تفسير سورة الأنفال [35-47]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنفال:35]. هذه الآية وردت بعد قوله تبارك وتعالى: (وَإِذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنفال:32-35] فكأن هذه الآية واردة في سياق بيان سبب استحقاقهم للعذاب. فقوله: (( وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ )) هذا سبب لاستحقاقهم العذاب، وقوله: (( وما كان صلاتهم.. إلخ )) سبب آخر، أي: وما لهم ألا يعذبهم الله وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية، فتكون الجملة معطوفة على قوله: ((وهم يصدون)). والمكاء هو التصفير، والتصدية هي التصفيق بالأكف، روى ابن أبي حاتم أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حكى فعلهم فصفر، وأمال خده، وصفق بيديه. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أيضاً قال: إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض، ويصفرون، ويصفقون. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، يصفرون، ويصفقون. وعن مجاهد : أنهم كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته. يعني: أن بعض كفار قريش كانوا يصفرون ويصفقون؛ حتى يشوشوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند المسجد الحرام. وقال الزهري : يستهزئون بالمؤمنين. يعنى: بدل أن يصلوا لله عند المسجد الحرام كانوا يفعلون هذه الأفاعيل ليؤذوا المؤمنين. فإذاً: تكون هذه الجملة معطوفة على قوله تعالى: (( وَهُمْ يَصُدُّونَ ))، في سياق تقرير استحقاقهم العذاب، أو تكون معطوفة على قوله تعالى: (( وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ )). وعلى هذا تكون تقريراً وبياناً لأسباب عدم استحقاقهم ولاية البيت الحرام. وقوله: (( وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ))، أي: لأنهم ليسوا من المتقين، ولأن صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، فمن ثمَّ لا يستحقون ولاية المسجد الحرام. قال الزمخشري : فإن قلت: ما وجه هذا الكلام؟ قلت: هو نحو من قول الفرزدق : وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أداهم سوداً أو محدرجة سمراً فـ(أخشى) هنا بمعنى: أعلم؛ فالخشية تطلق على العلم كثيراً؛ لأن العلم سببه الخشية. فقوله: ( وما كنت أخشى ) يعني: ما كنت أعلم أن يكون عطاؤه أداهم سوداً أو محدرجة سمراً. والأداهم: جمع أدهم، وهي الحيات السود، لكن المقصود هنا القيود، وكأنه يقول: بدل أن يكافئني أعطاني القيود وأوثقني. والمحدرجة السمر هي السياط، أي: جلدني وقيدني بدل أن يعطيني عطاءً ويهبني هبة. وكذلك هؤلاء بدل أن يصلوا لله حول الكعبة بالركوع والسجود والتسبيح، إذا بهم جعلوا صلاتهم التصفير والمكاء والتصدية، فقول الفرزدق : وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أداهم سوداً أو محدرجة سمراً والمعنى: أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء، وكفار قريش وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة، فهذا من نفس هذا الباب، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء، وهم مشبكون بين أصابعهم، يصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته؛ لكي يخلطوا عليه. قوله تعالى: (( فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ )) ، أي: بسبب كفركم اعتقاداً وعملاً، وفيه إشعار بأن هذا الفعل المبطل لحرمة البيت والذي فيه استهزاء بالكعبة وبالصلاة وبالمؤمنين كفر؛ لأنه عقب قوله تعالى: (( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية )) بقوله: (( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون )). ولا يفهم من هذا أن المكاء والتصدية يمكن أن تكون صلاة أو يمكن أن تكون عبادة يتقرب بها إلى الله، وإنما المقصود ذم التشويش على المصلين أو السخرية والاستهزاء؛ ولذلك قال:(( فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ))، وهذا فيه إشعار بأن هذا الفعل كفر؛ لأنه استهانة بشعائر الله سبحانه وتعالى وسخرية بها. والعذاب المذكور هو ما أصابهم يوم بدر من القتل ومن السبي، كما قاله غير واحد من السلف، واختاره إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى. قال الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: المتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق المخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة أشباه هؤلاء المشركين. ومن خصائص الصوفية أنهم وضعوا ما يسمونه ذكراً وليس ذكراً، إنما هو غفلة عن الله سبحانه وتعالى، ونسيان له وليس ذكراً، وإلا فهذا كان شأن المشركين، وهاهو القرآن الكريم يعاتبهم على ذلك.

حكم الغناء وذكر تحريمه من القرآن الكريم

وهذه الآية أحد أربعة مواضع في القرآن الكريم تكلم المفسرون -خاصة من يميلون إلى الاستفاضة في البحوث المتعلقة بالآيات- عندها عن المعازف والغناء وما إلى ذلك. والثانية قوله تعالى في سورة لقمان: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا [لقمان:6]. والثالثة قوله تعالى في سورة الإسراء: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء:64]، وصوت الشيطان هو المزامير والأغاني والموسيقى. والرابعة قوله تعالى: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ [النجم:59-61] والسموء بلغة حمير هو الغناء. وموضوع المعازف والأغاني والموسيقى تحتاج إلى بحث مفصل فيها، خاصة في هذا الزمان الذي ظهر فيه الغناء ظهوراً فاحشاً، وصار فناً جميلاً معترفاً به، وفتن به كثير من الناس، وصد كثيراً من الناس عن القرآن الكريم، وسمم قلوب كثير من الشباب، حتى صدقت فيه مقولة الخميني الهالك: الموسيقى أفيون الشعوب. ولكن نظراً لمنهجنا في استعراض التفسير بسرعة فنحن نضطر إلى تجاوز هذه النقطة مع قليل من التنبيهات، ولعل الله سبحانه تعالى ييسر فيما بعد محاضرة مفصلة، أو سلسلة من المحاضرات حول هذا الموضوع بكل جوانبه.

