الإيمان والكفر [14]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

تناولنا من قبل دراسة نقدية لكتاب حد الإسلام وحقيقة الإيمان، ومعلوم ما دار حول هذا الكتاب من مناقشات ومباحثات، فمن أجل ذلك أراد الإخوة استجلاء الحقيقة في هذه القضية ذات الحساسية الخاصة، وذات الآثار البعيدة.

ذكرنا أنا المؤلف حينما تكلم على حد الإسلام أو ما أسماه هو بأصل الدين كما يفهم من كلامه: أن مقصوده بحد الإسلام أو أصل الدين هو: ما يتوقف على تحققه واستيفائه ثبوت عقد الإسلام ابتداءً، فهذا الحد الذي حدده هو الذي يكون به المسلم مسلماً، وإن لم يتحقق ولم يستوف هذا الحد الذي حده لم يكن مسلماً، وقد يعبر عن هذا الحد بالإيمان، أو بالإسلام، أو التوحيد، أو إفراد الله بالعبادة.

أيضاً فهم من كلامه: أن استيفاء هذا الحد شرط في صحة الأعمال وقبولها، فهو سابق على غيره من التكاليف وغيره لاحق به، وغيره لا يقبل ولا يصح إلا به.

ذكرنا أيضاً: أنه سلك مسلكين في بيان هذا الحد، مسلك الإجمال ومسلك التفصيل.

في مسلك الإجمال ذكر: أن هذا الحد ذو شقين، تصديق خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، والتزام شريعته جملة وعلى الغيب، والانقياد لها، وذكر أنه لا يقبل ركن من هذين الركنين إلا بانضمام الآخر إليه، فلا يقبل التصديق بغير التزام وانقياد، ولا انقياد، ولا التزام بغير تصديق، ثم سلك مسلكاً تفصيلياً في بيان أركان الحد، فذكر أنها ثلاثة: الحكم والولاية والنسك .. أن يكون الحكم لله بلا شريك، والولاية لله بلا شريك، والنسك لله بلا شريك.

وذكر من خصائص الإسلام: أنه لا تفاوت ولا تبعيض بين أركانه، فهو لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص، وأنه لا عذر فيه بالجهل؛ فمن تحقق لديه كان مسلماً، ومن لم يتحقق لديه كان كافراً دون اعتبار لعلم أو جهل، فهذه بعض الخصائص التي ذكرها الكاتب، والتي دار حولها مؤلفه وكتابه.

أما بالنسبة للمسلك الإجمالي لحد الإسلام الذي هو التصديق بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم جملة على الغيب، والانقياد لشريعته جملة وعلى الغيب.

ذكرنا أن هناك نظراً في هذه التسمية: حد الإسلام ومدى دقتها في الدلالة على المقصود.

خطأ المؤلف في وضع حد للإسلام

بالنسبة لكلمة الحد: الحد في الاصطلاح هو التعريف، والتعريف أو الحد يجب أن يكون مطابقاً للمحدود، أما أن يعرف الشيء بذكر جزء من أجزائه أو ركن من أركانه، فهذا غير معهود في باب التعريفات وذكر الحدود، فالكاتب استعمل كلمة حد الإسلام في بيان الحد الأدنى من الدين الذي به يثبت عقد الإسلام، والذي إذا تخلف تخلف بسببه الدين كله من الأساس، وفي باب التعريفات ينبغي أن يبين المعرف بذكر حقيقته لا بذكر حده الأدنى فالمفروض أننا عندما نعرف شيئاً نذكر كل حقيقته، حتى يكون التعريف جامعاً مانعاً، جامعاً لكل أطراف الموضوع الذي تريد أن تعرفه، مانعاً من دخول غيره فيه أما أن يعرف الحد بذكر حدوده الدنيا، أو بذكر ركن من أركانه، فهذا لا يذكر في باب التعريفات، لكن قد يجاب على الشيء أحياناً بذكر أحد أركانه لا على سبيل التعريف وبيان الحد لكن على سبيل بيان أهمية هذا الركن، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) ، فهنا لا يريد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعرف لنا الحد، أو ما هو الحد، وما هي أركانه، وإنما أراد بيان أهمية الوقوف بعرفة، كأنه لا شيء في الحج إلا عرفه، والمقصود: أن وقفة عرفات أوجب وأهم أركان الحج.

