تفسير سورة البقرة [135-143]


الحلقة مفرغة

الإسلام كان وصية إبراهيم لبنيه ويعقوب، ومع هذا لم يمتثل اليهود هذا التوجيه وهذا النصح، ولم يهتدوا بالأصفياء من أسلافهم، وإنما صاروا دعاة إلى الكفر، قال تبارك وتعالى: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135] مع كل هذا الذي ذكره الله سبحانه وتعالى من شأن التوحيد وملة إبراهيم عليه السلام لم يمتثلوا الهداية، وإنما صاروا دعاة إلى الكفر! يقول السيوطي رحمه الله عند قوله تعالى: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا): أو هنا للتفصيل، يعني: قالت اليهود: كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى، وقائل الأول (كونوا هوداً) هم يهود المدينة، وقائل الثاني (كونوا نصارى) هم نصارى نجران. (قل بل ملة إبراهيم حنيفاً) قل لهم: بل نتبع ملة إبراهيم، يعني لن نتبعكم أنتم في دعوتكم إلى اليهودية أو النصرانية، بل نتبع ملة إبراهيم، فلذلك نصب بتقدير فعل نتبع، أي بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً، وحنيفاً: حال من إبراهيم، يعني مائلاً عن الأديان كلها إلى الدين القيم. (وما كان من المشركين) هذه تبرئة لإبراهيم الخليل عليه السلام من الشرك. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (وقالوا) أي: الفريقان من أهل الكتاب (كونوا هوداً) يعني قالت اليهود: كونوا هوداً تهتدوا، والنصارى قالوا: كونوا نصارى تهتدوا. قوله تعالى: (قل بل ملة إبراهيم) بل نتبع ملة إبراهيم، ونهتم بسنته، ولا نتحول عنها كما تحولتم.

معنى الحنيف في اللغة

(حنيفاً) يعني: نتبع إبراهيم حال حنيفيته، مستقيماً أو مائلاً عن الباطل إلى الحق، لأن الحنَف محركة يطلق على الاستقامة، ومنه قيل للمائل الرجل: أحنف، كما هو الحال في الطفل الذي يصاب بالكساح في عظامه، فيحصل تقوس وميل وانحراف في ساقيه، فهذا هو الحنف، فالعرب يسمون الرجل المائل أو الشيء المائل حنيفاً أو أحنف، وهذه عادة العرب كما يسمون اللديغ سليماً تفاؤلاً له بالسلامة، وأن تئول حاله وعاقبته إلى السلامة، فكذلك أطلقوا على الرجل المائل أحنف تفاؤلاً باستقامة حاله، وكذلك المكان المهلك يسمونه مفازة، يعني منجاة، تفاؤلاً أن تنتهي به إلى النجاة، ويطلق الحنف أيضاً في اللغة على الاستقامة، فالحنيف المستقيم على إسلامه لله تعالى؛ المائل عن الشرك إلى دين الله سبحانه وتعالى، وهذا المصطلح يتكرر كثيراً جداً في القرآن وفي السنة، فعلينا أن نهتم به اهتماماً زائداً، والحنيف فيها قولان: أحدهما: أنه المائل إلى العبادة، الذي يميل عن الدنيا واللهو إلى العبادة. قال الزجاج : الحنيف في اللغة المائل إلى الشيء، أخذاً من قولهم: رجل أحنف، وهو الذي تميل قدمه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها، قالت أم الأحنف ترققه وتقول له: والله لولا حنف برجله ودقة في ساقه من هزله ما كان في فتيانكم من مثله هذا المعنى الأول، الحنيف المائل إلى العبادة. المعنى الثاني: الحنيف يعني المستقيم، ومنه قيل للأعرج: حنيفاً، نظراً له إلى السلامة. وقيل: الحنيف المخلص الذي يوحد الله ويحج ويضحي ويستقبل الكعبة.

