الماضي والمستقبل


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعنيه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إني لأقف في هذا المقام خجلاً بين أيديكم مع أن في القوم من هو أمثل وأخير وأعلم مني، ولكن المحبة في الله جمعت بيننا في هذا المكان، بين متكلم وسامع، ومستفيد ومتذكر، لعل الله عز وجل أن يجعل هذا الكلام عوناً لنا على طاعته، وحجة لنا لا علينا بمنّه وكرمه.

أيها الأحبة: الحديث اليوم عن الماضي وعن المستقبل، وله مناسبة وهي أننا قبل أيام ودعنا عاماً كاملاً بأشهره ولياليه وساعاته، وما مر فيه شاهد لنا أو علينا، كلما أُحدث في هذا العام على وجه الأرض، وفي كل مكان من هذه الدنيا، فإنه في كتاب عند ربي لا يضل ربي ولا ينسى.

أيها الأحبة الماضي والمستقبل هو العصر والليل والنهار، الماضي والمستقبل هو الضحى والصباح والمساء، هو الأيام والشهور والسنون والأعوام: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1].. وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [الليل:1-2].. وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1].. فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم:17].. إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [التوبة:36].. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران:190].

هذا هو الماضي، وهذا هو الحاضر، وهذا هو المستقبل، لا نتحدث عن كوكب غريب، ولا عن عالم عجيب، إنما هي أيامنا وساعاتنا التي تمر على أعمارنا، لتقضى فيها مقاديرنا وآجالنا وأعمالنا، وإن أقواماً لا يدركون قيمة الحاضر، ولأجل ذا لا يأسفون على ما مضى، ولا يستعدون لما بقي، لقد اشتغل أقوام بالحسرات على ما مضى، تحسروا دون أن يحدثوا توبة وندماً واستغفاراً ورجوعاً إلى الله عز وجل، وإن أقواماً يخافون من المستقبل دون أن يستعدوا لهذا المستقبل.

إن الحزن على الماضي والخوف على المستقبل ما لم يكن لأجل الإعداد والاستعداد بالعمل الصالح فهو ضرب من الوسوسة، وهو ضرب من الأمراض النفسية؛ لأن الذين يخافون من المستقبل، ويحزنون على الماضي، إما أن يكون حزنهم وخوفهم مملوءاً عبقاً، باستعدادٍ لهذا المستقبل بالعمل الصالح، وندماً على ما فرطوا في جنب الله عز وجل، وحرصاً على أن يجعلوا مكان السيئة حسنات، وحرصاً على أن يجعلوا هذه الحسنات ماحية للسيئات، فأولئك حزنهم على ما مضى محمود، وخوفهم على المستقبل ممدوح.

أما الذين يحزنون ويخافون من غير إعداد ولا استعداد، فذاك ضرب من الوسوسة والجنون.

ما مضى فات والمؤمل غيب     ولك الساعة التي أنت فيها

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كلام جميل معناه يدور حول ما نملكه للماضي وللمستقبل، قال في الفوائد : هلمّ إلى الدخول على الله، هلمّ إلى مجاورة رب العباد في دار السلام بلا نصب ولا تعب ولا عناء، بل من أقرب الطرق وأسهلها، وذلك أنك في وقت بين وقتين، وهو في الحقيقة عمرك، وهو وقتك الحاضر، بين ما مضى وبين المستقبل.

فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار، وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولا نصب ولا معاناة، إنما هو عمل قلب، وتمتنع فيما تستقبل من الذنوب، وامتناعك ترك وراحة، وليس هذا الامتناع عملاً بالجوارح يشق عليك معاناته، وإنما هو عزم ونية جازمة تريح بدنك وقلبك، فالذي مضى تصلحه بالتوبة، وما تستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية، وليس للجوارح فيما مضى، ولا للمستقبل نصب ولا تعب، ولكن الشأن كل الشأن في عمرك وهو وقتك الذي بين الوقتين، بين الماضي وبين المستقبل.

