مقدمة في علم الحديث


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن مما لا ريب فيه ولا شك أن الله جل وعلا قد أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وحيين شريفين موصوفين بالإنزال، وكلاهما من الله جل وعلا، أنزل الله جل وعلا كتابه وأنزل سنته على رسوله عليه الصلاة والسلام، وأصبحت السنة وحياً يتلى، وهي موصوفة بذلك كما وصفها بهذا غير واحد من العلماء, كما نص على ذلك الشافعي عليه رحمة الله في كتابه الأم، وكذلك ابن حزم في كتابيه الإحكام, والمحلى، وغيرهم من أئمة الإسلام، ويكفي في ذلك أن الله جل وعلا قد قرن طاعة نبيه بطاعته في أكثر من ثلاثين موضعاً، وهذا يدل على تأكيد أهمية السنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأت بشيء من لدنه، وإن ما جاء به هو من الله جل وعلا بواسطة جبريل، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير كله من الله جل وعلا، وما كان من أفعاله عليه الصلاة والسلام فالأصل في ذلك أنه على التعبد، إلا لقرينة صارفة تصرف الفعل من التعبد إلى غيره، كأفعال الجبلة وأفعال العادة، وهذا لا بد له من صارف يعرف من الطبع أو يعرف من سبر الحال وقرائن الزمن التي احتفت برسول الله صلى الله عليه وسلم مما يشاركه في ذلك غيره من أهل عصره من أهل الكفر، وكذلك أهل الإيمان.

وهناك مسائل وفروع تتعلق بأفعاله ليس هذا محل بسطها، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي قسيمة للقرآن من جهة الاحتجاج، وهي من جهة الأصل مبينة ومفصلة للقرآن، ومعلوم أن ما جاء في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يتعلق بالقرآن أنه إما أن يكون بياناً لمجمل أو تقييداً لمطلق جاء إطلاقه في كلام الله جل وعلا، وإما أن يكون ذلك من المعاني الزائدة على كلام الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يكون إلا في الفروع، سواءً كان ذلك من فروع الأصول، أو كان من فروع الفروع، وإلا فالأصل أن أصول الفروع وأصول الديانة ومسائل الدين الكلية كلها قد وردت في كلام الله جل وعلا، كما أشار إلى هذا المعنى غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كـعبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى وغيره.

الكلام على منزلة السنة ومكانتها مما يطول جداً، وهو أيضاً في المقام المعروف والمشهود؛ لكثرة النصوص المتظافرة في ذلك، وكذلك إطباق الأمة من السلف والخلف على أهمية السنة ومنزلتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين وأتباعهم، والأئمة الأربعة ومن جاء بعدهم من أئمة الإسلام كلهم يطبقون على منزلة السنة ومقامها، ولا يشكل هذا على أحد من أهل الإسلام قاطبة إلا أهل البدع والزيغ والضلال والزندقة الذين حادوا عن الصراط المستقيم، بل أمعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان مكانة السنة حتى جعل السنة داخلة في عموم لفظ الكتاب حال إطلاقه، كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث زيد بن خالد الجهني و أبي هريرة عليهما رضوان الله تعالى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله )، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضاء ليس كله مما نص الله جل وعلا عليه في القرآن الكريم، مما يدل على أن الكتاب إذا أطلق يدخل فيه سائر الوحي من كلامه سبحانه وتعالى، وكذلك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن العناية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: ما اصطلح عليها العلماء بالحديث النبوي أو الأثر، وما جاء في كتب علوم الحديث من المترادفات في هذا المعنى كألفاظ الخبر وغير ذلك مما يطلقه العلماء ويريدون بذلك السنة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إن لهذه السنة مسائل ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها عند البداءة بمعرفة السنة وطرائقها.

تقسيم السنة من حيث الورود

من المعلوم عند أهل الإسلام قاطبة أن الله جل وعلا قد تكفل بحفظ كتابه العظيم، ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فالذكر المذكور في هذه الآية هو كلامه جل وعلا، وأما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيها المتواتر الذي يدخل في أبواب المتواتر بنوعين: ما كان متواتراً من جهة المعنى، وما كان كذلك من جهة اللفظ.