شرك اليهود والنصارى

لما أثبت الله إسلام إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالحنيفية نفى عنه غيره بقوله: (وما كان من المشركين)، وفيه تعريض بأهل الكتاب، وإيذان ببطلان دعواهم باتباعه عليه السلام مع إشراكهم بقولهم: (عزير بن الله والمسيح ابن الله)، وهذا شرك. وقد أفادت هذه الآيات الكريمة أن ما عليه الفريقان محض ضلال وارتكاب بطلان، وأن الدين المرضي عند الله الإسلام، وهو دعوة الخلق إلى توحيده تعالى وعبادته وحده لا شريك له، ولما خالف المشركون هذا الأصل العظيم بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين بدعوة الناس جميعاً إلى هذا الأصل، ولهذا أردف الله تبارك وتعالى قولهم هذا بقوله: (قولوا آمنا) وهذا أمر بالتوحيد.

(حنيفاً) يعني: نتبع إبراهيم حال حنيفيته، مستقيماً أو مائلاً عن الباطل إلى الحق، لأن الحنَف محركة يطلق على الاستقامة، ومنه قيل للمائل الرجل: أحنف، كما هو الحال في الطفل الذي يصاب بالكساح في عظامه، فيحصل تقوس وميل وانحراف في ساقيه، فهذا هو الحنف، فالعرب يسمون الرجل المائل أو الشيء المائل حنيفاً أو أحنف، وهذه عادة العرب كما يسمون اللديغ سليماً تفاؤلاً له بالسلامة، وأن تئول حاله وعاقبته إلى السلامة، فكذلك أطلقوا على الرجل المائل أحنف تفاؤلاً باستقامة حاله، وكذلك المكان المهلك يسمونه مفازة، يعني منجاة، تفاؤلاً أن تنتهي به إلى النجاة، ويطلق الحنف أيضاً في اللغة على الاستقامة، فالحنيف المستقيم على إسلامه لله تعالى؛ المائل عن الشرك إلى دين الله سبحانه وتعالى، وهذا المصطلح يتكرر كثيراً جداً في القرآن وفي السنة، فعلينا أن نهتم به اهتماماً زائداً، والحنيف فيها قولان: أحدهما: أنه المائل إلى العبادة، الذي يميل عن الدنيا واللهو إلى العبادة. قال الزجاج : الحنيف في اللغة المائل إلى الشيء، أخذاً من قولهم: رجل أحنف، وهو الذي تميل قدمه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها، قالت أم الأحنف ترققه وتقول له: والله لولا حنف برجله ودقة في ساقه من هزله ما كان في فتيانكم من مثله هذا المعنى الأول، الحنيف المائل إلى العبادة. المعنى الثاني: الحنيف يعني المستقيم، ومنه قيل للأعرج: حنيفاً، نظراً له إلى السلامة. وقيل: الحنيف المخلص الذي يوحد الله ويحج ويضحي ويستقبل الكعبة.

لما أثبت الله إسلام إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالحنيفية نفى عنه غيره بقوله: (وما كان من المشركين)، وفيه تعريض بأهل الكتاب، وإيذان ببطلان دعواهم باتباعه عليه السلام مع إشراكهم بقولهم: (عزير بن الله والمسيح ابن الله)، وهذا شرك. وقد أفادت هذه الآيات الكريمة أن ما عليه الفريقان محض ضلال وارتكاب بطلان، وأن الدين المرضي عند الله الإسلام، وهو دعوة الخلق إلى توحيده تعالى وعبادته وحده لا شريك له، ولما خالف المشركون هذا الأصل العظيم بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين بدعوة الناس جميعاً إلى هذا الأصل، ولهذا أردف الله تبارك وتعالى قولهم هذا بقوله: (قولوا آمنا) وهذا أمر بالتوحيد.

