ظاهرة ثقب الجسد بالأقراط: واقع ومحاذير
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
ظاهرة ثقب الجسد بالأقراط واقع ومحاذير
من الظواهر الغريبة التي استمرأها كثيرٌ من شبابنا وشابَّاتنا، وبدأت تكتسح مجتمعاتنا، وتدخل بيوتنا - ظاهرةُ ثقب الجسد بالأقراط، وتُسمَّى ظاهرة "مَدِّ النَّفَق"، واشتُهِرَتْ بـ"البِرْسينغ"؛ حيث يدلف بعضُهم إلى خرْم جسده في مواطن متعددة منه؛ كثقب اللسان وشقِّه، وثقب الأنف، والسُّرَّة، والحاجب، والشفتين، والثديين، وحتى على الأظافر، والساعد، والجلد بين السبابة والإبهام.
وربما تجرَّأ بعضُهم فثقب الأعضاء الحسَّاسة من جسده أيضًا، ثم يضعون مكان الثقوب أقراطًا أو مساميرَ معدنية، أو عظمية، أو صدفية، أو عاجيَّة، أو زجاجية، مختلفة الأنواع والأحجام، يسمُّونها "أكسسوارات"، مما صار موضة في أوساط الشبان العرب من الذكور والإناث، بعد أن عرَفتْ رواجًا في الغرب الذي تلقَّفَها من عادات وثنية عُرِفَتْ في إفريقيا وأمريكا، وإن كان بعض هذه الممارسات يرجع في أصله إلى عادات فرعونية، ويونانية، ورومانية، وهندية عُمرُها مئات السنين.
لكن بُعِثَتْ هذه العادات من جديد، بسبب شبكة الإنترنت التي كان من أعظم سلبيَّاتها أن غاصت في أعماق التاريخ، واستخرجت كل رديء فيه، فتجدَّدَت الصيحةُ في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، ثم تفاقَمَتْ في بداية التسعينيَّات على يد قوم يُسمون (البانك)، ممَّن كانت لهم أفكار ثورية ضد دينهم، ومجتمعهم، وتقاليدهم، وتميَّزُوا بلُبس الثياب الجلدية السوداء، ووضع الوشوم، وألوان الوجه الداكنة، وحلاقات الشَّعر العجيبة، فخرج علينا فئاتٌ يحملون خَلقًا مشوَّهًا، وصورًا مرعبةً: جلود سوداء، وأقراط دائرية كبيرة، وآذان متدلية بشعة، وحواجب صاعدة مخوفة، ومسامير مزروعة ناتئة، لتنتقل العدوى إلى المجتمعات العربية قبل قرابة خمس عشرة سنة.
وهذه "التقليعة" لا تقتصر على فئة معينة؛ بل صار يُقدِم عليها الكثيرون من مختلف الطبقات الاجتماعية، ومختلف الأعمار، غير أنها تركَّزت في الفئة العمرية بين 14 إلى 25 سنة، واهتمَّ بها الفتياتُ أكثرَ من الفتيان، تقليدًا لما يرونه على شاشات التلفاز، أو المواقع الإلكترونية، أو المجلات المتخصصة في تتبُّع تقليعات وغرائب الفنانين والفنانات، من الممثلين والممثلات، والمغنين والمغنيات، وأبطال الرياضة والبطلات، ومجانين المشاهير، الذين عُرِفوا بشرب الخمور وتناول المخدِّرات، ممَّن تفنَّنُوا في ابتكار أشكال هذه الأقراط وأحجامها وألوانها؛ مثل: أشكال الجماجم، أو أشكال الحيوانات، أو المسامير المستقيمة، أو المعقوفة، أو الرموز الغريبة.
ومنهم مجموعات من الفتيان أو الفتيات، يتَّفِقون على وضع أشكال متشابهة من هذه الأكسسوارات، ك"حدوة الحصان"، أو "فراشة"، أو "جماجم سوداء"، مما يحمل دلالات معينة خاصة بهم.
ومنهم من يفضِّل أن يضع أكثر من ثقبٍ في وجهه وجسده، حتى يُكثِر من وضع هذه الأشكال والرموز، لا، بل بلغ الجنون ببعضهم أن يتعمَّدُوا ثقب أجسادهم بمئات، بل آلاف الثقوب، لعله يتمُّ تسجيل أسمائهم في موسوعة جينيس العالمية للأرقام القياسية: ﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 88].
وتراوحت أسباب انتشار هذه الظاهرة بين شبابنا، فإما أن تكون:
• تقليدًا أعمى للمشاهير في الغرب.
• أو جريًا مع الموضة التي انتشرت بين الطلاب في الجامعات أو النوادي الرياضية.
• أو إرادةً للتميُّز والتفرُّد عن السواد الأعظم.
• أو إظهارًا لرفض مقاييس الجمال المتعارَف عليها اجتماعيًّا.
• أو زينةً تُضفِي عليهم من الجمال والبهاء ما يعتقدون أنه يجعلهم مثارًا للإعجاب.
• أو شكلًا من أشكال التحرُّر ولَفْت الانتباه.
• أو سلوكًا لأسباب جنسية يعرفها أصحابها.
• أو اعتقادًا أن هذه القِطَع المعدنية التي يُعلِّقُونها على وجوههم "تعويذة"، يرون أنها تقيهم من العين والحَسَد.
يقول أحد الباحثين: "إن الرهانات الاجتماعية كلها أصبحت تدور في فلك الظهور "فمن أنت؟" لم تعد تطرح اليوم؛ لأن المظهر أصبح يجيب عنها، فشابٌّ يضع حلقةً في أُذُنه أو أنفه أو على حاجبه، تعرف اختياراته الفنية، وميولاته الثقافية والحياتية".
قالت إحداهن (عمرها 15 سنة): "لم أفكِّر في أبعاد وضع هذا القرط ولا بكونه فعلًا مخالفًا للدين والشريعة الإسلامية، كل همِّي كان هو البحث عن شكل مميَّز ينسجِم مع شخصيَّتي ومظهري".
وتقول أخرى (عمرها 24 سنة): "أنفي طويل وجميل بشهادة الجميع؛ لذا فإنه يستحق أن أبرز جماله أكثر!"
ويفضل آخر (عمره 18 سنة) ثقب حاجبه وأسفل ذقنه، ويرى أن ذلك يمنحه تقليعةً مختلفةً عن الآخرين، تجعله يشدُّ إليه الانتباه.
وأصبح ثقب الأذن اليوم يحمل دلالات معينة، يتراسل بها الشباب، ويلتقطون إشاراتها؛ فمكان الحَلَق في الأذن اليُمنى يرمز إلى التحرُّر والجُرأة، ومكانها في الأذن اليسرى يرمز إلى الوَحدة، وقد تصل الثقوب في كل أذن إلى سبعة، كل واحد يرمز إلى شيء معين ...
وهكذا.
ومن عجب أن هذه الثقوب تُحدِث ألَمًا فظيعًا يتحمَّلُه أصحابها ولا يبالون، وقد يستغرق اندمالها ما بين شهر وسنتين، مع ما فيها من مخاطر صحية وخيمة؛ كتمزُّق الجلد، وانتقال العدوى، والإصابة بالأمراض التناسلية، والأمراض التعفنية، وترك بعض الندب المشوِّهة للجسم، وبخاصة إذا تمَّ ثقب الجسم بأدوات غير مُعقَّمة؛ حيث تزيد فرص الإصابة بجراثيم التهاب الكبد الوبائي، وتعفُّن الدم، ونقص المناعة المكتسب (السيدا)، ويعظُم الخَطَرُ عند ثقب الحاجب؛ حيث توجد أعصاب العين الحسَّاسة، وكل خطأ قد يتسبَّب في العمى لصاحبه.
وقد تكون المعادن أو المواد المستعملة غير مصنوعة من مادة التيتانيوم الأصلية، فتُسبِّب التهاب الجلد، وبخاصة في فصل الصيف، حين يتعرَّق الجسد، فيحدث تفاعُل هذه القطع بالجلد وإفرازات الجسم.