كذلك لم نجد فيما نقل عن أهل العلم فيما مضى استعمال هذا التعريف أو هذا التعبير: حد إسلام. هذا الاصطلاح لم يعهد في كتب علماء أهل السنة والجماعة على تقادم عصورهم، ولا يوجد عنهم ما يشير إلى استعمال مثل هذا التعليق.

الشهادتان باب الدخول في الإسلام

أيضاً قال: إنه لا يقبل ركن من أركان الحد بغير الركن الآخر، فلا يقبل تصديق بغير التزام ولا التزام بغير تصديق، فلابد من استيفاء الحد كله لاستحقاق الاسم والصفة، وإن تخلف ركن من أركان الأصل يتخلف به الأصل، وأما الفروع فالغالب أنه لا تلازم بينها. هذا فيما يتعلق بكلامه في المسلك الإجمالي. وقد ذكرنا: أنه لا ينازع أحد من أهل السنة في أن أصل دين الإسلام هو: الإقرار المجمل بكل ما صح به الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصديقاً وانقياداً، وأن من لم يكن في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر، وكلمة التوحيد كافية في التعبير عن هذا المعنى، فهذا هو الذي ينبغي أن يقال في حد الإسلام أو في ما يثبت به عقد الإسلام لأي إنسان على وجه هذه الأرض؛ إذ يثبت له أمر الإسلام بكلمة التوحيد الشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فأصل الدين: هو الإقرار المجمل بكل ما صح به الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً وانقياداً. لذلك جعلت هذه الشريعة كلمة الشهادة أو كلمة التوحيد هي باب الدخول في دين الإسلام، وبإعلان المرء هاتين الشهادتين تحصل له عصمة الدماء والأموال والأعراض، وما ذاك إلا لأن كلمة التوحيد تتضمن معنى الالتزام المطلق بالإسلام جملة وعلى الغيب. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)، وفي بعض روايات مسلم : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله). فـ: لا إله إلا الله هي عنوان لوجود هذه المعاني في القلب، فيجب عقد القلب على الالتزام بمقتضياتها وحقوقها، فلا إله إلا الله، تعني: الإقرار المجمل بالتوحيد والبراء المجمل من الشرك. والشهادة بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، تعني: الإقرار المجمل بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصديقاً وانقياداً، فأصل الدين هو كلمة الشهادتين، وهما أول واجب على المكلف، وأول ما يدعى إليه الناس من الإسلام، كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن. فأغلب ما ذكره الكاتب في خصائص حد الإسلام أنه جعل له ركنين: ركن التصديق المجمل بخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم جملة على الغيب، والانقياد لشريعته صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، وذكر له خصائص: أنه لا يتبعض، وأنه لا يزيد ولا ينقص، وأغلب هذه الخصائص كلمة التوحيد أولى بها من هذا الحد الذي وضعه وسماه حد الإسلام. فكلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم هي التي يتوقف على تحقيقها ثبوت عقد الإسلام؛ فلا يكون المرء مسلماً إلا باستيفائها. أيضاً: هذه الشهادة سابقة على غيرها من التكاليف، وغيرها لاحق بها، ولا يقبل ولا يصح إلا بها.

عدم العذر بالجهل في قول الشهادتين

أيضاً شهادة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله هي التي لا عذر فيها للجاهل، فمن لم يتحقق لديه هاتان الشهادتان لم يكن مسلماً دون اعتبار لعلم أو لجهل، ما دام سمع بأن هناك نبياً، وأن هناك رسولاً أتى بدين الإسلام، وأنزل عليه كتاب هو القرآن وبلغ؛ بذلك صار مسئولاً على هذا الدين، وتجمع كل الفرق الإسلامية على الشهادة بالكفر على كل من لم يدن بدين الإسلام يهودياً كان أو نصرانياً أو مجوسيا أو بوذياً أو غير ذلك.

فكل من لم يشهد لله عز وجل بالوحدانية، ولرسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة فهو كافر بلا نزاع.

وقد وقع خلاف بين العلماء في بعض هؤلاء ممن لم تبلغهم دعوة الإسلام، كأهل الفترة، أو الشخص المجنون، أو المعتوه الذي لم يبلغه الإسلام، أو لم يعقله ولم يفهمه؛ لأنه كان مجنوناً أو مغلوباً على عقله، فخلاف العلماء هو ما يتعلق بأحكامهم في الآخرة، هل يخلدون في النار لكفرهم، أم أنهم يمتحنون في عرصات القيامة لما ثبت في ذلك من الآثار.

