمصدر مبالغة كما تقول: رجل صدق، فيوصف الإنسان بالمصدر أحياناً للمبالغة، أو أن اللزام اسم آلة؛ لأنها تبنى عليه، كحزام وركاب، واسم الآلة يوصف به مبالغة أيضاً كقولهم: مسعر حرب، ونزال خصم، بمعنى: مجهز على خصمه، من نز بمعنى ضيق عليه، وجوز أبو البقاء كون لزام جمع لازم، كقيام جمع قائم.

معنى قوله تعالى: (وأجل مسمى)

قوله تعالى: (( وَأَجَلٌ مُسَمًّى )) عطف على (كلمة)، (ولولا كلمة وأجل) أي: ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو أجل مسمى لعذابهم وهو يوم القيامة؛ لما تأخر عذابهم أصلاً، فهم يستحقون العذاب؛ لأنهم كذبوا، فالأصل أنهم يعاقبون كما عوقب السابقون الذين أشير إليهم في قوله تعالى: (( أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ )) إلا أن الله سبحانه وتعالى بين أن هناك مانعين يمنعان أن يكون العذاب لازماً لهم الآن، فالأول هو العدة بتأخير جزائهم إلى يوم القيامة، ولولا أيضاً أجل مسمى، فلا يستغرب أحد كيف أن (لزاماً) منصوبة، و(أجل) مرفوعة؛ لأن (أجل) معطوفة على (كلمة)، وكلمة مرفوعة، قال تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ، إذاً: لولا كلمة سبقت من الله ولولا أيضاً أجل مسمى لكان نزول العذاب فيهم أمراً لازماً محتماً. وقوله تعالى: (( وَأَجَلٌ مُسَمًّى )) إذا كان في الدنيا فقد يكون يوم بدر كما قال الله: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [الفرقان:77]، وفي حديث أشراط الساعة التي تكون قبل يوم القيامة: (اللزام) وهو العذاب الذي لزمهم يوم بدر، أو يكون الأجل المسمى يوم القيامة، فلولا هذا الأجل المسمى لما تأخر عذابهم أصلاً. قال أبو السعود : وفصله عما عطف عليه -يعني: مع تقارب المعنى بين قوله: (( كَلِمَةٌ سَبَقَتْ ))، وبين قوله: (( أَجَلٌ مُسَمًّى ))- للإشعار باستقلال كل منهما، فالعطف للمغايرة، ولنفي لزوم العذاب، ومراعاة لفواصل الآية الكريمة، ويحتمل أن المقصود (( لَكَانَ لِزَامًا )) يعني: لكان الأخذ العاجل (( لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى )) كدأب عاد وثمود وأضرابهم.

قوله تعالى: (( وَأَجَلٌ مُسَمًّى )) عطف على (كلمة)، (ولولا كلمة وأجل) أي: ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو أجل مسمى لعذابهم وهو يوم القيامة؛ لما تأخر عذابهم أصلاً، فهم يستحقون العذاب؛ لأنهم كذبوا، فالأصل أنهم يعاقبون كما عوقب السابقون الذين أشير إليهم في قوله تعالى: (( أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ )) إلا أن الله سبحانه وتعالى بين أن هناك مانعين يمنعان أن يكون العذاب لازماً لهم الآن، فالأول هو العدة بتأخير جزائهم إلى يوم القيامة، ولولا أيضاً أجل مسمى، فلا يستغرب أحد كيف أن (لزاماً) منصوبة، و(أجل) مرفوعة؛ لأن (أجل) معطوفة على (كلمة)، وكلمة مرفوعة، قال تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ، إذاً: لولا كلمة سبقت من الله ولولا أيضاً أجل مسمى لكان نزول العذاب فيهم أمراً لازماً محتماً. وقوله تعالى: (( وَأَجَلٌ مُسَمًّى )) إذا كان في الدنيا فقد يكون يوم بدر كما قال الله: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [الفرقان:77]، وفي حديث أشراط الساعة التي تكون قبل يوم القيامة: (اللزام) وهو العذاب الذي لزمهم يوم بدر، أو يكون الأجل المسمى يوم القيامة، فلولا هذا الأجل المسمى لما تأخر عذابهم أصلاً. قال أبو السعود : وفصله عما عطف عليه -يعني: مع تقارب المعنى بين قوله: (( كَلِمَةٌ سَبَقَتْ ))، وبين قوله: (( أَجَلٌ مُسَمًّى ))- للإشعار باستقلال كل منهما، فالعطف للمغايرة، ولنفي لزوم العذاب، ومراعاة لفواصل الآية الكريمة، ويحتمل أن المقصود (( لَكَانَ لِزَامًا )) يعني: لكان الأخذ العاجل (( لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى )) كدأب عاد وثمود وأضرابهم.

