خطب ومحاضرات
الإيمان والكفر [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم قال شيخ الإسلام مجدد القرن الثاني عشر الهجري الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في خطبة جمعة له: الحمد لله الذي فتح أبواب المشاهدات على أرباب المجاهدات بمفتاح لا إله إلا الله، وأحيا نفوس العارفين وملأ كئوس الذاكرين من أقداح لا إله إلا الله، وأبدع المصنوعات، وأوجد المخلوقات ووسمها بميسم لا إله إلا الله، خلق الجنين من ماء مهين ليعبده بلا إله إلا الله، أرسل الرسل لأجلها مبشرين، وعن ضدها محذرين، فدعوا الناس كلهم إلى العمل بلا إله إلا الله، فهي رأس الملة والدين، وهي حبل الله المتين، فما خاب من تعلق بحبل لا إله إلا الله، غويت أحلام الجاهلين، وضلت أفئدة المعاندين حيث جعلوا إلهين اثنين بعدما طلع بدر لا إله إلا الله. أحمده سبحانه وأشكره إذ جعلنا من أهل لا إله إلا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها إذا خاب أهل الشرك ونجا أهل لا إله إلا الله. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي جدد الله به ما درس من معالم لا إله إلا الله، ومع ذلك قال له: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] فصدع بها ونادى، ووالى عليها وعادى، وقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق لا إله إلا الله) ، فدعا إلى الله سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، حتى انكشف الغطاء عن وجه لا إله إلا الله. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين حموا بمرهفاتهم حوزة لا إله إلا الله -والمرهفات: هي السيوف- وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فيا أيها الناس! اتقوا الله تعالى، وجددوا إيمانكم في المساء والصباح بتأمل معنى لا إله إلا الله، فيا ذوي العقول الصحاح! ويا ذوي البصائر والفلاح! نادوا بالفلاح، فلا فلاح إلا لأهل لا إله إلا الله. فكلمة الإسلام ومفتاح دار السلام: لا إله إلا الله، فلا قامت السماوات والأرض، ولا صحت السنة والفرض، ولا نجا أحد يوم العرض إلا بلا إله إلا الله، ولا جردت سيوف الجهاد، وأرسلت الرسل إلى العباد إلا ليعلموهم العمل بلا إله إلا الله؛ فانقسم الناس عند ذلك فريقين، وسلكوا طريقين. فريق انقاد للعمل بلا إله إلا الله، والآخر حاد لعلمه أن دين آبائه تبطله لا إله إلا الله. فسبحان من فاوت بين عباده بمقتضى حكمته ومراده، وذلك من أدلة لا إله إلا الله. فطوبى لمن عرف معناها فارتضاها، وعمل باطناً وظاهراً بمقتضاها، فيكون قد حقق لا إله إلا الله، وويل لمن صاده الشيطان بالأشراك، فرماه في هوة الإشراك، فأبى واستكبر عن الانقياد لـلا إله إلا الله. ألم تسمعوا قول الله: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86].
حقيقة لا إله إلا الله
حقيقة لا إله إلا الله الذي هو إفراده بجميع العبادات، وتخصيصه بالقصد والإرادات، ونفيها عما سواه من جميع المعبودات التي نفتها لا إله إلا الله، وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله الذي لا يبقي في القلب شيئاً لغير الله، ولا إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما به أمر الله. هذا والله هو حقيقة لا إله إلا الله. وأما من قالها بلسانه ونقضها بفعاله فلا ينفعه قول لا إله إلا الله، فمن صرف لغير الله شيئاً من العبادات، وأشرك به أحداً من المخلوقات، فهو كافر ولو نطق ألف مرة بلا إله إلا الله. قيل للحسن رحمه الله تعالى: إن ناساً يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قالها وأدى حقها وفرضها أدخلته الجنة لا إله إلا الله. وقال ابن منبه لمن قال له: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك؛ لأنك في الحقيقة لم تقل: لا إله إلا الله. فيا ذوي الأسماء العتيدة! لا تظنوا أمور الشرك منكم بعيدة، فإن هاهنا مهاوياً شديدة تقدح في لا إله إلا الله. أين من وحد الله بالحب والخوف والرجاء والعبادة؟ أين من خصه بالذل والخضوع والتعظيم والقصد وأفرده بالتوكل فجعل عليه اعتماده؟ كل هذا من معاني لا إله إلا الله. فسارعوا عباد الله إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين قاموا بواجبات لا إله إلا الله، وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:51]، وتمسكوا بعرى لا إله إلا الله، فمن نفى ما نفته، وأثبت ما أثبتته، ووالى عليها وعادى؛ رفعته إلى أعلى عليين منازل أهل لا إله إلا الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ:38]. هذه خطبة جمعة كاملة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى تدور حول كلمة النجاة وكلمة الشهادة لا إله إلا الله، وقد أثبت فضائل عظيمة جداً لكلمة الشهادة وكلمة النجاة، وقبل أن نستطرد في الكلام في متعلقاتها، وما ينقضها، وما يصلح فيها وينحرف عن معانيها؛ نتحدث اليوم إن شاء الله في فضائل هذه الكلمة العظيمة.
إن أفضل الذكر على الإطلاق، وأفضل ما ينطق به الإنسان من الأذكار هو أن يقول: لا إله إلا الله، وبقول هذه الكلمة تحقن الدماء، ويعصم المال، ويصبح الإنسان من أهل السعادة بإذن الله. إن لا إله إلا الله هي أفضل ما يذكر الله تبارك وتعالى به، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله). لقد فزع إليها الولي لما جاءته المحنة، وكذلك العدو لما جاءته المحنة فزع إليها. أما العدو فهو فرعون لما قرب منه الغرق هرب منه وقال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90]، ففزع إليها؛ لأنه يعلم أنها منجية، وأما الولي فكما في حق يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88] . ولذلك قيل: أعظم الدعاء هو دعاء القرآن؛ لأنه ليس هناك كلام أفضل من كلام الله، وأعظم ما في القرآن من الدعاء هو الذي تعقبه الإجابة، ولذلك أعقب الله عز وجل دعاء يونس بقوله تبارك وتعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]، وفرق شديد بين حال يونس عليه السلام النبي وهو يفزع إلى كلمة النجاة، وبين حال فرعون العدو المتأله المتكبر حين فزع إلى كلمة النجاة؛ إذ كلاهما فزع إليها عند المحنة، لكن لم تنفع إلا الولي وحرم منها العدو، ومن الفروق بين يونس عليه السلام وفرعون: الفرق الأول: أن يونس عليه السلام لما قال وهو في ظلمة بطن الحوت وفي ظلمة البحر وفي ظلمة الليل: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] ، كان يحقق قول النبي عليه الصلاة والسلام: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، فيونس سبقت له المعرفة بالله تبارك وتعالى، وكان يكثر تسبيح الله وعبادته وتوحيده، فكان ينادي الله كما قال عز وجل: إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم:48]، ثم قال تبارك وتعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ [الصافات:143]، الذين يسبحون الله، ويصلون لله، ويعبدون الله، فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144]، لذلك على الإنسان أن يفزع إلى التسبيح إذا وقعت الكربة، وإذا تأزم عليك أي حال من الأحوال فافزع إلى التسبيح أو الصلاة، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه شيء فزع إلى الصلاة، فمن حفظ الله في الخلوات يحفظه الله في الفلوات: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك)، وكما جاء في الحديث: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، فيونس سبق له المعرفة بالله، فلذلك عرفه الله في الشدة. أما فرعون فتقدم له سبق الكفر؛ بل كان ينادي كما قال عز وجل عنه: فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:23-24]، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)[القصص:38]، فسبق له قبل الغرغرة وقبل نزول الهلاك والغرق أن ادعى الألوهية، ونازع الله تبارك وتعالى في كبريائه وتوحيده جل وعلا. بل كان كما جاء في معنى الحديث: أن فرعون لما أدركه الغرق والهلكة كان يقول: لا إله إلا الله، يقول جبريل مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: (فلو رأيتني يا محمد وأنا أدس من وحل البحر في فيه مخافة أن تدركه الرحمة)، خشي جبريل أن تنفعه هذه الكلمة في ذلك الوقت، ولشدة عداوة جبريل لهذا المتأله الكذاب كان يأخذ من طين البحر فيدسه في فيه حتى لا يعود إلى قول لا إله إلا الله؛ مخافة أن تدركه الرحمة. الفرق الثاني: أن يونس عليه السلام ذكرها مع الحضور والشهادة؛ فقد كان حاضراً مع الله تبارك وتعالى، شاهداً لقوة الله وبأسه وقدرته على إنجائه، ومحبته لله، فقال: لا إله إلا أنت. أما عدو الله فرعون فقد قالها في صيغة الغيبة، قال تعالى: فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90]، ما قالها في الحضور، وما خاف بها ربه، لكنه قالها على سبيل التقليد لبني إسرائيل في ذلك الوقت: (( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ ))، وكأنه أحال العلم بحقيقتها على غيره، لكن هو لا يعرفها ولا يعلم حقيقتها. الفرق الثالث: أن يونس عليه السلام ذكرها على سبيل الاستذلال مع العجز والانكسار: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ [الأنبياء:87] ، ثم قال بعدها: إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، فجمع بين توحيد ربه تبارك وتعالى، وتنزيهه ووصفه بالكمال وجمع إلى ذلك ذم نفسه فقال: ((إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ))، وهذان هما جناحا العبودية: غاية الحب وغاية الذل معاً، فلذلك كان يقول: (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، يقولها عاجزاً ذليلاً لربه، منكسراً لما ألم به، ولذلك صارت مقبولة؛ لأن الله تبارك وتعالى من شأنه أن يجيب المضطر إذا دعاه، ويونس كان مضطراً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. الفرق الرابع: أن يونس عليه السلام قالها لما حصل له الانكسار بسبب التقصير في الطاعة والعبودية: سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، أما فرعون فذكرها لا للعبودية بل لطلب الخلاص من الغرق، بدليل قوله تبارك وتعالى عنه: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90]، لما أدركه الغرق أراد فقط أن يستعمل لا إله إلا الله لينجو من الهلكة، كما حكى الله تبارك وتعالى عنه. وعلى كل حال: هذه تأملات في هذه الفضيلة الأولى لكلمة النجاة لا إله إلا الله، وهي: أنها أفضل ما يذكر به الله تبارك وتعالى، والدليل على أفضليتها أن العدو والولي كلاهما فزع إليها عند المحنة، وقالها في الوقت الضيق الذي لا يتسع لغيره، فلا شك أنه ينتقي أعظم طوق للنجاة، ويتمسك بأعظم حبل ينجيه من الهلكة، فمن هنا كانت هذه الكلمة أفضل الأذكار، وأفضل ما ينطق به اللسان من ذكر الله تبارك وتعالى.
أمرنا الله تبارك وتعالى بطاعات كثيرة: بالصلاة، وبالصيام، وبالحج، وبالزكاة.. إلى آخر هذه الطاعات، ويستحيل أن يوافقك الله تبارك وتعالى في شيء من هذه الطاعات، فأنت تصلي، لكن الله مستحيل أن يفعل ذلك.. أنت تصوم، تزكي، تحج؛ لكن الله عز وجل هو المعبود الغني عن عباده، ويستحيل أن يوافقنا في شيء من هذه العبادات، لكن الله أمرنا أن نقول: لا إله إلا الله، ثم إنه وافقنا فيها، فهي الذكر الذي يوافقنا الله تبارك وتعالى فيه، وكما نشهد نحن له بها تبارك وتعالى، فهو يقول عز وجل: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، فكررها في أول الكلام وفي آخره، كررها ليواظب العبد على تكرارها طوال عمره، قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من شهادة أن لا إله إلا الله قبل أن يحال بينكم وبينها، ولقنوها موتاكم)، فلذلك نندب إلى الإكثار من شهادة أن لا إله إلا الله، فلا تزهد في هذا الثواب العظيم، فهي كلما سهلت على لسانك في الدنيا كلما سهلت عليك عند الموت، حتى توفق إلى أن تختم حياتك بلا إله إلا الله. كذلك أيضاً كررها في أول الآية وآخرها ليجعلها العبد أول عمره وآخره حتى ينجو ويفوز، فكما تستقبل الدنيا بسماع الأذان، كذلك يندب للإنسان أن يختم حياته بلا إله إلا الله، قال عليه الصلاة والسلام: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة).
هذه الشهادة العظيمة (لا إله إلا الله) تمزج المؤمن بأنواع من القرابة المطهرة بأشرف نسب في هذه الدنيا، فلا إله إلا الله هي نسبة ينتسب الإنسان بها إلى طائفة من أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى، فأنت إذا قلت: لا إله إلا الله، أصبح أباك إبراهيم عليه السلام، والدليل قوله تبارك وتعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78]، فلا إله إلا الله تمنحك أبوة إبراهيم، وتجعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهاتك: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6]. أيضاً هذه الكلمة تمنحك أخوة المؤمنين، يقول تبارك وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]. أيضاً تدخلك تحت استغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أمره الله به في قوله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]. وأيضاً تسبب لك استغفار الملائكة كما قال تبارك وتعالى: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7] وأيضاً تعطيك شفاعة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الشفاعة لأهل الكبائر من أمته. أيضاً تصبح أنت مؤمناً فتنال هذا الشرف، وكل ما يترتب على هذا الوصف العظيم الذي تحوزه بنطقك لكلمة التوحيد.
كلمة التوحيد لعظم معانيها تعددت أسماؤها، وتكلم العلماء في ذلك كلاماً كثيراً نحاول أو نجمله أولاً ثم نفصله.
أول أسماء هذه الكلمة: كلمة التوحيد؛ لأنها تدل على نفي الشرك على الإطلاق، يقول الله تبارك وتعالى: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:163] أفادت هذه الآية: التوحيد العام الكامل.
أيضاً تسمى كلمة الإخلاص؛ لأن الأصل في هذه الكلمة عمل القلب، وهو كون الإنسان عارفاً بقلبه وحدانية الله تبارك وتعالى.
وهي كلمة الإحسان، يقول تعالى: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، يعني: هل جزاء الإيمان إلا الإحسان، وقوله: لا إله إلا الله يدل على اعترافه بأن كل ما سواه عبده ومربوبه، وقال عز وجل: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، اتفق المفسرون على أن المراد من قوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ، يعني: قالوا لا إله إلا الله مصدقين بقلوبهم، ثم النطق باللسان والعمل بالأركان، فهؤلاء هم الذين أحسنوا.
وهو دليل أيضاً على أنه لو قالها ومات ولم يعمل أي عمل دخل الجنة.
الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. لو قال رجل: لا إله إلا الله ثم مات، كذلك الرجل الذي أتى من بادية بعيدة فلما اقترب استقبله النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: (من تريد؟ قال: أريد محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: قد استقبلته) يعني: هو الذي يكلمك فسأله عن الإسلام، وكيف أصير مسلماً؟ فأخبره بأن يفعل كذا وكذا، وأن يشهد أن لا إله إلا الله فشهد شهادة التوحيد، وقال كلمة الإحسان، ثم بعد ذلك بلحظات وهو يمشي ببعيره بعدما قال: لا إله إلا الله عثرت رجل البعير في جحر جرذان -تجويف تصنعه الفئران لجحورها، وكانت جروفاً كبيرة في الأرض- فوقع الرجل على أم رأسه ومات في الحال، فاجتمع عليه الصحابة فوجدوه قد مات، فتولى الصحابة رضي الله عنهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم غسله وتكفينه ودفنه، وقال: إن هذا الرجل عمل قليلاً وأجر كثيراً . رواه الإمام أحمد في مسنده.
وفي نفس هذا المعنى حديث من رواية البخاري : أن رجلاً أتى وشهد شهادة التوحيد، ثم خرج في الجهاد فوراً فقتل شهيداً فدخل الجنة، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الرجل عمل قليلاً، وأجر كثيراً؛ فمن قال هذه الكلمة ومات ولم يتفرغ لعمل آخر دخل الجنة، ودخل تحت قوله: للذين قالوا لا إله إلا الله الحسنى وزيادة.
وقال تبارك وتعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، هذه الآية ليست كما يتبادر إلى أذهاننا أنها فقط في الدعوة إلى الله، لكن أساساً يدخل فيها المؤذن، وقال عليه الصلاة والسلام: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)، وهذه الآية للمؤذنين أيضاً: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا ، يعني: لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله بالأذان وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وما هذه الفضيلة العظيمة إلا لاشتمال الأذان على لا إله إلا الله.
وقال تبارك وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام:21]، فكما أنه لا قبيح أقبح من كلمة الكفر كذلك لا حسن أحسن من كلمة التوحيد.
قال الله تعالى في أول سورة المؤمنون: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]، وفي آخرها قال: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]، فالمؤمنون الذين قالوا لا إله إلا الله يفلحون قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، أما الكافرون الذين استكبروا عنها فختمت السورة بقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ .
وقال تبارك وتعالى: (فَبَشِّرْ عِبَادِ [الزمر:17]* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:18]، ولا شك أن أحسن القول هو لا إله إلا الله.
فهي كلمة التوحيد، كلمة الإخلاص، كلمة الإحسان، وهي أيضاً دعوة الحق، يقول تبارك وتعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ [الرعد:14]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو قول لا إله إلا الله. وقوله: (له دعوة الحق)، يفيد الحصر، أي: له هذه الدعوة لا لغيره، فلا تقال في حق أحد غير الله، و(له دعوة الحق) مبتدأ وخبر، وتقديم الخبر يفيد الحصر، أي: هذه الكلمة ليست لأحد إلا لله، فلذلك قال ابن عباس في تفسيرها: لا يقال: لا إله إلا الله إلا في حق الله تبارك وتعالى.
هي أيضاً كلمة العدل التي قال تبارك وتعالى فيها: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل:90]، قال ابن عباس : العدل: شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان: الإخلاص فيه.
هي أيضاً الطيب من القول، كما في قوله عز وجل: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ [الحج:24]، هنا ليست كما يقولون: بجهودكم أو بأموالكم أو بأنسابكم ولا بأعراضكم، وإنما بعرض الدنيا، وإنما هي منة من الله ليست بجدهك وشطارتك .. منة من الله أن جعلك من أهل لا إله إلا الله، فهي هداية: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ [الحج:24]، فانظر كيف عبر عن لا إله إلا الله بالطيب من القول؟ و(أل) هنا تفيد الاستغراق، يعني: ممكن أن تستبدلها بكل كلمة حتى تصيب هذا المعنى، وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ، أي: هدوا إلى كل الطيب من الكلام، ليس إلا هذا الذي هدوا إليه وهو كلمة لا إله إلا الله، فلا أطيب ولا أطهر من هذه الكلمة، ولذلك دائماً الطيب عكس الخبيث، فتجد أن المشركين لما استكبروا عن التوحيد وصفهم الله بالكفر، فقال تبارك وتعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، ووصف أهل التوحيد بقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] زكاها: طهرها بلا إله إلا الله.
وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [فصلت:6]* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت:7]، على أحد التفسيرات: (لا يؤتون الزكاة)، يعني: لا يقولون لا إله إلا الله، ولا يزكون نفوسهم بالتوحيد، ولذلك المشرك مهما نظف نفسه فهو من أخبث خلق الله؛ لأن قلبه نجس، فقد استكبر عن أن يؤمن بلا إله إلا الله، وأن يقول لا إله إلا الله، فهو نجس خبيث، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا التوبة:28]، فالنجاسة الحاصلة بسبب كفرهم لا تزول، فلو عاش رجلاً سبعون سنة وهو يشرك بالله في الألوهية، وهو أخبث أنواع الشرك والكفر والعياذ بالله، ثم قال هذه الكلمة مرة واحدة تزول بهذه الكلمة الطاهرة الطيبة نجاسة سبعين سنة من الكفر، وتطهره تماماً من نجاسة هذا العمر الطويل ولو أنك تخيلت مثل هذا الخبث الذي يبقى عليه الإنسان سبعين سنة يزول بكلمة يقولها؛ لأنها أطيب ما يقال على الإطلاق.
كذلك سماها الله تبارك وتعالى: الكلمة الطيبة، وهناك حكمة من تسمية لا إله إلا الله بهذا الاسم الشريف فهي كلمة بريئة من الشرك، والتشبيه، والتعطيل .. كلمة لا إله إلا الله، فكما يخرج اللبن خالصاً من بين فرث ودم كذلك تخرج كلمة التوحيد خالصة من بين فرث التشبيه ودم التعطيل.
