الإيمان والكفر [7]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد النبي الأمي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

فهناك قضية أقحمت إقحاماً في قضايا الكفر والإيمان، وهي: الاستثناء في الإيمان، يعني: إذا قيل لك: هل أنت مؤمن؟ فبماذا تجيب؟ هل تقول: نعم أنا مؤمن، أما تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو ماذا تقول؟ فهذه القضية وإن كانت ليست من صلب قضايا الإيمان لكن لها تعلق بما سبق أن ذكرناه في قضية الإيمان ومركبات الإيمان.

نعرض أولاً لقول الإمام أبي بكر الآجري رحمه الله تعالى في كتاب الشريعة في السنة حيث قال: باب: ذكر الاستثناء في الإيمان من غير شك فيه. يعني: أنه يجوز أن تستثني في الإيمان دون أن تقصد بهذا الاستثناء الشك، فإذا قيل لك: هل أنت مؤمن؟ تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ولا تقصد بكلمة (إن شاء الله) الشك والريب؛ لأن الريب ينافي الإيمان كما ذكرنا من قبل في شروط لا إله إلا الله، فمن شروطها: اليقين المنافي للشك، وقال الله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15]، فلا يجوز أبداً الشك في الإيمان، فالذي يعتمده الإمام الآجري رحمه الله: أنه يجوز أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، بدون أن تقصد من كلمة (إن شاء الله) الشك في الإيمان، فمن صفة أهل الحق كما يقول الآجري : الاستثناء في الإيمان لا على جهة الشك، ولكن خوف التزكية لأنفسهم من الاستكمال للإيمان، فهو لا يدري أهو ممن يستحق حقيقة الإيمان أم لا، فتقول: نعم أنا أمؤمن، أو تقول: أنا مؤمن إن شاء الله دون أن تقصد بذلك تزكية نفسك.

ذكرنا من قبل: أن الإيمان يتركب من تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح بما فيها اللسان، فأنت حينما تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فهذا الاستثناء لا يمكن أبداً أن يدخل في تصديق القلب ولا في قول اللسان، وإنما يكون الاستثناء فيما يتعلق بعمل الجوارح بالأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، فلا يمكن أبداً أن يصح الإيمان من رجل يقول: أنا مؤمن إن شاء الله ويقصد التصديق بالقلب، فهذا لا يدخله استثناء، بل لابد فيه من اليقين الراسخ المنافي تماماً للريب وللشك.

كذلك لا يمكن أن تكون قاصداً بقولك: (إن شاء الله) النطق باللسان، لكن أنا مؤمن إن شاء الله فيما يتعلق بالجزء الثالث وهو عمل الجوارح. هذا هو الذي يصح أن تستثني فيه.

الناس عند السلف على الظاهر مؤمنون يتوارثون ويتناكحون؛ لأن ظاهر الناس في حياتهم في المجتمع الإسلامي أنهم مؤمنون مسلمون، وبهذا الإيمان يتوارثون، وإلا لو لم يكونوا مؤمنين لما ترتب على ذلك حصول الميراث بين المسلم وقريبه المسلم. وبه يتناكحون أيضاً .. وهكذا هذا به يتم التناكح على أساس الحكم بالإيمان، وبه تجري أحكام ملة الإسلام، ولكن الاستثناء منهم على حسب ما بيناه وحسب ما بينه العلماء من قبل، فهو إنما ينصرف إلى الأعمال التي توجب حقيقة الإيمان، وليس المقصود بالاستثناء ما في القلب، ولا الذي هو قول باللسان، إنما الاستثناء في أعمال الجوارح، وهو عبارة عن مخافة واحتياط فقط، ولا يمكن أبداً أن يكون على الشك؛ نعوذ بالله من الشك في الإيمان.

أما الأدلة على أن الاستثناء يكون بغير شك؛ فمنها: قوله تبارك وتعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ) )[الفتح:27]، فهل يمكن أن نقول: إن كلمة إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]، هنا على الشك؟ وهذا لا يمكن؛ لأن هذه بشارة من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فالله علم أنهم داخلون الحرم الشريف آمنين فهذا دليل على أن الاستثناء يكون بغير شك، وليس شرطاً أن تكون كلمة (إن شاء الله) تنصرف دائماً إلى الشك كما في هذه الآية.

كذلك لما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المقبرة ودعا للمؤمنين ختم دعاءه بقوله: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، هل هذا على الشك؟ كلا بل: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185].

كذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأجو أن أكون أخشاكم لله عز وجل)، وهذا أيضاً لا على سبيل الشك، ولكنه عبر عنه بقوله: (إني لأرجو).

وروي أن رجلاً قال عند ابن مسعود رضي الله عنه: أنا مؤمن، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: أفأنت من أهل الجنة؟! فقال: أرجو، فلما سمعه ابن مسعود يقول: أنا مؤمن، قال: أفأنت من أهل الجنة؟ قال الرجل: أرجو، فقال ابن مسعود : أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى، كما أنك لم تجزم في الأخيرة بأنك من أهل الجنة، ووكلت ذلك إلى علم الله، كذلك في الدنيا أيضاً لا تزكي نفسك، ولا تجزم بأنك مستحق للجنة.

أيضاً في سؤال الملكين في القبر جاء أنهما يقولان للمؤمن: (على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله تعالى)؛ فإن كان هذا المؤمن مات على اليقين وعلى الإيمان، فلا يمكن أن يكون المقصود من قول الملكين: (إن شاء الله) الشك؛ لأن الأعمال بالخواتيم، فهذا نص على أنه مات على اليقين، ويقال للكافر: (على شك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله)، فقالا: إن شاء الله، لا على سبيل الشك.

وقال الفضل بن زياد : سمعت أبا عبد الله - يعني: الإمام أحمد رحمه الله يعجبه الاستثناء في الإيمان. أي: يعجبه أن الرجل إذا سئل: أنت مؤمن؟ أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فقال له رجل: إنما الناس رجلان، مؤمن وكافر، فقال أبو عبد الله : فأين قوله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [التوبة:106]؟ يعني: ماذا تقول في هذا؟ وهذه الآية في سورة التوبة في بعض المؤمنين كما هو معلوم.

قال - أي الفضل- : سمعت أبا عبد الله يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما أدركت أحداً إلا على الاستثناء. يعني: ما أدركت أحداً من الأئمة السابقين من أئمة السلف إلا على الاستثناء في الإيمان، كأن أحدهم إذا سئل يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

قال الأوزاعي : في الرجل سئل: أمؤمن أنت؟ فقال: إن المسألة عما تسأل بدعة، والشهادة به تعمق لم نكلفه في ديننا، ولم يشرعه نبينا، ليس لمن يسأل عن ذلك فيه إمام، القول به جدل، والمنازعة فيه حدث، ولعمري ما شهادتك لنفسك بالتي توجب لك تلك الحقيقة إن لم يكن كذلك، ولا تركك الشهادة لنفسك بالتي تخرجك من الإيمان إن كنت كذلك، وإن الذي سألك عن إيمانك ليس يشك في ذلك منك، ولكنه يريد أن ينازع الله عز وجل علمه في ذلك، حين يزعم أن علمه وعلم الله عز وجل في ذلك سواء، فاصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل فيما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم، وقد كان أهل الشام في غفلة من هذه البدعة حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق ممن دخل في تلك البدعة بعد ما رد عليهم فقهاؤهم وعلماؤهم، فأشربتها قلوب طوائف منهم، واستحلتها ألسنتهم، وأصابهم ما أصاب غيرهم من الاختلاف، ولست بيائس أن يدفع الله عز وجل شر هذه البدعة إلى أن يصيروا إخواناً دون أسلافكم؛ فإنه لم يدخر عنهم خير خبئ لكم دونهم لفضل عندكم، وهم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله عز وجل وبعثه فيهم، فوصفه بهم فقال عز وجل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) )[الفتح:29].