ذم ما يفعله الصوفية من العزف والغناء عند الذكر

يقول ابن القيم : المتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق والمخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقرآن والقراءة أشباه هؤلاء المشركين. قال ابن عرفة وابن الأنباري : المكاء والتصدية ليسا بصلاة. يعني: حذار أن يفهم واحد أن هذه الأشياء يمكن أن تكون عبادة يتقرب بها إلى الله، ويأخذ ذلك من قوله: (( وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ))؛ فهي ليست صلاة، لكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها المكاء والتصدية، واستبدلوا بالصلاة والركوع والسجود والتوحيد والذكر المكاء والتصدية، فألزمهم ذلك عظيم الأوزار، وهذا كقولك: زرته فجعل جفائي صلتي. يعني: جعل الجفاء والغلظة مكان الصلة والإحسان إليَّ، والمقصود: أن المصفقين والصفارين في يراع أو مزمار ونحوه فيهم شبه من هؤلاء، ولو أنه مجرد الشبه الظاهر، لكن لهم قسط من الذنب. فنحن لا نقول: إن هؤلاء الصوفية كفار بنفس ذلك الفعل، لكننا نقول: هم متشبهون بالكفار؛ لأنهم يماثلونهم في هذا الجزء من الانحراف وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم، والله سبحانه وتعالى لم يشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمر؛ كما في الحديث الذي في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نابه في صلاته شيء فليسبح؛ فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء)، وكلمة (إنما) تفيد الحصر، فالرجال لا يصفقون. فعجباً ممن ينتسبون للإسلام كيف يكون التصفيق شائعاً في احتفالاتهم أو مجالسهم أو مؤتمراتهم بهذه الصورة تشبهاً بالكفار! وإذا أعجبوا بشيء من الشخص الذي يخطبهم -مثلاً- فإنهم يعبرون عن إعجابهم بالتصفيق، وهذه ليست سنة المسلمين؛ لأن في شرعنا أن التصفيق إنما هو للنساء في الصلاة، وأما الرجال فقد أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح؛ لئلا يتشبهوا بالنساء، فكيف إذا فعلوه كما يفعل المشركون لا لحاجة، وقرنوا به أنواعاً من المعاصي قولاً وفعلاً! وانحراف الصوفية بالذات في هذا الباب انحراف عجيب! ومع ذلك يريدون بشتى الحيل الشيطانية أن يسوغوا هذه الأفعال القبيحة التي يفعلونها؛ حتى إن الأمر يصل بهم إلى الاختلاط الفاحش مع النساء في الموالد ونحوها من المناسبات، ويحصل عندهم تعاطي الشيشة وتعاطي المخدرات ونحو ذلك، إضافة إلى أنها تكون مواسم للقمار والشعائر الكفرية مثل حلق رءوس الصبية، كما يفعل في مناسك حج البدوي، والطواف بالقبر والسجود له، والنذر والذبح للبدوي وكل هذه الأشياء التي ضاهوا فيها المشركين، وهذه لا شك شرك وكفر بالله سبحانه وتعالى، فعلى أي الأحوال هذه من مكائد الشيطان التي أضل بها القوم. وربما تجدهم بعد ذلك كالجثث الميتة لا حراك بها، لا يعرفون صلاة ولا إجابة مؤذن ولا عمارة للمساجد، وإنما هو موسم تجارة ولهو شبيه بكثير من مواسم الجاهلية، فهذا ليس ذكراً لله، وإنما يخدعون أنفسهم بتسمية هذا الضلال وهذا النسيان ذكراً، ويسمون الأشياء بضد ما تستحق، لأنه ما يفعلونه غفلة عن الله، ونسيان لله سبحانه وتعالى، وهو صد عن سبيل الله عز وجل. يقول: ومن مكائد عدو الله ومصائده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين؛ سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان. فالإنسان الذي يمتلئ قلبه بالإيمان وباليقين ويعمر بقراءة القرآن، إذا سمع الغناء أحس أنه يتعاطى سماً يسمم قلبه. فالمشكلة أن بعض الناس قد يصفون من يصرخون فيهم بحكم الله في الأغاني والمعازف ونحوها بأنهم متشددون؛ حتى إن بعض المشاهير من المشايخ قبل فترة قريبة كتب شعراً أو نثراً، يقول ما معناه: من لم يستمتع بالأوتار تحت الأشجار فهو من جنس طبع الحمار، يعني: أنه يجعل طبع الذين لا يستحسنون الغناء والمعازف من جنس طبع الحمار، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فنحن لا نقول: إن سماع الموسيقى ليس فيه متعة، بل فيه متعة، لكنها متعة محرمة، فمتعاطيها كالذي يستمتع بشرب الخمر أو يستمتع بغير ذلك مما حرمه الله سبحانه وتعالى، فإنه يجد في ذلك متعة، ويجد ميلاً طبعياً في نفسه لهذا الشيء. وأما المؤمن فإنه لا ينقاد وراء هذه المتعة دون أن يحكم شرع الله فيها.