قال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (قولوا) هذا خطاب للمؤمنين (آمنا بالله) وحده (وما أنزل إلينا) من القرآن (وما أنزل إلى إبراهيم) وهي الصحف العشر (وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) التفسير المشهور في الأسباط أنهم أولاد يعقوب عليه السلام، لكن القاضي محمد كنعان صاحب حاشية قرة العينين أتى بتنبيه يتعلق بأولاد يعقوب فقال: أولاد يعقوب وهو إسرائيل عليه السلام، اتفق العلماء على أن يوسف بن يعقوب نبي، أما إخوته فقد قال بعضهم: إنهم أنبياء، ودليلهم على ذلك: أنهم هم المعنيون بقوله تعالى: (والأسباط) الذين هم أولاد يعقوب عليه السلام. ولكن الصواب: أن إخوة يوسف العشرة، ما عدا بنيامين ليسوا بأنبياء قطعاً؛ لأن ما صدر عنهم نحو أخيهم يوسف ووالديهم لا يصدر مثله من أنبياء، بل ولا يرضون بمثله، والأنبياء معصومون من مثل هذه الأشياء الشنيعة التي فعلها إخوة يوسف عليه السلام به وبأبيهم. قال القاضي عياض في الشفا: وأما إخوته فلم تثبت نبوتهم، وقال ابن كثير : لم يقم دليل على نبوتهم، وبمثله قال القرطبي والرازي ، وقال السيوطي في رسالة سماها: رفع التعسف عن إخوة يوسف: لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين نبوتهم، وقال ابن كثير : ومن استدل على نبوتهم بقوله تعالى: ( والأسباط ) فليس استدلاله بقوي؛ لأن المراد بالأسباط شعوب بني إسرائيل، وكان يوجد فيهم من الأنبياء الذين نزل عليهم الوحي من السماء. فبطون بني إسرائيل يقال لهم: أسباط، كالقبائل في العرب، وكالشعوب في العجم، ولا وجه لتفسير الأسباط بأولاد يعقوب لصلبه، بل هي تعني الجماعات الكثيرة. ( وما أوتي موسى ) يعني من التوراة (وعيسى) من الإنجيل (وما أوتي النبيون من ربهم) من الكتب والآيات، (لا نفرق بين أحد منهم) فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كاليهود والنصارى (ونحن له مسلمون). قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم) بين الله عز وجل في سورة الأعلى أن الذي أنزل إلى إبراهيم كان صحفاً، كما قال: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى:18-19] أما صحف موسى فهي التوراة. (قُولُوا) يعني: أيها المؤمنون، وفيه إظهار لمزية فضل الله عليهم، حيث يلقنهم ولا يستنطقهم. (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ) يعني: آمنا بالأحكام التي كانوا متعبدين بها، (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى) من التوراة كما قال: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [الأنعام:154] وهي التوراة بالإجماع، وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ [الحديد:27]. (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني ذكرهم وذكر وغيرهم، (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) في الإيمان، وليس هذا في التفضيل؛ لأنه ثبتت المفاضلة بين الأنبياء فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، ورسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فضل على سائر الأنبياء والمرسلين في الدنيا وفي الآخرة، فمعنى (لا نفرق بين أحد منهم) يعني: في الإيمان، نؤمن بهم جميعاً، ولا نكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى حيث كفر اليهود بعيسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام، وكفرت النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم. (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي: منقادون، وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا). وتلقين الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بأن يقولوا هذه الشهادة العظيمة فيه إظهار لمزية فضل الله عليهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى يلقنهم ماذا يقولون تعبيراً عن إيمانهم وعقيدتهم في هذه الأمور الجسيمة. وقد بين تبارك وتعالى في موضع آخر أن المؤمنين استجابوا لهذا الأمر، وفعلوا ذلك، وامتثلوا تكليف الله سبحانه وتعالى لهم، فهنا قال: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]؛ فبين في آخر سورة البقرة أنهم امتثلوا هذا الأمر بقوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285].. إلى آخر الآيات، وذكر جزاءهم على ذلك في آية أخرى فقال عز وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:152].

يقول تبارك وتعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137] (فإن آمنوا) أي: اليهود والنصارى، (بمثل ما آمنتم به) يقول السيوطي: مثل زائدة، والمقصود: فإن آمنوا بالذي آمنتم به، (فقد اهتدوا وإن تولوا) عن الإيمان به، (فإنما هم في شقاق) أي: في خلاف معكم، (فسيكفيكهم الله) يعني: سيكفيك الله -يا محمد صلى الله عليه وسلم- شقاقهم، (وهو السميع) لأقوالهم، (العليم) بأحوالهم، وقد كفاه إياهم بقتل بني قريظة ونفي بني النضير وضرب الجزية عليهم.

قوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة:138] هذا مصدر مؤكد لآمنا، ونصبه بفعل مقدَر، يعني صبغنا الله صبغة الله، فصبغنا الله بهذا التوحيد الذي نحن عليه، والمراد دينه الذي فطر الناس عليه، يقول السيوطي: والمراد بها دينه الذي فطر الناس عليه لظهور أثره على صاحبه كالصبغ في الثوب، أليس الثوب إذا صبغته وغمسته في لون معين ينصبغ بهذا اللون ويظهر عليه أثره؟! كذلك نحن فطرنا الله على التوحيد، وظهر علينا أثر هذا التوحيد باعترافنا بتوحيد الله تبارك وتعالى. وَمَنْ أَحْسَنُ [البقرة:138] يعني: لا أحد أحسن من الله صبغة، صِبْغَةً [البقرة:138] هنا تمييز، وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138]. قوله تعالى: (صبغة الله) كأنه قيل صبغنا الله صبغة، أي: صبغ قلوبنا بالهداية والبيان صبغة كاملة لا ترتفع بالشبه، ولا تغلب صبغة غيره عليها، فصبغة الإسلام والتوحيد لا يمكن أبداً أن تتغير أو تتبدل أو يحل غيرها محلها، والصِبغة بالكسر ما يصبغ به وتلون به الثياب، فوصف الإيمان بذلك لكونه تطهيراً للمؤمنين من أوضار الكفر وحمية وتنزيهاً لهم بآثاره الجميلة، ومتداخلاً في قلوبهم، كما أن فعل الصبغ بالنسبة إلى الثوب كذلك، يقال: صبغ يده بالماء غمسها فيه، يقول ثعلب: دع الشر وانزل بالنجاة تحرزاً إذا أنت لم يصبغك في الشر صابغ وقال الراغب : الصبغة إشارة من الله عز وجل إلى ما أوجده في الناس من بدائه العقول التي ميزنا بها من البهائم، ووشحنا بها. صبغنا بالفطرة وبالعقل كي يقودنا هذا العقل إلى التفكر والوصول إلى التوحيد، ووشحنا بها لمعرفته ومعرفة حسن العدالة وطلب الحق، وهو المشار إليه بالفطرة في قوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30]، وهو المعني بقوله عليه السلام: (كل مولود يولد على الفطرة)، وتسمية ذلك بالصبغة من حيث أن قوى الإنسان التي ركب عليها تجري مجرى الصبغة التي هي زينة المصبوغ. ولما كانت النصارى إذا لقنوا أولادهم النصرانية يقولون: صبغناه، وهو التعميد، فهم يصبغون المولود في الماء المقدس عندهم، والذي لا يغمس في هذا الماء فإنه لا تصح نصرانيته، ولا يدخل الملكوت الأحمر! فبين تعالى أن الإيمان بمثل ما آمنتم به هو صبغة الله وفطرته التي ركزها في الخلق، ولا أحد أحسن صبغة من الله تبارك وتعالى، وقال بعض المفسرين كـالحسن وقتادة ومجاهد : (صبغة الله) دين الله، وقال بعضهم: إنها الشريعة، وقال بعضهم: هي الختان، وهي إشارة إلى مغزى واحد؛ لأن الختان من مقتضى هذه الشريعة. (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) استفهام للإنكار وللنفي، يعني لا صبغة أحسن من صبغته تعالى؛ لأنها صبغة قلب لا تزول لثباتها لما تولاها الحفيظ العليم، وهذه الصبغة من نوع الصبغات التي لا تزول أبداً؛ لأنها فطرة الله، ومن يصبغ مثل ما صبغنا الله؟! هو الذي صبغنا بالتوحيد والإسلام، بخلاف هذه الصبغة التي يفعلها هؤلاء؛ فيصبغ الله قلوبنا بالتوحيد صبغة لا تزول لثباتها؛ لأن الذي يتولاها هو الحفيظ العليم، فلا يرتد أحد عن دينه سخطة له بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه، ولذلك كان من ضمن أسئلة هرقل لـأبي سفيان في شأن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ أي: هل يوجد من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه بعدما يدخل في الإسلام ينتكس ويرتد عنه؟ فذكرت أن لا، يعني لا أحد من الصحابة رضي الله عنهم يرتد بعد أن يدخل في الإسلام، ثم قال: وسألتك هل يرتد أحد منهم بعد أن يدخل فيه سخطة عليه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب. فهذا فيه إشارة إلى نفس هذا المعنى الذي نذكره الآن. (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) يعني هذه الصفة لا تزول بتوفيق الله تبارك وتعالى، فهذا فيه معنى الابتهاج والفخر والاعتزاز بهذه الصبغة، فتباً وسحقاً للذين يريدون أن يحرفونا عن صبغة الله التي اصطفاها لنا، وهي الشرف بهذا الإسلام وباتباع خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام. وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138] يعني: شكراً له على هذه النعمة أن فطرنا على التوحيد، وصبغنا بصبغة الإسلام والإيمان، فنحن نشكر الله على نعمته هذه، ونشكر له سائر نعمه بأن نكون له وحده عابدين، ولذلك قال تعالى: (ونحن له عابدون) شكراً لتلك النعمة ولسائر نعمه، فكيف تذهب عنا صبغته ونحن نؤكدها بالعبادة، ونقويها بها؟ والعبادة تزيل رين القلب فينطبع فيه صورة الهداية، وهو عطف على (آمنا) داخل معه تحت الأمر (ونحن له عابدون).