وهذا الالتزام المجمل الذي تترجم عنه كلمة التوحيد يصدق عليه أكثر ما أورده الكاتب من هذه الخصائص لما سماه حد الإسلام، ولم نقل: كل الخصائص، وإنما قلنا: أغلبها؛ لأن هناك منازعة للكاتب فيما قرره من أن هذا الحد لا يتفاوت ولا ينقص.

تفاوت درجات التصديق

يقول: إن حد الإسلام لا يحصل فيه تبعيض ولا يزيد ولا ينقص، وذكر أن هذا الحد هو التصديق، والانقياد والالتزام، فهل التصديق لا يزيد ولا ينقص؟

لا؛ فدرجات التصديق تختلف قوة وضعفاً، فما من شك أن الأنبياء أكمل الناس تصديقاً، يليهم بعد ذلك الحواريون أصحابهم الذين تلقوا الهدى على أيدهم، ورأوا من المعجزات ما لا يبقى معه شك ولا شبهة، ثم يليهم بعد ذلك سائر المؤمنين الأمثل فالأمثل، فمن المكابرة أن تقول: إن تصديق الأنبياء هو نفس تصديق واحد من عموم المؤمنين، بل الإنسان نفسه قد تختلف درجات التصديق عنده من حالة إلى أخرى.

مثال ذلك: موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حينما أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه عبدوا العجل من بعده: فـ رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [الأعراف:150]، غضب موسى عليه السلام، وكانت معه الألواح التي كتبها الله له بيده سبحانه وتعالى، لكن لما رأى بعيني رأسه قومه وهم يعبدون العجل اشتد غضبه كثيراً، وظهر ذلك في أنه ألقى الألواح غضباً وحمية لله عز وجل لا امتهاناً ولا استخفافاً بها. معاذ الله! إنما أخذته الحمية والغيرة على دين الله عز وجل وعلى التوحيد، وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [الأعراف:150]، فهل شك موسى في خبر الله عز وجل؟ لا. لكنه تفاوتت درجات التصديق؛ إذ ليس الخبر كالمعانية.

أيضاً من هذا الذي يجرؤ على أن يقول: إن تصديق رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد عرج به إلى السماوات العلا، ورأى من آيات ربه الكبرى، كيف يقال: إن تصديق رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي عرج به ورأى من آيات الله عز وجل في الملأ الأعلى يكون كتصديق رجل من عوام المسلمين؟ باعتبار هذا هو الحد الأدنى للإسلام، وأن التصديق لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص.

أيضاً: درجات التصديق تتفاوت قلة وكثرة وقوة وضعفاً بحسب زيادة العلم أو نقصانه .. فكلما كان الإنسان أكثر علماً كلما كان أكثر تصديقاً، ما من شك أن من يتعلم حدود الله أكثر أنه يزداد الإيمان عنده ويقوى بها إيمانه، ويزيد بها تصديقه، وكلما قل علمه قل تصديقه.

فمن أحاط علماً بعشرات بل مئات الفرائض لابد أن يكون أكثر ممن كان دونه في ذلك، والزيادة هنا من حيث الكم، إذ الزيادة في التصديق تتفاوت من حيث الكم ومن حيث الكيف، أما الكيف فقد ضربنا له مثلاً بموسى عليه الصلاة والسلام، أما الكم فهو من حيث العلم كلما زاد الإنسان علماً بالشرائع وبحدود الله كلما زادت كمية التصديق في قلبه، والعكس صحيح.

هذا من حيث التصديق، أما من حيث الالتزام فهو التزام أعمال القلوب من المحبة والخشية والرجاء وغير ذلك يتفاوت من شخص إلى آخر تفاوتاً عظيماً، وهذا معلوم بالحس والمشاهدة، ولا ينكره إلا جاهل معاند.