قال تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [طه:130] أي: إذا كان تأخير عذابهم ليس بإهمال، بل إمهال، فإن الله يمهل ولا يهمل؛ فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر. فهذه الفاء سببية في قوله: (( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ))، والمراد بالصبر عدم الاضطراب لما صدر منهم، وليس المراد ترك القتال فتكون الآية منسوخة، لكن المقصود: لا تضطرب ولا تجزع لما صدر منهم من الأقوال الكفرية.

معنى قوله: (وسبح بحمد ربك)

قوله تعالى: (( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا )) في المراد بالتسبيح هنا وجهان: الأول: أنه التنزيه، والثاني: أنه الصلاة، فيحتمل أن المقصود: (( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ )) يعني: نزه ربك عن الشرك، وسائر ما يضيفون إليه من النقائص، حامداً له على ما ميزك بالهدى، معترفاً بأنه المولي للنعم كلها، ومن الصيغ الثابتة المأثورة في التسبيح: سبحان الله وبحمده. وخصص هذه الأوقات بالتسبيح؛ لأن لبعض الأوقات مزية على غيرها فقال: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]، وذكر طرفي النهار؛ ليعم الأمر بالتسبيح الليل والنهار، فكأنه قال: سبح بحمد ربك في كل وقت، فذكر الطرفين؛ ليفيد عموم هذه الأوقات، أو يكون المقصود أن لهذين الوقتين بالذات مزية على غيرهما من الأوقات، وهذا صحيح، فإن بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس -اللذان هما طرفا النهار- من الأوقات المباركة، وثبت في فضيلتهما كثير من الأحاديث، وهما أفضل أوقات الذكر في النهار على الإطلاق. إذاً: القول الأول: (( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ )) يعني: نزه ربك متلبساً بحمده؛ لأن الكمال يتضمن أمرين: نفياً وإثباتاً، فالنفي يشير إليه التسبيح، فلفظة التسبيح تفيد تنزيه الله سبحانه وتعالى عن النقائص وعن كل ما لا يليق به، أما التحميد فهو الثناء على الله بالكمالات كلها، فله صفات الكمال والجمال والجلال. والحمد أعم من الشكر، فالحمد هو الثناء الحسن، والمدح بصفات الكمال والجمال والجلال، فإذا قلنا: سبحان الله وبحمده، استجابة لقوله: (( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ))؛ فهذه الباء تفيد التلبس، يعني: سبح بحمد ربك متلبساً بتحميده، يعني: اقرن بين التسبيح وبين التحميد؛ لتجمع بين السببين، نفي النقائص وإثبات الكمالات، فهذا معنى: سبحان الله وبحمده، سبحان الله: أي: أنزه الله عما لا يليق، وبحمده أي: أقول بجانب سبحان الله: الحمد لله، يعني: أثني عليه بإثبات الكمالات له وأمدحه بذلك. القول الثاني: أن المراد بالتسبيح هنا: الصلاة، (( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ )) أي: صل لربك، وهو الأقرب عند القاسمي رحمه الله، بدلالة قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45] وهذه دلالة الاقتران، فقرن الصبر بالصلاة، فنفهم آية طه في ضوء آية البقرة: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45] أي: استعينوا على البلاء الذي منه أذية الكفار للمؤمنين بما يسمعونه منهم من كلمات الكفر والأذى، كما قال تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [آل