اشتغل بالساعة التي أنت فيها

إن الساعة التي نجلس الآن فيها هي ساعة بين ساعات مضت، وبين ساعات قادمة، فما مضى لا نستطيع أن نفعل فيه شيئاً إلا ما قدمنا، إن كان خيراً سألنا ربنا الثبات عليه، وإن كان تفريطاً استغفرنا وندمنا، وأما المستقبل فلا نملكه، وليس بأيدينا أي شيء منه، يقول ابن القيم رحمه الله: الشأن في عمرك هو وقتك الذي بين الوقتين، بين الماضي والمستقبل، فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك، وإن حفظته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذكر، نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم.

وحفظ الوقت الحالي أشق من إصلاح ما قبله وما بعده، فإن حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى بها، وأنفع لها، وأعظم تحصيناً لسعادتها، وفي هذا يتفاوت الناس تفاوتاً عظيماً، فهي والله أيامك الخالية التي تجمع فيها الزاد لمعادك.

ثم يقول رحمه الله رحمة واسعة ما معناه: إن الصبر عن المعصية والصبر على الطاعة في اللحظة التي تعيشها الآن لهي أهون بإذن الله من ندم على معصية فيما مضى، وأهون من خوف ووجل وقلق وهم على معصية تهم بها أو تخطط لفعلها.

قال الغزالي : إن الساعات ثلاث: ساعة مضت لا تعب فيها على العبد كيفما انقضت في مشقة أو رفاهية، وساعة مستقبلة لما تأت بعد، لا يدري العبد أيعيش إليها أم لا، وساعة راهنة ينبغي أن يجاهد العبد فيها نفسه، فإن لم تأتِ الساعة الثانية، لم يتحسر على فوات الساعة الحاضرة، وإن أتته الساعة الثانية استوفى حقه منها كما استوفى من الأولى.

ومن كلام ابن القيم أيضاً: إن دأب العبد واجتهاده في ساعته ولحظاته في طاعة الله عز وجل، وصبره عن معصيته، واجتهاده في مرضاته، تمر به الأيام بعد، ثم ينسى تعب الطاعة، ويبقى الأجر والثواب، وأما أهل المعصية فمهما تفننوا وفعلوا واجترحوا وأجرموا من الذنوب والمعاصي، فإن لذاتهم الموهومة قد مضت وانقضت وولت، ونسوا تلك اللذة، وبقي إثمها ووزرها وشؤمها.

يقول الحسن البصري رحمه الله عن الدنيا: إنها ثلاثة أيام: أما أمس فقد ذهب بما فيه، وأما الغد فلعلك لا تدركه، وأما اليوم فهو الذي لك أن تعمل فيه، إنك أيها المسلم بين مخافتين: بين ماض لا تدري ما الله قاض فيه، وبين مستقبل لا تدري ما الله صانع فيه، فاستعن بالله ولا تعجز، وإن من جهل قيمة الوقت، وتهاون بوقته وزمنه وعمره، والله ليأتين عليه موقفان وسيعرف حينئذ أنه قد ضيع، وفرط في أمر ثمين.

إن كثيراً من الناس لا يعرفون قيمة الماضي والحاضر والمستقبل، ولكنهم سيعرفونها أتم المعرفة، ويدركونها أوفى الإدراك، وذلك ساعة الاحتضار إذا استدبر العبد الدنيا واستقبل الآخرة، يتمنى أن يمنح ولو ساعة من الزمان، يتمنى أن يؤخر إلى أجل قريب ليصلح ما أفسده، وليتدارك ما فاته: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100] .. وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10-11].

فالساعة الأولى التي سينقلب كل غبي بالوقت إلى ذكي، وكل جاهل بالوقت إلى عالم، وكل مفرط في الوقت إلى حريص، الساعة الأولى التي سيتحول فيها المفرط إلى حريص على وقته هي ساعة الموت، ولكن لا ينفع الندم ولات حين مندم، وأما الساعة الثانية، والموقف الثاني فذاك في الآخرة، يوم توفى كل نفس ما عملت، وتجزى بما كسبت، ويدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، هناك يتمنى أهل النار أن يعودوا ولو مرة واحدة إلى حياة التكليف، ليبدءوا عملاً جديداً صالحا: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] ويقول عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر:36-37] ألم تعيشوا ثلاثين وأربعين وخمسين وسبعين وثمانين: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37] وفسر النذير في بعض الآيات بالشيب.