الحد الأدنى من التصديق

أيضاً إذا قال قائل: الحد الأدنى من التصديق، والحد الأدنى من الالتزام الذي يصح به عقد الإسلام؛ لابد أن يكون متماثلاً في الناس جميعاً، وقد ذكرنا من قبل: أن كونه يظن أ، هذا هو الحد الأدنى، فمن المفروض في باب التعريفات والحدود ذكر كل ما يتعلق بالحد لا ذكر بعض حقائقه، فكلمة الحد لا يذكر فيها الحد الأدنى، بل تذكر كل الحقيقة كما أشرنا، فإذا قال قائلهم: الحد الأدنى من التصديق والالتزام، والذي لا يصح عقد الإسلام إلا به، فلابد حينها أن يتماثل في الناس جميعاً، فهو من هذه الناحية لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص، فما الجواب على ذلك.

الجواب: أن هذا القدر -الحد الأدنى من التصديق والالتزام الذي لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص- لا يمكن ضبطه، ولا يمكن أن نتصور وجوده إلا في الظاهر، حيث يمكن أن يقال: إن الواجب على الناس جميعاً أن يعلنوا التزامهم المجمل بالإسلام تطبيقاً وانقياداً، ويعلنوا براءتهم من كل دين يخالف دين الإسلام، فما هو الشيء الذي يمثل هذا الأمر الظاهر؟ هو النطق بالشهادتين، فهما اللتان تترجمان وجود التصديق المجمل والالتزام المجمل، ونحن لا نملك إلا قبول ظاهر الناس، فمن شهد الشهادتين، فهذه الشهادة تعني: أنه يصدق تصديقاً مجملاً بكل ما أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويلتزم التزاماً مجملاً أيضاً بشرائعه، ويثبت له بالشهادتين عقد الإسلام.

فالذي يمكن ضبطه وتصور وجوده هو في المجال الظاهر بإعلان الالتزام المجمل بالإسلام تصديقاً وانقياداً، والبراءة من كل دين يخالفه، فهذا يتمثل في شهادة التوحيد، والشهادة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة، ففي هذا الحد يتماثل الناس جميعاً. أما على الحقيقة فهم فيها يتفاوتون تفاوتاً عظيماً، وبضميمة أفعال القلوب وأحوال القلوب يحصل التفاوت، لكن الظاهر هذا هو الحد الذي يتساوى فيه جميع الناس من حيث الحكم لهم بالإسلام، أما الحقيقة فهم يتفاوتون، بل قلنا: إنه يتفاوت في الشخص الواحد ما بين حالة وأخرى، ولا يمكن تصور حد أدنى متماثل عند كافة الناس؛ لأن إيمان كل إنسان يخصه، والزيادة والنقص تكون بحسب حالته هو لا بحسب حد أدنى مشترك يمثل مقياساً خارجياً للزيادة والنقصان.

مسلك الإيمان المجمل عند المؤلف

ولما ذكر الكاتب مسلك الإيمان المجمل وقال: إن له شقان: التصديق بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، والالتزام بشريعته جملة وعلى الغيب .. ذكرنا أن جميع علماء المسلمين لم يذكر واحداً منهم أبداً أن حد الإسلام أو حكم ثبوت عقد الإسلام لأي إنسان يشمل المعرفة التفصيلية بالأمور التي ينبغي التصديق بها، والمعرفة التفصيلية بالأمور التي ينبغي الانقياد لها، فاعتبار الإيمان على جهة التفصيل بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أصل من الدين يتوقف على اكتفائه بادئ ذي بدء ثبوت عقد الإسلام لا يمكن للإنسان أن يدعيه، فلم يقل أحد من السابقين ولا من اللاحقين لا من أهل السنة ولا من أهل البدعة بتوقف ثبوت صفة الإسلام على الإحاطة بجميع الأخبار والتكاليف الشرعية على وجه الاستقصاء والتفصيل، لا يتصور أبداً أن يتوقف حكم الإسلام لأحد حتى نأتي به ونتلو عليه جميع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ونسرد عليه جميع الأحكام الشرعية التي كلفنا بها، ويقر بالتزامه وتصديقه بها على جهة التفصيل.

أيضاً لم يقل أحد من أهل القبلة بأن الجهل بأي أمر من الأمور الشرعية يؤدي إلى انخرام أصل الدين والخروج عن ملة الإسلام، بل عدم الدخول فيه من البداية.