القلب السليم يستمتع بالقرآن ويكره الغناء

فالإنسان إذا كان قلبه سليماً عامراً بالتوحيد وبالذكر، وكان وثيق الصلة بالقرآن، فبلا شك أن هذا يجعل قلبه سليماً صادقاً في حكمه على الأشياء، فإذا سمع موسيقى حتى دون أن يعرف الحكم الشرعي فيها فإنه يشعر أن فيها سماً ينفذ إلى قلبه، ومثل هذا الشعور لن يتأتى إلا إذا كان قلب الإنسان عامراً بالقرآن الكريم، فإنه يحس أن هذا قرآن الرحمن، والأغاني والموسيقى قرآن الشيطان، فقلبه يتسمم منها. أما الشخص الذي غمرت قلبه محبة هذه الأشياء فمن الصعب أن يعطينا حكماً صادقاً، فمثلاً: أنت إذا أتيت شخصاً يتعاطى الدخان والسجائر فأخبرته بأضرار الدخان فإنه يقول لك: أنا لا أحس بشيء من هذا، بل بالعكس أنا أجد فيها متعة! في حين أن هذا الشخص لا يعد مقياساً سليماً؛ لأنه حصل له نوع من التطبيع مع المعاصي، وطبيعته السليمة قد تغيرت مع المعاصي، فلما حصل له تطبيع تلاقى في منتصف الطريق مع الباطل، وذاب فيه، وانسجم معه. لكن العبرة بكل إنسان سليم متحرر من هذا القيد، فلو أتيت بإنسان سليم لم يتعاط في حياته شيئاً من هذا الدخان وأعطيته سيجارة، فستجد بعض الآثار الصحية عليه في الحال، كأن يسعل ويشعر بالدوار والدوخة وغيرها، وكل هذه الأعراض نتيجة لأنه سليم. فكذلك القلب السليم إذا سمع الموسيقى يشعر بأنها سهام تطعن قلبه وتسممه، أما الشخص الذي هو غارق ليل نهار في الموسيقى مع هجره القرآن الكريم فلا يحس بحلاوة القرآن، ولا شك أن هذا يحجب عن قلبه الإحساس بالقرآن الكريم. ولذلك ننصح كل من ابتلي بشيء من هذا أن يمر أولاً بمرحلة انتقالية يجاهد فيها نفسه بأن يمتنع من سماع هذه المعازف، وفي نفس الوقت يوثق صلته بالقرآن، فكلما زادت صلته بقرآن الرحمن فإنه يحس بالكراهية لقرآن الشيطان، وهذه نتيجة طبيعية، ولكن ربما لا تتأتى عند كثير من الناس نتيجة المواعظ والبحوث والكلام الكثير، لكن إذا ملأ الإنسان قلبه بحب القرآن ووثق صلته بالقرآن فإنه هذا أنجح علاج؛ لأن الصحة والسلامة ستعود إلى قلبه، ويبغض هذه المعاصي، فضلاً عن أن يميل إليها ويتأثر بها.

ذم الأئمة لاتخاذ التصفيق والغناء قربة

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما اتخاذ التصفيق والغناء والضرب بالدفوف والنفخ بالشبابات والاجتماع على ذلك ديناً وطريقاً إلى الله وقربةً؛ فهذا ليس من دين الإسلام، وليس مما شرعه لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من خلفائه، ولا استحسن ذلك أحد من أئمة المسلمين، بل ولم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا على عهد أصحابه، ولا تابعيهم بإحسان، ولا تابعي التابعين، بل لم يكن أحد من أهل الدين من الأعصار الثلاثة لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا العراق ولا بخراسان ولا المغرب ولا مصر يجتمع على مثل هذا السماع، وإنما ابتدع في الإسلام بعد القرون الثلاثة. ولهذا قال الشافعي لما رأى ذلك: خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير؛ يصدون به الناس عن القرآن. وسئل عنه أحمد رحمه الله فقال: أكرهه وهو محدث. قيل: أتجلس معهم؟ قال: لا. وكذلك كرهه سائر أئمة الدين، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه. ويقول شيخ الإسلام : وما ذكره الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه من إحداث الزنادقة من كلام إمام خبير بأصول الإسلام؛ فإن هذا السماع لم يرغب فيه ويدعو إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة، كـابن الراوندي والفارابي وابن سينا وأمثالهم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومن كان له خبرة بحقائق الدين وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها، عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلب منفعة ولا مصلحة إلا وفي ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه؛ فهو للروح كالخمر للجسد. يعني: أن الموسيقى والمعازف خمر للروح، وما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث به، ولا من شيء يبعد عن النار إلا وقد حدث به، ولو كان هذا السماع لمصلحة شرعها الله ورسوله لحدث به؛ فإن الله يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، وإذا وجد السامع به منفعة لقلبه ولم يجد شاهد ذلك من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إليه، كما أن الفقيه إذا رأى قياساً لا يشهد له الكتاب والسنة لم يلتفت إليه. وقد سبق أن الإمام القاسمي رحمه الله تعالى تكلم بشيء من التفصيل في بحث ماض في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].

وهذه الآية أحد أربعة مواضع في القرآن الكريم تكلم المفسرون -خاصة من يميلون إلى الاستفاضة في البحوث المتعلقة بالآيات- عندها عن المعازف والغناء وما إلى ذلك. والثانية قوله تعالى في سورة لقمان: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا [لقمان:6]. والثالثة قوله تعالى في سورة الإسراء: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء:64]، وصوت الشيطان هو المزامير والأغاني والموسيقى. والرابعة قوله تعالى: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ [النجم:59-61] والسموء بلغة حمير هو الغناء. وموضوع المعازف والأغاني والموسيقى تحتاج إلى بحث مفصل فيها، خاصة في هذا الزمان الذي ظهر فيه الغناء ظهوراً فاحشاً، وصار فناً جميلاً معترفاً به، وفتن به كثير من الناس، وصد كثيراً من الناس عن القرآن الكريم، وسمم قلوب كثير من الشباب، حتى صدقت فيه مقولة الخميني الهالك: الموسيقى أفيون الشعوب. ولكن نظراً لمنهجنا في استعراض التفسير بسرعة فنحن نضطر إلى تجاوز هذه النقطة مع قليل من التنبيهات، ولعل الله سبحانه تعالى ييسر فيما بعد محاضرة مفصلة، أو سلسلة من المحاضرات حول هذا الموضوع بكل جوانبه.