قال الله تبارك وتعالى: قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139] قل لهم: (أتحاجوننا) أي: أتخاطبوننا وتجادلوننا (في الله) أن اصطفى نبياً من العرب، ولم يكن هذا النبي من بني إسرائيل؟ (وهو ربنا وربكم)؛ فنحن سواء في هذه العبودية لله، فله أن يصطفي من عباده من يشاء، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68]، ليس لكم الخيرة، فالله سبحانه وتعالى كلنا سواء أمامه في العبودية، وكلنا مربوبون له، فله أن يصطفي من عباده من يشاء سبحانه وتعالى، وهو ربنا وربكم (ولنا أعمالنا) أي نجازى بها (ولكم أعمالكم) تجازون بها، فلا يبعد في أن يكون في أعمالنا ما نستحق به الإكرام، أو في أعمالكم ما تجازون عليه، فكلانا عبد مربوب لله تبارك وتعالى، فلا يبعد بعدما استوينا في هذه الأمور أن يكون في أعمالنا ما نستحق به إكرام ربنا، وقد كان بالفعل، فكانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، (ونحن له مخلصون) في الدين والعمل دونكم، فبالتالي نحن أولى بالاصطفاء. قوله: (قل أتحاجوننا) استفهام إنكاري، والجمل الثلاث أحوال، (أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم)، هذه جملة حال، (ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم)، حال ثانية، (ونحن له مخلصون) حال ثالثة. قوله تعالى: (قل أتحاجوننا) المحاجة المخاصمة في الدين، (قل) منكراً لمحاجتهم وموبخاً لهم عليها، (أتحاجوننا في الله)، أي: أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له، واتباع الهدى، وترك الهوى؟ (وهو ربنا وربكم) يعني المستحق لإخلاص العبودية له وحده لا شريك له ونحن وأنتم في العبودية له سواء (ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم) أي: نحن برآء منكم ومما تعبدون، وأنتم برآء منا، كما قال في الآية الأخرى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس:41]، وقال تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمران:20]. (ونحن له مخلصون) في العبادة والتوجه لا نشرك به شيئاً، بينما أنتم تشركون به عزيراً والمسيح والأحبار والرهبان.

لم يبق من البهت والكذب والافتراء والدعوى إلا أن اليهود يدعون أن أسلافهم كانوا على دينهم، فقال الله تبارك وتعالى موبخاً لهم: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:140]، يقول تعالى: (أم تقولون)؛ (أم) هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، وفيها إضراب عما قبلها، يعني: بل أتقولون، وهي بالياء في قراءة أخرى (يقولون). (قل) قل لهم: (أأنتم أعلم أم الله) والمقصود: أن الله أعلم، وقد برأ إبراهيم بقوله: (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً) فالذي أخبر هو الله سبحانه وتعالى، وهم ما شهدوا هذا الحال، فالله سبحانه وتعالى يبطل دعواهم بأن إبراهيم والمذكورين بعده من أبنائه كانوا هوداً أو نصارى ( قل أأنتم أعلم أم الله ) فالجواب: أن الله أعلم، والله الذي هو أعلم منكم أخبر بأنه: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67] والمذكورون بعده تبع له؛ لأن المذكورين كما اتضح من سياق الآيات من يعقوب وبنيه كانوا جميعاً تبعاً لإبراهيم عليه السلام على ملة الإسلام. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140] كتم يعني أخفى، (شهادة عنده) أي: كائنة عنده، (من الله) أي: لا أحد أظلم من هذا، وهم اليهود الذين كتموا شهادة الله في التوراة لإبراهيم بالحنيفية ولعقيدة التوحيد، (وما الله بغافل عما تعملون)، وهذا فيه تهديد لهم.

قال تبارك وتعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:141]، لما ذكر تعالى حسن طريقة الأنبياء المتقدمين، ولم يدع لليهود متمسكاً من جهتهم؛ أتبع ذلك الإشارة إلى أن الدين دائر مع أمره في كل زمان، وأنه لا ينفعهم إلا ما كانوا عليه بحكم ما تجدد من المنزل المعجز لكافة أهل الأرض أحمرهم وأسودهم. معنى الكلام: عليكم بترك الكلام في تلك الأمة، لا تجادلوا هذه الأمة المحمدية، أو المقصود: عليكم بترك الكلام في تلك الأمة الماضية، ولا تشتغلوا بالكلام بعد كل هذا في إبراهيم وإسماعيل وادعاء أنهما كانوا على اليهودية أو النصرانية، دعوكم من هذا، (تلك أمة قد خلت)، والإشارة إلى المذكورين في قوله: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:140]، عليكم بترك الكلام في تلك الأمة، فلها ما كسبت، وانظروا فيما دعاكم إليه خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك أنفع لكم، وأعود عليكم بالنفع والفائدة، ولا تسألون إلا عن عملكم. قال الراغب : إعادة هذه الآية من أجل أن العادة مستحكمة في الناس صالحهم وطالحهم أنهم يفتخرون بآبائهم ويقتدون بهم في متحرياتهم، سيما في أمور دينهم، ولهذا حكى عن الكفار قولهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، فأكد الله تعالى الكلام هنا بأننا ينبغي ألا نقلد الآباء والأجداد، وألا نفتخر بما كان عليه الآباء والأجداد، وقد ذكر هذا على أثر ما حكى من وصية إبراهيم ويعقوب بنيه بذلك؛ تنبيهاً على أن الأمر سواء كان على ما قلت أو لم يكن، فليس لكم ثواب فعلهم ولا عليكم عقابه، يعني: سواء هذا الذي ذكرناه عن إبراهيم وإسماعيل وقع أو لم يقع، فأنتم غير مسئولين عن أفعالهم، فلا أنتم تثابون بأفعالهم ولا تعاقبون على مخالفاتهم إن فرض ذلك، وإنما: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، هذا لا يعنيكم أنتم، الآن انظروا فيما يدعوكم إليه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ولما ذكر ادعاءهم اليهودية والنصرانية لآبائهم عاب أيضاً عليهم تأكيداً وتنبيهاً على نحو ما قال: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء:13]، وقوله: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21]، وقوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286]، وقوله: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، ولما جرت به عادتهم وتفردت به معرفتهم، يعني كما يقول العرب: كل شاة تناط برجليها، يعني تعلق برجليها، يعني لها حالها المستقل، ولا شأن لها بالآخرين.

قال الله تبارك وتعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (سيقول السفهاء) الجهال (من الناس) الناس المقصود بهم هنا اليهود والمشركون، (ما ولاهم) يعني: أي شيء صرف النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن قبلتهم التي كانوا عليها، أي عن استقبالها في الصلاة وهي بيت المقدس، والإتيان بالسين في: (سيقول) دالة على الاستقبال، وهي من الإخبار بالغيب، فهذا من علامة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. (قل لله المشرق والمغرب) أي: أن الجهات كلها ملك لله، فيأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء فلا اعتراض عليه. (يهدي من يشاء إلى صراط) أي: طريق مستقيم، وهو دين الإسلام، ومنهم أنتم، دل على هذا قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] يعني: أنتم -أيها المخاطبون- خير أمة أخرجت للناس، ومن أجل ذلك جعلناكم أمة وسطاً.

أحاديث تحويل القبلة

روى البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت)، كان يحن إلى قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، إلى الكعبة المشرفة، لكن في البداية صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت (وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه القوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد لله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت)، وهذا يؤخذ منه قبول خبر الواحد، وجواز العمل بخبر الواحد. وروى مسلم عن البراء رضي الله عنه نحو ما تقدم، ولفظه: (صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ثم صرفنا نحو الكعبة). وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بينا الناس في قباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة)، وهذا لفظ مسلم. فالأحاديث في تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة متواترة، وفي هذا كفاية، وهذه الآية دليل واضح وبين على أن في أحكام الله تبارك وتعالى وفي كتابه ناسخاً ومنسوخاً، وهذا مما أجمعت عليه الأمة إلا من شذ، وإنكار الناسخ والمنسوخ هو من البدعة والضلالة ومن الشذوذ عن إجماع أمة المسلمين، فهذه الآية من أوضح الأدلة على وقوع النسخ في أحكام الله تبارك وتعالى.

رد الله على السفهاء منكري تحويل القبلة

أعلم الله تعالى نبيه والمؤمنين أن فريقاً من الناس سينكرون تغيير القبلة، وسماهم سفهاء، فقال: (سيقول السفهاء) جمع سفيه، وهو الخفيف الحلم والأحمق والجاهل، من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، وقال أبو السعود (سيقول السفهاء) أي: الذين خفت أحلامهم وعقولهم بالتقليد والإعراض عن التدبر والنظر. (ما ولاهم) أي: أيُ شيء صرفهم (عن قبلتهم التي كانوا عليها) أي: ثابتين على التوجه إليها، وهي بيت المقدس، ومدار الإنكار يختلف، إن قلنا: إن هؤلاء السفهاء من اليهود فيكون مدار الكلام والإنكار يختلف عما لو قلنا: إن هؤلاء السفهاء هم المشركون، إذا قلنا: إن المقصودين بقوله تعالى: (سيقول السفهاء) اليهود فمدار الإنكار كراهتهم للتحول عن بيت المقدس إلى الكعبة؛ لأنها قبلتهم، واليهود كانوا يحبون ذلك الثبات، أما إذا كانوا غير اليهود من المشركين فمدار الإنكار يراد به الطعن في الدين والقذف في أحكامه. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن القائلين هم اليهود، وعن الحسن : أنهم مشركو العرب، وعن السدي : أنهم المنافقون، قالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها. يقول الإمام الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى بعدما ذكر قول ابن عباس والحسن والسدي: ولا تنافي بين أقوالهم، فكل قد عابوا، وكل سفهاء.