أيضاً لم يعرف في تاريخ الإسلام أن أحداً أرجئ الحكم بإسلامه حتى تعرض عليه كافة شرائع الدين، وكافة أخباره وزواجره ووعده ووعيده ليؤخذ إقراره التفصيلي بذلك كله، ثم يثبت له عقد الإسلام بعد ذلك، بل كان الدعاة والعلماء ولا يزالون من السلف والخلف يقبلون من الناس الإقرار والالتزام العام، ثم يعلم لهم بعد ذلك شرائع الدين على مكث وعلى مهل، فالكاتب يوافقنا أيضاً في ذلك حينما يقول: إن حد الإسلام هو التصديق بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، والانقياد لشرعه جملة وعلى الغيب، يقصد الإجمال حقيقة ولا يمكن أن يقصد سوى ذلك.

فأصل الدين هو القبول المجمل لكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وليس هو القبول على وجه التفصيل لكافة الأخبار والتكاليف.

أركان حد الإسلام عند المؤلف

لم يقتصر الكاتب في بحثه على المسلك الإجمالي الذي أشرنا إليه، لكنه نحا منحى آخر تفصيلياً، قرر فيه أن لهذا الحد أركاناً ثلاثةً هي: الحكم والولاء والنسك، ثم جعل باقي الكتاب في تفصيل هذه الأمور الثلاثة، فقد جعل الباب الثالث في تقرير ركن الحكم، والباب الرابع في تقرير ركن الولاية، وقرر ركن النسك ضمن الباب الأول، فلم يقف عند حدود الاعتقاد المجمل للألوهية، لاسيما وهو يتكلم الآن في شرح تفصيلي لحد الإسلام، وما يسميه هو أصل الدين الذي يتوقف على الاكتفاء به من البداية ثبوت عقد الإسلام، والذي يطرد تماثله وثباته وعدم تفاوته بالزيادة أو النقص عند كافة المؤمنين، فهو تجاوز الإجمال إلى هذا التفصيل الذي تندرج تحته كافة مسائل توحيد العبادة لا يند عنه منها شيء، فيلزم من ذلك أن يسلك أحد مسلكين لا ثالث لهما:

إما أن يرجئ الحكم على عامة المسلمين الذين يشهدون الشهادتين، وقد يكون فيهم جهل بهذا المسلك التفصيلي في شرح معنى التوحيد والحكم أو الولاية أو النسك، ما موقف هؤلاء الناس الذين نراهم يملئون المساجد .. يصلون العيد .. يخرجون في الجنائز المسلمين الذين نعيش ونحيا بينهم، هؤلاء أتوا بالشهادتين ولم يحصل من الكاتب ومن نحا منحاه عملية استيفاء وجود الأركان التفصيلية: أركان الحكم والولاء والنسك في هؤلاء الناس، فمن جهل بعض هذه الأركان كيف يكون السلوك معه؟

فإما أن يرجأ الحكم على هؤلاء العامة، فلا نحكم لهم بالإسلام حتى نستوثق من استيفائهم لأركان هذا الحد وبراءتهم من الطواغيت، وتجردهم من التلبس بشيء من العبادة لغير الله عز وجل، وموالاتهم للمؤمنين، وبراءتهم من الكافرين، فلا يشهد لأحد منهم بالإسلام إلا بعد التحقق من استيفاء ذلك كله، حتى وإن كانوا قبل ذلك ممن يعلنون الالتزام المجمل بالإسلام، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة.

هذه هي هو الحالة الأولى أن هؤلاء الناس لا نحكم عليهم بالإسلام، بل يؤجل الأمر فيهم حتى يتأكد من استيفاء هذه الأركان.

الحالة الثانية: أن يستصحب أصل الحكم بالإسلام على من أعلن الانتساب إليه، وإما نقول: إن هؤلاء نطقوا الشهادتين، فالأصل فيهم أنهم مسلمون، حتى نكتشف أن هذا الإنسان متلبس بناقض من نواقض هذا الحد، فحينئذٍ نكتشف أنه كان كافراً من قبل، فيكون انتسابه للإسلام وتلفظه بالشهادة مجرد قرينة على استيفائه لحد الإسلام، لا دلالة على أنه مسلم.

بناءً على هذا التفصيل: الحكم والولاء والنسك. كيف نطبقه في الواقع، كيف يكون موقفنا مع عوام المسلمين الذين يصلون ويزكون ويحجون ولم يحصل استيفاء وتحر وتبين مفصل عن موقفهم من قضايا الحكم والولاية مثلاً وتفاصيل النسك وغيرها؟

نقول له: لن يكون أمامك إلا أحد مسلكين، المسلك الأول: إما أن تقول: هؤلاء لم يدخلوا في الإسلام أصلاً حتى وإن أتوا بهذه الأشياء، إلا بعد استيفاء كل هذه الأركان منهم، ولا تكفي كلمة التوحيد، ولا الصلاة، ولا الزكاة.

المسلك الثاني: أن تقول: إنهم كفار أصليون لما يدخلوا أصلاً في الإسلام، ولا نقول: كلمة التوحيد قرينة تومئ إلى أنهم مسلمون، لكن: إذا اكتشفنا بعد ذلك أنه متلبس بشيء يناقض هذا الأصل الذي هو الإسلام، حينئذٍ يكتشف شيء كان خافياً من قبل، وهو: أن هذا الإنسان الذي عاش ستين سنة ينطق بكلمة التوحيد، يصلي ويزكي ويصوم ويحج ويفعل شرائع الإسلام المعروفة، ولم يحصل استيفاء وتبين لموقفه من قضايا الحكم والولاية والنسك .. يكتشف بعد كل هذه السنوات أنه كان كافراً من قبل، ويكون انتسابه للإسلام وتلفظه بالشهادتين مجرد قرينة على استيفائه لحد الإسلام، فإذا ثبت أن هذا الرجل كان يستجيز أمراً من أمور الشرك، فقد دل ذلك على أنه كان كافراً من البداية، وأنه لم يدخل في الإسلام بعد، حينئذٍ يثبت أن هذا كافر أصلي، مثل النصراني أو اليهودي، ولم يدخل في الإسلام أصلاً، فيتوقف الحكم عليه بالإسلام إلى أن يتبين خلاف ذلك، ويبقى الحكم عليه على ما قبل ذلك، وهو أنه كان كافراً.

أما الذين يتلبسون بشيء من نواقض هذا الحد فهم لديه كفار بلا نزاع، ولا فرق في ذلك بين دار الإسلام وبين دار الحرب، ولا بين الجهلة ولا بين العلماء من العوام، ولا لمن هو متأول ولا من هو معاند، فالكل سواء في هذا الحكم؛ لأن الإسلام -كما ذهب- حد لا توجد صفة الإسلام قبل استيفائه، ومن لم يأت به فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل.

بالنسبة لكلمة الحد: الحد في الاصطلاح هو التعريف، والتعريف أو الحد يجب أن يكون مطابقاً للمحدود، أما أن يعرف الشيء بذكر جزء من أجزائه أو ركن من أركانه، فهذا غير معهود في باب التعريفات وذكر الحدود، فالكاتب استعمل كلمة حد الإسلام في بيان الحد الأدنى من الدين الذي به يثبت عقد الإسلام، والذي إذا تخلف تخلف بسببه الدين كله من الأساس، وفي باب التعريفات ينبغي أن يبين المعرف بذكر حقيقته لا بذكر حده الأدنى فالمفروض أننا عندما نعرف شيئاً نذكر كل حقيقته، حتى يكون التعريف جامعاً مانعاً، جامعاً لكل أطراف الموضوع الذي تريد أن تعرفه، مانعاً من دخول غيره فيه أما أن يعرف الحد بذكر حدوده الدنيا، أو بذكر ركن من أركانه، فهذا لا يذكر في باب التعريفات، لكن قد يجاب على الشيء أحياناً بذكر أحد أركانه لا على سبيل التعريف وبيان الحد لكن على سبيل بيان أهمية هذا الركن، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) ، فهنا لا يريد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعرف لنا الحد، أو ما هو الحد، وما هي أركانه، وإنما أراد بيان أهمية الوقوف بعرفة، كأنه لا شيء في الحج إلا عرفه، والمقصود: أن وقفة عرفات أوجب وأهم أركان الحج.

كذلك لم نجد فيما نقل عن أهل العلم فيما مضى استعمال هذا التعريف أو هذا التعبير: حد إسلام. هذا الاصطلاح لم يعهد في كتب علماء أهل السنة والجماعة على تقادم عصورهم، ولا يوجد عنهم ما يشير إلى استعمال مثل هذا التعليق.