عمران:186]، وهنا يقول: (( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ )) يعني: اصبر على ما يقولون من كلمات الكفر والأذى الذي يؤذونك به، فهذه الآية مثل قوله في الآية الأخرى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]. قوله تعال: (( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ )) عطف على الأمر بالصبر على ما يقولون من الأذى، وفي الآية الأخرى عطف على الأمر بالصبر، فيصير المقصود بالتسبيح هنا الصلاة، والآيات يفسر بعضها بعضاً، وفي بعض الأحاديث يطلق على الصلاة تسبيح، مثل حديث: (كان لا يسبح في السفر)، وقول ابن عمر : (لو كنت مسبحاً لأتممت) يعني: لو كنت متنفلاً في السفر لأتممت، وفي الحديث: (جمع النبي عليه الصلاة والسلام بين المغرب والعشاء بمزدلفة جمع تأخير ولم يسبح بينهما شيئاً) يعني: لم يتنفل بينهما، فالصلاة يطلق عليها تسبيح، باعتبار أن التسبيح أحد أعمال الصلاة، فيجوز أن يطلق عليها جزء من أجزائها. إذاً: المعنى: (( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ )) أي: صل وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه. (( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ )) يعني: صلاة الفجر، (( وَقَبْلَ غُرُوبِهَا )) يعني: صلاة الظهر والعصر؛ لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار، بين زوال الشمس وغروبها، (( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى )) أي: من ساعات الليل، والمراد: صلاة المغرب والعشاء، وإنما جعل وقت الصلاة فيهما لاختصاصهما بمزيد من الفضل؛ وذلك لأن أفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب، وهدوء الرجل، والخلو بالرب تبارك وتعالى، ولأن الليل وقت السكون والراحة، فصرفه للعبادة على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنفق، فكانت أفضل عند الله وأقرب؛ لأن فيها مجاهدة للنوم واللجوء إلى الراحة. وقوله: (( وَأَطْرَافَ النَّهَارِ )) ظرف، يعني: سبح أطراف النهار، وقوله: (( وَأَطْرَافَ النَّهَارِ )) تكرير لصلاة الفجر والعصر، إيذاناً باختصاصهما بمزيد مزية، ومجيئه بلفظ الجمع مشاكلة لآناء الليل، أو لأن صلاة الظهر في نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الأخير، فجمع باعتبار النصفين، أو لأن النهار جنس فيشمل كل نهار، أو أمر بالتطوع في أجزاء النهار. قال الرازي : إنما أمر عقيب الصبر بالتسبيح؛ لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوى والراحة، إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تبارك وتعالى. وقد أشير إلى حكمة الأمر بالصبر والتسبيح بقوله تعالى: (( لَعَلَّكَ تَرْضَى )) أي: رجاء أن تنال ما به ترضى نفسك، يعني: الزم هذين الأمرين: الصبر والتسبيح لعلك تنال ثواب ذلك وهو أن يرضيك الله، وتنال به ما ترضى به نفسك من رفع ذكرك، ونصرك على عدوك، وبلوغ أمنيتك من ظهور توحيد ربك، وهذا كقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، وقوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، وفي الحديث القدسي: (يا محمد! إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك).