يقول ابن القيم : المتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق والمخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقرآن والقراءة أشباه هؤلاء المشركين. قال ابن عرفة وابن الأنباري : المكاء والتصدية ليسا بصلاة. يعني: حذار أن يفهم واحد أن هذه الأشياء يمكن أن تكون عبادة يتقرب بها إلى الله، ويأخذ ذلك من قوله: (( وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ))؛ فهي ليست صلاة، لكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها المكاء والتصدية، واستبدلوا بالصلاة والركوع والسجود والتوحيد والذكر المكاء والتصدية، فألزمهم ذلك عظيم الأوزار، وهذا كقولك: زرته فجعل جفائي صلتي. يعني: جعل الجفاء والغلظة مكان الصلة والإحسان إليَّ، والمقصود: أن المصفقين والصفارين في يراع أو مزمار ونحوه فيهم شبه من هؤلاء، ولو أنه مجرد الشبه الظاهر، لكن لهم قسط من الذنب. فنحن لا نقول: إن هؤلاء الصوفية كفار بنفس ذلك الفعل، لكننا نقول: هم متشبهون بالكفار؛ لأنهم يماثلونهم في هذا الجزء من الانحراف وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم، والله سبحانه وتعالى لم يشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمر؛ كما في الحديث الذي في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نابه في صلاته شيء فليسبح؛ فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء)، وكلمة (إنما) تفيد الحصر، فالرجال لا يصفقون. فعجباً ممن ينتسبون للإسلام كيف يكون التصفيق شائعاً في احتفالاتهم أو مجالسهم أو مؤتمراتهم بهذه الصورة تشبهاً بالكفار! وإذا أعجبوا بشيء من الشخص الذي يخطبهم -مثلاً- فإنهم يعبرون عن إعجابهم بالتصفيق، وهذه ليست سنة المسلمين؛ لأن في شرعنا أن التصفيق إنما هو للنساء في الصلاة، وأما الرجال فقد أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح؛ لئلا يتشبهوا بالنساء، فكيف إذا فعلوه كما يفعل المشركون لا لحاجة، وقرنوا به أنواعاً من المعاصي قولاً وفعلاً! وانحراف الصوفية بالذات في هذا الباب انحراف عجيب! ومع ذلك يريدون بشتى الحيل الشيطانية أن يسوغوا هذه الأفعال القبيحة التي يفعلونها؛ حتى إن الأمر يصل بهم إلى الاختلاط الفاحش مع النساء في الموالد ونحوها من المناسبات، ويحصل عندهم تعاطي الشيشة وتعاطي المخدرات ونحو ذلك، إضافة إلى أنها تكون مواسم للقمار والشعائر الكفرية مثل حلق رءوس الصبية، كما يفعل في مناسك حج البدوي، والطواف بالقبر والسجود له، والنذر والذبح للبدوي وكل هذه الأشياء التي ضاهوا فيها المشركين، وهذه لا شك شرك وكفر بالله سبحانه وتعالى، فعلى أي الأحوال هذه من مكائد الشيطان التي أضل بها القوم. وربما تجدهم بعد ذلك كالجثث الميتة لا حراك بها، لا يعرفون صلاة ولا إجابة مؤذن ولا عمارة للمساجد، وإنما هو موسم تجارة ولهو شبيه بكثير من مواسم الجاهلية، فهذا ليس ذكراً لله، وإنما يخدعون أنفسهم بتسمية هذا الضلال وهذا النسيان ذكراً، ويسمون الأشياء بضد ما تستحق، لأنه ما يفعلونه غفلة عن الله، ونسيان لله سبحانه وتعالى، وهو صد عن سبيل الله عز وجل. يقول: ومن مكائد عدو الله ومصائده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين؛ سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان. فالإنسان الذي يمتلئ قلبه بالإيمان وباليقين ويعمر بقراءة القرآن، إذا سمع الغناء أحس أنه يتعاطى سماً يسمم قلبه. فالمشكلة أن بعض الناس قد يصفون من يصرخون فيهم بحكم الله في الأغاني والمعازف ونحوها بأنهم متشددون؛ حتى إن بعض المشاهير من المشايخ قبل فترة قريبة كتب شعراً أو نثراً، يقول ما معناه: من لم يستمتع بالأوتار تحت الأشجار فهو من جنس طبع الحمار، يعني: أنه يجعل طبع الذين لا يستحسنون الغناء والمعازف من جنس طبع الحمار، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فنحن لا نقول: إن سماع الموسيقى ليس فيه متعة، بل فيه متعة، لكنها متعة محرمة، فمتعاطيها كالذي يستمتع بشرب الخمر أو يستمتع بغير ذلك مما حرمه الله سبحانه وتعالى، فإنه يجد في ذلك متعة، ويجد ميلاً طبعياً في نفسه لهذا الشيء. وأما المؤمن فإنه لا ينقاد وراء هذه المتعة دون أن يحكم شرع الله فيها.