هذا كلام الأوزاعي ، وبحصر الكلام يدل على أن هذا السؤال من الأشياء المحدثة، نحن نقر بذلك، وأنه لم يكن من أدب الصحابة ولا سلوكهم أن يسألوا مثل هذه الأسئلة، وإنما أراد من اخترع هذا السؤال أن ينازع في علم الله تبارك وتعالى، وأن يثبت بأن علمه فيك مثل علم الله فيه، فينكر عليك إذا قلت إن شاء الله، يريد أن تقول له: أنا مؤمن حتى توافقه على ذلك، ويقول: ألا يعلم منك أنك مؤمن؟ وأنت حينما تقول: إن شاء الله. هي إحالة إلى علم الله تبارك وتعالى، وهو يريد أن يساوي بين علمه هو وعلم الله عز وجل فيك.

وقيل لـسفيان بن عيينة : الرجل يقول: مؤمن أنت؟ فقال: فقل: ما أشك في إيماني، وسؤالك إياي بدعة. يعني: لا أشك لا في تصديقي بالقلب، ولا في نطقي باللسان. فهذا أيضاً نوع من محاصرة السائل بحيث يفوت عليه مقصده، ثم قال: وتقول: ما أدري أنا عند الله عز وجل. يعني: يمكن أن تجيب هذا السائل الذي يسألك: أنت مؤمن؟ فتقول له: إما أن تقول له: ما أشك في إيماني، وسؤالك إياي بدعة، أو تقول: ما أدري أنا عند الله عز وجل شقي أم سعيد، أمقبول عملي أم لا؟

وعن محل بن خليفة قال: قال لي إبراهيم : إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، فالجواب هنا بتصريح القلب، وبين النطق باللسان، وفوت عليه الكلام في الجزء الثالث؛ ولذلك لم تحتج هنا إلى الاستثناء.

وعن محمد بن سيرين قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:136] إلى آخر الآية. الشاهد: أنك تتلو عليه هذه الآية؛ لأن الله أمرك بأن تقولها: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:136] فحينما تقول: آمنت بالله، وبما جاء من عند الله، أفضل من أن تقول: أنا مؤمن. وتسكت، أو تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وتعني أنك إن شاء الله لست شاكاً في إيمانك.

وعن إبراهيم قال: إذا سئلت: أمؤمن أنت؟ فقل: لا إله إلا الله، فإنهم سيدعونك. يعني: مثل هذا الجواب سوف يفحمهم، وتريح نفسك من عناء مثل هذه المجادلات.

قال رجل لـعلقمة : أمؤمن أنت؟ قال: أرجو إن شاء الله تعالى. ذلك لأن كلمة أرجو مثل إن شاء الله فيها استثناء، كما ضربنا المثل في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بالله) فهذا أيضاً معنى من معاني الاستثناء، كذلك هنا إذا قيل لك: أمؤمن أنت فقل: أرجو إن شاء الله تعالى، ولا تقصد بذلك: أرجو التصديق بالقلب ولا باللسان، وإنما أرجو الأعمال والخواتيم، بماذا يختم لك.

قال أبو عبد الله - يعني: الإمام أحمد - : سمعت سفيان بن عيينة إذا سئل: أمؤمن أنت؟ إن شاء لم يجبه -لأنه ابتدع وأحدث سؤالاً لم يسأله السلف- وإن شاء قال: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني.

وقال أبو عبد الله : إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله فليس هو بشاك.

وقال أيضاً أبو عبد الله : حدثنا وكيع قال: قال سفيان : الناس عندنا مؤمنون في الأحكام، وفي المواريث، ولا ندري كيف هم عند الله عز وجل؟ ونرجو أن نكون كذلك. مؤمنون في الأحكام، وفي المواريث تطبق عليهم أحكام أهل الإيمان، وأحكام الميراث والطلاق والزواج، وكل ما يختص به المسلمون من أحكام فتطبق عليهم الأحكام في الظاهر؛ لانتمائهم إلى أهل الإيمان وأهل الإسلام، فالناس عندنا- يعني: في الدنيا- مؤمنون في الأحكام وفي المواريث، ولا ندري كيف هم عند الله عز وجل؟ ونرجو أن نكون كذلك.

قال هشام : كان الحسن ومحمد يهابان أن يقولا: مؤمن، ويقولان: مسلم.

وقيل لـأبي عبد الله : نقول: نحن المؤمنون؟ قال: نقول: نحن المسلمون، ثم قال أبو عبد الله : الصوم والصلاة والزكاة من الإيمان، قيل له: فإن استثنيت في إيماني أكون شاكاً؟ يعني: إذا قلت مؤمن إن شاء الله، هل هذا شك؟ قال: لا.

قال عبد الرحمن بن مهدي : إذا ترك الاستثناء فهو أصل الإرجاء.

قال محمد بن الحسين الآجري رحمه الله: إذا قال لك رجل: أنت مؤمن؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والموت، والبعث من بعد الموت، والجنة والنار، وإن أحببت أن لا تجيبه تقول له: سؤالك إياي بدعة، فلا أجيبك، وإن أجبته فقلت: أنا مؤمن إن شاء الله -على النعت الذي ذكرناه- فلا بأس به، واحذر مناظرة مثل هذا، فإن هذا عند العلماء مذموم، واتبع من مضى من أئمة المسلمين تسلم إن شاء الله تعالى. انتهى كلام الإمام الآجري في: كتاب الشريعة.

هذه المسألة أيضاً تعرض لها شارح الطحاوية رحمه الله تعالى بشيء من التفصيل، وهذه المسألة أحياناً يترتب عليها خلافات عديدة ومذمومة في نفس الوقت، فعند بعض المذاهب كالأحناف من قال: أنا مؤمن إن شاء الله، يقولون: هذا شاك في إيمانه، ومن ثم قال بعضهم: إن الحنفي لا يصح أن يتزوج شافعية؛ لأن الشافعية تشك في إيمانها؛ لأنهم يجيزون أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فخرج عالم من المتأخرين لعله أبو السعود العمادي صاحب تفسير: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، خرج الشيخ أبو السعود رحمه الله بقول أعجب من ذلك فقال: بل يجوز للحنفي نكاح الشافعية قياساً على الكتابية، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

يقول شارح الطحاوية رحمه الله: ومن ثمرات هذا الاختلاف: مسألة الاستثناء في الإيمان وهو أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، والناس فيه على ثلاثة أقوال: طرفان ووسط، منهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه. من الناس من يوجب أن تجيب وتقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ويوجب الاستثناء، ومنهم من يقول: يحرم عليك أن تقول: إن شاء الله، بل تقول: أنا مؤمن. ومنهم من يجيزه باعتبار ويمنعه باعتبار. وهذا أصح الأقوال.