هيهات هيهات! يطلبون أمراً في زمن قد مضى، ويتمنون الخروج من دار هم يجنون ما زرعوا، ويحصدون ما بذروا.

اغتنم ركعتين زلفى إلى الله     إذا كنت فارغاً مستريحا

وإذا ما هممت بالقول في الباطل     فاجعل مكانه تسبيحا

الوقت ومحافظة السلف عليه

قال ابن هبيرة صاحب الإفصاح رحمه الله:

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه     وأراه أهون ما عليك يضيع

كان عمرو بن دينار قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء، فجزء يدرس فيه الحديث، وجزء ينام فيه، وجزء لصلاته وتهجده، والحال اليوم قد تبدلت، والأمور قد تغيرت، إن في الليل لسهراً، وإن في الليل لجهداً، وإن في الليل لعملاً، ولكن عمل على ما يضيع هذه الحسنات، وجهد فيما يفوت الصالحات، وسعي لأجل دنيا فانية، ولأجل حطام حقير، أما الآخرة فلا ينظر إليها بعين، ولا يرمى لها بسهم إلا من عباده من الأقلين، وما أقلهم:

وقد كانوا إذا عدوا قليلاً          فقد صاروا أقل من القليل

كان الشافعي رحمه الله يجزئ الليل ثلاثة أجزاء: جزء يكتب فيه، وجزء يتهجد فيه، وجزء ينام فيه، أما ليل شبابنا وليلنا وليل كثير من الناس، بل وليل بعض الصالحين هدانا الله وإياهم، فسهر طويل في القيل والقال، والحال والمآل، والكلام عن أحوال أقوام منهم من مضى ومنهم من بقي، وأقوام لا نسأل عنهم يوم القيامة ألبتة، فلا نلبث إلا أن ندرك أن منتصف الليل قد أدركنا، ثم نقوم إلى بيوتنا كسالى، ونأوي إلى فرشنا ضعافاً، الواحد ينقر الوتر نقراً، هذا إن كان فيه بقية من عزم على صلاة الوتر، ثم ينام متأخراً ليدرك ركعة أو ركعتين من الفجر، وربما فاتته صلاة الفجر، بسبب ماذا؟

بفيروس الوقت وهو ضياعه، وهو سهر فيما لا ينفع، وإنها من الأمراض التي يشكو منها كثير من الناس في هذا الزمان.

إنك تلاحظ ضغطاً اجتماعياً غريباً عجيباً على الناس، إذا اعتذر أحدهم عن موعد أو مناسبة بعد العشاء، فربما قال له بعضهم: وهل أنت من العجائز؟! وهل أنت من الشيوخ والكهول حتى تنام بعد العشاء؟! بمعنى: لم لا تسهر؟ لم لا تبقى؟ لم لا تجلس؟ حتى يمضي من الليل أكثره، ثم عد إلى فراشك ضعيفاً هزيلاً كسلاناً، حتى تضيع الفجر أو تضيع تكبيرة الإحرام.

قال أبو سليمان الداراني : لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على تفويت ما مضى منه في غير طاعة لكان خليقاً أن يحزنه ذلك إلى الممات، فكيف بمن يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله؟! وقال ابن عبد القدوس في قصيدته الزينبية:

صرمت حبالك بعد وصلك زينب     والدهر فيه تصرم وتقلب

فدع الصبا فلقد عداك زمانه     وازهد فعمرك مر منه الأطيب

ذهب الشباب فما له من عودة     وأتى المشيب فأين منه المهرب

ضيف ألمّ إليك لم تحفل به     فترى له أسفاً ودمعاً يسكب

دع عنك ما قد فات في زمن الصبا     واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب

واخش مناقشة الحساب فإنه     لا بد يحصى ما جنيت ويكتب

لم ينسه الملكان حين نسيته     بل أثبتاه وأنت لاه تلعب

كانت سمات أهل العلم وأهل الآخرة، والسلف الصالح المحافظة على الوقت؛ لأن المحافظة على الأوقات من علامات ذوي الهمم القوية العالية، قال حماد بن سلمة: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله عز وجل فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه متوضئاً تالياً، أو عائداً مريضاً، أو مشيعاً لجنازة، أو منتظراً لصلاة، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي الله عز وجل، كنا نرى أنه لا يعرف كيف يذنب ويعصي، ويرتكب جريمة أو فاحشة أو منكراً أو معصية.

أما اليوم فكثير من الناس تجده وقت الصلاة نائماً، ووقت الجد والعلم لاهياً، ووقت الغنيمة غافلاً ساهراً على لهو أو فيلم أو أغنية أو ملهاة، وما أكثر ما يضيع من الخيرات والثواب والحسنات من أوقاتنا وأعمالنا!

كان الحسن يقول: [ما مر يوم على ابن آدم إلا قال له: يا ابن آدم! أنا يوم جديد، وعلى ما تعمل فيّ شهيد، وإذا ذهبت عنك لم أرجع إليك، فقدم ما شئت تجده بين يديك، وأخر ما شئت فلن يعود أبداً إليك].

وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: واعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة، فإن في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة).

فكم نضيع -يا عباد الله- من نخلات ومن غراس في جنات النعيم؟!

ومن عجب الأيام أنك جالس     على الأرض في الدنيا وأنت تسير

فسيرك يا هذا كسير سفينة     بقوم جلوس والقلوب تطير

الإنسان العاقل يحرص على اغتنام عمره إلى النفس الأخير من حياته، قال عيسى بن الهذيل : يا ابن آدم! ليس لما بقي من عمرك ثمن، وهو قريب المعنى من قول سعيد بن جبير : إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة لأداء الفريضة والصلاة، وما يرزقه الله ويفتح الله عليه من ذكره، وللنظر إلى اللحظات الأخيرة، والبقية الباقية من عمر الإمام أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري المتوفى سنة مائة واثنين وثمانين، الذي كان يعرف بأنه كبير القضاة في زمنه، قال القاضي إبراهيم بن الجراح : مرض أبو يوسف فأتيت أعوده، فوجدته مغمى عليه، فلما أفاق أبو يوسف، قال للقاضي إبراهيم : يا إبراهيم ما تقول في مسألة كذا؟ قلت: في هذه الحالة -أي: مسألة فقهية وبحث ونقاش وحوار وفائدة، وأنت في هذه الحالة من الإغماء أو في سكرات الموت- قلت: في هذه الحالة؟! قال: لا بأس بذلك، لعله ينجو به ناج.

ثم قال أبو يوسف: يا إبراهيم ! أيهما أفضل في رمي الجمار -أي: في مناسك الحج- أن يرميها ماشياً أو راكباً؟ فقلت: راكباً، قال: أخطأت، قلت: ماشياً، قال: أخطأت، قلت: قل فيها يرضى الله عنك، قال: أمّا ما كان من الجمار يوقف عنده للدعاء فالأفضل أن يرميه ماشياً، وأما ما كان لا يوقف عنده فالأفضل أن يرميه راكباً، ثم قمت من عنده، فما بلغت داري، حتى سمعت الصراخ عليه، وإذا هو قد مات رحمه الله.

أما الإمام شيخ المفسرين والمؤرخين ابن جرير الطبري رحمه الله، فقد كان على فراش الموت وكان قد سمع دعاءً عن جعفر بن محمد ، فاستدعى محبرة وصحيفة، فكتب الدعاء، فقيل له: يا ابن جرير! أفي هذه الحال؟!

فقال: ينبغي للإنسان ألا يدع اقتباس العلم حتى الموت.

وعن نعيم بن حماد قال: قيل لـابن المبارك: إلى متى تطلب العلم؟

قال: حتى الممات إن شاء الله.