وفيها ما هو دون ذلك من أخبار الآحاد على تقسيم العلماء، وما يلزمون من هذا التقسيم من فروع متعددة من أخبار اليقين والظن، أو ما كان يفيد علماً ضرورياً، أو ما كان يفيد علماً نظرياً، قالوا: وما أفاد علماً ضرورياً هو ما عرف من غير بحث ولا نظر، وما أفاد علماً ظنياً أو كان علماً على غلبة الظن أو غلبة اليقين ولكنه يثبت بالنظر، وهذا محل نظر وبحث، وليس هذا محل تسليم عند بعض أهل التحقيق، وذلك أن الأصوليين حينما يقسمون أمثال هذا التقسيم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمون هذا التقسيم بلوازم لا يلتزم بها أهل السنة، كمسألة اليقين والظن، وأن الخبر المتواتر يفيد علماً يقينياً، وأن خبر الآحاد يفيد علماً ظنياً، ويقسمون الآحاد إلى أقسام متنوعة، قد يأتي الإشارة إليها في هذا الموضع، في هذا المجلس أو في غيره من المجالس، وقد تطرقنا إلى هذه المسألة في مجالس متعددة، وهو أن هذا التقسيم مما لا ثمرة له من جهة الصحة والضعف، وذلك أنه لا يمكن أن يتقرر في ذهن الإنسان أن الخبر يكون متواتراً، أو يفيد العلم اليقيني، أو يفيد العلم القطعي من جهة الثبوت، أو من جهة الدلالة إلا بعد النظر والتمحيص، وإذا قيل: إن هذا لا بد فيه من نظر وتمحيص علم أن أمثال هذه النظرات تنطبق على المتواتر وعلى الآحاد، كذلك على مسألة اليقين وعلى مسألة الظن، ثم إن هذا التقسيم قد أثمر جملة من المسائل التي نازع فيها أهل البدع أهل الحق؛ كمسألة عدم قبول أخبار الآحاد على مراتب متنوعة في رده، منهم من لا يقبله في مسائل أعلام الدين ومشهورها، ومنهم من لا يقبله في مسائل الاعتقاد ويقبله ما دون ذلك، ومنهم من لا يقبله على الإطلاق، ومن نظر في اصطلاحات الأئمة عليهم رحمة الله من المتقدمين وجد أن منهم من يطلق المتواتر ويريد بذلك ما تلقته الأمة بالقبول، ولو كان يرويه واحد عن واحد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هذه الإشارة موجودة في بعض كلام الإمام أحمد عليه رحمة الله.

هذا المجلس هو مقيد كما في عنوانه بمقدمات في علوم الحديث، والمقدمات متنوعة بحسب فروع هذا العلم، وكما لا يخفى فإنه ما من علم من علوم الشريعة إلا وله مقدمات متنوعة سواءً ما يتعلق بعلوم الآلة الموصلة إلى هذا العلم وهذا المعني به، سواءً ما يتعلق بأبواب التفسير، وكذلك أبواب الحديث، وكذلك أبواب لغة العرب، وغير ذلك من العلوم، فإنه ما من علم من العلوم إلا وله علم دراية وله علم رواية، وكذلك له علم آلة توصل إليه، وعلم الآلة الذي يوصل إليه يتشعب ويتنوع، ومن جهة الأصل فإن علوم الشريعة متداخلة، ويلزم للتمكن في باب من الأبواب معرفة الباب الآخر، ولهذا قد تقرر عند العلماء الحذاق أنه لا يمكن أن يكون العالم بصيراً بعلوم الدين حاذقاً في سائر العلوم حتى يتبصر بعلوم الآلة، وكذلك يكون متبصراً ببقية العلوم الأخرى، فإن فيها تداخلاً، وإذا نظرنا إلى علم الحديث وجدنا أنه لا يمكن لطالب العلم أن يكون متمكناً في علم الحديث حتى يكون متمكناً في علم الرواية، وعلم الفقه، وعلم الآلة الموصلة إلى التفقه في الشريعة بما يسمى بالقواعد الفقهية والنظريات الفقهية، وكذلك الأصولية وغير ذلك، وأن يكون أيضاً متبصراً بعلوم القرآن بأنواعها، وأن يكون ضابطاً للمرويات الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام في التفسير، وكذلك ما جاء في هذا المعنى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون أيضاً متبصراً بطرائق التفصيل عن السلف الصالح ومراتبهم في ذلك وطبقاتهم، ومعرفة بلدانهم, وأن يكون أيضاً عارفاً بمناهجهم بما يولون إليه في أبواب التفصيل، فإنه لا يوجد باب من الأبواب، إلا وله فئة من أهل العلم من أهل الاختصاص يتباينون من جهة العناية، كذلك من جهة اختصاصهم بالرواة الذين يأخذون عنهم، هذه الأبواب وهذه الطرق، وهذه المسالك، ويلزم للتمكن في باب من الأبواب أن يتمكن في بقية الأبواب، على تباين أيضاً في جملة الأخذ في هذه الأبواب، فمن الأبواب ما يلزم أن يكون طالب العلم متمكناً فيه حتى يتمكن في الباب الآخر، ومنه ما لا يلزم منه إلا أن يأخذ الخطوط العريضة في هذا الباب حتى يكون متظفراً ببقية الأبواب، ولا يلزم أن يكون متمكناً فيه كما يأتي الإشارة إليه بإذن الله.