يعني يقول: المسألة فيها تفصيل، وهذا أصح الأقوال، ممكن أن تقول له: ماذا تقصد بالإيمان؟

أما من يوجبه -أي: الاستثناء- فلهم مأخذان: أحدهما: أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً أو كافراً باعتبار الموافاة -باعتبار حالة التوفي؛ فإنما الأعمال بالخواتيم- وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به. الإيمان الحقيقي والنافع هو ما ختم لصاحبه به، فالعبرة بعلم الله بخامتك ونهايتك أن تكون على الإيمان أم على غير ذلك، والعياذ بالله، فهذا هو علم الله عز وجل في خاتمتك، أما ما قبل الخاتمة فلا عبرة به. قالوا: والإيمان الذي يعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان؛ كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال، والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب. وهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم، وعند هؤلاء: أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً، فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إسلامهم، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد. يعني: باعتبار النظر إلى المآل والخاتمة. وليس هذا -الكلام للكلابية- موافقاً لأقوال السلف، ولا كان يقول بهذا من يستثني من السلف في إيمانه. يعني: السلف لما كان يقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، قصدوا معنى معيناً، أما الكلابية ومن وافقهم إنما قالوا: إن الاستثناء واجب، فإنما نظروا إلى هذا التعليل، وهذا التعليل ليس موافقاً لكلام السلف، وهو أن الله عز وجل إنما ينظر للخاتمة ولا عبرة بقبل ذلك، وأن الكافر الذي كتب أنه سيختم له بالإسلام محبوب عند الله حتى قبل أن يكون كافراً، وكذلك مثلاً الصحابة قبل أن يسلموا كانوا محبوبين عند الله باعتبار مآلهم وخاتمة أعمالهم بالإسلام والإيمان، وكذلك في حق إبليس وفي حق من ارتد بعد إسلامه، فالله يبغضه قبل أن يفعل ما فعل من الكفر بالنظر إلى الخاتمة وإلى المآل، فيقول: ليس هذا قول السلف ولا كان يقول بهذا من يستثني من السلف في إيمانه، وهو فاسد؛ فإن الله تعالى قال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، فأخبر أنه يحبهم إن اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فاتباع الرسول شرط للمحبة، والمشروط يتأخر عن الشرط، وغير ذلك من الأدلة، هذا رد على ما عللوا به. ثم صار إلى هذا القول القول بوجوب الاستثناء طائفة غلوا فيه -غلوا جداً وتطرفوا في الأخذ بالاستثناء- حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة، أوجبوه في قولك: أنا مؤمن، ثم عمموا إيجاب الاستثناء في كثير من الأعمال حتى ما لا يليق أن ينسب فيه الاستثناء. يقول: صليت إن شاء الله. وللأسف بعض الإخوة يفعلون هذا، ما اسمك؟ يقول: أنا أخواك كذا كذا إن شاء الله، شيء لا يحتمل من الاستثناء، ليس في مثل هذا استثناء، أين كنت بالأمس؟ كنت بالمكان الفلاني إن شاء الله، كلا، إنما تستثني بما يكون في المستقبل، أو في مثل هذه المواضع؛ فهذا من الغلو. يقول: حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة، ويقول: صليت إن شاء الله.

ثم صار كثير منهم -أشد غلواً- يستثنون في كل شيء، فيقول أحدهم: هذا ثوب إن شاء الله. هذا حبل إن شاء الله. فإذا قيل لهم: هذا لا شك فيه، يقولون: نعم، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره. فعلقوا الأمر وعللوه بتعلقه بإرادة الله وعلمه تبارك وتعالى، فهذا هو المأخذ الأول الذي علل به من أوجب الاستثناء في الإيمان مذهبه.

أما المأخذ الثاني: فهو أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن، فبهذا الاعتبار شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين.

ما زلنا نناقش مذهب من يوجب الاستثناء، وقلنا: إن لهم مأخذين: المأخذ الأول: النظر إلى سابق علم الله بما تكون عليه خاتمتهم؛ ولذلك أوجبوا أن تقول: إن شاء الله، ثم حصل غلو بصورتين ذكرناهما.

المأخذ الثاني: أن من قال أنا مؤمن ولم يقل: إن شاء الله أنه شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين؛ لأن المؤمن هو من قام بكل ما أمر به، وانتهى عن كل ما نهاه الله عنه؛ فهو يشهد لنفسه ويزكيها.

قال: القائمين بجميع ما أمروا به، وتركوا كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله المقربين، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة، لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال. وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون.

فإذاً لم نوافقهم في التعليل الأول، ولكن يوافقهم السلف في التعليل الثاني، وأنك إذا سئلت: أنت مؤمن؟ تقول: نعم أنا مؤمن، قالوا: إن (أنا مؤمن) هذه فيها تزكية للنفس؛ لأن معنى المؤمن كما في مقدمة سورة الأنفال قال الله عز وجل عنهم بعدما ذكر مجموعة من خصال المؤمنين، قال: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4]، فإذا أنت وصفت نفسك بالإيمان ولم تستثن، فمعنى ذلك تزكية نفسك.

قال: وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا صرف الاستثناء بمعنى آخر. فالسلف الذين اعتبروا هذا المأخذ دليلاً على جواز الاستثناء في الإيمان، يجوزون عدم الاستثناء، لكن يقصد بكلمة الإيمان معنى آخر، ويحتجون أيضاً بجواز الاستثناء فيما لا شك فيه، يعني ليس معنى أنك تقول: أنا مؤمن إن شاء الله. أنك شاك في إيمانك، لكن يقولون: يجوز أن تقول: إن شاء الله فيما لا شك فيه، من حيث القلب واللسان، لكن من حيث عمل الجوارح هذا الذي أشرنا إليه في المأخذ الثاني. كما قال تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27]، وقال صلى الله عليه وسلم حين وقف على المقابر: (وإنا إن شاء الله بكم لا حقون)، وقال أيضاً: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله). ونظائر هذا.

وأما من يحرمه -الفريق الذي يحرم أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله- فكل من جعل الإيمان شيئاً واحداً، فيقول: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، فقولي: أنا مؤمن، كقولي: أنا مسلم، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه، وسموا الذين يستثنون في إيمانهم بالشكاكة. يعني: متشككين في إيمانهم. وأجابوا عن الاستثناء الذي في قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27]، بأنه يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول فلا شك فيه.

يعني قوله: (( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ )). الاستثناء فيه متعلق بأنكم قد تكونوا آمنين وممكن ألا تكونوا آمنين، لكن الدخول واقع واقع، فأعادوا الاستثناء إلى الأمن من عدم الأمن، وهذا تكلف لا شك فيه، فقالوا: إن الاستثناء يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول فلا شك فيه، حتى بعضهم اخترع تفسيراً آخر فقال: (( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ))، يعني: لتدخلن جميعكم أو بعضكم، فهذا هو مأخذ الاستثناء؛ لأنه علم أن بعضهم يموت قبل هذا الحادث أو هذا الوقت.

وفي كلا الجوابين نظر: فإنهم وقعوا فيما فروا منه، فأما الأمن والخوف فقد أخبر أنهم يدخلون آمنين. لأن الله عز وجل قال: (( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ))، هذه حال، يعني: تدخلون حال كونكم آمنين. مع علمه تبارك وتعالى بذلك؛ فلا شك في الدخول، ولا في الأمن، ولا في دخول الجميع أو البعض، فإن الله قد علم من يدخل فلا شك فيه أيضاً؛ فكان قوله: (( إِنْ شَاءَ اللَّهُ ))، هنا تحقيقاً للدخول، كما يقول الرجل فيما عزم على أن يفعله لا محالة: والله لأفعلن كذا إن شاء الله. هذا الشيء هل هو بسبب شك في عزمه وإرادته؟ لا شك؛ لأنه لو شك ما عرف، لكن يترتب عليها فقط حكم شرعي وهو: أنه إذا حلف واستثنى فحنث لا تجب عليه الكفارة. والله لأفعلن كذا إن شاء الله، لا يقولها لشك في إرادته وعزمه، ولكن إنما لا يحنث الحالف في مثل هذه اليمين؛ لأنه لا يجزم بحصول مراده، وأجيب بجواب آخر لا بأس به، وهو: أنه قال ذلك تعليماً لنا كيف نستثني إذا أخبرنا عن المستقبل (( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ))، هذا تأديب للمؤمنين: أنه إذا أخبرت عن شيء تفعله في المستقبل أن تستثني.