بقية العمر عندي ما لها ثمن     وإن غداً ليس محسوباً من الزمن

يستدرك المرء فيها كل فائتة     من الزمان ويمحو السوء بالحسن

إن الساعة التي نجلس الآن فيها هي ساعة بين ساعات مضت، وبين ساعات قادمة، فما مضى لا نستطيع أن نفعل فيه شيئاً إلا ما قدمنا، إن كان خيراً سألنا ربنا الثبات عليه، وإن كان تفريطاً استغفرنا وندمنا، وأما المستقبل فلا نملكه، وليس بأيدينا أي شيء منه، يقول ابن القيم رحمه الله: الشأن في عمرك هو وقتك الذي بين الوقتين، بين الماضي والمستقبل، فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك، وإن حفظته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذكر، نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم.

وحفظ الوقت الحالي أشق من إصلاح ما قبله وما بعده، فإن حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى بها، وأنفع لها، وأعظم تحصيناً لسعادتها، وفي هذا يتفاوت الناس تفاوتاً عظيماً، فهي والله أيامك الخالية التي تجمع فيها الزاد لمعادك.

ثم يقول رحمه الله رحمة واسعة ما معناه: إن الصبر عن المعصية والصبر على الطاعة في اللحظة التي تعيشها الآن لهي أهون بإذن الله من ندم على معصية فيما مضى، وأهون من خوف ووجل وقلق وهم على معصية تهم بها أو تخطط لفعلها.

قال الغزالي : إن الساعات ثلاث: ساعة مضت لا تعب فيها على العبد كيفما انقضت في مشقة أو رفاهية، وساعة مستقبلة لما تأت بعد، لا يدري العبد أيعيش إليها أم لا، وساعة راهنة ينبغي أن يجاهد العبد فيها نفسه، فإن لم تأتِ الساعة الثانية، لم يتحسر على فوات الساعة الحاضرة، وإن أتته الساعة الثانية استوفى حقه منها كما استوفى من الأولى.

ومن كلام ابن القيم أيضاً: إن دأب العبد واجتهاده في ساعته ولحظاته في طاعة الله عز وجل، وصبره عن معصيته، واجتهاده في مرضاته، تمر به الأيام بعد، ثم ينسى تعب الطاعة، ويبقى الأجر والثواب، وأما أهل المعصية فمهما تفننوا وفعلوا واجترحوا وأجرموا من الذنوب والمعاصي، فإن لذاتهم الموهومة قد مضت وانقضت وولت، ونسوا تلك اللذة، وبقي إثمها ووزرها وشؤمها.

يقول الحسن البصري رحمه الله عن الدنيا: إنها ثلاثة أيام: أما أمس فقد ذهب بما فيه، وأما الغد فلعلك لا تدركه، وأما اليوم فهو الذي لك أن تعمل فيه، إنك أيها المسلم بين مخافتين: بين ماض لا تدري ما الله قاض فيه، وبين مستقبل لا تدري ما الله صانع فيه، فاستعن بالله ولا تعجز، وإن من جهل قيمة الوقت، وتهاون بوقته وزمنه وعمره، والله ليأتين عليه موقفان وسيعرف حينئذ أنه قد ضيع، وفرط في أمر ثمين.

إن كثيراً من الناس لا يعرفون قيمة الماضي والحاضر والمستقبل، ولكنهم سيعرفونها أتم المعرفة، ويدركونها أوفى الإدراك، وذلك ساعة الاحتضار إذا استدبر العبد الدنيا واستقبل الآخرة، يتمنى أن يمنح ولو ساعة من الزمان، يتمنى أن يؤخر إلى أجل قريب ليصلح ما أفسده، وليتدارك ما فاته: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100] .. وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10-11].

فالساعة الأولى التي سينقلب كل غبي بالوقت إلى ذكي، وكل جاهل بالوقت إلى عالم، وكل مفرط في الوقت إلى حريص، الساعة الأولى التي سيتحول فيها المفرط إلى حريص على وقته هي ساعة الموت، ولكن لا ينفع الندم ولات حين مندم، وأما الساعة الثانية، والموقف الثاني فذاك في الآخرة، يوم توفى كل نفس ما عملت، وتجزى بما كسبت، ويدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، هناك يتمنى أهل النار أن يعودوا ولو مرة واحدة إلى حياة التكليف، ليبدءوا عملاً جديداً صالحا: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] ويقول عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر:36-37] ألم تعيشوا ثلاثين وأربعين وخمسين وسبعين وثمانين: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37] وفسر النذير في بعض الآيات بالشيب.

