الشيخ محمد لطفي الصباغ ... كما عرفتُه
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
الحمدُ لله ربّ العالمين فقد عوّضَنا الله تعالى عمّا كنا فيه من نشاط دعوي في الميدان بقدوم شاب يافع واسعِ الثقافةِ، غزيرِ العلم ِ، يفيضُ نشاطاً وحيوية وإخلاصاً في الدعوة ِ إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، اسمه محمد الصباغ ، فنحمدُ الله أن شرّفَنا بصحبته.
هذا جزءٌ من رسالةٍ أرسلَها والدي من درعا حيثُ كان يعملُ رحمه الله في خمسينات القرنِ الماضي إلى الشيخ زهير الشاويش رحمه الله في لبنان يطمئنُهُ فيها عن أحواله.
وكان الشيخ زهير من أكثر الناس توثيقاً ، فأعاد إرسالها إليّ قبل وفاته مع بعض الوثائق.
لقد بدأت معرفتي بالشيخ الصباغ رحمه الله في طفولتي بالشام حيث كان والدي كثيراً ما يحدثني عن علمه وفضله ونشاطاته، ويرسلني أتفقّد أحوالَ امرأته أم لطفي فأخدمها حينما كانت تأتي لزيارة الشام .
والتي كانت كثيراً ما تسلّمُ عَلَيّ وتترحمُ على والدتي أعزّ صديقاتها في درعا.
ثم تقابلتُ مع الشيخ في الأردن عند هجرتنا إليها أوائل الثمانينات ، حيث حضرَ لزيارةِ والدي وحثني كثيراً على طلب العلم ، وإتمام دراستي الشرعية، وكتبَ لي عدّةَ تزكيات لجامعات مختلفة وظل يتابعني في ذلك إلى أن أتممتُ رسالةَ الدكتوراة وكان له أكبر الأثر عليّ حيثُ وجّهني في بعض رسائلي وكُتُبي - التي كان يتفضل بمطالعتها - لما يرى فيه الحق والصواب .
كنت كثيراً ما ألتقيه في الأردن فأزورهُ ويزورني، ويحضر أحياناً خطَبي، وأرافقه وأتشرف بخدمته .
ولما أن حصلَ بينه وبين شيخه الألباني - الذي كان يلازم دروسه في الشام - شيءٌ من الجَفاء بعد تحكيمهِ في قضية الشيخ زهير الشاويش طلب مني أن أجمعه بالشيخ الألباني وكان الشيخ قد أغلق الباب على نفسه دون الناس لظروفه الخاصة، لكنه ما خيّبني رحمه الله فوافقَ أن يجتمع مع الصباغ على أن لاتطول مدةُ اللقاء ، فاجتمعنا بالشيخ وطال اللقاء وتشعب الحديث.
ثم تتالتْ زياراتنا للشيخ الألباني وذاب جمودُ ما كان بينهما وعادت الأمور كما كانت والحمد لله.
كان يحدثني كثيراً عن ذكرياته الدعوية في الشام ويقصّ عليّ خَبرَ خُطبته العصماء التي صدعَ فيها بالحقّ في أواخر الخمسينات وهاجم فيها كبار المسؤولين وأمرهم بتقوى الله والكفّ عن نشر الفساد وإعانة المفسدين.
وما إن وصلَ إلى بيته حتى جاءت المباحث تسأل عنه، فاضطرّ إلى أن يقفزَ من سطحِ بيته إلى سطحٍ آخر وآخر حتى وصلَ إلى بيت عمي -أبي راشد موسى- رحمه الله الذي أخفاه أياماً عديدة ريثما تدخّلَ بعض الوجهاء لحلّ مشكلته .
كان يحدثني عن علاقته الدعوية بالشيخ السباعي والعطار والشاويش وعلي الطنطاوي وصديقِ عمره الاستاذ عبد الرحمن الباني فكانت ذكرياته معهم سلوى حياته في هجرته، ورحلاتهم الدعوية التي كان يشاركهم فيها الشيخ الألباني ماثلة بين عينيه طوال عمره
وكان لا يفتأ يذكر مشايخه في الميدان كالشيخ حسن حبنكة، والشيخ زين العابدين التونسي، والشيخ سليم اللبَني، وغيرهم، وكان يحدثني عن قصص مواجهاته مع المقلدين المتعصبين من أهل الميدان وصبره على ذلك.
رحمكَ الله ياشيخنا عرفناك متفاعلاً مع قضايا أمتك إلى آخر حياتك .
كم شارك الشعبَ في سوريا آلامه وآماله وماترك منبراً إلا وأوصل من خلاله دعوته وقال فيه كلمته.
كان يتساءلُ بمرارة: ما الذي جنيناه في سوريا حتى نحرم منها أنا وأخي الاستاذ عصام العطار منذ عام ١٩٦٤ ؟!
كان يذكر لي أيامَ استقباله لإخوانه في الرياض الاستاذ تيسير العيتي وعمي الدكتور محمد امين اللبابيدي والشيخ علي الطنطاوي الذي قال له الصباغ في المطار نأخذك أولاً إلى مكان كذا وكذا، فقال الشيخ الطنطاوي مداعباً: أنت أميري، أوافقك فيما لا أخالفك فيه، فضحِك الشيخ الصباغ وقال له: جزاك الله خيراً على حسن الانقياد والطاعة فكل الناس يوافقوني فيما لا يخالفوني فيه .
الشيخ الدكتور محمد بن لطفي الصباغ تخرّج على يديه أجيال من طلاب العلم كانوا كثيراً ما يثنون على خُلقه ولطف معشَره، وغزارة علمه، وعلى أسلوبه السلس، ورصانة لغته التي عرفها كل من كان يقرأُ كتبه أو يستمع إلى برامجه الإذاعية والتلفزيونية.
عرفته رحمه الله كريمَ النفس ، كثيرَ الفضل، عظيمَ الوفاء لإخوانه وأصحابه القدامى.
كان لايقطعني من اتصالاته من الرياض يطمئن عن أحوالي، ويسألني دائما عن الشيخ أبي مالك شقرة وعن محبيه.
لما زُرتُ الرياض اتصلتُ به وطلبتُ عنوانه لأتشرف بزيارته فأبى حتى يأتيني أولاً، وقال لي: القادم يُزار، فجاء بصحبة ولده محمود إلى الفندق الذي كنتُ نازلاً به وسَلّم عليّ، ودعاني إلى غداءٍ جمع فيه ثلةً من أهل العلم والفضل.
وكنت قد علمتُ أنه فعل مثل ذلك تماما مع والدي رحمه الله قبل عقود من الزمن .
رحمك الله شيخنا أبا لطفي، وأجزل مثوبتك، كم كنا نتمنى أن نحتفي بك في الشام المحررة عَلَماً من أعلامها، ورمزاً من رموز نهضتها لكن الله قد اختار لك الخير إن شاء الله، فتوفاك يوم الجمعة ، وعافاك من أن تدرك ماندرك..
فعلى مثلك تبكي البواكي....
وما أحسب فقدكَ إلا من علامات الساعة ،
جمعنا اللهُ بك تحت لواء سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
د.
محمد بديع موسى الدمشقي
٧ / ٢ / ١٤٣٩ هـ
٢٧ / ١٠ / ٢٠١٧م