وفي كون هذا المعنى مراداً من النص نظر؛ فإنه ما سيق الكلام له إلا أن يكون مراداً من إشارة النص.

وأجاب الزمخشري بجوابين وكلاهما عجيب، حتى إن بعض العلماء وصفه بالمسكين، قال: فأجاب الزمخشري بجوابين باطلين، وهما: أن يكون الملك قد قاله، فأثبت قرآناً، أو أن الرسول قاله. ولا حول ولا قوة إلا بالله، يعني: كأن كلام الملك أو كلام الرسول عليه الصلاة والسلام يدخل في القرآن؛ فيصبح قرآناً بمجرد ذلك. فيقول الشارح في إحدى النكت: فعند هذا المسكين يكون من القرآن ما هو غير كلام الله، فيدخل في وعيد من قال: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25]، نسأل الله العافية.

هذا خلاصة الكلام في مأخذ من أوجب الاستثناء، ومن حرم الاستثناء، ونحن نعلم أن مثل هذا الخلاف لا يمكن أبداً نسبته إلى الشريعة، ففي نفس الفعل شخص يقول: هذا واجب، والآخر يقول: هذا حرام، فتجزم قطعاً أن الخلاف تتنزه عنه الشريعة الإسلامية، لا بد أن يكون الحق في أحد الأمرين أو خارجاً عنهما، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، فيكون هذا اختلاف من التضاد، وهذا مستحيل؛ لأن المستحيل هو اجتماع الضدين، فمن أراد أن يتقي الله ماذا يفعل؛ إن كان واحد يقول: هذا واجب، والآخر يقول: هذا حرام؟ فجزماً وقطعاً الحق في واحد من القولين أو ربما في غيرهما.

أما الفريق الثالث، وهم أسعد الناس بالدليل، وهم من جوز الاستثناء، قال: وأما من جوز الاستثناء وتركه؛ فهم أسعد بالدليل من الفريقين، وخير الأمور أوسطها، فإن أراد المستثني الشك في أصل إيمانه منع من الاستثناء. إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله، ويقصد بذلك الشك في تصديق قلبه، أو نطقه بالإيمان فهو يمنع، وهذا مما لا خلاف فيه على الإطلاق. وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:3] * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:4]، وفي قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، فالاستثناء حينئذ جائز.

كما ذكرنا من بداية الكلام، قلنا: الاستثناء لا يدخل أبداً لا في التصديق بالقلب، ولا في النطق باللسان، وإنما يدخل في عمل الجوارح، الأعمال المحققة والموجدة لحقيقة الإيمان، كمثل هذه الآيات، حينئذ حينما تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، يعني: أرجو أن أكون من المؤمنين الذين وصفهم الله بهذه الكمالات، هؤلاء هم المؤمنون الكمل، المؤمنون حقاً، كما وصفهم الله.

وكذلك من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة. عدم علمه بالخاتمة، أنا مؤمن إن شاء الله، يعني: لا أعلم خاتمتي كيف تكون؟ حتى لو كنت مستقيماً على الطاعات، فما أدري كيف يختم عملي؟ فكذلك من استثنى تعليقاً للأمر بمشيئة الله لا شكاً في إيمانه، وهذا القول في القوة كما ترى.

يعني هذا المذهب الثالث الذي يجيز الاستثناء ويجيز عدم الاستثناء، ويجيز باعتبار في الأول هو غير الاعتبار الذي في الثاني.

يقول الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله:

وأهله فيه على تفاضل هل أنت كالأملاك أو كالرسل

وأهله فيه على تفاضل: يعني: أهل الإيمان في هذا الإيمان على تفاضل، هل أنت كالأملاك أو كالرسل: في الحقيقة المرجئة يقولون: نحن كالأملاك وإيماننا مثل إيمان الملائكة والرسل؛ لأن الإيمان عندهم مجرد المعرفة بلا عمل.

يقول هذه هي المسألة الثانية: وهي تفاضل أهل الإيمان فيه، يعني: الناس ليسوا سواء في الإيمان، بل بعضهم يكون أفضل من بعض في الإيمان، كما ذكر الله تبارك وتعالى أقسامهم التي قد قسمهم عليها بمقتضى حكمته، فقال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:163].

آيات وأحاديث في الرجاء

يقول عز وجل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32] إلى آخر الآيات، فهنا انظر إلى قوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا ، يعني: أمة محمد عليه الصلاة والسلام الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ، ثم ذكر أقسام هؤلاء المصطفين الأخيار فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ بالمعاصي، فدل على أن العاصي لا يخرج من الإسلام، ولا يخرج من الإيمان لمجرد المعصية، بدليل أنه ذكرهم ضمن من سيرحمهم الله تبارك وتعالى: وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، أي: اقتصروا على التزام الواجبات واجتناب المحرمات، فلم يزيدوا على ذلك، ولم ينقصوا منه وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32] * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر:33]، فبعض العلماء قال: إن هذه أرجى آية في القرآن لأهل المعاصي، والإنسان إذا أشرف على اليأس أو القنوط أو خروج روحه؛ فإنه يتذكر نصوص الرجاء أو يذكر بها حتى يلقى الله وهو حسن الظن به، أو إذا كان في حالة غير حالة الاحتضار، وغلب عليه الخوف بحيث خشي أن يئول أمره إلى القنوط من رحمة الله عز وجل، فعليه أن يذكر نفسه بنصوص الرجاء هذه، فبعض العلماء يقولون: حق لهذه الواو التي في قوله: يَدْخُلُونَهَا ، وهي تعود على الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات.. حق لها أن تكتب بماء العين؛ ولذلك عد بعض العلماء هذه الآية أرجى آية في القرآن لأهل المعاصي.

كذلك من الآيات التي يقال عنها: إنها أرجى آية في القرآن قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

وكذا قوله تعالى في سورة الشورى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، فبين أنك إما أن تؤاخذ بالذنوب في الدنيا، وإما أن الله يعفو عنك، وما تبقى من ذلك سيعفو الله تبارك وتعالى عنه.

وكذا قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، لكن لما قيل لبعض الناس: إن هذه أرجى آية في القرآن، قالوا: لكن هذه فيها المشيئة، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ، لكن أيضاً هي من آيات الرجاء العظيم؛ لأن الإنسان إذا كان على التوحيد ومات عليه، فهو داخل في مشيئة الله، والله أرحم الراحمين ويرجى له ذلك.

وكذا أطول آية في القرآن، وهي آية الدين؛ لأن الله عز وجل من تعظيمه لحق المؤمن حتى في الدراهم أو الدنانير المعدودة أنزل أطول آية في القرآن لأجل حفظ حق المسلم ورعاية مصلحته، وكما تعلمون فيها الكثير من الأحكام الشرعية لحفظ حق المسلم ومصلحته في أشياء يسيرة، فيرجى من الله عز وجل في الآخرة أن تكون رحمته للمؤمن، وتقديره الخير والسعادة له أعظم وأعظم من ذلك.. إذا كان هذا في مجرد قروش قليلة في الدنيا أنزل أطول آية حتى يضمن لك هذه المصلحة، فكيف تكون رحمته في الآخرة؟ فنؤمل خيراً من ذلك.