التلازم بين الرواية والدراية في علم الحديث

علم الحديث نوعان: علم رواية، وعلم دراية، وعلم الرواية وعلم الدراية بينهما تلازم لا ينفكان، ومن أراد أن يعتني بباب دون باب آخر فإنه يكون من أهل الاختصاص والتقليد فيه, ولا يكون من أهل الحذق والمعرفة، ومن نظر إلى نهج الأئمة الأوائل عليهم رحمة الله وجد أنهم ينظرون إلى علوم الشريعة على أنها باب واحد، فإن التقسيم الطارئ عند المتأخرين لأبواب علوم الشريعة إلى ما يسمى بالفقه، وكذلك الحديث والتفسير، وكذلك العقائد وغير ذلك من علوم، في هذه العلوم يجد أن العلماء عليهم رحمة الله يقسمون هذه التقاسيم يريدون بذلك تيسيراً للوصول إلى الفهم العام، وإلا من جهة الأصل فهذه التقاسيم ما ولدت إلا في القرن الثالث، قيل: في أوله، وقيل: في أوسطه، ولكن من جهة التقليل إنما وجدت في أوساط القرن الثالث، ووجدت من جهة اللفظ عند بعض العلماء في أواخر القرن الثاني، لكن لم تكن كذلك في علم دراستهم لعلوم الشريعة على هذا التقسيم، ولم يكن حينئذٍ يفرق بين العالم أن هذا يكون من العالمين والعارفين في أبواب الفقه، وليس من العالمين بأبواب الحديث، وهذا عارف بأبواب الحديث، وليس بعارف بأبواب الفقه، أو هذا عالم بالتفسير ليس بعالم بغيره، وإن وجدت هذه الإطلاقات إلا أنهم يريدون بذلك أنهم من أهل العناية بهذا الباب مع وجود العلم بغير هذه الأبواب كعلوم الحديث، وعلوم الفقه.

التلازم بين علم الرواية وعلم الدراية لا بد أن يكون مستقراً لدى طلاب العلم، فإنه لا ينفك بحال على الإطلاق، ومن أراد أن يكون من أهل الاختصاص في علم السنة أو علم الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا يطلب تقليداً، فهو يبحث أو يخرج من التقليد إلى تقليد آخر، وهذا هو النقص الطارئ عند كثير من المتأخرين، فمن أراد أن ينظر إلى كثير ممن يشار إليه بالبنان في علم من العلماء المتأخرين، يجد أنهم أهل اختصاص، وكأنهم قسموا الشريعة إلى عدة أقسام، فجعلوا الفقه لا يمكن أن يستوعب علم الحديث، وجعلوا علم الحديث لا يمكن أن يستوعب علم الفقه، ومن كان حاذقاً في علم الحديث أو علم العلل فلا يمكن أن يشرك علمه في الحديث بعلم الفقه، فيكون حينئذٍ فتاواه في أبواب الفقه يسيرة، فلم يكن حينئذٍ قد أفاد في علم الرواية أو كذلك لم يفد بعلم التفسير شيئاً، فأصبح لدى المتلقين عنه قصور في هذا الباب، كذلك في أبواب الفقه ممن يقوم بأهل المعرفة بأبواب القياس والرأي والنظر، ولكنه يكون مقللاً أيضاً في أبواب الحديث، وحينئذٍ لا يخرج عن تقليد من صحيح هذا الحديث أو ضعفه، فإن ضعفه غيره خرج إلى حديث آخر صححه، وإن صحح ذلك الحديث رجل آخر وقع في الاضطراب، ولهذا نجد أن الفقه إذا تجرد عن علم الحديث يكون شبيهاً بالرأي المحض الذي يورد لدى الإنسان تقليداً فيتقلب من تقليد إلى تقليد، فإنه لا يلتزم بكثير من المواضع الالتزامات التي ينبغي أن يلتزمها في نظائر هذه المسألة في بقية أبواب الدين.