فالإنسان إذا كان قلبه سليماً عامراً بالتوحيد وبالذكر، وكان وثيق الصلة بالقرآن، فبلا شك أن هذا يجعل قلبه سليماً صادقاً في حكمه على الأشياء، فإذا سمع موسيقى حتى دون أن يعرف الحكم الشرعي فيها فإنه يشعر أن فيها سماً ينفذ إلى قلبه، ومثل هذا الشعور لن يتأتى إلا إذا كان قلب الإنسان عامراً بالقرآن الكريم، فإنه يحس أن هذا قرآن الرحمن، والأغاني والموسيقى قرآن الشيطان، فقلبه يتسمم منها. أما الشخص الذي غمرت قلبه محبة هذه الأشياء فمن الصعب أن يعطينا حكماً صادقاً، فمثلاً: أنت إذا أتيت شخصاً يتعاطى الدخان والسجائر فأخبرته بأضرار الدخان فإنه يقول لك: أنا لا أحس بشيء من هذا، بل بالعكس أنا أجد فيها متعة! في حين أن هذا الشخص لا يعد مقياساً سليماً؛ لأنه حصل له نوع من التطبيع مع المعاصي، وطبيعته السليمة قد تغيرت مع المعاصي، فلما حصل له تطبيع تلاقى في منتصف الطريق مع الباطل، وذاب فيه، وانسجم معه. لكن العبرة بكل إنسان سليم متحرر من هذا القيد، فلو أتيت بإنسان سليم لم يتعاط في حياته شيئاً من هذا الدخان وأعطيته سيجارة، فستجد بعض الآثار الصحية عليه في الحال، كأن يسعل ويشعر بالدوار والدوخة وغيرها، وكل هذه الأعراض نتيجة لأنه سليم. فكذلك القلب السليم إذا سمع الموسيقى يشعر بأنها سهام تطعن قلبه وتسممه، أما الشخص الذي هو غارق ليل نهار في الموسيقى مع هجره القرآن الكريم فلا يحس بحلاوة القرآن، ولا شك أن هذا يحجب عن قلبه الإحساس بالقرآن الكريم. ولذلك ننصح كل من ابتلي بشيء من هذا أن يمر أولاً بمرحلة انتقالية يجاهد فيها نفسه بأن يمتنع من سماع هذه المعازف، وفي نفس الوقت يوثق صلته بالقرآن، فكلما زادت صلته بقرآن الرحمن فإنه يحس بالكراهية لقرآن الشيطان، وهذه نتيجة طبيعية، ولكن ربما لا تتأتى عند كثير من الناس نتيجة المواعظ والبحوث والكلام الكثير، لكن إذا ملأ الإنسان قلبه بحب القرآن ووثق صلته بالقرآن فإنه هذا أنجح علاج؛ لأن الصحة والسلامة ستعود إلى قلبه، ويبغض هذه المعاصي، فضلاً عن أن يميل إليها ويتأثر بها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما اتخاذ التصفيق والغناء والضرب بالدفوف والنفخ بالشبابات والاجتماع على ذلك ديناً وطريقاً إلى الله وقربةً؛ فهذا ليس من دين الإسلام، وليس مما شرعه لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من خلفائه، ولا استحسن ذلك أحد من أئمة المسلمين، بل ولم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا على عهد أصحابه، ولا تابعيهم بإحسان، ولا تابعي التابعين، بل لم يكن أحد من أهل الدين من الأعصار الثلاثة لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا العراق ولا بخراسان ولا المغرب ولا مصر يجتمع على مثل هذا السماع، وإنما ابتدع في الإسلام بعد القرون الثلاثة. ولهذا قال الشافعي لما رأى ذلك: خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير؛ يصدون به الناس عن القرآن. وسئل عنه أحمد رحمه الله فقال: أكرهه وهو محدث. قيل: أتجلس معهم؟ قال: لا. وكذلك كرهه سائر أئمة الدين، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه. ويقول شيخ الإسلام : وما ذكره الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه من إحداث الزنادقة من كلام إمام خبير بأصول الإسلام؛ فإن هذا السماع لم يرغب فيه ويدعو إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة، كـابن الراوندي والفارابي وابن سينا وأمثالهم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومن كان له خبرة بحقائق الدين وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها، عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلب منفعة ولا مصلحة إلا وفي ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه؛ فهو للروح كالخمر للجسد. يعني: أن الموسيقى والمعازف خمر للروح، وما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث به، ولا من شيء يبعد عن النار إلا وقد حدث به، ولو كان هذا السماع لمصلحة شرعها الله ورسوله لحدث به؛ فإن الله يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، وإذا وجد السامع به منفعة لقلبه ولم يجد شاهد ذلك من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إليه، كما أن الفقيه إذا رأى قياساً لا يشهد له الكتاب والسنة لم يلتفت إليه. وقد سبق أن الإمام القاسمي رحمه الله تعالى تكلم بشيء من التفصيل في بحث ماض في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].

