أرشيف المقالات

مدينة زائفة!

مدة قراءة المادة : 3 دقائق .
للدكتور عبد الوهاب عزام قال صاحبي، وأنا أسايره في شارع الكورنيش ليلة من ليالي الصيف: (ما أجمل هذه المدينة! أنظر هذا المهيع الممهد ما بين رأس التين والمنتزه مشرفا على لجة يمعن فيها البصر والفكر إلى غير غاية.
وأنظر هذه الأبنية الهائلة الشامخة تزحم السحاب بذراها، وتقابل السماء بمثل نجومها، وتنسج في الأمواج أشعتها، وتأمل هذا العقد من المصابيح الكبيرة، يطوق هذا الخليج الجميل.
والسيارات تطوي الأرض ذات اليمين وذات الشمال، فيها المصطافون قد أخذوا من الحياة متعتها، واهتبلوا من الأيام فرصتها، والحان الموسيقى تتدفق من هذه الأندية والمراقص فتموج في الهواء، حتى تختلط بأمواج الدأماء.
وهذا البحر الزاخر من الناس، والمحافل المزدحمة بشتى الأجناس يحوطها النظام، ويهيمن عليها القانون والسلطان، ويرقبها الشرط والعسس، كل آخذ بحقه مأخوذ بعدوانه، يا أخي لقد استبحر العمران، وشمل الناس الأمان، وأمكنهم العيش السعيد، واسلس لهم الزمان العصى، وأطلعت لهم المدنية من النعيم ألوانا، وأنبتت لهم من اللذات أفنانا - يا أخي إنها لمدينة.
ثم صمت صاحبي، وتمادى بنا المسير حتى ملنا ذات الشمال إلى محطة الرمل فمررنا بباب القنصلية الايطالية، فرأيت بجانب الجدار شبحين ضئيلين فاقتربت أنعم النظر فيهما فإذا طفلان نائمان، جلس أحدهما القرفصاء واعتمد بجانبه على الجدار، وتمدد الآخر على الأرض عرضة لأقدام السابلة، قلت: وا رحمتاه! طفلان شريدان ألجأهما الشقاء إلى هذا الجدار! ويعلم الله ما بهما من السغب والنصب وما لقيا في يومهما وأمسهما، وما يلقيان في غدهما.
قال صاحبي: (لا تعجب فأمثال هذين كثير يعثر بهم السائر حيثما ذهب) فأنقلب الأسى في نفسي غضبا على صاحبي قلت: (أرأيتك مدينتك هذه العظيمة، وطرقها المعبدة، وقصورها الشاهقة، ومصابيحها المتلألئة، وسياراتها الخاطفة، ومصطافيها الناعمين، ومراقصها اللاهية، وأنديتها الحافلة!! - أرأيتك القانون والسلطان، والنظام والشرطة والعسس، وهذا العمران المستبحر، والسعادة التي شملت الناس، وألوان النعيم التي طلعت بها المدنية، والعيش الخفض، والزمان المواتي، ومدنيتك الرائع الفاتنة! أليس في هذه المدينة العظيمة لهذين الطفلين سعة؟ أليس في هذا العمران لهذين الطفلين مأوى؟ أليس في هذه القوانين لهذين الطفلين حماية؟ أليس في هذا النظام لهذين الطفلين موضع؟ أليس في هذه المدنية لهذين الطفلين لون واحد من الحياة؟ أليس في هذه القلوب لهذين الطفلين مرحمة - يا صاحبي! حسبك حسبك! لا تحدثني عن المدنية ونعيمها، لا تخدعني بالمدنية وقوانينها! أنها لمدنية زائفة! عبد الوهاب عزام

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن