الإيمان والكفر [26]


الحلقة مفرغة

روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: (لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أتعجبون من غيرة سعد ؟! فوالله لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله، ولا شخص أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه المدحة من الله، من أجل ذلك وعد الله الجنة). يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هنا في هذا الحديث: (ليس أحد أحب إليه العذر من الله تعالى) فالعذر هنا بمعنى الإنذار، أي أن الله ينذر الناس ويعذر إليهم قبل أن يؤاخذهم بالعقوبة، ولهذا بعث المرسلين، كما قال سبحانه وتعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]. وسنضيف هنا إلى ما سبق بعض المسائل التي يعذر فيها بالجهل والتي لا يعذر فيها بالجهل، ونذكر بعض المسائل التي قد تكون محل خلاف بين العلماء فيما يتعلق بهذه القضية، والنزاع فيها إنما هو مبني على تفسير وفهم بعض النصوص والأحاديث، وأشهرها حديث ذلك الرجل الذي أوصى بنيه أن يحرقوه.

حديث الرجل الذي أمر بنيه أن يحرقوه ويذروه

من هذه المسائل: قضية العذر بالجهل بعموم قدرة الله عز وجل، وإنكار معاد الأبدان إذا تفرقت، لو أن هذا الرجل جهل قدرة الله عز وجل العامة، وأنكر معاد الأبدان إذا فرقها كما أوصى ذلك الرجل، وأساس اختلاف العلماء في هذه القضية هو مبني على تفاوت فهمهم وتفسيرهم لخطة ذلك الرجل ونص الحديث عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن رجلاً حضره الموت فلما يئس من الحياة أوصى أهله: إذا أنا مت فاجمعوا لي حطباً كثيراً، وأوقدوا فيه ناراً، حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فامتحشت فخذوها فاطحنوها، ثم انظروا يوم ريح فذروه في اليم، ففعلوا، فقال له: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك، فغفر الله له)، وهذا الحديث رواه البخاري وغيره.

وقال عقبة بن عمرو : وأنا سمعته يقول ذاك: (وكان نباشاً).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه، يعني: هذا الرجل قد أسرف على نفسه في المعاصي كما جاء في بعض الروايات الأخرى؛ أنه أسرف على نفسه في خوض بعض المعاصي حتى إذا حضره الموت خاف من لقاء ربه عز وجل، وغلبت عليه خشيته من عذاب الله، وكان يظن أنه إذا فعل ذلك فإن الله لن يقدر على جمعه، فلذلك أوصاهم هذه الوصية كما يفعل الهنود من الإحراق بعد الموت، أوصاهم أن يحرقوه حتى يمتحش تماماً، وتخلص النار إلى عظمه، ثم يأخذوا ما تبقى من رماده وينتظروا يوماً ذا ريح، وفي بعض الروايات أنه قال: (ألقوا جزءاً منها في البر، وجزءاً في البحر، وجزءاً في الجو -في الهواء- فجمعه الله تبارك وتعالى وسأله لما مثل بين يديه: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك، فغفر الله تبارك وتعالى له).

فالشاهد: أن هذا الرجل قد غفر الله له، فدل على أن هذا الرجل لم يمت مشركاً؛ لأن الله عز وجل قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116].

وهذا الاعتقاد الذي اعتقده ينبئ عن أنه كان يجهل أن الله على كل شيء قدير، وكان يجهل قدرة الله عليه، لذا أوصى بأن يفعل به ما فعل، وأن الله إذا هو فُرق جزء منه في البحر وجزء في البر وجزء في الهواء أن الله لا يقدر على جمعه، فهذا كفر والشك في قدرة الله تبارك وتعالى كفر وكفر أكبر، لكنه كان يجهل ذلك على تفسير فريق من العلماء الذين استدلوا بهذا الحديث على الإعذار بالجهل، بعضهم عمم فقال: يعذر بالجهل عموماً في العقيدة، وبعضهم خص بالإعذار بالجهل في الصفات.

فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر، لكنه مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهل بذلك، ضال في هذا الظن، مخطئ؛ فغفر الله له ذلك.

يقول شيخ الإسلام : والحديث صريح في أن الرجل طمع ألا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى ذلك أن يكون شاكاً في المعاد، وذلك كفر إذا قامت حجة النبوة على منكره وهو بين في عدم إيمانه بالله تعالى.

لأن بعض الذين يريدون إبطال دلالة هذا الحديث يقولون: قوله: (فوالله لئن قدر الله علي)، هي مثل قوله تبارك وتعالى: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد:26]، يعني: لئن ضيق الله علي. أو هي كمثل قوله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87]، يعني: لن نضيق عليه.. لن نبتليه، ولن نمتحنه فهذا في الحقيقة يفسد معنى الحديث؛ لأن معناه يصير: فوالله لئن ضيق الله علي ليضيقن علي.

يقول شيخ الإسلام : من تأول قوله: (لئن قدر الله علي) بمعنى: قضى، أو بمعنى: ضيق، فقد أبعد النجعة وحرف الكلم عن مواضعه، فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه؛ لئلا يجمع ويعاد. السبب في هذا كله: أنه ظن أنه بذلك -والعياذ بالله- سوف يعجز الله أن يجمعه ويعيده ويحاسبه، وقال: (إذا أنا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر)، هذه الفاء جاءت مترتبة على ما قبلها (فوالله لئن)، يعني: أنا آمركم بذلك حتى لا يجمعني الله، (فوالله لئن قدر الله علي وعلى جمعي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحد)، فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقب الأولى، وهذا يدل على أنه سبب لها، هذه فاء السببية، وأنه فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقراً بقدرة الله عليه إذا لم يفعل ذلك لم يكن في ذلك فائدة له.

وكلام الحافظ ابن حزم في هذه المسألة هو شجى في حلوق الذين ينحون منحى عدم الإعذار بالجهل في هذه القضايا.

يقول ابن حزم : فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله، وقد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه: إن معنى: (لئن قدر علي) إنما هو: لئن ضيق الله علي، كما قال تعالى: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر:16]، وهذا تأويل باطل؛ لأنه سيكون معناه حينئذ: لئن ضيق الله علي ليضيقن علي، وأيضاً لو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى، ولا شك في أنه إنما أمر بذلك ليفلت من عذاب الله تعالى، فهذا من الأحاديث المشهورة في هذا الباب.

من أهل العلم من استشكل المغفرة لهذا الرجل مع إنكاره للبعث والقدرة، حتى قال بعض العلماء: إنما قال ذلك الرجل هذا في حال الدهشة، وغلبة الخوف عليه حتى ذهب هذا الخوف بعقله لما يقول.

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: وأظهر الأقوال: أنه قال ذلك في حال دهشة وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول، ولم يكن قاصداً لحقيقة معناه، بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما صدر منه.

وقال الخطابي رداً على من تأول هذا الحديث على غير وجهه، قال: فإن قلت: كيف يغفر له وهو منكر بالقدرة على الإحياء؟ قلت: ليس بمنكر، إنما هو رجل جاهل ظن أنه إذا صنع به هذا الصنيع ترك فلم ينشر ولم يعذب، وحيث قال: (من خشيتك)، علم منه أنه رجل مؤمن فعل ما فعل من خشية الله ولجهله حسب أن هذه الحيلة تنجيه.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضاً: فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك.

هذا من أشهر الأدلة التي استدل بها من عذر بالجهل في قضية في قضايا الأصول أو قضايا الإيمان، وبعضهم كما ذكرنا خصها بقضايا العقيدة.

حديث عائشة (مهما يكتم الناس يعلمه الله)

من نفس هذا الباب الحديث المروي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي التي النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه -يعني: رجع إلى البيت فوضع رداءه وخلع نعليه- فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه واضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أني قد رقدت، فأخذ رداءه رويداً، وفتح الباب رويداً، فخرج ثم أجافه رويداً، فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري -شكت أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما اطمأن إلى أنها قد نامت إنما خرج يريد أن يذهب إلى أخرى من أمهات المؤمنين- ثم انطلقت على أثره، حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام؛ ثم رفع يديه ثلاثاً، ثم انحرف وانحرفت -لما أحست أنه على وشك الرجوع من حيث جاء فلما انحرف انحرفت هي أيضاً وغيرت اتجاهها- وأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت -يعني تردد النفس بسرعة في الصدر- فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت -فأرادت أن تهرب منه حتى لا يشعر بذلك، فاضطجعت على الفراش بسرعة، ونتيجة للإسراع في الجري كانت تتنفس بمعدل سريع- فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل ووجدها على الفراش وصدرها يعلو ويهبط في التنفس قال: ما لك يا عائشة حشيا رابية؟ قالت: لا شيء. قال: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير. قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته -حكت له ما حصل- قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم، فلهزني في صدري لهزة أوجعتني، ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله -أظننت أن الرسول عليه الصلاة والسلام يضيع حقك- قلت: مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ قال: نعم)، رواه مسلم والنسائي والإمام أحمد وغيره.

في هذا الحديث موضع الشاهد عندما نحتج به أيضاً في المسألة التي نحن بصددها، والسؤال الذي في آخر الحديث. (قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ هل كل ما يكتمه الناس في قلوبهم يعلمه الله؟ قال: نعم. ) فبعض العلماء فهموا: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لم تكن تعلم هذه الحقيقة، وكانت تجهل هذه الصفة من صفات الله تبارك وتعالى، وهي أن الإنسان مهما كتم في صدره فإن الله يعلم ذلك، فهذا موضع الشاهد، ولكن في النفس شيء من هذا الاستدلال؛ لأنه يصعب جداً أن نتصور أن أم المؤمنين رضي الله عنها وهي التي تربت في بيت أبي بكر ، ثم كانت في بيت النبوة هذه الفترة من الزمان، ثم تجهل مثل هذه الحقيقة التي ينطق بها القرآن صباح مساء في جميع المحافل فيبعد هذا الأمر في الحقيقة ولا يكون هذا السؤال على حقيقته، ويؤول عن ظاهره، لكن نظراً لأن الذين قالوا بهذا هم من كبار أئمة الإسلام وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فهو الذي استدل بهذا الحديث على هذه المسألة فيكفينا صحة الدعوى وإن لم تستقم له الدلالة.

يعني: المسألة نفسها وهي الإعذار بالجهل في هذه الأمور وإن كانت من أمور العقيدة ثابتة، وإن لم يصح هذا الاستدلال فهناك أدلة أخرى، كالحديث الذي ذكرناه آنفاً وما سيأتي إن شاء الله، لكن قد يحصل نزاع في الاستدلال نفسه لا في صحة الدعوى، ومن هنا نتلو عليكم كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، يقول: (فهذه عائشة أم المؤمنين سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: نعم)، وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وأن الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان، وإنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء. فهذا فيما يتعلق بهذا الدليل والكلام فيه.

حديث أبي واقد: (اجعل لنا ذات أنواط)

من هذه الأدلة المشهورة: حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم -يعلقون الأسلحة للتبرك- يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم).

فقال بعض العلماء: إن هذا الحديث إنما هو في مسلمة الفتح الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام، ولم يكونوا قد تلقوا قدراً كبيراً من التربية النبوية، ولم يتعلموا كل أمور التوحيد؛ فحينئذ طلبوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم شجرة يعكفون عندها ويعلقون بها أسلحتهم، ويتبركون بها كما يفعل المشركون سواء بسواء، فما كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم، ولم يقم عليهم حد الردة، وإنما علمهم ما جهلوه، وأخبرهم أن ما سألوه هو مما يخدش عقيدتهم، وهو مثلما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام؛ فكفر مقالتهم ولم يكفر أعيانهم.

حديث حذيفة: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب)

من هذه الأدلة: حديث ربعي بن حراش ، عن حذيفة بن اليمان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها)، قال صلة بن زفر لـحذيفة : ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة ثم ردها ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة ، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار.

فقوله عليه الصلاة والسلام هنا: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب)، يعني: تنمحي معالمه وتضيع، (كما يدرس وشي الثوب)، يعني: حينما يصبح الثوب خلقاً تضيع الألوان والرسوم التي فيه، كذلك الإسلام بمرور الوقت يحصل زمن غربة وجهل عظيم بالدين، حتى يصل هذا الأمر إلى أن الناس لا يدرون ما هو الصيام؟ ما هي الصلاة؟ ما الصدقة؟ ما النسك؟ ثم قال: (وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية)، وهذا مما تنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم: أن القرآن سوف يرفع من الأرض والصدور ولا يبقى منه آية في الأرض، (وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز)، الشيء الوحيد الذي يبقى لهم هو أنهم يقولون: لا إله إلا الله (يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة فنحن نقولها)، فقال صلة بن زفر مثلما يقول هؤلاء الذين لا يعذرون بالجهل في مثل هذا: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام ولا صدقة ولا نسك، فأعرض عنه حذيفة وهو يكررها عليه ثلاثاً، ثم رد حذيفة أيضاً بثلاث مرات فقال: يا صلة ! تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار.

فهذا أيضاً دليل على الإعذار بالجهل حينما يرفع العلم، ويفشو الجهل، ولا يبقى للناس شيء يعلمونه من الإسلام غير كلمة التوحيد، فهم يجهلون الصيام والصلاة والصدقة فضلاً عن بقية أركان الدين، ولهذا استدل به من لا يكفر تارك الصلاة، بقوله: تنجيهم من النار.

بالنسبة للحديث الماضي وحديث حذيفة هذا يبين القدر الأدنى من النجاة، ومعنى ذلك: أن هؤلاء القوم مع ما هم فيه ليسوا من المشركين؛ فلأنها تنجيهم من النار كما بين حذيفة رضي الله تبارك وتعالى عنه، فبعض الناس دفع هذا الاستدلال، وقالوا: كيف نقول: إن هؤلاء الناس إنما كانوا معذورين؛ لأن القرآن رفع وما بقي منه شيء، نقول: نعم، لكن موضع الاستدلال ما زال قائماً، وهو أدنى ما ينجي الناس من النار ويدخلهم الجنة وجوده والإقرار بهذه الكلمة، فمن أجل ذلك تنجيهم من النار.

سجود معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من الشام

وفي حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: (لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما هذا يا معاذ؟! قال: أتيت الشام فوافيتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن أفعل ذلك لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه)، وقوله: (وهي على قتب) يعني: على ظهر الجمل. فبعض العلماء قالوا: إنه كان يفهم هذا الحديث على ظاهره، أي أن معناه أنه لو كانت المرأة على قتب لا تمتنع من زوجها، لكن جاء التفسير بما هو أشد من ذلك، وهو أن العرب إذا كانت المرأة فيهم على وشك الوضع وتعسرت ولادتها كانوا يرون أن جلوسها على الجمل يسهل الولادة، فجاء التفسير بما هو أشد، فيا ويل النساء النواشز اللائي يستهن بطاعة الزوج وأداء حقه، فقوله: (لو سألها نفسها وهي على قتب) معناه: وهي في حالة الوضع. يقول الشوكاني رحمه الله تعالى في فوائد هذا الحديث: وفيه أن من سجد جاهلاً لغير الله لا يكفر. وقد يورد على هذا الاستدلال أن السجود على أنواع، وربما وجدت أدلة في القرآن تبين ذلك، كما أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم عليه السلام، وهناك سجود التحية والإكرام، وربما استدل لذلك بقوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا [يوسف:100] فهو سجود الانحناء أو التحية، وليس سجود العبادة.

قول الجارية (وفينا نبي يعلم ما في غد)

أيضاً مما استدل به على ما نحن بصدده: حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنها قالت: (جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل حين بني علي، فجلس على فراشي كمجلسك مني فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آباء يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال: دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين)، رواه البخاري .

كأن النبي عليه الصلاة والسلام هنا أمرهن بأن يعدلن عما يقلن من نسبة علم الغيب لغير الله عز وجل إلى أمرهن بأن يرجعن إلى ما كن يقلن مما ليس فيه هذا، فهذا نوع من التعليم وإبطال هذا الاعتقاد الفاسد، وأجاب الفريق الآخر الذين لا يعذروا وقالوا: إن هذا الحديث في جويريات صغيرات غير مكلفات، وبعضهم قال: إن المقصود بهذا يعلم ما في غد عن طريق إخبار جبريل عليه السلام بالوحي، والله تعالى أعلم.

قول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم : (ما شاء الله وشئت)

وهنا استدلال آخر، وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ما شاء الله وشئت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً؟ ! ما شاء الله وحده)، واستدل به -أيضاً- من لا من يعذرون بالجهل في هذه الأمور، وإن كان قد يستدل به أيضاً على العكس؛ لأن قول الإنسان: توكلت على الله وعليك، أو: أرجو التيسير من الله ومنك قولٌ يوهم الندية والمساواة، وبين صلى الله عليه وسلم المخرج من ذلك بأن يعطف الإنسان بـ(ثم) لا بالواو؛ لأن (ثم) تقتضي التراخي والتأخير في الرتبة، فهذا هو المخرج، فهذا لو سمي شركاً فكأنه يكون شركاً عملياً وليس شركاً حقيقياً أكبر، فقد يكون -أيضاً- في الاستدلال بهذا الدليل نظر.

من هذه المسائل: قضية العذر بالجهل بعموم قدرة الله عز وجل، وإنكار معاد الأبدان إذا تفرقت، لو أن هذا الرجل جهل قدرة الله عز وجل العامة، وأنكر معاد الأبدان إذا فرقها كما أوصى ذلك الرجل، وأساس اختلاف العلماء في هذه القضية هو مبني على تفاوت فهمهم وتفسيرهم لخطة ذلك الرجل ونص الحديث عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن رجلاً حضره الموت فلما يئس من الحياة أوصى أهله: إذا أنا مت فاجمعوا لي حطباً كثيراً، وأوقدوا فيه ناراً، حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فامتحشت فخذوها فاطحنوها، ثم انظروا يوم ريح فذروه في اليم، ففعلوا، فقال له: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك، فغفر الله له)، وهذا الحديث رواه البخاري وغيره.

وقال عقبة بن عمرو : وأنا سمعته يقول ذاك: (وكان نباشاً).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه، يعني: هذا الرجل قد أسرف على نفسه في المعاصي كما جاء في بعض الروايات الأخرى؛ أنه أسرف على نفسه في خوض بعض المعاصي حتى إذا حضره الموت خاف من لقاء ربه عز وجل، وغلبت عليه خشيته من عذاب الله، وكان يظن أنه إذا فعل ذلك فإن الله لن يقدر على جمعه، فلذلك أوصاهم هذه الوصية كما يفعل الهنود من الإحراق بعد الموت، أوصاهم أن يحرقوه حتى يمتحش تماماً، وتخلص النار إلى عظمه، ثم يأخذوا ما تبقى من رماده وينتظروا يوماً ذا ريح، وفي بعض الروايات أنه قال: (ألقوا جزءاً منها في البر، وجزءاً في البحر، وجزءاً في الجو -في الهواء- فجمعه الله تبارك وتعالى وسأله لما مثل بين يديه: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك، فغفر الله تبارك وتعالى له).

فالشاهد: أن هذا الرجل قد غفر الله له، فدل على أن هذا الرجل لم يمت مشركاً؛ لأن الله عز وجل قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116].

وهذا الاعتقاد الذي اعتقده ينبئ عن أنه كان يجهل أن الله على كل شيء قدير، وكان يجهل قدرة الله عليه، لذا أوصى بأن يفعل به ما فعل، وأن الله إذا هو فُرق جزء منه في البحر وجزء في البر وجزء في الهواء أن الله لا يقدر على جمعه، فهذا كفر والشك في قدرة الله تبارك وتعالى كفر وكفر أكبر، لكنه كان يجهل ذلك على تفسير فريق من العلماء الذين استدلوا بهذا الحديث على الإعذار بالجهل، بعضهم عمم فقال: يعذر بالجهل عموماً في العقيدة، وبعضهم خص بالإعذار بالجهل في الصفات.

فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر، لكنه مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهل بذلك، ضال في هذا الظن، مخطئ؛ فغفر الله له ذلك.

يقول شيخ الإسلام : والحديث صريح في أن الرجل طمع ألا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى ذلك أن يكون شاكاً في المعاد، وذلك كفر إذا قامت حجة النبوة على منكره وهو بين في عدم إيمانه بالله تعالى.

لأن بعض الذين يريدون إبطال دلالة هذا الحديث يقولون: قوله: (فوالله لئن قدر الله علي)، هي مثل قوله تبارك وتعالى: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد:26]، يعني: لئن ضيق الله علي. أو هي كمثل قوله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87]، يعني: لن نضيق عليه.. لن نبتليه، ولن نمتحنه فهذا في الحقيقة يفسد معنى الحديث؛ لأن معناه يصير: فوالله لئن ضيق الله علي ليضيقن علي.

يقول شيخ الإسلام : من تأول قوله: (لئن قدر الله علي) بمعنى: قضى، أو بمعنى: ضيق، فقد أبعد النجعة وحرف الكلم عن مواضعه، فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه؛ لئلا يجمع ويعاد. السبب في هذا كله: أنه ظن أنه بذلك -والعياذ بالله- سوف يعجز الله أن يجمعه ويعيده ويحاسبه، وقال: (إذا أنا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر)، هذه الفاء جاءت مترتبة على ما قبلها (فوالله لئن)، يعني: أنا آمركم بذلك حتى لا يجمعني الله، (فوالله لئن قدر الله علي وعلى جمعي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحد)، فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقب الأولى، وهذا يدل على أنه سبب لها، هذه فاء السببية، وأنه فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقراً بقدرة الله عليه إذا لم يفعل ذلك لم يكن في ذلك فائدة له.

وكلام الحافظ ابن حزم في هذه المسألة هو شجى في حلوق الذين ينحون منحى عدم الإعذار بالجهل في هذه القضايا.

يقول ابن حزم : فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله، وقد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه: إن معنى: (لئن قدر علي) إنما هو: لئن ضيق الله علي، كما قال تعالى: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر:16]، وهذا تأويل باطل؛ لأنه سيكون معناه حينئذ: لئن ضيق الله علي ليضيقن علي، وأيضاً لو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى، ولا شك في أنه إنما أمر بذلك ليفلت من عذاب الله تعالى، فهذا من الأحاديث المشهورة في هذا الباب.

من أهل العلم من استشكل المغفرة لهذا الرجل مع إنكاره للبعث والقدرة، حتى قال بعض العلماء: إنما قال ذلك الرجل هذا في حال الدهشة، وغلبة الخوف عليه حتى ذهب هذا الخوف بعقله لما يقول.

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: وأظهر الأقوال: أنه قال ذلك في حال دهشة وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول، ولم يكن قاصداً لحقيقة معناه، بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما صدر منه.

وقال الخطابي رداً على من تأول هذا الحديث على غير وجهه، قال: فإن قلت: كيف يغفر له وهو منكر بالقدرة على الإحياء؟ قلت: ليس بمنكر، إنما هو رجل جاهل ظن أنه إذا صنع به هذا الصنيع ترك فلم ينشر ولم يعذب، وحيث قال: (من خشيتك)، علم منه أنه رجل مؤمن فعل ما فعل من خشية الله ولجهله حسب أن هذه الحيلة تنجيه.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضاً: فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك.

هذا من أشهر الأدلة التي استدل بها من عذر بالجهل في قضية في قضايا الأصول أو قضايا الإيمان، وبعضهم كما ذكرنا خصها بقضايا العقيدة.

من نفس هذا الباب الحديث المروي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي التي النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه -يعني: رجع إلى البيت فوضع رداءه وخلع نعليه- فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه واضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أني قد رقدت، فأخذ رداءه رويداً، وفتح الباب رويداً، فخرج ثم أجافه رويداً، فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري -شكت أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما اطمأن إلى أنها قد نامت إنما خرج يريد أن يذهب إلى أخرى من أمهات المؤمنين- ثم انطلقت على أثره، حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام؛ ثم رفع يديه ثلاثاً، ثم انحرف وانحرفت -لما أحست أنه على وشك الرجوع من حيث جاء فلما انحرف انحرفت هي أيضاً وغيرت اتجاهها- وأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت -يعني تردد النفس بسرعة في الصدر- فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت -فأرادت أن تهرب منه حتى لا يشعر بذلك، فاضطجعت على الفراش بسرعة، ونتيجة للإسراع في الجري كانت تتنفس بمعدل سريع- فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل ووجدها على الفراش وصدرها يعلو ويهبط في التنفس قال: ما لك يا عائشة حشيا رابية؟ قالت: لا شيء. قال: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير. قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته -حكت له ما حصل- قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم، فلهزني في صدري لهزة أوجعتني، ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله -أظننت أن الرسول عليه الصلاة والسلام يضيع حقك- قلت: مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ قال: نعم)، رواه مسلم والنسائي والإمام أحمد وغيره.

في هذا الحديث موضع الشاهد عندما نحتج به أيضاً في المسألة التي نحن بصددها، والسؤال الذي في آخر الحديث. (قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ هل كل ما يكتمه الناس في قلوبهم يعلمه الله؟ قال: نعم. ) فبعض العلماء فهموا: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لم تكن تعلم هذه الحقيقة، وكانت تجهل هذه الصفة من صفات الله تبارك وتعالى، وهي أن الإنسان مهما كتم في صدره فإن الله يعلم ذلك، فهذا موضع الشاهد، ولكن في النفس شيء من هذا الاستدلال؛ لأنه يصعب جداً أن نتصور أن أم المؤمنين رضي الله عنها وهي التي تربت في بيت أبي بكر ، ثم كانت في بيت النبوة هذه الفترة من الزمان، ثم تجهل مثل هذه الحقيقة التي ينطق بها القرآن صباح مساء في جميع المحافل فيبعد هذا الأمر في الحقيقة ولا يكون هذا السؤال على حقيقته، ويؤول عن ظاهره، لكن نظراً لأن الذين قالوا بهذا هم من كبار أئمة الإسلام وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فهو الذي استدل بهذا الحديث على هذه المسألة فيكفينا صحة الدعوى وإن لم تستقم له الدلالة.

يعني: المسألة نفسها وهي الإعذار بالجهل في هذه الأمور وإن كانت من أمور العقيدة ثابتة، وإن لم يصح هذا الاستدلال فهناك أدلة أخرى، كالحديث الذي ذكرناه آنفاً وما سيأتي إن شاء الله، لكن قد يحصل نزاع في الاستدلال نفسه لا في صحة الدعوى، ومن هنا نتلو عليكم كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، يقول: (فهذه عائشة أم المؤمنين سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: نعم)، وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وأن الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان، وإنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء. فهذا فيما يتعلق بهذا الدليل والكلام فيه.

من هذه الأدلة المشهورة: حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم -يعلقون الأسلحة للتبرك- يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم).

فقال بعض العلماء: إن هذا الحديث إنما هو في مسلمة الفتح الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام، ولم يكونوا قد تلقوا قدراً كبيراً من التربية النبوية، ولم يتعلموا كل أمور التوحيد؛ فحينئذ طلبوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم شجرة يعكفون عندها ويعلقون بها أسلحتهم، ويتبركون بها كما يفعل المشركون سواء بسواء، فما كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم، ولم يقم عليهم حد الردة، وإنما علمهم ما جهلوه، وأخبرهم أن ما سألوه هو مما يخدش عقيدتهم، وهو مثلما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام؛ فكفر مقالتهم ولم يكفر أعيانهم.

من هذه الأدلة: حديث ربعي بن حراش ، عن حذيفة بن اليمان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها)، قال صلة بن زفر لـحذيفة : ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة ثم ردها ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة ، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار.

فقوله عليه الصلاة والسلام هنا: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب)، يعني: تنمحي معالمه وتضيع، (كما يدرس وشي الثوب)، يعني: حينما يصبح الثوب خلقاً تضيع الألوان والرسوم التي فيه، كذلك الإسلام بمرور الوقت يحصل زمن غربة وجهل عظيم بالدين، حتى يصل هذا الأمر إلى أن الناس لا يدرون ما هو الصيام؟ ما هي الصلاة؟ ما الصدقة؟ ما النسك؟ ثم قال: (وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية)، وهذا مما تنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم: أن القرآن سوف يرفع من الأرض والصدور ولا يبقى منه آية في الأرض، (وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز)، الشيء الوحيد الذي يبقى لهم هو أنهم يقولون: لا إله إلا الله (يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة فنحن نقولها)، فقال صلة بن زفر مثلما يقول هؤلاء الذين لا يعذرون بالجهل في مثل هذا: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام ولا صدقة ولا نسك، فأعرض عنه حذيفة وهو يكررها عليه ثلاثاً، ثم رد حذيفة أيضاً بثلاث مرات فقال: يا صلة ! تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار.

فهذا أيضاً دليل على الإعذار بالجهل حينما يرفع العلم، ويفشو الجهل، ولا يبقى للناس شيء يعلمونه من الإسلام غير كلمة التوحيد، فهم يجهلون الصيام والصلاة والصدقة فضلاً عن بقية أركان الدين، ولهذا استدل به من لا يكفر تارك الصلاة، بقوله: تنجيهم من النار.

بالنسبة للحديث الماضي وحديث حذيفة هذا يبين القدر الأدنى من النجاة، ومعنى ذلك: أن هؤلاء القوم مع ما هم فيه ليسوا من المشركين؛ فلأنها تنجيهم من النار كما بين حذيفة رضي الله تبارك وتعالى عنه، فبعض الناس دفع هذا الاستدلال، وقالوا: كيف نقول: إن هؤلاء الناس إنما كانوا معذورين؛ لأن القرآن رفع وما بقي منه شيء، نقول: نعم، لكن موضع الاستدلال ما زال قائماً، وهو أدنى ما ينجي الناس من النار ويدخلهم الجنة وجوده والإقرار بهذه الكلمة، فمن أجل ذلك تنجيهم من النار.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
الإيمان والكفر [14] 2435 استماع
الإيمان والكفر [27] 2422 استماع
الإيمان والكفر [23] 2226 استماع
الإيمان والكفر [5] 2179 استماع
الإيمان والكفر [22] 1944 استماع
الإيمان والكفر [16] 1905 استماع
الإيمان والكفر [7] 1851 استماع
الإيمان والكفر [10] 1839 استماع
الإيمان والكفر [21] 1834 استماع
الإيمان والكفر [1] 1828 استماع