وبعض المتطفِّلين على ممارسة هذا العمل غير المرخَّص، قد يستعمل أدوات غير مُعقَّمة، وقد يستعمل القرط التجريبي الواحد لأكثر من شخص؛ مما قد يتولَّد عنه نقلُ الأمراض الخطيرة من شخص إلى آخر.
وتجاوز ثقب الأذن ما تعارف الناس عليه من ثقب أذن الفتاة بشكل اعتيادي، من أجل التزيُّن بالأقراط المعروفة، وهو ما سمح به شرعُنا، إلى استعمال دوائر كبيرة قد يزيد قطرُها عن حجم الدرهم، تحمل أشكالًا فظيعة من الأقراط والقطع المعدنية الغريبة، محاكاة لـ"عبدة الشيطان" الذين تمرَّدُوا على الأديان، وأرادوا أن يُرسِّخوا بيننا دينًا آخرَ سمَّوه بـ"مذهب الشيطان"، يعتمد على هذه الثقوب المقزِّزة، والدوائر المشمئزَّة؛ ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الحج: 3، 4].
أما من حيث الحكم الشرعي، فإن ثقب الأذن للفتاة من أجل الزينة لا بأس به كما أسلفنا، فقد أقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينه عنه.
وأما ثقب اللسان لوضع الأقراط فيه، فهذا أمرٌ غريب منافٍ للذوق السليم، عُرِفَتْ به نساءٌ غيرُ مسلمات، بل هو شعار المومسات في بعض البلاد الغربية، فلا يجوز تقليدهن فيه، فضلًا عمَّا فيه من أضرار صحية ذكرها الأطباء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ))؛ صحيح سنن ابن ماجه.
وأما ثقب الأنف ومثله الشفة، فقد ذهب الشافعية إلى تحريمه؛ قال ابن حجر الهيثمي رحمه الله في "تحفة المحتاج": "ويظهر في خَرق الأنف بحَلْقة تعمل فيه من فضةٍ أو ذهبٍ أنه حرامٌ مطلقًا؛ لأنه لا زينة في ذلك يغتفر لأجلها، إلا عند فرقة قليلة، ولا عبرة بها".
ومنهم من أجاز ثقب الأنف للزينة كالأذن، إذا كان عادةً في مجتمع معين، ولكن بشرطين: ألَّا يترتَّب عليه ضرر، وألَّا يكون فيه تشبُّه بالكافرات، أو له علاقة بطقوس وثنية.
وأما ثقب السُّرَّة ونحوها من أجزاء الجسد، فليس فيه كلام منصوص لأهل العلم، وذهب بعض المعاصرين إلى أن الأقرب المنع منه لثلاثة أمور:
الأول: ما فيه من المثلة وتعذيب الجسد.
الثاني: عدم حاجة النساء للتزيُّن بمثل هذا في الغالب، بل هو إلى التشويه أقرب منه إلى الزينة.
الثالث: التشبُّه فيه بالأجنبيَّات أوضح وأظهر، فهو تقليد لهُنَّ في شيء يرمزن به إلى المجون والتهتُّكَ، وفي الحديث: ((مَنْ تَشَبَّهَ بقوم فهو منهم))؛ صحيح سنن أبي داود.
شبابٌ قُنَّعٌ لا خيرَ فيهم
وبُورِكَ في الشباب الطامِحينا
شبابٌ ذلَّلُوا سُبُل المعالي
وما عرَفُوا سوى الإسلامِ دينا
شبابٌ لم تُحطِّمْه الليالي
ولم يُسند إلى الخصم العرينا
وما عرَفُوا الخلاعةَ في بناتٍ
وما عرَفُوا التخنُّثَ في البَنينا
وما عرَفُوا الأغانيَ مائعاتٍ
ولكنَّ العُلا صِيغَتْ لحُونا
كذلك أخرَجَ الإسلامُ قومي
شبابًا مؤمنًا حُرًّا أمِينَا