أهمية معرفة طالب العلم بعلم الحديث دراية

وكما لا يخفى فإن الدراسة المهمة لعلم الحديث: أن يكون طالب العلم قارناً لجميع العلوم في هذا العلم، وكما تقدم الإشارة إليه أن علم الحديث على نوعين: علم رواية, وعلم دراية، وعلم دراية إذا أردنا أن نتوسع في معناه والمراد به فهو فقه المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفقه المروي أن يكون طالب العلم عارفاً بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فهم، وهذا الفهم لا يمكن أن يتلقاه طالب العلم إلا عن غيره، فلا يمكن أن يكتفي بمعنى جديد قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينظر إلى قواميس اللغة المجردة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد أوتي جوامع الكلم, كما جاء في البخاري ، قال: ( بعثت بجوامع الكلم )، وهذا كما أنه في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً، فإن كلام الله جل وعلا هو أجمع وأوسع.

ولهذا يقول أهل الفقه والنظر والدراية في علم الأصول: إن كلام الله جل وعلا غائي، أي: أنه يبلغ الغايات من جهة استيعاب المعاني بخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها غائية ووسطية، أي: أنها ترد على جميع معاني الألفاظ الكلية، ومعلوم أن الألفاظ الكلية هي ألفاظ قليلة تشمل معاني كثيرة بخلاف الألفاظ التفصيلية، وهذا ما يسميه العلماء في أبواب تفسير القرآن: الألفاظ الكليات، وكذلك ما جاء بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحاديث الكلية، أو ما يسمى بجوامع الكلم.

إذاً: الأصل في القرآن أنه كلي يشمل كثيراً من المعاني الواردة في لغة العرب، والسنة تفصل ذلك مما جاء في كلام الله سبحانه وتعالى، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يجمع بين المطلق والمقيد، وألا يتجرد بالأخذ بتمرير المطلق على إطلاقه، وتنحية المقيد، أو يجعل قاعدة لديه مطردة بكل حال، كمسألة أن النص لو تعارض مع نص عام ببعض أجزائه بتقييده، أو بيانه ونحو ذلك، فإنه يكون ناسخاً له، فهذا نوع من القصور، فلا بد من استيعاب جميع قواعد الدين حتى يسلم الإنسان في الدين ولا يقع حينئذٍ في التناقض والتضاد، فإنه إذا تجرد عن معرفة الرواية والدراية على طرائق الأئمة يقع في الحيرة في كثير من الأبواب، وإن استوعب هذين البابين وسلك في ذلك نهج الأئمة عليهم رحمة الله في استيعاب الفقه ومعرفة كيف يتلقى فإنه حينئذٍ يكون حاذقاً في الفقه, بصيراً كذلك في أبواب النقد، وينبغي أيضاً أن يعلم أن أبواب الرواية -وهي طرائق التحديد أو معرفة أحوال الأسانيد المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن السلف الصالح- لها أيضاً أبواب متنوعة، ومن هذه الأبواب: علم الرجال، ومن هذه الأبواب: علم ما يسمى بعلم العلل، ومن هذه الأبواب أيضاً ما يسمى بعلم قواعد الحديث أو علوم الحديث، وهذه أبواب متداخلة تتباين من جهة التفصيل، وبينها تداخل، فلا يمكن أن يكون طالب العلم حاذقاً في علم الرواية متبصراً في علم العلل حتى يكون شاملاً لأبواب الرواية هذه مع الاقتران أيضاً بأبواب الدراية، فإن جمع بين الرواية بأنواعها، وكذلك الدراية بأنواعها كان من أهل الحذق، وإذا كان طالب العلم يقلد في معرفته لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو زعم أنه يتحرر بمعرفة صحيح الحديث من ضعيفه، ولكنه لا يستطيع أن يستنبط معنى فقهياً لم يكن عند غيره، فالأصل الذي ينبغي أن ينطلق منه طالب العلم، ويكون حاضراً لديه: أن طالب العلم إذا لم يستطع أن يولد معنى جديداً لا يخالف غيره من السلف في المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ليس بطالب علم، وذلك أن طالب العلم إذا تجرد عن ذلك تجرد عن مسألة التحمل وإطالة النظر في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا يعلم أنه يبالغ في التقليد.

وكثيراً ما يورد كثير من طلاب العلم مقولة, وهي: لا تقل بقول ليس لك فيه سلف، هذه الكلمة التي ينقلها طلاب العلم، وهي قد جاءت عن غير واحد من السلف كـسفيان الثوري وغيره، هي من جهة الإجمال صحيحة، ولكن من جهة التفصيل ينبغي أن يخرج منها شيء قد اتفق العلماء عليه من مسائل الاستنباط والتدليل، وأنه قد يرد عند بعض طلاب العلم من الاستنباط من المعاني مما لا يخالف قولاً للسلف الصالح، وأما لو استنبط معنى جديداً قد خالف ما كان عليه إجماع السلف الصالح فيقال حينئذٍ: إن هذا الاستنباط لا ينبغي أن يكون، وبه يعلم أن طرائق الاستنباط والاستدلال من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم باب واسع يستفيد منه طالب العلم في الترجيح في كثير من مسائل الدين سواءً المتعلقة في مورد النص في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في كلام الله جل وعلا، فإن كان ذلك مما ليس بمورد للنص فإنه يستفيد منه في موضع آخر، وكما تقدم الإشارة إليه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، ومعنى جوامع الكلم: أن طالب العلم يستطيع أن يستفيد من كلامه في أبواب الصلاة في مسألة تتعلق بأبواب الزكاة، كذلك في أبواب الصيام وأبواب الحج، سواءً بما يسميه العلماء بالسبر؛ سبر الألفاظ حتى يستخرج منها طالب العلم طريقة للنبي عليه الصلاة والسلام في الاستدلال، أو كان مؤكداً لبعض الألفاظ العامة التي تأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يسمى بالأمر هل هو على الوجوب أو النهي؟ هل هو على الكراهة أو على التحريم؟ على طرائق وقرائن هي متوسعة، قد يستطيع طالب العلم أن يولد من الألفاظ أو السبر الذي يسلكه في معرفة كلام النبي عليه الصلاة والسلام مما لا يكون لغيره.

من المعلوم عند أهل الإسلام قاطبة أن الله جل وعلا قد تكفل بحفظ كتابه العظيم، ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فالذكر المذكور في هذه الآية هو كلامه جل وعلا، وأما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيها المتواتر الذي يدخل في أبواب المتواتر بنوعين: ما كان متواتراً من جهة المعنى، وما كان كذلك من جهة اللفظ.

وفيها ما هو دون ذلك من أخبار الآحاد على تقسيم العلماء، وما يلزمون من هذا التقسيم من فروع متعددة من أخبار اليقين والظن، أو ما كان يفيد علماً ضرورياً، أو ما كان يفيد علماً نظرياً، قالوا: وما أفاد علماً ضرورياً هو ما عرف من غير بحث ولا نظر، وما أفاد علماً ظنياً أو كان علماً على غلبة الظن أو غلبة اليقين ولكنه يثبت بالنظر، وهذا محل نظر وبحث، وليس هذا محل تسليم عند بعض أهل التحقيق، وذلك أن الأصوليين حينما يقسمون أمثال هذا التقسيم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمون هذا التقسيم بلوازم لا يلتزم بها أهل السنة، كمسألة اليقين والظن، وأن الخبر المتواتر يفيد علماً يقينياً، وأن خبر الآحاد يفيد علماً ظنياً، ويقسمون الآحاد إلى أقسام متنوعة، قد يأتي الإشارة إليها في هذا الموضع، في هذا المجلس أو في غيره من المجالس، وقد تطرقنا إلى هذه المسألة في مجالس متعددة، وهو أن هذا التقسيم مما لا ثمرة له من جهة الصحة والضعف، وذلك أنه لا يمكن أن يتقرر في ذهن الإنسان أن الخبر يكون متواتراً، أو يفيد العلم اليقيني، أو يفيد العلم القطعي من جهة الثبوت، أو من جهة الدلالة إلا بعد النظر والتمحيص، وإذا قيل: إن هذا لا بد فيه من نظر وتمحيص علم أن أمثال هذه النظرات تنطبق على المتواتر وعلى الآحاد، كذلك على مسألة اليقين وعلى مسألة الظن، ثم إن هذا التقسيم قد أثمر جملة من المسائل التي نازع فيها أهل البدع أهل الحق؛ كمسألة عدم قبول أخبار الآحاد على مراتب متنوعة في رده، منهم من لا يقبله في مسائل أعلام الدين ومشهورها، ومنهم من لا يقبله في مسائل الاعتقاد ويقبله ما دون ذلك، ومنهم من لا يقبله على الإطلاق، ومن نظر في اصطلاحات الأئمة عليهم رحمة الله من المتقدمين وجد أن منهم من يطلق المتواتر ويريد بذلك ما تلقته الأمة بالقبول، ولو كان يرويه واحد عن واحد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هذه الإشارة موجودة في بعض كلام الإمام أحمد عليه رحمة الله.