ثم قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36]. هذه الآية نزلت فيمن ينفق على حرب النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين، وبيان سوء مغبة هذا الإنفاق، وقد ذهب الضحاك إلى أنه عُني بها المطعمون منهم يوم بدر؛ حيث كان هناك في طائفة المشركين اثنا عشر رجلاً من قريش يتطوعون بإطعام الذين خرجوا لمحاربة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشرة جزر. يعني: عشرة جمال. وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم أنها نزلت في أبي سفيان ، ونفقته الأموال في أحد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يخفى شمول الآية لأي كافر ينفق ماله ليصد عن سبيل الله، وليحارب دعوة الله، فكل من فعل ذلك فهو داخل في هذه الآية. واللام في قوله تعالى: (( ليصدوا )) هي لام الصيرورة أو لام العاقبة. ويصح أيضاً أن تكون للتعليل؛ لأن غرضهم الصد عما هو سبيل الله بحسب الواقع، فقوله: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ))، يعني: الذي هو في الحقيقة سبيل الله وإن كانوا هم لا يعتقدون أنه سبيل الله. أي: فإذا قلنا إنها للتعليل فهم يصدون عن سبيل الله بحسب الواقع، وإذا قلنا إنها لام الصيرورة ولام العاقبة؛ فلأنهم ينفقون هذا المال ويعتقدون أنهم على حق، وأن محاربة الدين أو محاربة الإسلام لإعزاز دينهم الباطل الذي يرونه حقاً، فهم لا يقصدون الصد عن سبيل الله، لكن فعلهم يئول إلى الصد عن سبيل الله؛ لأنه دين الله في الحقيقة. يقول: واللام في: ( ليصدوا ) لام الصيرورة، ويصح أن تكون للتعليل؛ لأن غرضهم الصد عما هو سبيل الله بحسب الواقع وإن لم يكن كذلك في اعتقادهم، وسبيل الله: طريقه، وهو دينه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (( فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ))، المعنى: أن الذين ينفقون أموالهم لإطفاء نور الله والصد عن اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم سيعلمون عما قريب سوء مغبة ذلك الإنفاق وانقلابه إلى أشد الخسران من القتل والأسر في الدنيا والنكال في العقبى. وقوله: (( فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً )) جعل نفس الأموال تصير عليهم حسرة. يعني: ندماً وتأسفاً، وإنما الندم والتأسف هو عاقبة أمرها، وليست هي ذاتها؛ فهذه مبالغة. وقوله: (( ثُمَّ يُغْلَبُونَ ))، المراد الغلبة التي استقر عليها الأمر، فإن كانت الحرب قبل ذلك سجالاً فإن العاقبة تكون للمتقين. قال بعضهم: ثمرة الآية خطر المعاونة على معصية الله تعالى، وأن الإنفاق في ذلك معصية، فيدخل في هذا معاونة الظلمة على حركاتهم في البغي والظلم، وكذلك بيع السلاح والكراع ممن يستعين بذلك على حرب المسلمين، فكل من يبيع سلاحاً لحرب المسلمين أو سلاحاً في الفتنة فإنه يدخل في هذه الآية.

ثم قال تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأنفال:37]. (( ليميز الله الخبيث من الطيب )) أي: يميز الله الكافر من المؤمن، أو يميز الفساد من الصلاح. (( ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جنهم )) يعني: يركمه ويجمعه، ويضم بعضه إلى بعض؛ حتى يتراكبوا لفرط ازدحامهم. وقيل معناه أنه يضم إلى الكافر ما أنفق من المال ليصد عن سبيل الله، فيؤتى به وبماله ويجعله الله فوقه؛ ليزيد به عذابه، كما أن الذين يكنزون أموالهم يعذبون بها، وتقرن معهم هذه الأموال. وقوله: (( أولئك )) إشارة إلى الخبيث؛ لأنه مقدر بمعنى الفريق الخبيث، أو أن الإشارة إلى هؤلاء المنفقين أموالهم ليصدوا عن سبيل الله. وقوله: (( أولئك هم الخاسرون )) أي: لأنهم خسروا أنفسهم، وخسروا أموالهم التي أنفقوها.

ثم قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الأنفال:38]. قوله: (( قل للذين كفروا )) يعني: أبا سفيان وأصحابه، فالتعريف فيه للعهد، أو يكون التعريف للجنس، فالمراد بها كل الكفار، فيدخل فيهم دخولاً أولياً أبو سفيان وأصحابه. (( إن ينتهوا )) أي: إن ينتهوا عن الكفر وقتال النبي صلى الله عليه وسلم. (( يغفر لهم ما قد سلف )) أي: من الكفر والمعاصي. (( وإن يعودوا )) أي: إلى قتال النبي صلى الله عليه وسلم. (( فقد مضت سنة الأولين )) يعني: الذين تحزبوا على الأنبياء، فقد عرفتم كيف كانت سنتنا فيهم، وكيف دمرناهم تدميراً. أو أن المقصود بقوله: (( فقد مضت سنة الأولين )) الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر. وقوله تعالى: (( فقد مضت )) فيه دليل لجزاء الشرط؛ لأن تقدير الكلام: ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا ) انتقمنا منهم. وقد استدل بالآية على أن الإسلام يجب ما قبله، يعني: يقطع ما قبله، كما جاء في الحديث، وفيها أن الكافر إذا أسلم لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم، أو إتلاف مال أو نفس. وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب، حيث قالوا: إن هذه الأحكام في كل الكفار، سواء كان الكفر أصلياً أو طارئاً ككفر المرتد؛ فإن تاب لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس؛ لعموم الآية. واستدلوا بها على إسقاط ما على الذمي من جزية وجبت عليه قبل إسلامه أي: فلو أن رجلاً ذمياً وجبت عليه جزية ثم أسلم ولم يؤد هذه الجزية فإنه لا يطالب بها بعد إسلامه؛ لظاهر هذه الآية: (( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا )) يعني: عن الكفر، (( يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ )). وعن مالك قال: لا يؤاخذ كافر بشيء صنعه في كفره إذا أسلم؛ لأن الله تعالى قال: (( إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ )) و(ما): عامة تعم كل ما سلف.