هيهات هيهات! يطلبون أمراً في زمن قد مضى، ويتمنون الخروج من دار هم يجنون ما زرعوا، ويحصدون ما بذروا.

اغتنم ركعتين زلفى إلى الله     إذا كنت فارغاً مستريحا

وإذا ما هممت بالقول في الباطل     فاجعل مكانه تسبيحا

قال ابن هبيرة صاحب الإفصاح رحمه الله:

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه     وأراه أهون ما عليك يضيع

كان عمرو بن دينار قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء، فجزء يدرس فيه الحديث، وجزء ينام فيه، وجزء لصلاته وتهجده، والحال اليوم قد تبدلت، والأمور قد تغيرت، إن في الليل لسهراً، وإن في الليل لجهداً، وإن في الليل لعملاً، ولكن عمل على ما يضيع هذه الحسنات، وجهد فيما يفوت الصالحات، وسعي لأجل دنيا فانية، ولأجل حطام حقير، أما الآخرة فلا ينظر إليها بعين، ولا يرمى لها بسهم إلا من عباده من الأقلين، وما أقلهم:

وقد كانوا إذا عدوا قليلاً          فقد صاروا أقل من القليل

كان الشافعي رحمه الله يجزئ الليل ثلاثة أجزاء: جزء يكتب فيه، وجزء يتهجد فيه، وجزء ينام فيه، أما ليل شبابنا وليلنا وليل كثير من الناس، بل وليل بعض الصالحين هدانا الله وإياهم، فسهر طويل في القيل والقال، والحال والمآل، والكلام عن أحوال أقوام منهم من مضى ومنهم من بقي، وأقوام لا نسأل عنهم يوم القيامة ألبتة، فلا نلبث إلا أن ندرك أن منتصف الليل قد أدركنا، ثم نقوم إلى بيوتنا كسالى، ونأوي إلى فرشنا ضعافاً، الواحد ينقر الوتر نقراً، هذا إن كان فيه بقية من عزم على صلاة الوتر، ثم ينام متأخراً ليدرك ركعة أو ركعتين من الفجر، وربما فاتته صلاة الفجر، بسبب ماذا؟

بفيروس الوقت وهو ضياعه، وهو سهر فيما لا ينفع، وإنها من الأمراض التي يشكو منها كثير من الناس في هذا الزمان.

إنك تلاحظ ضغطاً اجتماعياً غريباً عجيباً على الناس، إذا اعتذر أحدهم عن موعد أو مناسبة بعد العشاء، فربما قال له بعضهم: وهل أنت من العجائز؟! وهل أنت من الشيوخ والكهول حتى تنام بعد العشاء؟! بمعنى: لم لا تسهر؟ لم لا تبقى؟ لم لا تجلس؟ حتى يمضي من الليل أكثره، ثم عد إلى فراشك ضعيفاً هزيلاً كسلاناً، حتى تضيع الفجر أو تضيع تكبيرة الإحرام.

قال أبو سليمان الداراني : لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على تفويت ما مضى منه في غير طاعة لكان خليقاً أن يحزنه ذلك إلى الممات، فكيف بمن يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله؟! وقال ابن عبد القدوس في قصيدته الزينبية:

صرمت حبالك بعد وصلك زينب     والدهر فيه تصرم وتقلب

فدع الصبا فلقد عداك زمانه     وازهد فعمرك مر منه الأطيب

ذهب الشباب فما له من عودة     وأتى المشيب فأين منه المهرب

ضيف ألمّ إليك لم تحفل به     فترى له أسفاً ودمعاً يسكب

دع عنك ما قد فات في زمن الصبا     واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب

واخش مناقشة الحساب فإنه     لا بد يحصى ما جنيت ويكتب

لم ينسه الملكان حين نسيته     بل أثبتاه وأنت لاه تلعب

كانت سمات أهل العلم وأهل الآخرة، والسلف الصالح المحافظة على الوقت؛ لأن المحافظة على الأوقات من علامات ذوي الهمم القوية العالية، قال حماد بن سلمة: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله عز وجل فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه متوضئاً تالياً، أو عائداً مريضاً، أو مشيعاً لجنازة، أو منتظراً لصلاة، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي الله عز وجل، كنا نرى أنه لا يعرف كيف يذنب ويعصي، ويرتكب جريمة أو فاحشة أو منكراً أو معصية.

أما اليوم فكثير من الناس تجده وقت الصلاة نائماً، ووقت الجد والعلم لاهياً، ووقت الغنيمة غافلاً ساهراً على لهو أو فيلم أو أغنية أو ملهاة، وما أكثر ما يضيع من الخيرات والثواب والحسنات من أوقاتنا وأعمالنا!

كان الحسن يقول: [ما مر يوم على ابن آدم إلا قال له: يا ابن آدم! أنا يوم جديد، وعلى ما تعمل فيّ شهيد، وإذا ذهبت عنك لم أرجع إليك، فقدم ما شئت تجده بين يديك، وأخر ما شئت فلن يعود أبداً إليك].

وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: واعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة، فإن في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة).

فكم نضيع -يا عباد الله- من نخلات ومن غراس في جنات النعيم؟!

ومن عجب الأيام أنك جالس     على الأرض في الدنيا وأنت تسير

فسيرك يا هذا كسير سفينة     بقوم جلوس والقلوب تطير

الإنسان العاقل يحرص على اغتنام عمره إلى النفس الأخير من حياته، قال عيسى بن الهذيل : يا ابن آدم! ليس لما بقي من عمرك ثمن، وهو قريب المعنى من قول سعيد بن جبير : إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة لأداء الفريضة والصلاة، وما يرزقه الله ويفتح الله عليه من ذكره، وللنظر إلى اللحظات الأخيرة، والبقية الباقية من عمر الإمام أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري المتوفى سنة مائة واثنين وثمانين، الذي كان يعرف بأنه كبير القضاة في زمنه، قال القاضي إبراهيم بن الجراح : مرض أبو يوسف فأتيت أعوده، فوجدته مغمى عليه، فلما أفاق أبو يوسف، قال للقاضي إبراهيم : يا إبراهيم ما تقول في مسألة كذا؟ قلت: في هذه الحالة -أي: مسألة فقهية وبحث ونقاش وحوار وفائدة، وأنت في هذه الحالة من الإغماء أو في سكرات الموت- قلت: في هذه الحالة؟! قال: لا بأس بذلك، لعله ينجو به ناج.

ثم قال أبو يوسف: يا إبراهيم ! أيهما أفضل في رمي الجمار -أي: في مناسك الحج- أن يرميها ماشياً أو راكباً؟ فقلت: راكباً، قال: أخطأت، قلت: ماشياً، قال: أخطأت، قلت: قل فيها يرضى الله عنك، قال: أمّا ما كان من الجمار يوقف عنده للدعاء فالأفضل أن يرميه ماشياً، وأما ما كان لا يوقف عنده فالأفضل أن يرميه راكباً، ثم قمت من عنده، فما بلغت داري، حتى سمعت الصراخ عليه، وإذا هو قد مات رحمه الله.

أما الإمام شيخ المفسرين والمؤرخين ابن جرير الطبري رحمه الله، فقد كان على فراش الموت وكان قد سمع دعاءً عن جعفر بن محمد ، فاستدعى محبرة وصحيفة، فكتب الدعاء، فقيل له: يا ابن جرير! أفي هذه الحال؟!

فقال: ينبغي للإنسان ألا يدع اقتباس العلم حتى الموت.

وعن نعيم بن حماد قال: قيل لـابن المبارك: إلى متى تطلب العلم؟

قال: حتى الممات إن شاء الله.

بقية العمر عندي ما لها ثمن     وإن غداً ليس محسوباً من الزمن

يستدرك المرء فيها كل فائتة     من الزمان ويمحو السوء بالحسن