أيضاً قال: إنه لا يقبل ركن من أركان الحد بغير الركن الآخر، فلا يقبل تصديق بغير التزام ولا التزام بغير تصديق، فلابد من استيفاء الحد كله لاستحقاق الاسم والصفة، وإن تخلف ركن من أركان الأصل يتخلف به الأصل، وأما الفروع فالغالب أنه لا تلازم بينها. هذا فيما يتعلق بكلامه في المسلك الإجمالي. وقد ذكرنا: أنه لا ينازع أحد من أهل السنة في أن أصل دين الإسلام هو: الإقرار المجمل بكل ما صح به الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصديقاً وانقياداً، وأن من لم يكن في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر، وكلمة التوحيد كافية في التعبير عن هذا المعنى، فهذا هو الذي ينبغي أن يقال في حد الإسلام أو في ما يثبت به عقد الإسلام لأي إنسان على وجه هذه الأرض؛ إذ يثبت له أمر الإسلام بكلمة التوحيد الشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فأصل الدين: هو الإقرار المجمل بكل ما صح به الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً وانقياداً. لذلك جعلت هذه الشريعة كلمة الشهادة أو كلمة التوحيد هي باب الدخول في دين الإسلام، وبإعلان المرء هاتين الشهادتين تحصل له عصمة الدماء والأموال والأعراض، وما ذاك إلا لأن كلمة التوحيد تتضمن معنى الالتزام المطلق بالإسلام جملة وعلى الغيب. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)، وفي بعض روايات مسلم : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله). فـ: لا إله إلا الله هي عنوان لوجود هذه المعاني في القلب، فيجب عقد القلب على الالتزام بمقتضياتها وحقوقها، فلا إله إلا الله، تعني: الإقرار المجمل بالتوحيد والبراء المجمل من الشرك. والشهادة بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، تعني: الإقرار المجمل بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصديقاً وانقياداً، فأصل الدين هو كلمة الشهادتين، وهما أول واجب على المكلف، وأول ما يدعى إليه الناس من الإسلام، كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن. فأغلب ما ذكره الكاتب في خصائص حد الإسلام أنه جعل له ركنين: ركن التصديق المجمل بخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم جملة على الغيب، والانقياد لشريعته صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، وذكر له خصائص: أنه لا يتبعض، وأنه لا يزيد ولا ينقص، وأغلب هذه الخصائص كلمة التوحيد أولى بها من هذا الحد الذي وضعه وسماه حد الإسلام. فكلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم هي التي يتوقف على تحقيقها ثبوت عقد الإسلام؛ فلا يكون المرء مسلماً إلا باستيفائها. أيضاً: هذه الشهادة سابقة على غيرها من التكاليف، وغيرها لاحق بها، ولا يقبل ولا يصح إلا بها.

أيضاً شهادة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله هي التي لا عذر فيها للجاهل، فمن لم يتحقق لديه هاتان الشهادتان لم يكن مسلماً دون اعتبار لعلم أو لجهل، ما دام سمع بأن هناك نبياً، وأن هناك رسولاً أتى بدين الإسلام، وأنزل عليه كتاب هو القرآن وبلغ؛ بذلك صار مسئولاً على هذا الدين، وتجمع كل الفرق الإسلامية على الشهادة بالكفر على كل من لم يدن بدين الإسلام يهودياً كان أو نصرانياً أو مجوسيا أو بوذياً أو غير ذلك.

فكل من لم يشهد لله عز وجل بالوحدانية، ولرسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة فهو كافر بلا نزاع.

وقد وقع خلاف بين العلماء في بعض هؤلاء ممن لم تبلغهم دعوة الإسلام، كأهل الفترة، أو الشخص المجنون، أو المعتوه الذي لم يبلغه الإسلام، أو لم يعقله ولم يفهمه؛ لأنه كان مجنوناً أو مغلوباً على عقله، فخلاف العلماء هو ما يتعلق بأحكامهم في الآخرة، هل يخلدون في النار لكفرهم، أم أنهم يمتحنون في عرصات القيامة لما ثبت في ذلك من الآثار.

وهذا الالتزام المجمل الذي تترجم عنه كلمة التوحيد يصدق عليه أكثر ما أورده الكاتب من هذه الخصائص لما سماه حد الإسلام، ولم نقل: كل الخصائص، وإنما قلنا: أغلبها؛ لأن هناك منازعة للكاتب فيما قرره من أن هذا الحد لا يتفاوت ولا ينقص.