شرح عمدة الأحكام [52]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه:

[عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الصرف، فلا شفعة) أخرجه البخاري في صحيحه].

تعريف الشفعة

هذا الحديث يتعلق بالشفعة في الشركات، واشتقاقها من الشفع، وهو من العدد الزوج؛ لأن سهم الشريك يعتبر واحداً، فإذا ضم إليه سهم شريكه الذي باعه أصبح اثنين، أي: أصبح شفعاً بعد أن كان وتراً، وبذلك سميت شفعةً، حيث إنه يشفع سهمه بسهم شريكه.

وصورتها: أن يكون بين اثنين بيتٌ أو أرضٌ أو دكانٌ أو نحو ذلك، كلاهما يملك نصفه، فيبيع أحدهما نصفه على طرفٍ ثالث، فإذا علم الشريك فإنه أحق بذلك السهم الذي باعه شريكه، حتى يكون الشقص الذي بيع ملكاً له، وحتى يكون ذلك العقار كله ملكاً له خالصاً، ويزول عنه ضرر الشركة؛ وذلك لأن العادة أن الإنسان يتضرر بالشراكة، ويحب أن يكون الملك له خالصاً لا يزاحمه فيه أحد، بل يتصرف فيه كما يشاء دون أن يكون هناك من يضايقه في ملكه أو في تصرفه.

شرعت الشفعة لإزالة ضرر الشراكة

عادةً أن الأرض المزروعة مثلاً أو الدكان المشترك إذا كان بين اثنين أو ثلاثة أو نحوهم، فإن التصرف لا يكون متوافقاً غالباً، بل يكون هذا له نظر، وهذا له نظرٌ، فتختلف آراؤهم، وتختلف وجهاتهم، وكل منهم يزعم أن نظره هو السديد، وأن رأيه هو الصواب، فيختلفون عند ذلك، ويتمنى كل واحد منهم أن يكون بعيداً عن هذه المشاركة، وأن يكون مستقلاً بملك يتصرف فيه التصرف التام بحيث لا يعقبه أحدٌ.

وقد ذكر الله عادة الشركاء فقال تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص:24] يعني: عادةً أن الخلطاء بعضهم يعترض على البعض وينتقده لشيء من تصرفه، وهذا الانتقاد يسيء إليه؛ لأنه يحب أن تكون إشارته ونظره وتصرفه ليس فيها ما ينتقد، فلأجل ذلك شرعت الشفعة؛ لإزالة ضرر المشاركة وضرر المخالطة عن الشريك، هذا هو السبب في شرعيتها.

ومعلومٌ أن الشراكة قد يكون فيها خير، وأن الشركاء قد يعملون ما لا يعمله الأفراد، وقد يعجز الإنسان بمفرده فيحتاج إلى من يشاركه في أمر من الأمور، فإذا أراد مثلاً زرعاً ولم يستطع أن يشتري الأدوات ولا يشتري الأرض الزراعية، فيحتاج أن يشاركه فلانٌ وفلان حتى يجتمع من رأس مالهما ما يكونان قادرين معه على شراء المعدات والأدوات الزراعية التي ينتجون منها، بخلاف ما لو كان واحداً.

ثم بعد ذلك قد ينتقد بعضهم بعضاً في التصرف، فيؤدي ذلك إلى أنهم إما أن يقتسموا، وإما أن يبيع بعضهم سهمه على شركائه، وإما أن يبيع على غيرهم، فإذا باع سهمه على غيرهم فإنهم أحق به بثمنه، وهو ما يسمى بالشفعة.

ما لا تدخله الشفعة

الشفعة لا تكون في المنقولات، وذلك لعدم الضرر فيها؛ لأن العادة أن المنقول يمكن بيعه على طرفٍ ثالث، وقسمة ثمنه.

وكذلك لا تكون فيما ينقسم بالأجزاء، وذلك لسهولة قسمه، وانفراد كلٍ منهم بنصيبه، فإذا كان بينهما أكياس برٍ أو أكياس أرز أو سكر أو نحو ذلك، فباع أحدهما نصفها، فليس للآخر أن يشفع؛ وذلك لأنها من المنقول، والمنقول يسهل قسمته؛ لأنه قبل بيع شريكه يقدر أن يقتسما وأن يقول: هذه الأكياس العشرة نقتسمها لي خمسة، ولك خمسة، أو هذا الكيس الذي فيه أربعون صاعاً نقتسمه لي عشرون، ولك عشرون، فلا شفعة في المكيل والموزون ونحو ذلك.