إرهاصات ما قبل تحويل القبلة

قوله تبارك وتعالى هنا: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) سبق أن أشرنا أن سنة الله تبارك وتعالى في الآيات العظام وفي الأمور الجسيمة أن يسبقها بإرهاصات تمهد القلوب لتقبل هذا الأمر الجديد، فهناك أمور عجيبة تحصل قبل وقوع الآية العظمى التي ستأتي، من ذلك مثلاً: إذا راجعنا سورة آل عمران تجد أن الله سبحانه وتعالى قدم بين يدي مولد المسيح عليه السلام من غير أب قصة امرأة عمران وزكريا، وكيف أنها رأت كرامات الله التي كان يكرم بها مريم عليها السلام، قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37]، ثم يقول تعالى: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38] وهذا تمهيد لحدوث الآية العظمى فيما بعد، فلما رأى هذه الكرامة، وأن الله قادر على أن يرزق من يشاء بغير حساب (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) فطمع في رحمة الله، فدعا الله سبحانه وتعالى أن يهب له الولد فوهبه الله الولد مع أنه كان قد طعن في السن، فرزقه الله سبحانه وتعالى يحيى عليه السلام، فهذه إرهاصات ومقدمات تمهد القلوب لما هو أعظم مما سيأتي، وهو ميلاد المسيح عليه السلام، وهو من آيات الله سبحانه وتعالى. كذلك نلاحظ أن بعثة النبي عليه الصلاة والسلام حدث غير مجرى تاريخ البشرية كلها، فتجد إرهاصات كثيرة بين يدي بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، من ذلك: حادثة الفيل فقد ولد في نفس السنة، إشارة إلى أن هذا البيت وهذه البلدة وهذه الكعبة يراد بها أمر عظيم، ولذلك حماها الله سبحانه وتعالى من جيش أبرهة لما أراد هذا البيت وأهله بسوء، فحصلت حادثة الفيل، وهي آية من آيات الله سبحانه وتعالى، لماذا؟ كي تمهد أيضاً القلوب لحدوث مثل هذه المعجزة العظمى، وهذا الأمر المهم، وهو بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك الجن وجدوا أن السماء حرست بالشهب والنيازك، وأنهم لن يستطيعوا أن يسترقوا السمع كما كان يحصل من قبل؛ وهذا أيضاً تمهيد بين يدي بعثته صلى الله عليه وسلم. ومن تلك الإرهاصات: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأت أمي كأن نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام). ومن هذه الإرهاصات: هواتف الجن كما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الجن كانوا ينطقون ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الممهدات، فكلها أمور تمهد لحصول أمر أخطر منها وأعظم. وكذلك هنا أيضاً لو أننا تتبعنا الآيات السابقة في الأرباع الماضية، نجد إرهاصات وتقدمة وتوطئة وتمهيد لهذا الحدث الخطير، وهو حدث تحويل القبلة، وقد بدأت الآيات بالتنويه بدين الإسلام، ونسبة ذلك إلى ملة إبراهيم عليه السلام، وأنه كان مسلماً موحداً، وأن أبا الأنبياء الخليل عليه السلام كان على ملة الإسلام، وكذب من قال: إنه كان يهودياً أو كان نصرانياً. ثم أتت قصة بناء الكعبة المشرفة، وفضل هذه الكعبة، ودعاء إبراهيم وإسماعيل ببعثة النبي عليه السلام بعد ذلك، ثم أتت الآيات تتحدث عن النسخ في آيات الله: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106]، وكل هذا تمهيد للقلوب؛ حتى إذا ما حصل نسخ للقبلة تكون القلوب قد تقبلت هذا الحدث، ولم يبق حجة لأعداء الدين أن يطعنوا وينفذوا من خلال هذه الثغرة، فهذا نوع من الإرهاصات نحو الحدث، وهو الذي ينبه الله أيضاً قبل وقوعه بقوله: (سيقول السفهاء)، فقبل أن يقولوا ينبهنا ويقول: (سيقول السفهاء) ويصفهم بالسفه، وقد كان ذلك بالفعل وقالوا كما أخبر الله تبارك وتعالى، فهذا خبر حصل قبل وقوع الحدث، وفائدته: توطين النفس واستعدادها على ما بعد الحدث.

جواب الله للمشركين بصدد تحويل القبلة

إن الله تعالى يسلح المؤمنين بالحجج التي يهزمون بها أعداء الله من اليهود والمشركين، سيقول لكم السفهاء من الناس: (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) فاعلموا الجواب من الآن، وقولوا لهم: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142] فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد، والجواب شديد على الخصم الألد، مع ما فيه من دلائل النبوة، لماذا؟ لأنه أخبر عليه الصلاة والسلام عن غيب وقد وقع كما أخبر، فيكون ذلك معجزة. (قل لله المشرق والمغرب) هذا جواب عن شبهتهم، وتقريره: أن الجهات كلها ملك لله، فهي لله من ناحية الملكية، وحدود الأرض من مشرقها إلى مغربها كل هذا ملك له تبارك وتعالى، فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة، بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى هو الذي جعلها قبلة، فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى أخرى، وما أمر به فهو الحق. (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) هذا فيه تعظيم لأهل الإسلام، وإظهار عناية الله تبارك وتعالى بهم، وتفخيم شأن الكعبة، كما فخمه عند إضافته إليه في قوله تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ [الحج:26]، فهذه إضافة تفخيم وتشريف وتعظيم للكعبة المشرفة، كذلك هنا قال: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) إشارة كما ذكرنا لتعظيم الكعبة وشرفها، وإشارة إلى شدة عناية الله سبحانه وتعالى بهذه الأمة، حيث امتن عليهم بأن هداهم إلى هذا الحكم، وهو استقبال الكعبة المشرفة.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2819 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2621 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2584 استماع
تفسير سورة البلد 2567 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2562 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2504 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2439 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2412 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2404 استماع