قوله تعالى: (( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا )) في المراد بالتسبيح هنا وجهان: الأول: أنه التنزيه، والثاني: أنه الصلاة، فيحتمل أن المقصود: (( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ )) يعني: نزه ربك عن الشرك، وسائر ما يضيفون إليه من النقائص، حامداً له على ما ميزك بالهدى، معترفاً بأنه المولي للنعم كلها، ومن الصيغ الثابتة المأثورة في التسبيح: سبحان الله وبحمده. وخصص هذه الأوقات بالتسبيح؛ لأن لبعض الأوقات مزية على غيرها فقال: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]، وذكر طرفي النهار؛ ليعم الأمر بالتسبيح الليل والنهار، فكأنه قال: سبح بحمد ربك في كل وقت، فذكر الطرفين؛ ليفيد عموم هذه الأوقات، أو يكون المقصود أن لهذين الوقتين بالذات مزية على غيرهما من الأوقات، وهذا صحيح، فإن بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس -اللذان هما طرفا النهار- من الأوقات المباركة، وثبت في فضيلتهما كثير من الأحاديث، وهما أفضل أوقات الذكر في النهار على الإطلاق. إذاً: القول الأول: (( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ )) يعني: نزه ربك متلبساً بحمده؛ لأن الكمال يتضمن أمرين: نفياً وإثباتاً، فالنفي يشير إليه التسبيح، فلفظة التسبيح تفيد تنزيه الله سبحانه وتعالى عن النقائص وعن كل ما لا يليق به، أما التحميد فهو الثناء على الله بالكمالات كلها، فله صفات الكمال والجمال والجلال. والحمد أعم من الشكر، فالحمد هو الثناء الحسن، والمدح بصفات الكمال والجمال والجلال، فإذا قلنا: سبحان الله وبحمده، استجابة لقوله: (( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ))؛ فهذه الباء تفيد التلبس، يعني: سبح بحمد ربك متلبساً بتحميده، يعني: اقرن بين التسبيح وبين التحميد؛ لتجمع بين السببين، نفي النقائص وإثبات الكمالات، فهذا معنى: سبحان الله وبحمده، سبحان الله: أي: أنزه الله عما لا يليق، وبحمده أي: أقول بجانب سبحان الله: الحمد لله، يعني: أثني عليه بإثبات الكمالات له وأمدحه بذلك. القول الثاني: أن المراد بالتسبيح هنا: الصلاة، (( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ )) أي: صل لربك، وهو الأقرب عند القاسمي رحمه الله، بدلالة قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45] وهذه دلالة الاقتران، فقرن الصبر بالصلاة، فنفهم آية طه في ضوء آية البقرة: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45] أي: استعينوا على البلاء الذي منه أذية الكفار للمؤمنين بما يسمعونه منهم من كلمات الكفر والأذى، كما قال تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [آل عمران:186]، وهنا يقول: (( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ )) يعني: اصبر على ما يقولون من كلمات الكفر والأذى الذي يؤذونك به، فهذه الآية مثل قوله في الآية الأخرى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]. قوله تعال: (( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ )) عطف على الأمر بالصبر على ما يقولون من الأذى، وفي الآية الأخرى عطف على الأمر بالصبر، فيصير المقصود بالتسبيح هنا الصلاة، والآيات يفسر بعضها بعضاً، وفي بعض الأحاديث يطلق على الصلاة تسبيح، مثل حديث: (كان لا يسبح في السفر)، وقول ابن عمر : (لو كنت مسبحاً لأتممت) يعني: لو كنت متنفلاً في السفر لأتممت، وفي الحديث: (جمع النبي عليه الصلاة والسلام بين المغرب والعشاء بمزدلفة جمع تأخير ولم يسبح بينهما شيئاً) يعني: لم يتنفل بينهما، فالصلاة يطلق عليها تسبيح، باعتبار أن التسبيح أحد أعمال الصلاة، فيجوز أن يطلق عليها جزء من أجزائها. إذاً: المعنى: (( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ )) أي: صل وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه. (( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ )) يعني: صلاة الفجر، (( وَقَبْلَ غُرُوبِهَا )) يعني: صلاة الظهر والعصر؛ لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار، بين زوال الشمس وغروبها، (( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى )) أي: من ساعات الليل، والمراد: صلاة المغرب والعشاء، وإنما جعل وقت الصلاة فيهما لاختصاصهما بمزيد من الفضل؛ وذلك لأن أفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب، وهدوء الرجل، والخلو بالرب تبارك وتعالى، ولأن الليل وقت السكون والراحة، فصرفه للعبادة على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنفق، فكانت أفضل عند الله وأقرب؛ لأن فيها مجاهدة للنوم واللجوء إلى الراحة. وقوله: (( وَأَطْرَافَ النَّهَارِ )) ظرف، يعني: سبح أطراف النهار، وقوله: (( وَأَطْرَافَ النَّهَارِ )) تكرير لصلاة الفجر والعصر، إيذاناً باختصاصهما بمزيد مزية، ومجيئه بلفظ الجمع مشاكلة لآناء الليل، أو لأن صلاة الظهر في نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الأخير، فجمع باعتبار النصفين، أو لأن النهار جنس فيشمل كل نهار، أو أمر بالتطوع في أجزاء النهار. قال الرازي : إنما أمر عقيب الصبر بالتسبيح؛ لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوى والراحة، إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تبارك وتعالى. وقد أشير إلى حكمة الأمر بالصبر والتسبيح بقوله تعالى: (( لَعَلَّكَ تَرْضَى )) أي: رجاء أن تنال ما به ترضى نفسك، يعني: الزم هذين الأمرين: الصبر والتسبيح لعلك تنال ثواب ذلك وهو أن يرضيك الله، وتنال به ما ترضى به نفسك من رفع ذكرك، ونصرك على عدوك، وبلوغ أمنيتك من ظهور توحيد ربك، وهذا كقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، وقوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، وفي الحديث القدسي: (يا محمد! إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك).