شرح زاد المستقنع كتاب العدد [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [الثالثة: الحائل ذات الأقراء].

شرع المصنف رحمه الله في بيان عدة المرأة التي تحيض؛ لأن الله تبارك وتعالى قسّم المعتدات إلى أقسام، كما بيّن المصنف رحمه الله، ومن هذه الأقسام التي ذكرها الله سبحانه وتعالى: ذوات الأقراء، فقال تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه الآية الكريمة: هل المراد بالقرء: الحيض، أو المراد بالقرء: الطهر؟

وقد تقدم معنا في كتاب الطهارة أن المرأة تحيض، ويجري معها الدم أياماً معدودة ثم ينقطع، ثم يعاودها بعد ذلك في الحيضة الثانية، فما بين الحيضة الأولى والحيضة الثانية طهر، فهل مراد الله عز وجل في هذه الآية الكريمة أن تكون العدة ثلاثة أطهار، بمعنى: أن تمر عليها ثلاثة أطهار متتابعة يحتسب فيها طهر الطلاق؟ فالسنة في الطلاق إذا طلق الرجل زوجته أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن ابن عمر : (مره فليراجعها وليطلقها حائلاً أو حاملاً) .

فالحائل: هي المرأة التي لا حمل فيها، وتكون حائضاً وتكون طاهراً، فهل المراد: أن يمر عليها ثلاثة أطهار: الطهر الأول الذي طلقت فيه، ثم تحيض، ثم تطهر الطهر الثاني، ثم تحيض، ثم تطهر الطهر الثالث؟ ففي هذه الحالة ثلاثة أطهار، وإذا طهرت ثلاثة أطهار خرجت من عدتها، أو المراد أن تحيض ثلاث حيضات، فإذا طلقها في الطهر انتظر حتى تأتيها الحيضة الأولى بعد الطهر، فتحتسب الحيضة الأولى ثم تطهر، ثم تحيض الحيضة الثانية ثم تطهر، ثم تحيض الحيضة الثالثة؟ فهذه ثلاث حيضات.

اختلف العلماء رحمهم الله في قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] هل المراد بالقرء الطهر أو الحيض على قولين مشهورين عن الصحابة والتابعين، وأئمة العلم رحمة الله عليهم أجمعين:

القول الأول: أن المراد بالقرء الطهر

وحينئذٍ تعتد ثلاثة أطهار، وهذا القول قالت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وكذلك قال به إمام التفسير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه شيخ ابن عباس ، وكذلك قال به عبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع.

وممن قال بهذا القول بعض أئمة التابعين كـسالم بن عبد الله بن عمر ، والإمام الزهري وعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وهو مذهب المالكية والشافعية رحمة الله على الجميع، فهؤلاء الأئمة من أئمة الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المذاهب الأربعة يقولون: تعتد ثلاثة أطهار.

القول الثاني: أن المراد بالقرء الحيض

وهذا القول أثر عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقال به بعض تلامذة ابن عباس رضي الله عنهما، ويحكى أيضاً عن ابن عباس ، وهو مذهب الحنابلة والحنفية، وأهل الرأي من فقهاء الكوفة وغيرهم رحمة الله عليهم أجمعين، وهو الذي اختاره المصنف؛ لأن المذهب عليه.

أدلة من قال إن المراد بالقرء الطهر

واستدل الذين قالوا: إن المراد بالقرء: الطهر في الآية الكريمة بدليل من الآية نفسها؛ وذلك أن الله تعالى قال: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، والعرب تقول: (ثلاثة أطهار) ولا تقول: (ثلاثة حيضات) لأن العدد (ثلاثة) تذكره إذا كان المعدود مؤنثاً، وتؤنثه إذا كان المعدود مذكراً، فدل على أن المراد بقوله: (ثلاثة قروء) أي: ثلاثة أطهار.

ثانياً: أن لسان العرب في مادة: (قرء) يطلق بمعنى: الاجتماع، ومن هنا فالدم يجتمع في الطهر وينفجر في الحيض، فيكون إطلاق القرء على الحيض؛ لأنه يجتمع فيه الدم، ولذلك يقال: مقراة، لمكان اجتماع الماء عند البئر، قال امرؤ القيس :

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمأل

فقالوا: (القرء) للاجتماع، ومنه سميت القرية؛ لاجتماع أهلها فيها، فإذا كان مادة: القرء أصلها للاجتماع فإن الدم يجتمع في الطهر ولا يجتمع في الحيض؛ لأنه في الحيض ينفجر ويخرج، فيكون في الآية قرينة على أن المراد بالقرء: الطهر.

كذلك أيضاً استدلوا بقوله تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1] وبين النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية أن المراد بها (في عدتهن) فاللام في قوله: (لعدتهن) أي: (في عدتهن)، وبناء على ذلك: فقد دلت الآية على أن الطلاق يكون عند ابتداء العدة، والعدة تكون من الطلاق كما جاء في آية البقرة، ولا يمكن أن يقع الطلاق على الوجه المشروع إلا إذا كان في الطهر لا في الحيض، فيكون قوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1] أي: في عدتهن عند الاستقبال؛ لقوله في الصحيح: (وليطلقها لِقُبل عدتها) يعني: عند استقبالها للعدة، فإذا وصف الله عز وجل الطهر بأنه بداية العدة دل على أنه هو الذي يحتسب به في العدة، وهذا من أقوى الأدلة، ولذلك (اللام) بمعنى (في)، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47]، أي: في يوم القيامة، (فاللام) تطلق بمعنى (في) في لسان العرب.

وقالوا: إن هذا يدل على أن المراد بالقرء في الآية الكريمة: الطهر.

وأما الذين قالوا: إن المراد به: الحيض قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق القرء على الحيض، وقالوا: عندنا دليلان: دليل من اللسان الشرعي وهي الإطلاقات الشرعية، وعندنا أيضاً دليل من حيث الاستعمال اللغوي، فمثلما أن الأولين عندهم الدليلان كذلك نحن عندنا الدليلان من هذين الوجهين.

قالوا: إن الله تعالى يقول: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، والمرأة إذا اعتدت بالحيض تمت لها ثلاث حيضات كاملة، ولكنها إذا اعتدت بالطهر سيكون عندها الطهر الثالث ناقصاً؛ لأنها إذا طلقت في الطهر الأول فإنه يحتسب من العدة، وحينئذٍ يكون الطهر ناقصاً، فمعناه أنهما طهران كاملان وشيء، والله عز وجل يقول: (ثلاثة)، والثلاثة لا تكون تامة كاملة إلا بالحيض لا بالطهر، هذا من جهة قوله: (ثلاثة قروء).

ثانياً: من جهة السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أطلق القرء على الحيض، فقال عليه الصلاة والسلام: (دعي الصلاة أيام أقرائك) كما في الصحيح، وقوله: (أيام أقرائك) يعني: أيام حيضك، فدل على أن المراد بالقرء في القرآن: الحيض.

هذا في الحقيقة مجمل ما ذكر، وهناك استدلالات أخر لكن هذه أقوى الوجوه، والحقيقة أن القول الأول القائل بأن المراد بالقرء: الطهر، أقوى وأرجح، وذلك لأن ثلاثة أطهار، واضح الدلالة من جهة المعدود.

وأما استدلال من قال: المراد به: الحيض، بأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق القرء على الحيض فهذا محل إجماع بين العلماء، والقرء يستعمل في الحيض ويستعمل في الطهر، فإذا كان يستعمل في الحيض والطهر فلا مانع أن تكون الآية وردت باستعماله في الطهر ووردت السنة لاستعماله في الحيض؛ لأن حديث: (دعي الصلاة أيام أقرائك) متعلق بالقرء في باب الطهارة، ونحن في باب المعاملة وهي الزوجية، وهناك فرق بين أحكام الحيض في العبادة وأحكام الحيض في المعاملة، فلا مانع أن يطلق على الحيض: قرءاً؛ لأن العبادة تمتنع في حال الحيض، ولكن العدة لا تمتنع في حال الحيض، ومن هنا كان إطلاقه عليه الصلاة والسلام لهذا اللفظ منتزعاً من الأصل اللغوي بأن القرء يطلق على الحيض والطهر، وهذا لا نجادل فيه، وإنما نريد قرائن تدل على قوة إرادة هذا أو هذا، فلما جاء المعدود مذكراً دل على أن المراد بقوله: (ثلاثة قروء) أي: ثلاثة أطهار.

كذلك أيضاً الاعتراض على تفسير قوله: (ثلاثة قروء) بالطهر، بأنه يلزم أنها تعتبر بعض الطهر، وأنها في الحيض تعتبر الحيض كاملاً يجاب عنه بوجهين:

الوجه الأول: أنهم يعترضون على اعتبار الطهر ناقصاً فيكون لها طهران وشيء، وهم يقعون في الزيادة؛ لأنهم يلغون الحيضة إذا طلقها في الحيضة، فلا تحتسب عندهم وجهاً واحداً، فإذا طلقها في الحيضة لم تحتسب، وظاهر السنة يدل على هذا، فمعنى ذلك أنها ستزيد إلى أكثر من ثلاث حيضات، وحينئذٍ تطول عدتها، فكما اعترضوا بالنقص يعترض عليهم بالزيادة، فقد قال: (ثلاثة) فكما أنكم زدتم عليها فنحن ننقص منها، فإن أوردتم على النقص أوردنا على الزيادة.

الوجه الثاني: أننا لا نسلم أنه يمتنع إطلاق الثلاثة على بعض الشيء؛ لأن العرب تطلق على الاثنين وشيء: ثلاثة، مثلما تطلق على من دخل في بداية السنة الثالثة أن له ثلاث سنوات، وهنا إذا تمت وأخذت طهرين ودخلت في الثالث أو كان طلاقها في الثالث فرفقاً من الله عز وجل يحتسب الثالث؛ لأنه طهر؛ والمراد منه النقاء.

أما الدليل على أنه يطلق على الشيئين وبعض الشيء فهم أنفسهم يقولون في قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] قالوا: جمع، والجمع لا يطلق على أقل من ثلاثة كما هو مذهب الحنابلة والحنفية أنفسهم، ومع ذلك يقولون: شهران وبعض الشهر؛ لأن المقصود: شهر شوال، وشهر ذي القعدة، وينتهي الإحرام للحج ببزوغ فجر العاشر من ذي الحجة، وحينئذٍ يكون المقصود شهرين وبعض الشهر، وقال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، وأنتم تقولون: إن الجمع لا يطلق على أقل من ثلاثة، وهنا أطلقتم الجمع على الاثنين وبعض الثالث، وبناء على ذلك يرد على الاعتراض بالنقص ويقوي قول من قال: إن المراد بالقرء: الطهر، خاصة وأن هذا التفسير للقرآن جاء من زيد رضي الله عنه وأرضاه، وكان إماماً في كتاب الله عز وجل، حتى إن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما كتبوا كتاب الله عز وجل وأرادوا جمعه لم يجدوا أحداً يقدم عليه رضي الله عنه وأرضاه، وابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن انتفع من علم زيد ، وأخذ التفسير عن زيد وهو أعلم بدلالة القرآن، ومكانته معروفة رضي الله عنه وأرضاه، حتى إن أبا هريرة رضي الله عنه لما بلغته وفاة زيد بكى رضي الله عنه وقال: (لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً، ولكن لعل الله أن يجعل لنا في ابن عباس منه خلفاً)؛ لأنه كان مبرزاً في التفسير، وابن عباس رضي الله عنهما أخذ منه.

وتفسير (القرء) بمعنى: الطهر مأثور عن أم المؤمنين عائشة وهي رضي الله عنها أعلم بشئون النساء، وأعلم بما يكون من حيضهن، وأعلم بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، حتى إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يرجعان إليها في أمور النساء وما يختص بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وهذا الذي تطمئن إليه النفس: أن المراد بقوله: (ثلاثة قروء) يعني: ثلاثة أطهار.

هذا حاصل ما يقال في المطلقة إذا كانت من ذوات الحيض فتعتد بثلاثة أطهار، وبناء على ذلك: إذا كنت حائلاً، أي: غير حامل ويجري معها دم الحيض ولم تكن آيسة ولا صغيرة ولا انقطع دمها فإنها تعتد بالطهر على أصح الوجهين والقولين عند العلماء رحمهم الله.

وحينئذٍ تعتد ثلاثة أطهار، وهذا القول قالت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وكذلك قال به إمام التفسير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه شيخ ابن عباس ، وكذلك قال به عبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع.

وممن قال بهذا القول بعض أئمة التابعين كـسالم بن عبد الله بن عمر ، والإمام الزهري وعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وهو مذهب المالكية والشافعية رحمة الله على الجميع، فهؤلاء الأئمة من أئمة الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المذاهب الأربعة يقولون: تعتد ثلاثة أطهار.

وهذا القول أثر عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقال به بعض تلامذة ابن عباس رضي الله عنهما، ويحكى أيضاً عن ابن عباس ، وهو مذهب الحنابلة والحنفية، وأهل الرأي من فقهاء الكوفة وغيرهم رحمة الله عليهم أجمعين، وهو الذي اختاره المصنف؛ لأن المذهب عليه.

واستدل الذين قالوا: إن المراد بالقرء: الطهر في الآية الكريمة بدليل من الآية نفسها؛ وذلك أن الله تعالى قال: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، والعرب تقول: (ثلاثة أطهار) ولا تقول: (ثلاثة حيضات) لأن العدد (ثلاثة) تذكره إذا كان المعدود مؤنثاً، وتؤنثه إذا كان المعدود مذكراً، فدل على أن المراد بقوله: (ثلاثة قروء) أي: ثلاثة أطهار.

ثانياً: أن لسان العرب في مادة: (قرء) يطلق بمعنى: الاجتماع، ومن هنا فالدم يجتمع في الطهر وينفجر في الحيض، فيكون إطلاق القرء على الحيض؛ لأنه يجتمع فيه الدم، ولذلك يقال: مقراة، لمكان اجتماع الماء عند البئر، قال امرؤ القيس :

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمأل

فقالوا: (القرء) للاجتماع، ومنه سميت القرية؛ لاجتماع أهلها فيها، فإذا كان مادة: القرء أصلها للاجتماع فإن الدم يجتمع في الطهر ولا يجتمع في الحيض؛ لأنه في الحيض ينفجر ويخرج، فيكون في الآية قرينة على أن المراد بالقرء: الطهر.

كذلك أيضاً استدلوا بقوله تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1] وبين النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية أن المراد بها (في عدتهن) فاللام في قوله: (لعدتهن) أي: (في عدتهن)، وبناء على ذلك: فقد دلت الآية على أن الطلاق يكون عند ابتداء العدة، والعدة تكون من الطلاق كما جاء في آية البقرة، ولا يمكن أن يقع الطلاق على الوجه المشروع إلا إذا كان في الطهر لا في الحيض، فيكون قوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1] أي: في عدتهن عند الاستقبال؛ لقوله في الصحيح: (وليطلقها لِقُبل عدتها) يعني: عند استقبالها للعدة، فإذا وصف الله عز وجل الطهر بأنه بداية العدة دل على أنه هو الذي يحتسب به في العدة، وهذا من أقوى الأدلة، ولذلك (اللام) بمعنى (في)، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47]، أي: في يوم القيامة، (فاللام) تطلق بمعنى (في) في لسان العرب.

وقالوا: إن هذا يدل على أن المراد بالقرء في الآية الكريمة: الطهر.

وأما الذين قالوا: إن المراد به: الحيض قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق القرء على الحيض، وقالوا: عندنا دليلان: دليل من اللسان الشرعي وهي الإطلاقات الشرعية، وعندنا أيضاً دليل من حيث الاستعمال اللغوي، فمثلما أن الأولين عندهم الدليلان كذلك نحن عندنا الدليلان من هذين الوجهين.

قالوا: إن الله تعالى يقول: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، والمرأة إذا اعتدت بالحيض تمت لها ثلاث حيضات كاملة، ولكنها إذا اعتدت بالطهر سيكون عندها الطهر الثالث ناقصاً؛ لأنها إذا طلقت في الطهر الأول فإنه يحتسب من العدة، وحينئذٍ يكون الطهر ناقصاً، فمعناه أنهما طهران كاملان وشيء، والله عز وجل يقول: (ثلاثة)، والثلاثة لا تكون تامة كاملة إلا بالحيض لا بالطهر، هذا من جهة قوله: (ثلاثة قروء).

ثانياً: من جهة السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أطلق القرء على الحيض، فقال عليه الصلاة والسلام: (دعي الصلاة أيام أقرائك) كما في الصحيح، وقوله: (أيام أقرائك) يعني: أيام حيضك، فدل على أن المراد بالقرء في القرآن: الحيض.

هذا في الحقيقة مجمل ما ذكر، وهناك استدلالات أخر لكن هذه أقوى الوجوه، والحقيقة أن القول الأول القائل بأن المراد بالقرء: الطهر، أقوى وأرجح، وذلك لأن ثلاثة أطهار، واضح الدلالة من جهة المعدود.

وأما استدلال من قال: المراد به: الحيض، بأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق القرء على الحيض فهذا محل إجماع بين العلماء، والقرء يستعمل في الحيض ويستعمل في الطهر، فإذا كان يستعمل في الحيض والطهر فلا مانع أن تكون الآية وردت باستعماله في الطهر ووردت السنة لاستعماله في الحيض؛ لأن حديث: (دعي الصلاة أيام أقرائك) متعلق بالقرء في باب الطهارة، ونحن في باب المعاملة وهي الزوجية، وهناك فرق بين أحكام الحيض في العبادة وأحكام الحيض في المعاملة، فلا مانع أن يطلق على الحيض: قرءاً؛ لأن العبادة تمتنع في حال الحيض، ولكن العدة لا تمتنع في حال الحيض، ومن هنا كان إطلاقه عليه الصلاة والسلام لهذا اللفظ منتزعاً من الأصل اللغوي بأن القرء يطلق على الحيض والطهر، وهذا لا نجادل فيه، وإنما نريد قرائن تدل على قوة إرادة هذا أو هذا، فلما جاء المعدود مذكراً دل على أن المراد بقوله: (ثلاثة قروء) أي: ثلاثة أطهار.

كذلك أيضاً الاعتراض على تفسير قوله: (ثلاثة قروء) بالطهر، بأنه يلزم أنها تعتبر بعض الطهر، وأنها في الحيض تعتبر الحيض كاملاً يجاب عنه بوجهين:

الوجه الأول: أنهم يعترضون على اعتبار الطهر ناقصاً فيكون لها طهران وشيء، وهم يقعون في الزيادة؛ لأنهم يلغون الحيضة إذا طلقها في الحيضة، فلا تحتسب عندهم وجهاً واحداً، فإذا طلقها في الحيضة لم تحتسب، وظاهر السنة يدل على هذا، فمعنى ذلك أنها ستزيد إلى أكثر من ثلاث حيضات، وحينئذٍ تطول عدتها، فكما اعترضوا بالنقص يعترض عليهم بالزيادة، فقد قال: (ثلاثة) فكما أنكم زدتم عليها فنحن ننقص منها، فإن أوردتم على النقص أوردنا على الزيادة.

الوجه الثاني: أننا لا نسلم أنه يمتنع إطلاق الثلاثة على بعض الشيء؛ لأن العرب تطلق على الاثنين وشيء: ثلاثة، مثلما تطلق على من دخل في بداية السنة الثالثة أن له ثلاث سنوات، وهنا إذا تمت وأخذت طهرين ودخلت في الثالث أو كان طلاقها في الثالث فرفقاً من الله عز وجل يحتسب الثالث؛ لأنه طهر؛ والمراد منه النقاء.

أما الدليل على أنه يطلق على الشيئين وبعض الشيء فهم أنفسهم يقولون في قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] قالوا: جمع، والجمع لا يطلق على أقل من ثلاثة كما هو مذهب الحنابلة والحنفية أنفسهم، ومع ذلك يقولون: شهران وبعض الشهر؛ لأن المقصود: شهر شوال، وشهر ذي القعدة، وينتهي الإحرام للحج ببزوغ فجر العاشر من ذي الحجة، وحينئذٍ يكون المقصود شهرين وبعض الشهر، وقال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، وأنتم تقولون: إن الجمع لا يطلق على أقل من ثلاثة، وهنا أطلقتم الجمع على الاثنين وبعض الثالث، وبناء على ذلك يرد على الاعتراض بالنقص ويقوي قول من قال: إن المراد بالقرء: الطهر، خاصة وأن هذا التفسير للقرآن جاء من زيد رضي الله عنه وأرضاه، وكان إماماً في كتاب الله عز وجل، حتى إن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما كتبوا كتاب الله عز وجل وأرادوا جمعه لم يجدوا أحداً يقدم عليه رضي الله عنه وأرضاه، وابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن انتفع من علم زيد ، وأخذ التفسير عن زيد وهو أعلم بدلالة القرآن، ومكانته معروفة رضي الله عنه وأرضاه، حتى إن أبا هريرة رضي الله عنه لما بلغته وفاة زيد بكى رضي الله عنه وقال: (لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً، ولكن لعل الله أن يجعل لنا في ابن عباس منه خلفاً)؛ لأنه كان مبرزاً في التفسير، وابن عباس رضي الله عنهما أخذ منه.

وتفسير (القرء) بمعنى: الطهر مأثور عن أم المؤمنين عائشة وهي رضي الله عنها أعلم بشئون النساء، وأعلم بما يكون من حيضهن، وأعلم بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، حتى إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يرجعان إليها في أمور النساء وما يختص بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وهذا الذي تطمئن إليه النفس: أن المراد بقوله: (ثلاثة قروء) يعني: ثلاثة أطهار.

هذا حاصل ما يقال في المطلقة إذا كانت من ذوات الحيض فتعتد بثلاثة أطهار، وبناء على ذلك: إذا كنت حائلاً، أي: غير حامل ويجري معها دم الحيض ولم تكن آيسة ولا صغيرة ولا انقطع دمها فإنها تعتد بالطهر على أصح الوجهين والقولين عند العلماء رحمهم الله.

اتفق أصحاب القولين على أن الأصل في العدة: ثلاثة قروء، إما بالحيض -ثلاث حيضات- أو بالطهر -ثلاثة أطهار- على التفصيل الذي ذكرناه.

ولكن استثنيت عدة المختلعة، فاختلف العلماء رحمهم الله فيها، فبعض العلماء يقول: إن الحائل من ذوات القروء إذا كانت مخالعة لزوجها فإن عدتها حيضة واحدة على المذهب، وهذا ما اختاره أئمة المذهب من أنها تعتد بحيضة واحدة، وقيل: بثلاث حيضات أو بثلاثة أطهار على القول بأن القرء هو الطهر، أما الذين يقولون: إن المختلعة عدتها عدة المطلقة المعتادة فقد استدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـثابت : (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) فأمره أن يطلق المختلعة، فدل على أن الخلع طلاق، فإذا كان الخلع طلاقاً؛ فإن الله عز وجل يقول: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] فدخلت في هذا العموم بدليل الكتاب والسنة من جهة لفظ الآية وورود السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنها تطلق.

والذين قالوا: إنها تعتد بحيضة واحدة تستبرئ بها استدلوا بحديث الربيع رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تستبرئ بحيضة من خلعها وترجع إلى بيت أهلها، وكذلك قالوا في حديث ابن عباس الأول الذي رواه أصحاب السنن، والثاني عند أبي داود في سننه وفيه عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أمرت المختلعة أن تستبرئ بحيضة)، قالوا: وهذا يدل على أن عدتها حيضة واحدة.

بناء على ذلك: لو خالع الرجل زوجته فدفعت له المهر فإنها تستبرئ بحيضة واحدة على القول الثاني وتخرج من عدتها، وتصبح مستثناة من هذا العموم، فالأصل فيها ثلاث حيضات، ولكن تحيض حيضة واحدة يستبرئ بها رحمها، قالوا: والعقل يدل على هذا؛ لأن المختلعة إذا طلقها طلقة واحدة فليست طلقتها رجعية، يعني: ليس من حقه أن يراجعها؛ لأن المقصود أن يفسخ النكاح الذي بينهما، فلو كان من حقه أن يرتجعها لفات المعنى الذي من أجله شرع الخلع؛ لأن الخلع يقصد منه دفع الضرر عن المرأة، فالمرأة إذا كرهت زوجها ولم يكن بزوجها عيب يوجب الخيار لها، كأن تكون لا تريده ولا تحبه، نقول لها: ادفعي له المهر كما تقدم معنا من قوله صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم) فخالعت جميلة بنت أبي بن سلول ، وامرأة ثابت رضي الله عنه وأرضاه وقالت: (إني أخشى الكفر بعد الإسلام) فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تفسخ العقد برد المهر لزوجها، فإذا ردت المهر دل على أنها لا تريد أن ترجع إليه ولا تريد استمرار الحياة الزوجية معه، فأمرت شرعاً برد المهر إلى زوجها حتى يفسخ هذا العقد، فإذا ردت له المهر ردت له حقه، فلو كان له عليها سلطان لاستضرت المرأة؛ لأنه بمجرد ما يطلقها يراجعها بعد الطلاق، وحينئذٍ يكسب المهر ويكسب رجوعها مرة ثانية، فيفوت المقصود.

ومن هنا قلنا: إن مراد الشرع من الخلع: دفع الضرر عن المرأة، فترد المهر ويفسخ النكاح بينهما، ويؤمر بتطليقها على ظاهر الحديث الصحيح: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقه) وتخالعه ولو لم يرض، فإذا خالعته على هذا الوجه يقولون: إن مقصود الشرع فسخ النكاح، وإذا كان مقصوده فسخ النكاح خالف الأصل المعروف في الطلاق؛ لأن المرأة إذا طلقها زوجها الطلقة الأولى فإنه يعطى مهلة العدة حتى يراجع نفسه وتراجع نفسها، فإن كان العيب منه ندم وراجعها، وإن كان العيب منها ندمت وأصلحت ورجعت إليه إذا كانا يريدا إصلاحاً وعودة للنكاح، وبناء على ذلك قالوا: هذا المعنى غير موجود في المختلعة، وليس هناك وجه لردها إلى زوجها، فلا تطول العدة عليها، ولما كانت العدة يخشى منها أن تكون المرأة حاملاً فتستبرئ، فعلى هذا الوجه تستبرئ بحيضة واحدة، فإن حاضت تلك الحيضة وخرجت منها دل على أنها حائل، وحينئذٍ علمنا خلو الرحم وحققنا مقصود الشرع من دفع الضرر عن الزوجة.

فالخلاصة: أن المرأة إذا كانت حائلاً -غير حامل- وكانت من ذوات الحيض، فإنها في هذه الحالة تعتد بثلاثة أطهار على أصح قولي العلماء رحمهم الله، واستثنى فقهاء الحنابلة المرأة المختلعة فإن عدتها عندهم حيضة واحدة على ظاهر حديث الربيع وحديث ابن عباس ، وكلا الحديثين فيه كلام، فإن صحا قويا على الاستثناء وإلا بقيت العدة على الأصل.

قال المصنف رحمه الله: (الحائل ذات الأقراء).

يعني: جنس المرأة الحائل من ذوات الأقراء.

ذوات: صاحبات الأقراء: يعني: ممن يحضن، لأن المرأة إما أن تكون حاملاً وإما أن تكون حائلاً، فالحامل التي عدتها وضع الولد، وإذا كانت حائلاً غير حامل فإما أن تكون من ذوات الحيض وإما أن تكون قد انقطع عنها الحيض لليأس، أو لم تحض بعد كالصغيرة، فبين رحمه الله أنها من ذوات الأقراء، يعني: ممن يحضن.

قال المصنف رحمه الله: [-وهي الحيض-].

وهي الحَيض أو الحِيضْ على الجمع لأقراء، قلنا: القرء: هو الحيض، الأقراء: هي الحيض. يعني: يريد أن يفسر القرء بالحيض كما ذكرنا أنه مذهب الحنابلة.

قال المصنف رحمه الله: [المفارقة في الحياة].

يعني: التي فارقها زوجها في الحياة فعدتها عدة الطلاق، لكن إذا فارقها ثم مات عنها فهذه قد قدمناها وهي عدة الوفاة، وسبق الكلام عليها.

قول المصنف رحمه الله: [فعدتها إن كانت حرة أو مبعضة ثلاثة قروء كاملة].

إن كانت حرة فعدتها ثلاث حيضات كاملة؛ لأن الله يقول: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، إن كانت مبعضة، يعني: بعضها حر وبعضها رقيق، فمثلاً: أمة اشتراها رجلان أحدهما أعتق نصيبه، والثاني بقيت في ملكيته، فحينئذٍ نصفها حر ونصفها رقيق، فالمبعضة هذه إذا وقع عليها الطلاق تكون عدتها ثلاث حيضات؛ لأن الأصل عند الحنابلة أن الأمة تشطر العدة في حقها كما ورد عن عمر رضي الله عنه، فإذا شطرت العدة -يعني: تكون على النصف- فإنه ليس هناك نصف حيضة، فعندهم إما أن تكون الحيضة ثلاثة قروء كاملة أو قرئين، لأنه ليس هناك قرء ونصف؛ لأن الحيض لا يتشطر، فحينئذٍ جبروا الكسر وقالوا: عدتها حيضتان، وإذا كان الأمة عدتها حيضتان فحينئذٍ إذا وجد في الأمة حرية -مثلما ذكرنا- وكان نصفها حراً فعندها كسر من الحرية، فتزيد على القرئين بزيادة فتصبح حيضتان وشيء، فإذا كانت الحيضة لا تشطر فتدخل في الحيضة الثالثة.

والأصل في الأمة أو المملوك أنك تعطيه نصف ما تعطي الحر، وهذا طبعاً على القياس، وهي مسألة مشهورة عند علماء الأصول: (تعارض العموم مع القياس) فالعموم في قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] هذا عام، والحقيقة أن القول بعدم التشطير من القوة بمكان على ظاهر الكتاب وظاهر السنة، وهو الأصل.

لكن على كل حال في مسألتنا: إذا كانت العدة ثلاثة قروء وأردنا تشطير الثلاثة قروء فإنها لا تشطر، وإذا كان لا يمكن تنصيفها ففي في هذه الحالة ستحسب النصف الموجود كاملاً وتقول: الأمة عدتها قرءان، فإذا قلت: إن لها قرئين في عدتها فإن دخلتها حرية زادت عن القرئين؛ لأنها أمة من وجه وحرة من وجه ثانٍ، فدخلت بالوجه الثاني -وهو وجه الحرية- في جزء الحيضة الثالثة؛ لأنه إذا كان -مثلاً- ربعها أو نصفها حراً فالمنبغي أن يحسب حساب هذه الحرية، ولكن هنا لا يمكن تشطير الحيضة الثالثة، فأصبحت عدة المبعضة ثلاثة قروء، والحرة ثلاثة قروء.

هذا وجه قوله رحمه الله: إنها ثلاث حيضات.

قال المصنف رحمه الله: [وإلا قرءان].

وهذا إذا كانت أمة وليس فيها شائبة الحرية وليست مبعضة بل كلها أمة، وهناك حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة ولكنه ضعيف، والصحيح عدم ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت أمة فالمذهب على أن عدتها قرءان. أي: حيضتان.

قال رحمه الله: [الرابعة: من فارقها حياً ولم تحض لصغر أو إياس فتعتد حرة ثلاثة أشهر].

الرابعة من المعتدات: من فارقها حياً، يعني: ليس هناك عدة للوفاة، (ولم تحض لصغر) أي: من أجل كونها صغيرة، أو لعلة الصغر (أو إياس) والله جل وعلا ذكر هذا النوع في آية الطلاق فقال: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4] فقوله: (واللائي لم يحضن) عطف على قوله: (واللائي يسن) يعني: عدة الآيسات وعدة الصغيرات اللاتي لم يحضن ثلاثة أشهر.

توضيح المسألة: أن هذا النوع من النساء لا يحيض؛ إما لأنها طلقت وهي صغيرة، كرجل قال لرجل: زوجتك ابنتي، -حتى ولو كانت صغيرة مثلما ذكرنا أنها يجوز العقد عليها- فزوجه ابنته وهي صغيرة، ثم كبرت البنت ودخل عليها ولم تحض بعد ثم طلقها، ففي هذه الحالة إذا طلقها بعد الدخول عليها، أو زوج صغير من صغيرة ودخل عليها وجامعها، فإذا حصل الدخول ولزمت العدة من طلاقها فإنها حينئذٍ تعتد بثلاثة أشهر؛ لأنه لا حيض معها، ولا يمكن احتساب الطهر ولا الحيض، فسقط القرء ورجع إلى الاعتداد بالأشهر، هذا إذا كانت صغيرة، وكذلك إذا كانت كبيرة أيست من المحيض، وانقطع دم الحيض عنها كامرأة عمرها ستون سنة فانقطع عنها دم الحيض، فهذه تعتد بالأشهر.

وقد جعل الله عز وجل الثلاثة الأشهر مكان الثلاثة القروء، فهذه المرأة تعتد ثلاثة أشهر تامة كاملة من ابتداء الشهر أو من أثناء الشهر على تفصيل من حيث الجملة، وتعتد بثلاثة أشهر تامة كاملة، وتعتد بالأشهر القمرية ولا تعتد بالأشهر الشمسية وجهاً واحداً عند العلماء؛ لأن الأشهر التي تناط بها الأحكام الشرعية هي الأشهر القمرية، ويحتسب الشهر بهلاله، فإن كان ناقصاً فإنه كامل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شهرا عيد لا ينقصان، رمضان وذو الحجة) فجعل التسعة والعشرين كالثلاثين، وقال كما في الصحيحين: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) وهذا يدل على أن وصف (أمية) وصف شرف للأمة، وليس بوصف عار أو منقصة؛ لأن الأمية لا تقترن بالجهل، الأمية هي عدم القراءة والكتابة، وقد يكون الشخص لا يقرأ ولا يكتب وهو أعلم الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب ولكنه أعلم الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وقد تجد الرجل كفيف البصر لا يقرأ ولا يكتب ومع ذلك عنده علم، فالعلم شيء والأمية شيء آخر، وقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (إنا أمة أمية) هذا يدل على أنه وصف شرف -كما يقول العلماء- للأمة: (لا نكتب ولا نحسب) دل على أن الشهور لا تدخل في الحساب الفلكي، ولا يحكم بدخولها أو خروجها بالحساب الفلكي؛ وهذا تيسير من الله عز وجل ورحمة، فأبقاهم على الفطرة يخرج الناس ويتراءون الهلال، إن رأوه كان الشهر ناقصاً، وإن لم يروه فالشهر كامل، يمشون على هذا كما مشى عليه أسلافهم من قبل، فالمرأة تحتسب الثلاثة الأشهر بهذه الطريقة، إن كانت كاملة فكاملة وإن كانت ناقصة فناقصة، وإن جمعت بين الكمال والنقص فلا إشكال.

وإن كانوا يقولون: لا تأتي ثلاثة أشهر متتابعة ناقصة، أي: من السنن المعروفة أنها لا تأتي ثلاثة أشهر متتابعة ناقصة، فقد يكون النقص في شهرين لكن لا يكون الثالث ناقصاً غالباً.

قال المصنف رحمه الله: [وأمة شهرين].

اختلف المذهب في الأمة، وفيها ثلاث روايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه.

الرواية الأولى: توافق مذهب الإمام مالك وطائفة من أئمة السلف رحمهم الله: أن الأمة تعتد كالحرة ثلاثة أشهر، ولا تشطر عدتها؛ لأن الله عز وجل نص على أن عدة اللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن ثلاثة أشهر، ولم يرد ما يدل على استثناء أو تخصيص في هذه الآية الكريمة فتبقى على الأصل.

الرواية الثانية تقول: تنصف عدة الأمة إذا كانت بالأشهر كما تنصف عدتها بالحيضات، وبناء على ذلك: اختلفوا على روايتين التي هي القول الثاني والثالث، فهناك رواية تقول: عدة الأمة شهر ونصف؛ لأن الله جعل في الأصل عدة الحرة ثلاثة أشهر، فنصفها شهر ونصف، وهذا قول للشافعي أيضاً.

الرواية الثالثة: أن الشهر لا يتشطر، وعلى القول بأنه لا يتشطر يصير مثل الحيض، فقالوا: إن الشهر لا يتشطر؛ لأنه بدل عن القرء، والقرء لا يتشطر، والبدل يأخذ حكم مبدله، فلا بد أن تعتد بشهرين، وهذا ما عليه المذهب من أنها تعتد بشهرين، وهو ضعيف من جهة الأصل ومن جهة النظر.