شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب التيمم - حديث 145-148


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

فيما يتعلق بالحديث الأول أو بالأثر الأول وهو أثر ابن عباس رضي الله عنه: في قوله تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ [النساء:43] قال: (إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله والقروح، والجدري -كما ورد في المصادر- فيخاف أن يموت إن اغتسل تيمم).

تخريج الأثر

الحديث رواه الدارقطني موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنه، ورواه البزار، وابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي وغيرهم، مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، البيهقي رواه في كتابه معرفة السنن والآثار له، كما ذكر ذلك السيوطي في كتابه الدر المنثور في التفسير بالمأثور، رواه هؤلاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

أما الدارقطني فرواه موقوفاً على ابن عباس، وهذا الحديث جاء من طريق جرير بن عبد الحميد عن عطاء -يعني ابن السائب - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وعطاء بن السائب اختلط في آخر عمره كما سبق بيان ذلك في حديث -فيما أذكر-: ( يكفيك الماء ولا يضرك آثره ). فـعطاء قد اختلط في آخر عمره، وجرير ممن روى عنه بعد الاختلاط، كما ذكر ذلك الإمام أحمد، ويحيى بن معين، والعقيلي وغيرهم، بل إنهم نصوا على أن جريراً يرفع عن عطاء عن سعيد أشياء لا يرفعها غيره، يعني: يرفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حين أن غيره لا يرفعها، ولذلك فإن الصحيح في هذا الحديث أنه موقوف على ابن عباس من قوله هو، ولا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه حتى الموقوف فيه نظر؛ لأن الأسانيد التي وقفت عليها في المصادر المذكورة من طريق جرير عن عطاء كما ذكرت لكم، وهو قد روى عنه بعد الاختلاط، فيكون فيه ضعف، إلا أن يكون له طرق أخرى تقويه وتدفع هذا الضعف عنه، فالحديث موقوف.

حكم التيمم لمن خشي الضرر من استعمال الماء

أما ما يتعلق بمعنى الحديث، فإنه يدل على أن الإنسان إذا خاف على نفسه من الموت فإنه يترك استعمال الماء في الغسل -ومن باب الأولى في الوضوء- ويتيمم، ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز له أن يترك الماء مع وجوده إلا إذا خاف الموت، وهذا منقول عن الإمام أحمد وهو رواية عن الشافعي .

وقال آخرون: بل إذا خاف الضرر ولو لم يكن خاف الموت فإنه يتيمم. وهذه هي الرواية الأخرى عن الشافعي، ومذهب مالك وأبي حنيفة .

والقول الثالث وهو مذهب داود والظاهرية، وبعض أهل الحديث، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذلك رجحه الصنعاني في سبل السلام هو: أنه إذا كان به مرض جاز له أن يتيمم، وهذا هو المنسجم مع ظاهر الآية في قوله: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى [النساء:43]، فإذا كان مريضاً سواء خاف الضرر بزيادة المرض، أو بتأخير البرء، أو بما أشبه ذلك فإنه يتيمم؛ لأن التيمم رخصة، فلا ينبغي أن يضيق فيها على عباد الله.

فالقول بأن التيمم يجوز للإنسان عند خوف الضرر بزيادة المرض، أو تأخر البرء، أو ما أشبه ذلك هو القول المرجح.

وأما قول ابن عباس رضي الله عنه هاهنا: [ فيخاف أن يموت ]، فليس المقصود أنه لا يجيز ذلك إلا بخوف الموت، ولكن لعله ذكر ذلك على سبيل المثال، ومثله قوله: [ تكون بالرجل الجراحة في سبيل الله ]، فإنه لو كانت الجراحة به بسبب سقوط من مكان، أو ضربة، أو ما أشبه ذلك، ولو لم تكن من أجل في سبيل الله وبسبب الجهاد، فإن الحكم يشمله أيضاً في جواز التيمم وترك الاغتسال.

الحديث رواه الدارقطني موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنه، ورواه البزار، وابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي وغيرهم، مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، البيهقي رواه في كتابه معرفة السنن والآثار له، كما ذكر ذلك السيوطي في كتابه الدر المنثور في التفسير بالمأثور، رواه هؤلاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

أما الدارقطني فرواه موقوفاً على ابن عباس، وهذا الحديث جاء من طريق جرير بن عبد الحميد عن عطاء -يعني ابن السائب - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وعطاء بن السائب اختلط في آخر عمره كما سبق بيان ذلك في حديث -فيما أذكر-: ( يكفيك الماء ولا يضرك آثره ). فـعطاء قد اختلط في آخر عمره، وجرير ممن روى عنه بعد الاختلاط، كما ذكر ذلك الإمام أحمد، ويحيى بن معين، والعقيلي وغيرهم، بل إنهم نصوا على أن جريراً يرفع عن عطاء عن سعيد أشياء لا يرفعها غيره، يعني: يرفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حين أن غيره لا يرفعها، ولذلك فإن الصحيح في هذا الحديث أنه موقوف على ابن عباس من قوله هو، ولا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه حتى الموقوف فيه نظر؛ لأن الأسانيد التي وقفت عليها في المصادر المذكورة من طريق جرير عن عطاء كما ذكرت لكم، وهو قد روى عنه بعد الاختلاط، فيكون فيه ضعف، إلا أن يكون له طرق أخرى تقويه وتدفع هذا الضعف عنه، فالحديث موقوف.

أما ما يتعلق بمعنى الحديث، فإنه يدل على أن الإنسان إذا خاف على نفسه من الموت فإنه يترك استعمال الماء في الغسل -ومن باب الأولى في الوضوء- ويتيمم، ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز له أن يترك الماء مع وجوده إلا إذا خاف الموت، وهذا منقول عن الإمام أحمد وهو رواية عن الشافعي .

وقال آخرون: بل إذا خاف الضرر ولو لم يكن خاف الموت فإنه يتيمم. وهذه هي الرواية الأخرى عن الشافعي، ومذهب مالك وأبي حنيفة .

والقول الثالث وهو مذهب داود والظاهرية، وبعض أهل الحديث، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذلك رجحه الصنعاني في سبل السلام هو: أنه إذا كان به مرض جاز له أن يتيمم، وهذا هو المنسجم مع ظاهر الآية في قوله: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى [النساء:43]، فإذا كان مريضاً سواء خاف الضرر بزيادة المرض، أو بتأخير البرء، أو بما أشبه ذلك فإنه يتيمم؛ لأن التيمم رخصة، فلا ينبغي أن يضيق فيها على عباد الله.

فالقول بأن التيمم يجوز للإنسان عند خوف الضرر بزيادة المرض، أو تأخر البرء، أو ما أشبه ذلك هو القول المرجح.

وأما قول ابن عباس رضي الله عنه هاهنا: [ فيخاف أن يموت ]، فليس المقصود أنه لا يجيز ذلك إلا بخوف الموت، ولكن لعله ذكر ذلك على سبيل المثال، ومثله قوله: [ تكون بالرجل الجراحة في سبيل الله ]، فإنه لو كانت الجراحة به بسبب سقوط من مكان، أو ضربة، أو ما أشبه ذلك، ولو لم تكن من أجل في سبيل الله وبسبب الجهاد، فإن الحكم يشمله أيضاً في جواز التيمم وترك الاغتسال.

أما الحديث الآخر وهو حديث علي رضي الله عنه قال: ( انكسرت إحدى زندي، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرني أن أمسح على الجبائر )، يقول المصنف: رواه ابن ماجه بسند واه جداً، رواه ابن ماجه في سننه في باب المسح على الجبائر.

معاني ألفاظ الحديث

قوله: (إحدى زندي) الزند: هو ملتقى الذراع بالكف، وهو مذكر، ولذلك فإن الصواب أحد زندي؛ لأن إحدى إنما تقال للمؤنث، إلا أن يكون نظر إلى معنى آخر، ولكن الظاهر أنه ما دام مذكراً فإنه ينبغي أن يقال: أحد زندي، وليس إحدى زندي.

تخريج الحديث وكلام أهل العلم فيه

قول المؤلف رحمه الله: (بإسناد واه جداً) يعني: ضعيف جداً، وسبب ضعف هذا الحديث أنه من رواية عمرو بن خالد الواسطي وهو كذاب؛ كذبه الإمام أحمد ويحيى بن معين، فقالا: كذاب. وقال البخاري : منكر الحديث. وقال وكيع وأبو زرعة : كان يضع الحديث. وقال الحاكم : يروي عن زيد بن علي الموضوعات، وهذا كلام الحاكم .

ورواية هذا الحديث هي من طريق زيد بن علي ؛ فإن عمرو بن خالد الواسطي يروي الحديث عن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب، فهو من الموضوعات على رأي الحاكم في كلامه، ولذلك اتفق العلماء على أن هذا الحديث ضعيف، فضعفه من سبق من أهل العلم، وكذلك قال الإمام النووي : اتفق الحفاظ على ضعف حديث علي في هذا، وكذلك قال الشوكاني في نيل الأوطار، ولعله نقل كلام النووي، لكن مما لا شك فيه أن العلماء متفقون على ضعفه، بل هو ضعيف جداً إن لم يكن موضوعاً؛ لأن من كان هذا شأنه فحديثه موضوع.