ومثل هذا أيضاً: بعض الآثار التي فيها أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يرض أن أحداً من أمته يبقى في النار، وساقوا في ذلك أشعاراً منها:

ولقد قرأنا في الضحى ولسوف يعطى فسر قلوبنا ذاك العطاء

وحاشا يا رسول الله ترضى وفينا من يعذب أو يساء

هل هذا الكلام من الجانب الشرعي صحيح؟ المقصود: أن النبي عليه الصلاة والسلام يرضيه ما يرضي ربه، فكما أن في جانب الرحمة الله عز وجل يعفو عمن يستحق ذلك، ويعلمه الله أهلاً لذلك، فكذلك من كماله أن يكون عادلاً في من عصى أمره، وعاند شريعته، وخرج عن طاعته، فمن عصى الله والرسول يحب أن يعاقب، لكن على كل حال قد يرشح هذا الأمر حديث قدسي في صحيح مسلم : أن النبي عليه الصلاة والسلام تلا دعاء إبراهيم لقومه، ودعاء عيسى، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (يا رب أمتي أمتي وبكى)، لما وجد إبرهيم دعا لقومه وعيسى دعا، قال: (يا رب أمتي أمتي)، فأرسل الله عز وجل ملكاً فقال: (قل له: يا محمد! ما يخفيك؟ فقال: يا رب أمتي أمتي)، أشفق عليه الصلاة والسلام على أمته، فأوحى الله إليه على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام: (قل له: إنا سنرضيك في أمتك ولن نسوءك)، هذا أيضاً مما يدخل ضمناً في معنى قوله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، يعني: يرضيك بما يشرح صدرك بالنسبة لمصير أمتك في الآخرة.

ومن الآيات هذه الآية فهي من آيات الرجاء: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10]، فالشاهد: أن هؤلاء المجرمين الذين عادوا أولياء الله وأحرقوهم وعذبوهم هذا التعذيب، واستحقوا بذلك أن يكونوا أشد الناس عذاباً في الآخرة؛ لأن من عذب الناس في الدنيا يعذبه الله عذاباً أشد من ذلك في الآخرة، ومع ذلك اشترط عدم التوبة في حصول العقوبة له: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10]، فأي رحمة أعظم من ذلك؟!

كذلك آية سورة الفرقان؛ فبعد أن ذكر الله عز وجل جملة من كبائر الذنوب قال: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا [الفرقان:70] إلى آخر الآية.

كذلك قال الله: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22]، الشاهد في نفس هذه الآية، وهو قوله: وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النور:22]، على أن هذه الآية من آيات الرجاء في القرآن، وقد نزلت في مسطح لما قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد وصفه بالمهاجرين في سبيل الله رغم أنه فعل هذه الكبيرة وهي قذف أم المؤمنين، هذا هو الشاهد؛ لأنه دل على أن هذه المعصية الكبيرة التي أنزل الله فيها ما أنزل في سورة النور تنزيهاً لأم المؤمنين، وتبرئة لها رضي الله عنها، فمثل هذا الذنب العظيم الذي فعله مسطح لو كان يحبط ما سبق من أعماله الصالحة لما استقر له وثبت وصف الهجرة في سبيل الله، لكن ثبوت هذا الوصف لـمسطح مع ارتكاب هذه الكبيرة دل على أن معصيته لا تحبط ما سبق من أعماله الصالحة ففي هذا بشرى للمؤمن أن المعصية وإن كانت تنقص إيمانه لكنها لا تذهبه بالكلية، ولا تحبط أعماله السابقة.

تفاوت أهل الطاعات

على أي الأحوال هذا استطراد ربما نكون خرجنا به عن الموضوع، ففي هذه الآية وهي قوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32]، هل هؤلاء المؤمنون المصطفين يستوون في إيمانهم؟ كلا. هذا التقسيم يدل على تفاوت إيمانهم، فقسم الناجين منهم إلى مقتصدين، وهم الأبرار أصحاب اليمين الذين اقتصروا على التزام الواجبات واجتناب المحرمات، فلم يزيدوا على ذلك، ولم ينقصوا منه، وإلى سابق بالخيرات: وهم المقربون الذين تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، وتركوا ما لا بأس به خوفاً مما به بأس، وما زالوا يتقربون إلى الله تعالى بذلك حتى كان سمعهم الذي يسمعون به، وبصرهم الذي يبصرون به، إلى آخر معنى الحديث السابق، فبه يسمعون، وبه يبصرون، وبه يبطشون، وبه يمشون، وبه ينطقون، وبه يعدلون؛ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20].

وأما الظالم لنفسه: ففي المراد به عن السلف الصالح قولان:

القول الأول: أن المراد به الكافر، فيكون كقول الله عز وجل في تقسيم الناس في سورة الواقعة: وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً [الواقعة:7] * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة:8] * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ [الواقعة:9] * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة:10] * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:11]، وقسمهم عند الاحتضار أيضاً كذلك، فقال عز وجل: فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الواقعة:88] * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الواقعة:89] * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:90] * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:91] * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ [الواقعة:92] * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ [الواقعة:93] * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الواقعة:94] فإن تفاضل أهل الإيمان في تقسيم هذه السورة إنما هو على درجتين: سابقين مقربين، وأبرار: هم أصحاب اليمين، وأما أصحاب الشمال الذين هم المكذبون الضالون فليسوا من أهل الإسلام باتفاق، وإنما الخلاف في الظالم نفسه في آية فاطر، هل هو الكافر، أم غير ذلك؟ هذا هو القول الأول: أن الظالم نفسه كالكافر، فيكون التقسيم على هذا التفسير موافقاً لما في الآيات التي ذكرناها.

القول الثاني: أن المراد به عصاة الموحدين؛ فإنهم ظالمون لأنفسهم، ولكن ظلم دون ظلم، لا يخرجه من الدين، ولا يخلد به في النار، فعلى هذا يكون قسم ثالث لتفاضل أهل الإيمان، ورجح هذا القول ابن القيم رحمه الله تعالى، فإذا كان أتباع الرسل بينهم تفاوت على حسب درجات إيمانهم: ظالم لنفسه، مقتصد، سابق بالخيرات، فكيف بتفاوت ما بينهم وبين رسلهم؟ لا شك أن التفاوت بعيد جداً، بل الرسل أنفسهم فيما بينهم متفاضلون، يقول الله عز وجل: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة:253].

تفاوت المؤمنين في درجات الجنة ونعيمها

أخبر الله عز وجل عن المؤمنين أنهم متفاوتون في الإيمان في باب التكليف، كذلك جعل الجنة التي هي دار الثواب متفاوتة الدرجات مع كون كل منهم فيها، فالجميع في الجنة، ولكن بتفاوت مراتب إيمانهم أيضاً يتفاضلون، وما كان هذا التفاضل في الجزاء في الجنة إلا بسبب تفاضلهم في إيمانهم في الدنيا، قال عز وجل في سورة الرحمن: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:47]، (ولا بشيء من نعمة ربنا نكذب، فلك الحمد) كما قال الجن حينما سمعوها من النبي عليه الصلاة والسلام: (لقد قرأتها -يعني: سورة الرحمن- على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما قرأت قوله تعالى: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ))[الرحمن:47]، قالوا: ولا بشيء من نعمة ربنا نكذب فلك الحمد). ذَوَاتَا أَفْنَانٍ [الرحمن:48] * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:49] * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ [الرحمن:50] * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:51] * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن:52] * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:53] * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن:54] * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:55]، إلى أن قال تبارك وتعالى: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن:62]، فدل على التفاوت في الجزاء في الآخرة.