أيضاً صاحبها يكون بها طيب الاسم في الدنيا، يقول تبارك وتعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ [النور:26] على بعض التفاسير الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ ، يعني: المؤمنات للمؤمنين أو المؤمنون للمؤمنات، لكن هناك تفسير لعله أشهر وهو: الطيبات من الصفات للطيبين من الناس، على أي الأحوال: مما يفيد صاحبها: أنه يكون طيباً في الدنيا، وفي الآخرة تفيده بأن يسكن في مساكن طيبة، وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [التوبة:72]، وطيبة بمعنى: مقبولة.
يقول الله تبارك وتعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، فما يصعد إليه من الكلم الطيب يقبله وما لا فلا يصعد، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فبما أنه كلم طيب فإن الله يقبل الكلم الطيب، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) .
أيضاً: هي الكلمة الطيبة، وقد شبهها الله تبارك وتعالى أيضاً بالشجرة الطيبة، قال المفسرون: هي النخلة أقرب مثل بالعبد المؤمن، لأن المؤمن ينفع الناس على كل الأحوال، لذلك كان أقرب ما يكون مثلاً منه النخلة، فالنخلة لا يرمى منها شيء، وما من شيء في النخل إلا ويستفاد منه. فما هي أوجه الشبه بين المؤمن وبين النخلة؟
أولاً: لا تجري على كل لسان، ولا في كل قلب؛ كلمة لا إله إلا الله التي هي الكلمة الطيبة التي تنبت في قلب المؤمن، مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ [إبراهيم:24] في قلب المؤمن وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم:24]؛ فأول شيء: أن كلمة التوحيد لا تجري على كل لسان، ولا في كل قلب؛ فليس كل محل قابلاً لأن يهدى لـ: لا إله إلا الله، لكن من اصطفاه الله وطهر قلوبهم وزكاهم هم الذين تعمر قلوبهم بلا إله إلا الله، فربما تعرض على قلب آخر مشرك نجس فينبذها ويرفضها ولا تنبت فيه، ولا تصلح معه. فإنما تنبت في القلب الطيب كلمة طيبة لا تجري على كل لسان، ولا في كل قلب، كذلك النخل لا ينبت في جميع البلدان بل في بعض دون بعض، كذلك النخل له تربة خاصة، وأماكن معينة ينبت فيها دون بعض الأماكن الأخرى.
كذلك كلمة التوحيد هي أعلى الكلمات، والنخلة هي أطول الأشجار. الكلمة الطيبة أصلها ثابت في القلب وهي المعرفة، وفرعها ثابت في السماء، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، النخلة أيضاً ثابتة في الأرض وفرعها في العلو. الإيمان يثاب صاحبه في الدنيا لأجل إيمانه بأهلية الشهادة والولاية والأمانة؛ فكونك تدخل في أهل التوحيد بقولك لا إله إلا الله، فإنك تثاب على ذلك بهذه الكلمة الطيبة في الدنيا لأجل هذا الإيمان، وتصبح أهلاً للشهادة والولاية والأمانة، فأنت تثاب مرات عليها؛ مرة في الدنيا بهذه الأمور، ومرة في الآخرة وهي الجنة الدائمة والنعيم المقيم.
فهي تثمر لك الثمرة الباقية والنعمة الدائمة في الآخرة.
كذلك كلمة التوحيد وإن كان معها شيء من المعاصي، لكنها تنفع صاحبها؛ لأن كلمة التوحيد مثل الروح بالنسبة للبدن، فإن البدن إذا بتر ذارعه أو قدمه أو أي شيء منه مما يستقيم له الحياة بغيره يظل حياً بعد ذلك، لكنه لا يستطيع أن يعيش بلا روح، ولا يمكن أن يحيا بغير روح، كذلك الإيمان قد تتخلف بعض أركانه، وقد يقع الإنسان في بعض الذنوب، ويضيع بعض الواجبات، ولكن ما دام معه في قلبه لا إله إلا الله فإنه يبقى إيمانه حياً. أما إذا خرجت لا إله إلا الله فهو ميت، كذلك المشرك الذي لم يقل لا إله إلا الله هو ميت في صورة حي، ولكن حياته مثل حياة البهائم والأنعام؛ يأكل ويتنفس ويتحرك ويتكاثر، ويعمل كل هذه الوظائف التي يفعلها الحي، لكنه حي كما قال تعالى: أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، فمن كان معه لا إله إلا الله فهو الحي، ومن حرمها فهو الميت، وإن بدا وغدا وراح في صورة الحي، يقول الله تبارك وتعالى لأهل لا إله إلا الله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
فالنخلة وإن حصل في وسط ثمرتها نواة لا خير فيها؛ فإن قيمة الثمرة لا تنقص بسبب النواة، يعني: هذه التمرة والبلح الذي تأكله يكون في داخله هذه النواة أنت ربما لا تنتفع بهذه النواة، ولكن هل وجود هذه النواة يقدح في قيمة التمرة أو في قيمة هذه الثمرة؟ كلا، كذلك إذا وجدت معك لا إله إلا الله؛ فإن بقاءها معك لا يقدح في إيمانك، وإن قصرت ببعض المخالفات.
و الدين أوله فيه تكاليف شاقة فاصبر على هذه التكاليف، وهذه المشقة تكون مثل الشوك، لكن أعلاه الثمرة الحلوة اللذيذة، وهي معرفة الله، ثم الجنة في الآخرة، كذلك النخلة أسفلها شوك والثمرة في أعلاها. هذه بعض أوجه الشبه التي حاول الرازي رحمه الله في تفسيره أن يجمعها بين النخلة التي هي الشجرة الطيبة، وبين الكلمة الطيبة التي هي لا إله إلا الله.
هي أيضاً كلمة التقوى؛ لأن صاحبها يتقي أن يصف ربه بما وصفه به المشركون، وهي واقية لبدنك من التيه، ولمالك من الاستغلال من أن يصير غنيمة للمسلمين، ولذمتك من الجزية ولأولادك من الضياع، فإذا انضاف القلب إلى اللسان صارت واقية لقلبك من الكفر، وإن انضم التوفيق صارت واقية لك من المعاصي: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا [الفتح:26].
هي أيضاً الكلمة الباقية، فالتوحيد لا يزول بالمعصية، وإن كانت المعاصي تقدح في كمال الإيمان، لكن لا تقدح في أصل الإيمان، فالتوحيد لا يزول بالمعصية، والمعصية تزول بسبب التوحيد، فلذلك هي الكلمة الباقية، يقول تبارك وتعالى في حق إبراهيم عليه السلام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ [الزخرف:26]* إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:27]* وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف:28]، وإن كان هنا لم يذكر كلمة التوحيد، لكن ذكر الكفر بالطاغوت وتوحيد الله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ، هذا هو معنى الكفر بالطاغوت إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ ، هذا هو إسناد التوحيد لله تبارك وتعالى والإيمان به، فعبر عن لا إله إلا الله بمعناها، ثم قال بعد ذلك: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً ، ما هي هذه الكلمة الباقية؟ هي لا إله إلا الله.
ويقول تبارك وتعالى: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، والله سبحانه وتعالى صاحب الدوام والبقاء، والقول تبع المقول، فتبقى حقيقة لا إله إلا الله ثابتة البقاء والدوام.
هي أيضاً القول الثابت الذي قال عز وجل فيه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]، يضلهم فلا يستطيعون أن يقولوها، وهي كلمة الله العليا، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا [التوبة:40] وهي لا إله إلا الله، وكلمة الله عليا على الدوام، ولذلك لم يعطفها على ما قبلها كلمة الذين كفروا، ما قال: (وجعل كلمة الله العليا) حتى لا تكون مفعولاً للجعل أو معطوفة على كلمة الذين كفروا لكن استأنف كلاماً جديداً فقال: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا .
وقال تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33]، فالظهور والعلو هنا لـ: لا إله إلا الله.
أيضاً هي المثل الأعلى، كما قال تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60]، قال قتادة : هو قول لا إله إلا الله المثل هنا معناه الصفة، كما يقول عز وجل: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد:35] يعني: صفة الجنة التي وعد المتقون.
هي أيضاً كلمة السواء، يقول تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] ما هي هذه الكلمة؟ هي لا إله إلا الله.
بعض الناس من ذوي القلوب المريضة من المنافقين يسيئون استعمال هذه الآية ليداهنوا النصارى وإخوانهم الذين نافقوا، فيفهموا الناس أن الكلمة السواء هي حل وسط، وليست داعية إلى الدخول في الإسلام، بل معنى: تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ : أن تدخلوا في دين الله في الإسلام، وتقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ليس كلمة سواء حل وسط يرضي جميع الأطراف؛ فإن هذا مما لا يجوز.
والدليل على هذا قوله تبارك وتعالى بعدها: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].
أيضاً هي كلمة النجاة، كما قال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وكما قال المؤمن: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر:41] فالنجاة هي في قول لا إله إلا الله.
أيضاً هي العهد الذي أشار إليه تبارك وتعالى في قوله: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة:40]، يعني: أوفوا بلا إله إلا الله، ثم قال بعد ذلك وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ [البقرة:41]، فيكون المراد من العهد الإيمان وقول لا إله إلا الله.
هي أيضاً كلمة الاستقامة: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30].
وهي أيضاً مقاليد السماوات والأرض، يقول ابن عباس في قوله: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الزمر:63] : هو قول لا إله إلا الله، فبها تفتح أبواب السماء عند الدعاء، وأبواب الجنان لا تفتح إلا بها، وأبواب النيران لا تغلق إلا بها، وباب القلب لا يفتح إلا بها، وأنواع الوساوس لا تندفع إلا بها، فبلا إله إلا الله تفتح أبواب السماء عند الدعاء، وبلا إله إلا الله تفتح أبواب الجنة؛ لأنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة موحدة، فلا يمكن أبداً مشرك أن يدخل الجنة، وإن الله حرم الجنة على من لم يقل لا إله إلا الله.
إذاً: أبواب الجنان لا تفتح إلا بها، وأبواب النيران لا تغلق إلا بها، وباب القلب لا يفتح إلا بها، وأنواع الوساوس لا تندفع إلا بها.
فلذلك قال ابن عباس في تفسير قوله: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الزمر:63]: هو قول لا إله إلا الله، هي أيضاً القول السديد، كما قال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب:70]، سديد فعيل، وتأتي بمعنى فاعل وبمعنى مفعول، فإذا قيل: إنها سديد بمعنى فاعل يعني: يقول قولاً يسد على صاحبه أبواب جهنم، أو إذا قلنا: سديد بمعنى مفعول كما تقول جريح أو قتيل يعني مقتول أي مفعول، يعني: يسد صاحبه عن أن يضيره شيء من الذنوب. ومنه سد يأجوج ومأجوج فهو سد لدفع ضررهم، وكذلك كلمة التوحيد هي قول سديد لأنك به تسد عن أن يضرك شيء من الذنوب.
هي أيضاً البر، كما قال الله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:177]، إشارة إلى التوحيد المفهوم من لا إله إلا الله.
وهي الدين: كما قال عز وجل: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3]، فحصل الخضوع لله، ودل على أنه لا إله سواه، ولا معبود إلا إياه.
وهي الصراط: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، قول لا إله إلا الله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153]، وقال: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].
هي أيضاً كلمة الحق، يقول المولى عز وجل: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ [الزخرف:86]، أي: شهد بلا إله إلا الله.
وهي العروة الوثقى، يقول الله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:256].
وهي كلمة الصدق وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33]، يعني: بلا إله إلا الله.
هذه بعض أسماء لا إله إلا الله .
لا إله إلا الله هي كلمة الإحسان
لا إله إلا الله هي الكلمة الطيبة
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الإيمان والكفر [14] | 2440 استماع |
الإيمان والكفر [27] | 2427 استماع |
الإيمان والكفر [23] | 2230 استماع |
الإيمان والكفر [5] | 2182 استماع |
الإيمان والكفر [22] | 1946 استماع |
الإيمان والكفر [16] | 1906 استماع |
الإيمان والكفر [7] | 1852 استماع |
الإيمان والكفر [10] | 1843 استماع |
الإيمان والكفر [21] | 1838 استماع |
الإيمان والكفر [24] | 1831 استماع |