وبالمناسبة فإن رواية عمرو بن خالد الواسطي عن زيد بن علي هي في كتاب اسمه: مسند زيد، وهو مطبوع يباع في المكتبات فانتبهوا له، مسند زيد بن علي كتاب مطبوع، وبعض الطلاب كلما رأوا كتاباً اشتروه دون أن يتبصروا فيقرءون فإذا وجدوا فيه حديثاً اعتمدوه.

مسند زيد بن علي هذا طبع في مصر وطبع في غيرها من البلاد. هو من رواية عمرو بن خالد الواسطي الكذاب عن زيد، ومع الأسف أنه قد قدم للكتاب بتقاريظ لعدد من العلماء، وبعضهم من شيوخ الأزهر، وهذا ليس من الأمانة في شيء، فإنه مدعاة إلى انخداع طلاب العلم -فضلاً عن الدهماء- بمثل هذا الكتاب وأخذ ما فيه، وكل ما فيه لا يرتقي عن أن يكون موضوعاً أو ضعيفاً جداً على أحسن الأحوال، فينبغي التنبه لهذا الكتاب.

شواهد الحديث

وقد ورد في المسح على الجبيرة أحاديث أخرى غير حديث علي رضي الله عنه، فمنها حديث أبي أمامة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ضربه ابن قمئة

يوم أحد في رأسه، فكان صلى الله عليه وسلم يمسح عليها
)، وهذا الحديث رواه الطبراني في الكبير، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : في إسناده حفص بن عمر العدني وهو ضعيف.

وكذلك قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير قال: إسناده ضعيف، وأبو أمامة لم يشهد أحداً. فانتقده الحافظ ابن حجر من جهة حفص بن عمر هذا، ومن جهة المعنى؛ فإن أبا أمامة لم يشهد أحداً حتى يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك ضعفه بعضهم بأن شيخ الطبراني مجهول، فعلى كل حال حديث أبي أمامة هذا ضعيف أيضاً.

ومن الأحاديث الواردة في المسح على الجبيرة حديث ابن عمر : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الجبائر )، وقد رواه الدارقطني وقال: لا يصح مرفوعاً. وأبو عمارة ضعيف، واسم أبي عمارة هذا محمد بن أحمد المهدي وهو ضعيف .

فأحاديث المسح على الجبيرة كلها ضعيفة، بل شديدة الضعف، ولذلك قال الإمام البيهقي رحمه الله: لا يثبت في هذا الباب شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: في باب المسح على الجبيرة، وأصح ما فيه حديث عطاء، يعني حديث جابر الذي ساقه المصنف بعد ذلك، هذا كلام البيهقي رحمه الله.

أما ما ذهب إليه الشوكاني والصنعاني حين ظنا أن هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً فهو ليس بصحيح؛ لأن هذه الأحاديث شديدة الضعف، ومن المعلوم أن الحديث حين يكون ضعفه شديداً لا يتقوى ولو تعددت طرقه، فإن من شرط انجبار الحديث بتعدد الطرق أن يكون الضعف غير شديد، أما من كان شديد الضعف كأن يكون ضعيفاً جداً، أو متروكاً، أو كذاباً، أو وضاعاً؛ فهذا لا ينجبر حديثه ولو جاء من عشرين طريقاً، فما ذهب إليه الشوكاني والصنعاني من تقوية أحاديث المسح على الجبيرة ببعضها غير سديد ولا صحيح.

هذا فيما يخص الحديث من حيث الكلام على إسناده، وما يتعلق به من الأحاديث الأخرى، وأما مسألة المسح على الجبيرة فأتركها حتى ننتقل إلى الحديث الذي بعده لأنه يتعلق به أيضاً.

قوله: (إحدى زندي) الزند: هو ملتقى الذراع بالكف، وهو مذكر، ولذلك فإن الصواب أحد زندي؛ لأن إحدى إنما تقال للمؤنث، إلا أن يكون نظر إلى معنى آخر، ولكن الظاهر أنه ما دام مذكراً فإنه ينبغي أن يقال: أحد زندي، وليس إحدى زندي.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4784 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4394 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4213 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4095 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4047 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4021 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3974 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3917 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3900 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3879 استماع