وكذا في سورة الواقعة أخبر بصفة الجنة التي يدخلها السابقون، وأنها أعظم وأعلى من صفات الجنة التي يدخلها أصحاب اليمين، وكذلك في سورة المطففين قال تبارك وتعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [المطففين:22] * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين:35] * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:24] * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ [المطففين:25] * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26] * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ [المطففين:27] * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:28]، وغير ذلك من الآيات.

وقال صلى الله عليه وسلم: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنات عدن)، وقال الله تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:163]، وأهل الجنة متفاوتون في الدرجات حتى إنهم ليتراءون أهل عليين، يعني: ويرون غرفهم من فوقهم كما يرى الكوكب في الأفق الشرقي أو الغربي. هذه حقيقة سوف يدركها كل من امتن الله عز وجل عليه بدخول الجنة، نسأل الله أن يجعلنا منهم، فأهل الجنة الذين هم أقل من أهل عليين يرون أهل عليين كما ترى أنت الكوكب الدري، وذلك حينما تخرج من صلاة الفجر ترى كوكباً في السماء الكوكب ذاك هو الدري الغابر الذي يظهر في السماء، انظر إلى مسافته.. إنه بعيد جداً عنا، ومع ذلك فإن أهل الجنة سيرون أهل عليين كما ترون أنتم في الدنيا هذا الكوكب الدري الغابر في الأفق الشرقي أو الغربي.

أيضاً هم متفاوتون في الأزواج، والفواكه من المطعوم والمشروب، ومتفاوتون في الفرش والملبوسات، سبحان الله! شتان بين من يعيش ليدرك هذا النعيم، وبين من يعيش ويشقى ويركبه الهم والغم والحزن. مثلاً: إذا أغري رجل بشخصية صفتها كذا وكذا، كأفخم ما تكون شخصية، أو قطر في هذه الدنيا، كيف يكون همه وعلو همته في تحصيل هذا الأمر إذا فعل كذا أو كذا؟ كأفخم ما تكون شخصة أو قصر في هذه الدنيا، كيف تكون علو همته في تحصيل هذا الأمر، فالناس لو كان عندهم يقين أن هذا واقع فعلاً، وأن هذه دار إقامة لا موت فيها ولا انقطاع، فما من شك أن الإنسان إذا كان عالي الهمة لا يطمح فقط إلى دخول الجنة، ولكنه يطمع في رحمة الله، ويسأل الله الفردوس كما أوصانا بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فانظر إلى التفاوت حتى في المراتب، فعالي الهمة يطلب المراتب الأعلى.

يتفاوتون في الفرش والملبوسات وفي الملك والجمال والنور، ومتفاوتون في قربهم من الله عز وجل، وزيارتهم إياه، ومقاعدهم يوم المزيد الذي هو يوم الجمعة في الجنة، وأيضاً حديث الشفاعة فيه: أن بعض الموحدين تمسهم النار بقدر ذنوبهم، بل معروف أيضاً في مشاهد يوم القيامة أن العرق يبلغ من الإنسان بقدر ذنوبه، فمن الناس من يكون العرق عند قدميه، ومنهم من يكون عند ركبته، حسب المعاصي في الدنيا، فهذا يدل أيضاً على التفاوت في قوة الإيمان والأعمال الصالحة، ومنهم من يبلغ العرق إلى حقوية، ومنهم من يصل إلى صدره، ومنهم من يلجمه العرق، والعياذ بالله، فبماذا يكون هذا؟ بقسم الذنوب، وتفاوت الناس في قوة الإيمان.

أيضاً عصاة الموحدين في النار تمسهم النار بقدر ذنوبهم، والسير على الصراط أيضاً يكون بقدر قوة الإيمان، وهذا فيه تفاوت، فهناك من يمشي بسرعة البرق، ومن هو بسرعة الريح، ومن يحبو، ومن يقع وهكذا، فهذا كله بمقدار الذنوب.

تفاوت أهل النار في الدركات والعذاب وبيان فساد مذهب المرجئة

ثم يوجد تفاوت في النار؛ فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم من تأخذه كله إلا مواضع السجود؛ لذلك جاء في حديث الشفاعة أن الملائكة حينما يدخلون النار من أجل أن يخرجوا من مات على التوحيد إنما يعرفونهم ويميزونهم بمواضع السجود، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (حرم الله على النار أن تأكل مواضع السجود)، فيا خيبة ويا حسرة تاركي الصلاة الذين تخلو وجوههم من علامات السجود! ولا نعني بذلك العلامة المعروفة التي -كما يقول بعض السلف-: قد تكون بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون، فإنه يسهل أن يطرح هذه العلامة بطرق شتى، لكن العبرة بما ذكره الله عز وجل في قوله: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29]، فالعبرة بالخشوع والتواضع والسكينة، وهذا دليل استدل به من كفر تارك الصلاة كفراً أكبر، وقال: لا حظ لمن لا يصلي في هذا الأمر؛ لأن الملائكة إنما تخرج من كان يصلي، فاستدلوا بذلك على كفر تارك الصلاة، وسيأتي إن شاء الله الكلام في ذلك بالتفصيل. كذلك الناس يتفاوتون في مقدار لبثهم فيها، وسرعة خروجهم منها؛ لأنهم متفاوتون في الإيمان والتوحيد الذي بسببه يخرجون منها، ولولاه لكانوا مع الكافرين خالدين مخلدين أبداً، فيقال للشفعاء: (أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم من كان في قلبه نصف دينار من إيمان، ثم من كان في قلبه وزن برة من إيمان، ثم من كان في قلبه ذرة من إيمان، ثم من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان)، فأين هذا ممن الإيمان في قلبه مثل الجبل العظيم؟ وأين من نوره على الصراط كالشمس ممن نوره على إبهام قدمه يضيء تارة وينطفئ أخرى؟ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36]؟ في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علي عمر وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين)، فهذا أيضاً دليل على التفاوت. وقال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل. ذكره البخاري تعليقاً مجزوماً به. وقال النبي صلى الله عليه وسلم يمدح عمار بن ياسر رضي الله عنه: (ملئ عمار إيماناً إلى مشاشه). وقال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، فكلمة: (أضعف)، تدل على أن الدرجة الوسطى أوسط، والدرجة الأولى هي أقوى الإيمان، فدل على ضعف وقوة في الإيمان، وكذا زيادته ونقصانه وتفاوت وتفاضل أهله فيه، بخلاف قول المرجئة ومن وافقهم في أن الإيمان لا يتفاضل أهله فيه، بناءً على أن الإيمان هو مجرد المعرفة فقط، فبالتالي يترتب على كلامهم: أن إيمان جبرائيل وإسرافيل وميكائيل والملائكة وحملة العرش مثل إيمان أدنى واحد من المؤمنين، فإيمان هؤلاء الذين يعاينون الغيب مثل إيمان أقل واحد من المسلمين، فأين قائل هذا من هذه النصوص الواضحة التي تبطل هذا المذهب الفاسد؟! قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو وزن إيمان أبي بكر رضي الله عنه بإيمان أهل الأرض لرجح.

اتصال العمل بالإيمان في نصوص الشرع

وقرأ الفضيل بن عياض رحمه الله أول الأنفال حتى بلغ: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:4]، ثم قال حين فرغ: إن هذه الآية تخبرك أن الإيمان قول وعمل. يعني كلمة: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4]، هل مدحهم الله فقط بالقول، أم بالأعمال أيضاً؟ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:3] * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4]، (حقاً): يعني: أن حق الإيمان هو ما اقترن فيه القول بالعمل، فقال الفضيل : إن هذه الآية ستخبرك أن الإيمان قول وعمل.

ثم يقول: وأن المؤمن إذا كان مؤمناً حقاً فهو من أهل الجنة، لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:4]، فمن لم يشهد أن المؤمن حقاً من أهل الجنة فهو شاك في كتاب الله؛ مكذب أو جاهل لا يعلم، فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن حقاً مستكمل الإيمان، ولا يستكمل الإيمان إلا بالعمل، ولا يستكمل عبد الإيمان ولا يكون مؤمناً حقاً حتى يؤثر دينه على شهوته، ولم يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه، يا سفيه ما أجهلك! لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مؤمن حقاً مستكمل الإيمان، والله لا تكون مؤمناً حقاً مستكمل الإيمان حتى تؤدي ما افترض الله عليك، وتجتنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، ثم تخاف مع هذا ألا يقبل الله منك، كما يقول بعض السلف: الناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم، فرحمة الله عز وجل تسع كل شيء، لكن لا يأمن مكر الله تبارك وتعالى ويخاف سوء الخاتمة، بل سوء السابقة.

يقول: والله لا تكون مؤمناً حقاً مستكمل الإيمان حتى تؤدي ما افترض الله عليك، وتجتنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، ثم تخاف مع هذا ألا يقبل الله منك.

ووصف فضيل الإيمان بأنه: قول وعمل، وقرأ: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، سماه: دين القيمة بعد أن وصفه بالقول والعمل، فالقول: الإقرار بالتوحيد، والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم، والعمل أداء الفرائض واجتناب المحارم، وقرأ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54] * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:55]، وقال عز وجل: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13]، فالدين التصديق بالعمل كما وصفه الله تعالى، وكما أمر أنبياءه ورسله بإقامته والتفرق فيه ترك العمل، والتفريق بين القول والعمل، هذا تفسير: (( وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ))، يعني: لا تفصلوا القول عن العمل، بل صلوا ما أمر الله به أن يوصل من القول مع العمل، قال الله تعالى: (( فَإِنْ تَابُوا )) أي: المشركين: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11]، فالتوبة من الشرك جعلها الله تعالى قولاً وعملاً بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، بجانب كلمة التوحيد، وقال أصحاب الرأي: ليس الصلاة ولا الزكاة ولا شيء من الفرائض من الإيمان؛ افتراء على الله وخلافاً لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وللدفاع عن الأحناف وأصحاب الرأي في هذه القضية نقول: إنهم حينما يقولون الإيمان يعني بمعنى التصديق؛ فإنهم يقصدون التصديق المستلزم للانقياد والعمل، وهناك بحث واف طويل في شرح الطحاوية حول هذه القضية.

يقول: ولو كان القول كما يقولون لم يقاتل أبو بكر أهل الردة.

وقال الفضيل : يقول أهل البدعة: الإيمان الإقرار بلا عمل، والإيمان واحد، إنما يتفاضل الناس بالأعمال ولا يتفاضلون بالإيمان، قال: فمن قال ذلك فقد خالف الأثر. يعني: الإيمان نفسه حتى لو كان التصديق، فإن التصديق يتفاوت، قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) )[البقرة:260] فمن قال ذلك: يعني: من قال: إن الإيمان واحد، والناس كلهم متساوون في الإيمان، لكن يتفاضلون بالأعمال فقط، لكن في الإيمان لا يتفاضلون. فمن قال ذلك فقد خالف الأثر، ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) فكلمة: (أفضلها)، يدل على وقوع التفاضل بين شعب الإيمان، ومن يقول: إن الإيمان لا يتفاضل، يقول: إن فرائض الله ليست من الإيمان، فميز أهل البدع العمل من الإيمان، وقالوا: إن فرائض الله ليست من الإيمان، فمن قال ذلك فقد أعظم الفرية، أخاف أن يكون جاحداً للفرائض راداً على الله أمره، ويقول أهل السنة: إن الله تعالى قد قرن العمل بالإيمان، وإن فرائض الله من الإيمان، قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:82]، فهذا موصول العمل بالإيمان، أي: وصل العمل بالإيمان.

ويقول أهل الإرجاء: لا، ولكنه منقطع غير موصول، فيقولون: (الذين آمنوا)، ويفصلونها عن: (( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )) يعني: هذه جملة مبتدأ من جديد ليست موصولة.

وقال أهل السنة: قال الله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) )[النساء:124]، وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع، فقال أهل السنة: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الإسراء:19] ربط السعي والعمل بالإيمان، فهذا موصول، وكل شيء في القرآن من أشباه هذا، فأهل السنة يقولون: هو موصول مجتمع، وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع متفرق، ولو كان الأمر كما يقولون؛ كان من عصى وارتكب المعاصي أو المحارم لم يكن عليه سبيل، فكان إقراره يكفيه من العمل، فما أسوأ هذا من قول وأقبحه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

تفاوت أهل النار في الدركات والعذاب

ثم يوجد تفاوت في النار؛ فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم من تأخذه كله إلا مواضع السجود؛ لذلك الملائكة في حديث الشفاعة حينما يدخلون النار من أجل أن يخرجوا من مات على التوحيد إنما يعرفونهم ويميزونهم بمواضع السجود، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (حرم الله على النار أن تأكل مواضع السجود)، فيا خيبة ويا حسرة تاركي الصلاة الذين تخلو وجوههم من علامات السجود، ولا نعني بذلك العلامة المعروفة التي -كما يقول بعض السلف-: قد تكون بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون، سهل أن يطرح هذه العلامة بطرق شتى، لكن العبرة بـ: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29]، هي الخشوع والتواضع والسكينة، وهذا دليل استدل به من كفر تارك الصلاة كفراً أكبر، وقال: لا حظ لمن لا يصلي في هذا الأمر؛ لأن الملائكة إنما تخرج من كان يصلي، فاستدلوا بذلك على كفر تارك الصلاة، وسيأتي إن شاء الله الكلام في ذلك بالتفصيل.

أيضاً كذلك يتفاوتون في مقدار لبثهم فيها، وسرعة خروجهم منها؛ لأنهم متفاوتون في الإيمان والتوحيد الذي بسببه يخرجون منها، ولولاه لكانوا مع الكافرين خالدين مخلدين أبداً، فيقال للشفعاء: (أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم من كان في قلبه نصف دينار من إيمان، ثم من كان في قلبه وزن برة من إيمان، ثم من كان في قلبه ذرة من إيمان، ثم من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان)، فأين هذا ممن الإيمان في قلبه مثل الجبل العظيم؟ وأين من نوره على الصراط كالشمس ممن نوره على إبهام قدمه يضيء تارة وينطفئ أخرى؟ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم:35] * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:36]؟

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علي عمر وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين)، فهذا أيضاً دليل على التفاوت.

وقال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل. ذكره البخاري تعليقاً مجزوماً به.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم يمدح عمار بن ياسر رضي الله عنه: (ملأ عمار إيماناً إلى مشاشه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، فكلمة: (أضعف)، تدل على أن الدرجة الوسطى أوسط، والدرجة الأولى هي أقوى الإيمان، فدل على ضعف وقوة في الإيمان، وكذا زيادة ونقصان، وتفاوت وتفاضل بين أهله فيه، بخلاف قول المرجئة ومن وافقهم في أن الإيمان لا يتفاضل أهله فيه، بناء على أن الإيمان هو مجرد المعرفة فقط، فبالتالي يترتب على كلامهم: أن إيمان جبرائيل وإسرافيل وميكائيل والملائكة وحملة العرش، مثل إيمان أدنى واحد من المؤمنين.. إيمان هؤلاء الذين يعاينون الغيب مثل إيمان أقل واحد من المسلمين فأين قائل هذا من هذه النصوص الواضحة التي تبطل هذا المذهب الفاسد؟!

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو وزن إيمان أبي بكر رضي الله عنه بإيمان أهل الأرض لرجح.

يقول عز وجل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32] إلى آخر الآيات، فهنا انظر إلى قوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا ، يعني: أمة محمد عليه الصلاة والسلام الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ، ثم ذكر أقسام هؤلاء المصطفين الأخيار فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ بالمعاصي، فدل على أن العاصي لا يخرج من الإسلام، ولا يخرج من الإيمان لمجرد المعصية، بدليل أنه ذكرهم ضمن من سيرحمهم الله تبارك وتعالى: وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، أي: اقتصروا على التزام الواجبات واجتناب المحرمات، فلم يزيدوا على ذلك، ولم ينقصوا منه وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32] * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر:33]، فبعض العلماء قال: إن هذه أرجى آية في القرآن لأهل المعاصي، والإنسان إذا أشرف على اليأس أو القنوط أو خروج روحه؛ فإنه يتذكر نصوص الرجاء أو يذكر بها حتى يلقى الله وهو حسن الظن به، أو إذا كان في حالة غير حالة الاحتضار، وغلب عليه الخوف بحيث خشي أن يئول أمره إلى القنوط من رحمة الله عز وجل، فعليه أن يذكر نفسه بنصوص الرجاء هذه، فبعض العلماء يقولون: حق لهذه الواو التي في قوله: يَدْخُلُونَهَا ، وهي تعود على الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات.. حق لها أن تكتب بماء العين؛ ولذلك عد بعض العلماء هذه الآية أرجى آية في القرآن لأهل المعاصي.

كذلك من الآيات التي يقال عنها: إنها أرجى آية في القرآن قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

وكذا قوله تعالى في سورة الشورى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، فبين أنك إما أن تؤاخذ بالذنوب في الدنيا، وإما أن الله يعفو عنك، وما تبقى من ذلك سيعفو الله تبارك وتعالى عنه.

وكذا قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، لكن لما قيل لبعض الناس: إن هذه أرجى آية في القرآن، قالوا: لكن هذه فيها المشيئة، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ، لكن أيضاً هي من آيات الرجاء العظيم؛ لأن الإنسان إذا كان على التوحيد ومات عليه، فهو داخل في مشيئة الله، والله أرحم الراحمين ويرجى له ذلك.

وكذا أطول آية في القرآن، وهي آية الدين؛ لأن الله عز وجل من تعظيمه لحق المؤمن حتى في الدراهم أو الدنانير المعدودة أنزل أطول آية في القرآن لأجل حفظ حق المسلم ورعاية مصلحته، وكما تعلمون فيها الكثير من الأحكام الشرعية لحفظ حق المسلم ومصلحته في أشياء يسيرة، فيرجى من الله عز وجل في الآخرة أن تكون رحمته للمؤمن، وتقديره الخير والسعادة له أعظم وأعظم من ذلك.. إذا كان هذا في مجرد قروش قليلة في الدنيا أنزل أطول آية حتى يضمن لك هذه المصلحة، فكيف تكون رحمته في الآخرة؟ فنؤمل خيراً من ذلك.

ومثل هذا أيضاً: بعض الآثار التي فيها أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يرض أن أحداً من أمته يبقى في النار، وساقوا في ذلك أشعاراً منها:

ولقد قرأنا في الضحى ولسوف يعطى فسر قلوبنا ذاك العطاء

وحاشا يا رسول الله ترضى وفينا من يعذب أو يساء

هل هذا الكلام من الجانب الشرعي صحيح؟ المقصود: أن النبي عليه الصلاة والسلام يرضيه ما يرضي ربه، فكما أن في جانب الرحمة الله عز وجل يعفو عمن يستحق ذلك، ويعلمه الله أهلاً لذلك، فكذلك من كماله أن يكون عادلاً في من عصى أمره، وعاند شريعته، وخرج عن طاعته، فمن عصى الله والرسول يحب أن يعاقب، لكن على كل حال قد يرشح هذا الأمر حديث قدسي في صحيح مسلم : أن النبي عليه الصلاة والسلام تلا دعاء إبراهيم لقومه، ودعاء عيسى، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (يا رب أمتي أمتي وبكى)، لما وجد إبرهيم دعا لقومه وعيسى دعا، قال: (يا رب أمتي أمتي)، فأرسل الله عز وجل ملكاً فقال: (قل له: يا محمد! ما يخفيك؟ فقال: يا رب أمتي أمتي)، أشفق عليه الصلاة والسلام على أمته، فأوحى الله إليه على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام: (قل له: إنا سنرضيك في أمتك ولن نسوءك)، هذا أيضاً مما يدخل ضمناً في معنى قوله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، يعني: يرضيك بما يشرح صدرك بالنسبة لمصير أمتك في الآخرة.

ومن الآيات هذه الآية فهي من آيات الرجاء: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10]، فالشاهد: أن هؤلاء المجرمين الذين عادوا أولياء الله وأحرقوهم وعذبوهم هذا التعذيب، واستحقوا بذلك أن يكونوا أشد الناس عذاباً في الآخرة؛ لأن من عذب الناس في الدنيا يعذبه الله عذاباً أشد من ذلك في الآخرة، ومع ذلك اشترط عدم التوبة في حصول العقوبة له: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10]، فأي رحمة أعظم من ذلك؟!

كذلك آية سورة الفرقان؛ فبعد أن ذكر الله عز وجل جملة من كبائر الذنوب قال: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا [الفرقان:70] إلى آخر الآية.

كذلك قال الله: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22]، الشاهد في نفس هذه الآية، وهو قوله: وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النور:22]، على أن هذه الآية من آيات الرجاء في القرآن، وقد نزلت في مسطح لما قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد وصفه بالمهاجرين في سبيل الله رغم أنه فعل هذه الكبيرة وهي قذف أم المؤمنين، هذا هو الشاهد؛ لأنه دل على أن هذه المعصية الكبيرة التي أنزل الله فيها ما أنزل في سورة النور تنزيهاً لأم المؤمنين، وتبرئة لها رضي الله عنها، فمثل هذا الذنب العظيم الذي فعله مسطح لو كان يحبط ما سبق من أعماله الصالحة لما استقر له وثبت وصف الهجرة في سبيل الله، لكن ثبوت هذا الوصف لـمسطح مع ارتكاب هذه الكبيرة دل على أن معصيته لا تحبط ما سبق من أعماله الصالحة ففي هذا بشرى للمؤمن أن المعصية وإن كانت تنقص إيمانه لكنها لا تذهبه بالكلية، ولا تحبط أعماله السابقة.