ثم قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال:39-40]. (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة )) فتنة: فاعل؛ لأن (كان) هنا تامة، لأنها إذا أتت بمعنى الوجود والحصول تكون تامة، ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فذو هنا فاعل؛ لأن كان تامة. (( حتى لا تكون فتنة )) أي: شرك أو إضلال لغيرهم وفتن منهم للمؤمنين عن دينهم، أو أن قوله: (( حتى لا تكون فتنة )) يعني: حتى لا تبقى فتنة، وحتى لا يبقى على وجه الأرض من يكفر بالله سبحانه وتعالى، وهذه هي غاية الجهاد. (( ويكون الدين كله لله )) أي: حتى يخلص التوحيد لله، فلا يعبد غيره سبحانه وتعالى. (( فإن انتهوا )) يعني: عن الكفر والمعاصي ظاهراً. (( فإن الله بما يعلمون بصير )) يعني: بما يعملون ببواطنهم بصير، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)، أي: في البواطن؛ لأن البواطن لا نستطيع أن نطلع عليها، لكن نقبل منهم ما يظهرون. فقوله: (( فإن انتهوا فإن الله بما يعلمون بصير )) يعني: سيجازيهم، وعليه حسابهم، فكفوا عنهم وإن لم تعلموا ببواطنهم، واقبلوا منهم ما يظهرون، وهذا كقوله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، وفي الآية الأخرى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11]. وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل). وفي الصحيح: (أن أسامة لما علا ذلك الرجل بالسيف فقال: لا إله إلا الله، فضربه فقتله، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لـأسامة : أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟! فكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟! فقال: يا رسول الله! إنما قالها تعوذاً، فقال: هلا شققت عن قلبه؟ وجعل يكرر عليه: كيف تفعل بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ قال أسامة : حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذٍ)، يعني: من شدة غضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه. وقيل: (( ويكون الدين كله لله ))، أي: حتى يكون الخضوع كله لله. ثم قال تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال:40]. فقوله: (( وإن تولوا )) يعني: إن أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا عن الشرك. وقوله: (( فاعلموا أن الله مولاكم )) يعني: أن الله ناصركم ومعينكم، فثقوا بولايته ونصرته. وقوله: (( نعم المولى )) أي: فلا يضيع من تولاه. وقوله: (( ونعم النصير )) أي: فلا يُغلَبُ من نصره.

ثم بين تعالى مصرف ما أحله لهذه الأمة وخصها به من الغنائم فقال عز وجل: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنفال:41]. قوله: (( واعلموا أنما غنمتم من شيء )) يعني: ما قل أو كثر من الغنيمة التي أخذتموها من الكفار. وقوله: (( فإن لله )) أي: لله الذي منه النصر المتفرع عليه الغنيمة. وقوله: (( خمسه )) أي: شكراً له على نصره وإعطائه الغنيمة. وقوله: (( وللرسول )) الذي هو الأصل في أسباب النصر. وقوله: (( ولذي القربى )) وهم بنو هاشم وبنو المطلب . وقوله: (( واليتامى )) أي: من مات أبوهم ولم يبلغوا؛ لأنهم ضعفاء. وقوله: (( والمساكين )) لأنهم ضعفاء كاليتامى. وقوله: (( وابن السبيل )) وهو المسافر الذي انقطع في الطريق، ويريد الرجوع إلى بلده، ولا يجد ما يتبلغ به. والغنيمة هي: المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب. أي: ما ظهر عليه المسلمون بقتال. وكلمة: (( من شيء )) قصد بها الاعتناء بالغنيمة، ومعناها: أنه ينبغي ألا يشذ عنها شيء، فما غنمتموه كائناً ما كان يقع الإثم على من يأخذه حتى الخيط والمخيط.

كيفية قسمة الغنائم

وينبغي أن تقسم الغنائم بين المجاهدين بهذه الكيفية المذكورة في الآية. (( فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ )) بضم الميم وسكونها قرئ بهاتين اللغتين، وأفادت الآية أن الواجب في المغنم تخميسه وصرف الخمس إلى من ذكرهم الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة، ثم بعد ذلك يقسم ما بقي بين الغانمين بالعدل والسوية، للراجل سهم وللفارس ذي الفرس العربي ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه؛ هكذا قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم عام خيبر. ومن الفقهاء من يقول: للفارس سهمان. لكن القول الأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة؛ ولأن الفرس يحتاج إلى مئونة نفسه وسائسه الذي يسوسه، وغناء الفارس به أعظم من غناء راجلين في الحرب، فمنفعة الشخص الذي يجاهد على الفرس أكثر من منفعة رجلين. ومنهم من يقول: تقسم عليهم بالسواء.

وجوب العدل في قسمة الغنائم

ويجب قسمتها بالعدل، فلا يحابي أحداً لقرابته ولا لنسبه ولا لفضله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يقسمونها، وفي صحيح البخاري أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رأى أن له فضلاً على من دونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟). وفي مسند أحمد أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال (قلت: يا رسول الله! الرجل يكون حامية القوم يكون سهمه وأسهم غيره سواء؟ قال ثكلتك أمك ابن أم سعد ! وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟).

