مباحث النبوة - العدد المباح من الزوجات


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس مبحثاً مستطرداً ضمن مباحث النبوة على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وهذا البحث المستطرد يدور أصالةً حول ترجمة أمهاتنا أزواج نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فبعد أن انتهينا من مدارسة خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله الكرام، قلت: لا بد من الوقوف على أحوال أمهاتنا وأسرة نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وهذا الأمر قلت: من أن أمهد له ببعض الأمور:

أولها: في بيان الحكمة من مشروعية النكاح ومقاصد النكاح، وانتهينا من هذا، وبينت مقاصده الخمسة في مواعظ متعددة.

والأمر الثاني: الحكمة من التعدد في حق الأمة، فقد أباح الله لهم أن ينكحوا مثنى وثلاث ورباع، فإن خشي الواحد منهم على نفسه من الجور وعدم العدل فليقتصر على زوجة أو ليتخذ سرية.

ثم المبحث الثالث وهو: الحكمة من تعدد أزواج نبينا عليه الصلاة والسلام زيادةً عما أبيح لأمته.

وآخر المباحث: ترجمة أمهاتنا أزواج نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

انتهينا من المبحث الأول من هذه المباحث، وشرعنا في آخر الموعظة الماضية في المبحث الثاني ألا وهو: التعدد، وقلت: مبحثنا سيدور حول الآية التي تضمنت هذا الحكم، وهي قول الله جل وعلا في سورة النساء: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3] .

وقلت: مبحثنا الثاني سيدور حول هذه الآية الكريمة ضمن أربعة أمور:

أولها: في بيان سبب نزول الآية الكريمة.

وثانيها: في بيان معنى الآية الكريمة.

وثالثها: في بيان الحد المقدر لنا في العدد من الأزواج، بحيث لا يجوز للإنسان أن يتجاوزه.

ورابعها: حكم التعدد وحكمه.

القول الأول في سبب نزول قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ...)

شرعنا في مدارسة الأمر الأول من هذه الأمور الأربعة ألا وهو سبب نزول الآية الكريمة، وقلت: لها خمسة أسباب، ذكرت السبب الأول، وهو ثابت في الصحيحين وغيرهما كما تقدم معنا من رواية أمنا الطيبة المباركة عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أن هذه الآية نزلت عندما تكون اليتيمة في حجر الرجل، فيعجبه جمالها ومالها، ويرغب في نكاحها، لكن بما أنها يتيمة، وهي تحت كنفه وفي رعايته، فلا يقسط في صداقها، فنهوا عن نكاحهن -أي: اليتيمات- حتى يقسطوا في صداقهن، وأن يبلغوا بهن أعلى قمتهن في الصداق، فإذا خشي الإنسان على نفسه من الجور في حق اليتيمة وعدم القسط في صداقها فليتركها، وهناك له سعة سواها، فلينكح ما شاء مما عداها مثنى وثلاث ورباع، فإن خشي على نفسه من الجور إذا عدد فليتزوج واحدةً حرة، فإن خشي على نفسه من عدم إعطاء الحرة حقها فليتسرَّ، وليتخذ أمةً عن طريق ملك اليمين، فليس لها ما للحرة من حقوق وواجبات، هذا السبب الأول في نزول الآية الكريمة، وقد ذكرته وفصلت الكلام عليه قبل أن أنتقل إلى السبب الثاني.

ويدخل في هذا السبب أيضاً ما رواه الطبري في تفسيره، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في تفسيرهم أيضاً، عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: نزلت هذه الآية في اليتيمة تكون عند الرجل، وهي ذات مال، فلعله ينكحها لمالها وهي لا تعجبه. هناك: يعجبه حسنها وعندها مال، لكن لا يقسط في صداقها، أما هنا فهي ذات مال، فلعله ينكحها لمالها فهي لا تعجبه، ثم يضر بها ويسيء صحبتها، فوعظ الرجال في ذلك فأنزل الله هذه الآية: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3].

وعليه خلاصة السبب الأول: يدور على أمرين اثنين: عند الإنسان يتيمة في حجره وكنفه وتحت رعايته وهو يلي أمرها فهو وليها وكيل عليها، ويحل له أن يتزوجها، فيعجبه جمالها ومالها، لكن لا يقسط في صداقها.

الصورة الثانية: يعجبه مالها، لكن لا تميل نفسه إليها، فلا يرغب فيها لأجل النكاح الذي أحله الله، إنما يريد أن ينكحها من أجل مالها، وبما أنها يتيمة فلا يقسط في صداقها، ثم يسيء عشرتها بعد ذلك، فوعظوا ونهوا، فيصبح معنى الآية: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى [النساء:3]: إذا خفتم ألا تقسطوا في اليتامى إذا نكحتموهن فتتركوهن ولا تتزوجوهن فتزوجوا من عداهن مثنى وثلاث ورباع، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا [النساء:3]، إذا عددتم فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3].

يصبح معنى الآية على هذا القول: إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى لو نكحتموهن وتزوجتموهن فلا تنكحوهن، فانكحوا سواهن مثنى وثلاث ورباع، هذا السبب الأول.

القول الثاني في سبب نزول قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ...)

السبب الثاني: نقله الإمام الطبري في تفسيره، وابن أبي حاتم في تفسيره أيضاً، وعبد بن حميد ، عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ونقل الأثر أيضاً عن تلميذه سعيد بن جبير في تفسير الطبري وسنن سعيد بن منصور ، ورواه عبد بن حميد وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، وروي الأثر عن الضحاك بن مزاحم أيضاً في تفسير الطبري ، ونسبه الإمام ابن الجوزي في زاد المسير في الجزء الثاني صفحة ست عشرة إلى قتادة والسدي ومقاتل ، وعليه هو عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وعن سعيد بن جبير ، وعن الضحاك، وروي عن قتادة والسدي ومقاتل رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

وخلاصة هذا السبب: أن الناس في العصر الأول رضوان الله عليهم أجمعين وهم الصحابة الأبرار الأخيار كانوا يتحرجون من ولاية اليتيم، ويتحرجون من أخذ شيء من ماله غاية التحرج، فهو ضعيف يتيم، فالاعتداء عليه منقصة كبيرة، لو أخذت مال الغني لكان ظلماً، فكيف لو أخذت مال اليتيم الضعيف الفقير؟ فكانوا لا يريدون أن يلوا على يتيم، وإذا ولي أحدهم على يتيم يتحرج من ماله غاية التحرج، وهذا خلق نبيل، لكن كانوا على حسب عادتهم في الجاهلية يتزوجون من النساء ما شاءوا، وسيأتينا أن بعضهم كان يتخذ عشرا وبعضهم تسعاً وبعضهم ثمانياً وبعضهم خمساً، فإذا زاد العدد على الأربع لا يمكن للرجل أن يقوم بالعدل بعد ذلك بين نسائه، فكأن الله يقول في هذه الآية: كما تتحرجون من ولاية اليتيم، وكما تتحرجون غاية التحرج من ماله فلا تأخذون منه درهماً واحداً، فينبغي أن تتحرجوا أيضاً من عدم العدل بين النساء، فالذي يعدد ويزيد التعدد على أربع إلى عشر، هذا لا يمكن أن يقوم بالعدل نحوهن، وعليه فكما تتحرجون من عدم العدل في حق اليتامى فتحرجوا أيضاً من عدم العدل في حق الزوجات.

فكأن الله جل وعلا يقول: إذا عددت وظلمت كما لو وليت أمر يتيم وظلمته، فهذا ظلم، وهذا ظلم، فكما تتحرج من ظلم اليتيم ينبغي أن تتحرج من ظلم المرأة التي هي مسكينة عندك، والإنسان إذا زاد عدد النساء عنده على أربع فيقع في الجور والظلم والشطط في عدة أمور، فلذلك نهي الناس عن التعدد فيما زاد على أربع، هذا معنىً ثانٍ منقول -كما ذكرت- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقال به جم غفير من التابعين.

والمعنى الأول هو الذي اقتصر عليه الإمام ابن كثير ، والمعنى الثاني هو الذي رجحه الإمام ابن جرير في تفسيره، فقال في الجزء السابع صفحة أربعين وخمسمائة من تفسيره في الطبعة المحققة التي عليها تحقيق الشيخ أحمد شاكر عليه وعلى المسلمين أجمعين رحمة رب العالمين، يقول في ترجيح هذا القول وتوجيهه: بأن هذا القول هو المعتمد في سبب نزول الآية، وهو أولى من الأقوال الأخرى، وسيأتينا أنه لا داعي لترجيح قول على قول، فهذه الأسباب كلها كانت حاصلة فنزلت الآية وهي تتحدث عن هذه الأمور جميعاً.

يقول الإمام ابن جرير عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: إن الله افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل مال اليتيم، الله جل وعلا يقول في أول سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، ثم قال: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2] ، والآية الثالثة: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3] إلى آخر الآيات الكريمات.

يقول الإمام ابن جرير : إن الله افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل مال اليتيم، فكما أن أكل مال اليتيم ظلم وجور، وهم كانوا يتحرجون من ذلك وهذا حسن، فظلم النساء أيضاً شين وجور ينبغي أن يتحرجوا منه، فأتبعه الله بنوع آخر ينبغي أن يتحرجوا منه ألا وهو عدم العدل بين النساء، كما كانوا يتحرجون من أكل مال اليتيم وظلمه وأخذ ماله، يقول الإمام ابن جرير عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: إنهم إذا اتقوا الله في ذلك وما ظلموا اليتيم، فكذلك الواجب عليهم أن يتقوا الله في النساء، وأن يعدلوا بينهن، وأعلمهم ربنا جل وعلا كيف يتخلصون من الجور في حقهم فقال: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، هذا أقصى حد، وما زاد ستقع في الحيف والجور، ثم أعلمهم الله أنه إذا لم يكن عندهم قدرة على التعدد، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]، تخلصوا من جور التعدد، ثم إذا ما أمكنه أن يقوم بحق الحرة فليتركها وليتسر ليتخذ أمة، فكما نهوا عن الجور في حق اليتامى نهوا عن الجور في حق النساء.

هذا هو الأمر الثاني في سبب نزول الآية، وكما قلت: هو منقول عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وعن جم غفير من التابعين منهم: سعيد بن جبير ، والضحاك وقتادة والسدي ومقاتل رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

القول الثالث في سبب نزول قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ...)

السبب الثالث: نقله الطبري أيضاً في تفسيره، والإمام الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه أيضاً، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وابن المنذر في تفسيره عن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين.

إذاً: الأثر الثالث عن ابن عباس رضي الله عنه، وعن مولى ابن عباس ألا وهو عكرمة رضي الله عنهم أجمعين.

خلاصة هذا السبب الثالث: أنهم كانوا يتزوجون بلا حد معين يقفون عنده كما تقدم معنا، وسيأتينا أن بعضهم كان عنده عشر زوجات، وبعضهم كان عنده ثمان زوجات، فكانوا يتزوجون بلا حد مقدر معين محدد يقفون عنده، وكانوا يلون أمر اليتامى، ويشرفون عليهم، والإنسان إذا عدد في الزواج وزاد على الأربع يحتاج إلى نفقات زائدة من مهور ونفقة على الزوجات، وماله قد لا يكفي، فهذا يدعوه بعد ذلك إلى الاعتداء على مال اليتيم، وظلم اليتيم، وأخذ شيء من ماله من أجل أن يتوسع في النكاح ليتزوج أكثر من أربع إلى عشر إلى ما شاء الله، فكأن الله جل وعلا يقول: يا عبادي! إذا عددتم وزدتم على الأربع، ستضطرون إلى أخذ مال اليتيم إذا كنتم تلون أمره، وكما أنكم تعلمون أن أخذ مال اليتيم ظلم عظيم، وعليه فاقصروا أنفسكم وقفوا عند الأربع؛ لئلا تضطروا إلى أخذ شيء من مال اليتيم، فكأنه عندما كانوا يزيدون في الزواج على أربع، وهم يشرفون على يتامى، قد يضطرون إلى أخذ شيء من مال اليتيم عندما يتوسعون في النكاح، فقيل لهم: قفوا عند الأربع، وإذا لم يكن عندك مال من مالك يمكن أن تنفق منه فتزوج واحدةً، وإذا خشيت أن تتزوج واحدة، وألا تعدل في حقها، وأن تأخذ من مال اليتيم، فتسر ولا تتزوج حرة، هذا السبب الثالث.

القول الرابع في سبب نزول قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ...)

السبب الرابع في نزول الآية: مروي في تفسير ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ورواه الإمام الطبري في تفسيره، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، عن مجاهد بن جبر تلميذ سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين.

وخلاصته: أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتيم، وأكل ماله ظلماً، لكنهم كانوا لا يتحرجون من الزنا، وكان العرب في الجاهلية يقعون فيه، فالله جل وعلا نهاهم عن الزنا، وأخبرهم أنه جريمة من الجرائم، وكبيرة من الكبائر، كما هو الحال في أكل مال اليتيم، ثم رخص الله لهم وأباح لهم وشرع لهم ما يعفهم ويكفهم عن الزنا الذي حرمه الله عليهم ألا وهو النكاح، فكما تتقون الله إيماناً به وتصديقاً له، ووقوفاً عند حدوده، ولا تعتدون على مال اليتيم، فصونوا فروجكم واحفظوها، ولا تستعملوها فيما حرم الله، إنما شرع الله لكم طريقاً واحداً لاستعمال الفرج ألا وهو النكاح الحلال، فتزوج إن شئت مثنى وثلاث ورباع، وإذا خشيت على نفسك من الجور وعدم العدل فاقتصر على واحدة أو تسرَّ.

إذاً: كما أنكم تمتنعون عن أخذ مال اليتيم طاعةً لرب العالمين، فامتنعوا أيضاً عن الزنا الذميم طاعةً لرب العالمين، ولا شك أن من ينكح نكاحاً حلالاً فإنه يحصن فرجه عن الحرام، فكانوا يقعون في الزنا ولا يبالون، ويحتاطون في مال اليتيم، ويتقون الحي القيوم، فقيل لهم: احذروا الزنا كما تحذرون أكل مال اليتيم، ثم شرع الله لهم طريقاً يحصنون به أنفسهم، ويحفظون به فروجهم ألا وهو النكاح، ووسع عليهم فيه مثنى وثلاث ورباع، فإن خفت الجور فواحدة أو ما ملكت يمينك.

وهذا الأمر أيضاً ثابت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وعن التابعين، وعليه فالأثر الأول تقدم معنا عن أمنا عائشة ، والآثار الثلاثة بعده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، مع من قال بها أيضاً من التابعين الأبرار.

القول الخامس في سبب نزول قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ...)

السبب الخامس: وهو آخر الأسباب في نزول الآية، وهو منقول عن الحسن البصري ، والتابعي إذا قال قولاً لا يعرف بالرأي فله حكم الرفع، وهذا الأثر عن الحسن ثابت في تفسير الطبري في المكان الذي أشرت إليه في الجزء السابع صفحة أربع وخمسمائة في تفسير هذه الآية من تفسير الإمام الطبري ، وذكره الإمام ابن الجوزي في زاد المسير، ونسبه إلى الإمام الطبري .

وخلاصة هذا القول: أن الله جل وعلا عندما أنزل في شأن اليتامى ما أنزل، وهي الآية التي تقدمت معنا: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2]، تحرج الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم من معاملة اليتيم غاية التحرج، فتحرجوا من أخذ شيء من ماله، ومن خلط مال اليتيم بمالهم، فتحرجوا نحو المال، ثم ذلك التحرج توسعت دائرته وامتدت، فإذا كان الإنسان يلي يتيمةً أو هو وصي عليها، ويرغب في نكاحها، وسيتقي ربه في زواجها، ويقسط في صداقها، ويحسن عشرتها، لكن عندما أنزل الله في شأن اليتامى ما أنزل، كان يتحرج من نكاح اليتيمة، يقول: بما أنني وعظت في مالها، وإن كان لي رغبة في الزواج فلا أتزوجها، بل أبتعد عنها، وقد لا يرغب فيها غيره فتتضرر من أجل تحرجه، وهذا التحرج من أجل ورع في نفسه، يقول: أخشى أن أتزوج اليتيمة وأن أظلمها، فكما احتطت في مالها أحتاط أيضاً في معاشرتها وزواجها، فرخص الله لهم في هذه الآية في الزواج باليتيمات بشرط العدل وعدم الجور: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3]، فقصرهم على عدد يمكن وقوع العدل فيه غايته أربع زوجات كما تقدم معنا.

هذا -إخوتي الكرام- ملخص ما قيل في سبب نزول الآية من أسباب خمسة مذكورة في كتب أئمتنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

شرعنا في مدارسة الأمر الأول من هذه الأمور الأربعة ألا وهو سبب نزول الآية الكريمة، وقلت: لها خمسة أسباب، ذكرت السبب الأول، وهو ثابت في الصحيحين وغيرهما كما تقدم معنا من رواية أمنا الطيبة المباركة عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أن هذه الآية نزلت عندما تكون اليتيمة في حجر الرجل، فيعجبه جمالها ومالها، ويرغب في نكاحها، لكن بما أنها يتيمة، وهي تحت كنفه وفي رعايته، فلا يقسط في صداقها، فنهوا عن نكاحهن -أي: اليتيمات- حتى يقسطوا في صداقهن، وأن يبلغوا بهن أعلى قمتهن في الصداق، فإذا خشي الإنسان على نفسه من الجور في حق اليتيمة وعدم القسط في صداقها فليتركها، وهناك له سعة سواها، فلينكح ما شاء مما عداها مثنى وثلاث ورباع، فإن خشي على نفسه من الجور إذا عدد فليتزوج واحدةً حرة، فإن خشي على نفسه من عدم إعطاء الحرة حقها فليتسرَّ، وليتخذ أمةً عن طريق ملك اليمين، فليس لها ما للحرة من حقوق وواجبات، هذا السبب الأول في نزول الآية الكريمة، وقد ذكرته وفصلت الكلام عليه قبل أن أنتقل إلى السبب الثاني.

ويدخل في هذا السبب أيضاً ما رواه الطبري في تفسيره، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في تفسيرهم أيضاً، عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: نزلت هذه الآية في اليتيمة تكون عند الرجل، وهي ذات مال، فلعله ينكحها لمالها وهي لا تعجبه. هناك: يعجبه حسنها وعندها مال، لكن لا يقسط في صداقها، أما هنا فهي ذات مال، فلعله ينكحها لمالها فهي لا تعجبه، ثم يضر بها ويسيء صحبتها، فوعظ الرجال في ذلك فأنزل الله هذه الآية: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3].

وعليه خلاصة السبب الأول: يدور على أمرين اثنين: عند الإنسان يتيمة في حجره وكنفه وتحت رعايته وهو يلي أمرها فهو وليها وكيل عليها، ويحل له أن يتزوجها، فيعجبه جمالها ومالها، لكن لا يقسط في صداقها.

الصورة الثانية: يعجبه مالها، لكن لا تميل نفسه إليها، فلا يرغب فيها لأجل النكاح الذي أحله الله، إنما يريد أن ينكحها من أجل مالها، وبما أنها يتيمة فلا يقسط في صداقها، ثم يسيء عشرتها بعد ذلك، فوعظوا ونهوا، فيصبح معنى الآية: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى [النساء:3]: إذا خفتم ألا تقسطوا في اليتامى إذا نكحتموهن فتتركوهن ولا تتزوجوهن فتزوجوا من عداهن مثنى وثلاث ورباع، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا [النساء:3]، إذا عددتم فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3].

يصبح معنى الآية على هذا القول: إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى لو نكحتموهن وتزوجتموهن فلا تنكحوهن، فانكحوا سواهن مثنى وثلاث ورباع، هذا السبب الأول.