وإذا كان بينهم ثياب يمكن أن يقتسموها أو يبيعوها ويقتسموا ثمنها، فإذا كان بينهم شيء ينقل كسلاح، أو سيارة، أو دواب كإبل أو غنم أو نحو ذلك، فهذه لا حاجة إلى الشفعة فيها، وما ذاك إلا أنها يمكن تجزئتها ويمكن بيعها، فإن احتاجوا إلى توزيعها أمكنهم تقييمها، فيقولون: قيمة هذا البعير مائة لك أو لي، أو نبيعه ونقتسم ثمنه، قد لا يقدرون على قسمه وهو حي، فالبعير مثلاً لا يقسم إلا لحماً، وكذلك الشاة ونحوها، ولكن قد يبيعونه ويقتسمون ثمنه، فمثل هذا لا شفعة فيه، أي أن المنقولات التي يمكن نقلها لا شفعة فيها، لسهولة توزيعها، وكذلك المعدودات لا شفعة فيها، وهي التي تعد عدداً كدواب وغنم مشتركةٌ بينهما ونحوها، فيمكن توزيعها وقسمتها دون أن يحتاج إلى أن يشفع الذي لم يبع.

وبكل حال فالشفعة إنما شرعت في العقارات ونحوها؛ لإزالة الضرر؛ لأنه لا يمكن إزالة الضرر عن المشرك إلا بالشفعة.

لزوم الشفعة

وقد ذكروا أنه إذا طلب الشريك القسمة فيما يمكن قسمه أجبر على قسمه، فإذا كانت الأرض التي بينهما يمكن أن تقسم، ولا يحصل في قسمتها ضررٌ على واحد منهما؛ أجبر الآخر على القسم، كأن تكون مزرعة كبيرة مساحتها ألف متر أو ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف أو نحوها، فهذه تنقسم، ولا ضرر على من أخذ نصفها، ففي إمكانه أن يزرع، وفي إمكانه أن يغرس، وفي إمكانه أن يحرث، وفي إمكانه أن يبيع أو يبني، فيلزم بقسمتها.

أما إذا كانت صغيرة، كما إذا كان بينهما دكان صغير طوله مثلاً ثلاثة أمتار، وعرضه متر أو متر ونصف، وطلب أحدهما أن يقسم هذا الدكان، فلا شك أنه إذا قسم قل نفعه، فإذا قسمناه وجعلنا لكل واحد ٍمنهما سبعون سم -مثلاً- فماذا ينتفع به، فلا يقسم إلا بتراضيهما، إذا رضي كل منهما.

أما إذا لم يرض فيقال له: إما أن تبيع، وإما أن تقسم، إما أن تبيع سهمك أو تشتري سهم شريكك، أو ترضى بالقسمة ولو كان عليك فيها ضرر؛ وذلك لإزالة ضرر الشراكة، الشريك مثلاً قد يقول: أنا ما انتفعت بهذا الدكان، أريد أن أبيعه، فإما أن تشتريه مني وإما أن تتركني أبيعه على غيرك، وإما أن تأخذ سهمي وتعطيني ثمنه مثلاً، وإما أن تقسمه؛ فهذا بلا شك يلزمه، أما الشيء الذي لا ضرر عليه فيه، فإنه لا بأس بقسمته، وتلزم قسمته عند الطلب.

ما تدخله الشفعة

الشفعة تثبت في العقار، والعقار يعم المزارع والدكاكين والمساكن والبساتين؛ كل هذه فيها الشفعة، فإذا كان البستان بين اثنين أو بين ثلاثة فباع أحدهم نصيبه فإن لصاحبه ولشريكه انتزاع ذلك الشقص من المشتري بثمنه؛ وذلك لأنه أحق به.

مثلاً: إذا كانت المزرعة بين اثنين، فباع أحدهما نصفه بخمسين ألفاً، فإن الشريك يقول: أنا أحق بها، وأنت أيها المشتري طرف ثالث، فخذ الخمسين التي دفعتها، والملك يبقى لي كله، حتى أسلم من ضرر المشاركة، قد لا تناسب أنت معي؛ قد لا يمازج طبعك طبعي.