مصارف خمس الغنيمة

وقوله: (( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ )): قال الجمهور: الخمس يصرف على خمسة وجوه، وقال البعض: ستة. والذي قال إنها ستة: قال: هي لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. والذي قال إنها خمسة قال: هي للرسول وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. قال: أما ذكر الله سبحانه في قوله: (( فأن لله خمسه )) فإنما هو للتعظيم، يعني: لتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ [التوبة:62]، أو لبيان أنه لابد في الخمسة من إخلاصها لله تعالى. وتمسك المخالف بظاهر الآية، فأوجب سهماً سادساً لله تعالى. قال: لأن كلام الحكيم لا يعرى عن الفائدة. فلابد أن يكون لذكر لفظ الجلالة هنا فائدة، وهذه الفائدة هي أنه مصرف مستقل من مصارف الخمس؛ ولأنه سبق اختصاصه في آية الصدقات في قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60]، فكذا هنا أيضاً يكون هناك مصرف أو وجه ينفق فيه لله سبحانه وتعالى. ويصرف هذا السهم على هذا المذهب قيل: في وجوه الخير، وقيل: يؤخذ للكعبة المشرفة. وما رواه البيهقي يؤيد مذهب الجمهور؛ فإنه روى بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى، وهو معترض فرساً، فقلت: يا رسول الله! ما تقول في الغنيمة؟ فقال: لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش، قلت: فما أحد أولى به من أحد؟ قال: لا، ولا السهم تستخرجه من جيبك، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم). ومن لطائف الحسن أنه أوصى بالخمس من ماله وقال: ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه؟

كيفية التصرف في خمس النبي صلى الله عليه وسلم

أما خمس النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله له فكان أمره في حياته مفوضاً إليه، يتصرف فيه بما شاء، ويرده في أمته كما شاء صلى الله عليه وآله وسلم. وروى الإمام أحمد أن أبا الدرداء قال لـعبادة بن الصامت رضي الله عنه: يا عبادة ! كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس؟- يعني ذكرني بما قال -فقال عبادة : (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم، فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول وبرة -من بعير- بين أنملتيه فقال: إن هذه من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم، إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط. وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا؛ فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله تبارك وتعالى القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله بالحضر والسفر، وجاهدوا في سبيل الله؛ فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، ينجي الله تبارك وتعالى به من الغم والهم). قال ابن كثير : هذا حديث حسن عظيم. وفي هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان يصرفه في مصالح المسلمين. أما بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا: فمن قائل: إن سهم النبي عليه الصلاة السلام يكون لمن يلي الأمر من بعده. ومن قائل: بل يصرف في مصالح المسلمين، كالسلاح وغير ذلك. ومن قائل: إنه يصرف لقرابته صلى الله عليه وسلم. ومن قائل: إنه يرد على بقية الأصناف: ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، واختاره ابن جرير . وللمسألة حظ من النظر.

من يصرف لهم سهم ذوي القربى

أما قوله تعالى: (( ولذي القربى )) فأجمعوا على أن المراد بذوي القربى قرابته صلى الله عليه وسلم. وذهب الجمهور إلى أن سهم ذوي القربى يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب خاصة؛ لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية، وكذلك في أول الإسلام، حتى إنهم دخلوا معهم الشعب غضباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لما حاصرت قريش بني هاشم مسلمهم وكافرهم بسبب دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبنو المطلب دخلوا معهم الشعب حمية، وطبعاً المسلمون منهم دخلوا الشعب طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما كفار بني المطلب فإنهم دخلوا معهم الشعب حمية للعشيرة وأنفة وطاعة لـأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل ابني عبد مناف وإن كانوا بني عمهم فلم يوافقوهم، بل حاربوهم ونابذوهم ومالئوا بطون قريش على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا ذمهم أبو طالب في قصيدته التي يقول فيها: جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً عقوبة شر عاجلاً غير آجل بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا بني خلف قيضاً بنا والغياطل يعني: عوضاً بنا، والغياطل هم بنو سهم. ونحن الصميم من ذؤابة هاشم وآل قصي في الخطوب الأوائل يعني: أنه يذم هؤلاء الذين لم يناصروهم. وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (مشيت أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة منك؟ فقال: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد)، رواه مسلم .

كيفيةالتصرف في سهام اليتامى والمساكين وابن السبيل

أما سهم اليتامى فقيل: يخص به فقراء اليتامى؛ لأنه يشترط أن يكون اليتيم فقيراً. وقيل: يعم الأغنياء والفقراء، فما داموا يتامى فلهم سهم منه. والأظهر الثاني، يعني: أنه يعم الأغنياء والفقراء. وأما المساكين فهم المحاويج الذين لا يجدون ما يسد خلتهم ويكفيهم. وأما ابن السبيل فقد ذكرنا معناه أولاً.

وجوب الإيمان بالله عز وجل والانقياد لأوامره

وقوله تعالى: (( إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ )) يعني: اعملوا بما ذكر من توزيع الغنيمة بهذه الكيفية، وارضوا بهذه القسمة، فالإيمان يوجب العمل بالعلم والرضا بالحكم. وقد جاء في الصحيحين قول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: (وآمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله، ثم قال: هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله ألا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم)، فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان. وقوله: (( إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا )) يعني: إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل. (( عَلَى عَبْدِنَا )) أي: محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات والملائكة والنصر. (( يَوْمَ الْفُرْقَانِ )) أي: يوم بدر؛ فإنه فرق فيه بين الحق والباطل. (( يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ )) جمع المؤمنين وجمع الكافرين، فالتعريف للعهد، وكان التقاؤهما يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان، والمؤمنون يومئذٍ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، والمشركون ما بين الألف والتسعمائة، فهزم الله المشركين، وقتل منهم زيادة على سبعين، وأسر منهم مثل ذلك. (( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )) فيقدر على نصر القليل على الكثير، كما فعل بكم يوم بدر.