أرشيف المقالات

توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (12)

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (12)
الحديث الثاني عشر


عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبُونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاس: الصِّحَّةُ، والفراغُ)) [1].

توجيهات وتحقيقات الحديث:
قدَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسندَ ((نِعمتان)) على المسنَد إليه ((الصحَّة والفراغ))؛ للتشويق إلى ذِكر المسنَد إليه؛ حتى يتمكَّن في ذهن السامع أفضل تمكُّنٍ.
 
قوله صلى الله عليه وسلم: ((مغبون)) استعارَة تبعيَّة إن كان من الغَبْن بمعنى الخداع في البيع، ويجوز أن يكون مجازًا مرسلاً عن الضَّرر اللازم للخداع لعلاقة اللزوم، ويجوز أن يكون حقيقة إن كان من الغَبَن بفتح الباء، وهو ضَعف الرأي.
 
والاستعارة التبعيَّة فيه بتشبيه إِساءة التصرف في النعمتين بالغَبن في البيع، ثمَّ استعارة لفظ المشبَّه به للمشبَّه واشتقاق مغبون منه بمعنى مسيء التصرف.
 
وقد يُقال: كيف يكون الفراغ نعمة مع أنَّه بمعنى الخلو عن العمل، وقد يكون نقمة؟!
والجواب: أنَّ الفراغ في الحديث لا يُراد منه حقيقته فقط، وإنَّما هو كناية عن الاستغناء بالمال؛ ولهذا قال ابن بطَّال: معنى الحديث أنَّ المرء لا يكون فارغًا حتى يكون مكتفيًا صحيح البدن.
اهـ[2]، وقد ورد في الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر، أترى كثرةَ المال هو الغنى؟))، قلتُ: نعم يا رسول الله، قال: ((فترى قِلَّة المال هو الفقر؟))، قلتُ: نعم يا رسول الله، قال: ((إنَّما الغِنى غنى القلب، والفقر فَقْر القلب))[3].

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وإنما يحصل غِنى النَّفس بغنى القلب؛ بأن يفتقر إلى ربِّه في جميع أموره، فيتحقَّق أنَّه المعطِي المانع؛ فيرضى بقضائه، ويشكره على نعمائه، ويفزع إليه في كَشْف ضرَّائه، فينشأ عن افتقار القلب لربِّه غِنى نفسه عن غير ربِّه تعالى"[4]

وقيل: عدَّ بعض الصوفية كلاًّ من الصحَّة والمال نِقمة مع عدِّهِ في الحديثِ نعمة، فما حقيقة هذا القول؟!
والجواب: يرى الصوفية أنَّ الإنسان مركب من نَفس وجسم، وأنَّ النَّفس هبطت إلى الجسم من عالمها الأعلى فحجبَها عنه، ولا سبيل إلى وصولها إليه إلا بإضعاف الجسم ليمكنها التخلُّص منه، وبهذا عملوا على إضعافه بالرياضة الشاقَّة من الجوع ونحوه مما يُضعفه.
 
وقد جرَّهم هذا إلى إيثار عيشة الفَقْر حتى سمَّوا أنفسَهم "فقراء"، وكان لهذا أسوأ أثرٍ في حياة المسلمين حينما نظروا إلى الصوفيَّة على أنَّهم المثل الأعلى في الإسلام.
 
والحقُّ أنَّ الإسلامَ ينظرُ إلى الفقر بخلاف نظر الصوفيَّة إليه؛ بل إنَّ الفقر فيه يكاد يؤدي إلى الكفر، وقد قال فيه بعضُ كبار الصحابة: "لو تمثَّل لي الفقر رجلاً، لقتلتُه".
 
قال ابن الجوزي رحمه الله[5]: فمَن استعمل فراغَه وصحَّته في طاعة الله فهو المغبوطُ، ومَن اسْتعملهما فِي معصية الله فهو المغبونُ.
 
لأنَّ الفراغ يعقبه الشُّغل، والصِّحة يعقبها السُّقم، ولو لم يكن إلاَّ الهرم، كما قيلَ:

يَسُرُّ الفتى طولُ السَّلامَة وَالبَقا
فكيف تَرى طُول السَّلامة يَفعَلُ

يَرُدُّ الفَتى بَعْد اعتدَالٍ وصِحَّة
يَنُوء إذا رامَ القِيام وَيُحمَل

[1] رواه البخاري في صحيحه 8/ 88 حديث رقم (6412).

[2] فتح الباري (11/ 273).

[3] حديث صحيح؛ أخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 2/ 461 حديث رقم 685).

[4] يُنظر: فتح الباري (11/ 273).

[5] المصدر السابق.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١