كذلك لو كان الملك بين ثلاثة لكل منهما ثلثه، فباع أحدهم ثلثه، فالآخران لهما الخيار إما أن ينتزعا هذا الثلث الذي بيع لكل منهما نصف الثلث؛ ليكون الملك بينهما، وإما أن يأخذه أحدهما ليكون له الثلثان وللآخر الثلث، وإما أن يتركاه للمشتري ويبقيا على نصيبهما، ويدخل المشتري معهما وينزل منزلة البائع.

الشفعة في المشاع

تكون الشفعة إذا كان الملك مشاعاً، والملك المشاع: هو أن تكون هذه البقعة مملوكة للشركاء، كل واحد يملك جزءاً منها، يقول: هذا المنزل لي نصفه، وهذا الدكان لي نصفه، وهذه البقعة لي نصفها؛ كل جزء منها لك نصفه، هذا معنى كونه مشاعاً، يعني: أن ملكه شائع فيها.

يقول: إنه صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة، يعني: بعد القسم، لو أن الشريكين اتفقا على القسم، فقسما الأرض بينهما نصفين، وحدد كل واحد نصفه بحدود، وهي الرسوم والنصب التي ينصبونها لتميز نصيب هذا من هذا، أو اتفقا على بناء جدار فاصل بينهما، ثم كل منهما عرف طريقه: هذا طريقه من هنا، وهذا طريقه من هنا، ملك هذا من هنا، وملك هذا من هنا، وفصل بينهما بفاصل، وبعد ذلك باع أحدهما، لم يقدر الآخر على الشفعة؛ لأنه لم يعد شريكاً، بل كل منهما ملكه مستقل، ولو كان شريكاً في الفاصل أو الحاجز أو الجدار فلا يعد هذا شراكة.

هذا معنى كونه حددت الطرق، أي: بينت وأظهرت وصرفت الطرق ووقعت الحدود، وعلم كل واحد نصيبه.

وكذلك لو كان بينهما داراً واسعة اتفقا على قسمتها، فاقتسماها نصفين، وجعل هذا نصفه شرقاً، وهذا نصفه غرباً، وحجزا بينهما بحائط، وجعل هذا له فتحةٌ على الطريق وهذا له فتحة، وهذا له باب من هنا، وهذا له باب من هنا، ثم باع أحدهما جزأه، لم يقدر شريكه سابقاً على أن يشفع؛ وذلك لكونه لا ضرر عليه بعد هذه القسمة.

متى يشفع الجار؟

كل شيء قسم وتصرف كل منهما في نصيبه، لا شفعة فيه بعد ذلك، إلا إذا بقي بينهما شيء مشترك ينتفعان به جميعاً غير الطريق، فإن له أن يشفع، فإذا كان بينهما هذه الغرفة، أو اقتسما الدور الأرضي، وبقي العلوي مشتركاً بينهما، أو بقيت في الدار غرفةٌ مشتركة كالمجلس الكبير مثلاً لم يزل مشتركاً، فإن له الشفعة، وكذلك لو كانا مشتركين في مرفق من المرافق، كأن اشتركا مثلاً في بيارةٍ بينهما أو في بئر يسقيان منها جميعاً، هذا يسقي منها، وهذا يسقي منها، وباع أحدهما نصيبه منها، فإن للآخر الشفعة.

وبكل حالٍ شرعت الشفعة؛ لأجل إزالة الضرر، وذلك بأن يبيع شريكك نصيبه من هذا العقار، فتقول: أنا متضرر بشراكتك، فكيف تأتيني بشريكٍ آخر لا أعرفه، فأنا أحق بها، فتعطي المشتري قدر المال الذي اشترى به ويكون العقار كله ملكاً لك، وتكون سالماً من ضرر المشاركة.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام [4] 2580 استماع
شرح عمدة الأحكام [29] 2579 استماع
شرح عمدة الأحكام [47] 2517 استماع
شرح عمدة الأحكام [36] 2499 استماع
شرح عمدة الأحكام 6 2438 استماع
شرح عمدة الأحكام 9 2368 استماع
شرح عمدة الأحكام 53 2354 استماع
شرح عمدة الأحكام [31] 2337 استماع
شرح عمدة الأحكام 7 2328 استماع
شرح عمدة الأحكام 56 2327 استماع