هذا المجلس هو مقيد كما في عنوانه بمقدمات في علوم الحديث، والمقدمات متنوعة بحسب فروع هذا العلم، وكما لا يخفى فإنه ما من علم من علوم الشريعة إلا وله مقدمات متنوعة سواءً ما يتعلق بعلوم الآلة الموصلة إلى هذا العلم وهذا المعني به، سواءً ما يتعلق بأبواب التفسير، وكذلك أبواب الحديث، وكذلك أبواب لغة العرب، وغير ذلك من العلوم، فإنه ما من علم من العلوم إلا وله علم دراية وله علم رواية، وكذلك له علم آلة توصل إليه، وعلم الآلة الذي يوصل إليه يتشعب ويتنوع، ومن جهة الأصل فإن علوم الشريعة متداخلة، ويلزم للتمكن في باب من الأبواب معرفة الباب الآخر، ولهذا قد تقرر عند العلماء الحذاق أنه لا يمكن أن يكون العالم بصيراً بعلوم الدين حاذقاً في سائر العلوم حتى يتبصر بعلوم الآلة، وكذلك يكون متبصراً ببقية العلوم الأخرى، فإن فيها تداخلاً، وإذا نظرنا إلى علم الحديث وجدنا أنه لا يمكن لطالب العلم أن يكون متمكناً في علم الحديث حتى يكون متمكناً في علم الرواية، وعلم الفقه، وعلم الآلة الموصلة إلى التفقه في الشريعة بما يسمى بالقواعد الفقهية والنظريات الفقهية، وكذلك الأصولية وغير ذلك، وأن يكون أيضاً متبصراً بعلوم القرآن بأنواعها، وأن يكون ضابطاً للمرويات الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام في التفسير، وكذلك ما جاء في هذا المعنى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون أيضاً متبصراً بطرائق التفصيل عن السلف الصالح ومراتبهم في ذلك وطبقاتهم، ومعرفة بلدانهم, وأن يكون أيضاً عارفاً بمناهجهم بما يولون إليه في أبواب التفصيل، فإنه لا يوجد باب من الأبواب، إلا وله فئة من أهل العلم من أهل الاختصاص يتباينون من جهة العناية، كذلك من جهة اختصاصهم بالرواة الذين يأخذون عنهم، هذه الأبواب وهذه الطرق، وهذه المسالك، ويلزم للتمكن في باب من الأبواب أن يتمكن في بقية الأبواب، على تباين أيضاً في جملة الأخذ في هذه الأبواب، فمن الأبواب ما يلزم أن يكون طالب العلم متمكناً فيه حتى يتمكن في الباب الآخر، ومنه ما لا يلزم منه إلا أن يأخذ الخطوط العريضة في هذا الباب حتى يكون متظفراً ببقية الأبواب، ولا يلزم أن يكون متمكناً فيه كما يأتي الإشارة إليه بإذن الله.

علم الحديث نوعان: علم رواية، وعلم دراية، وعلم الرواية وعلم الدراية بينهما تلازم لا ينفكان، ومن أراد أن يعتني بباب دون باب آخر فإنه يكون من أهل الاختصاص والتقليد فيه, ولا يكون من أهل الحذق والمعرفة، ومن نظر إلى نهج الأئمة الأوائل عليهم رحمة الله وجد أنهم ينظرون إلى علوم الشريعة على أنها باب واحد، فإن التقسيم الطارئ عند المتأخرين لأبواب علوم الشريعة إلى ما يسمى بالفقه، وكذلك الحديث والتفسير، وكذلك العقائد وغير ذلك من علوم، في هذه العلوم يجد أن العلماء عليهم رحمة الله يقسمون هذه التقاسيم يريدون بذلك تيسيراً للوصول إلى الفهم العام، وإلا من جهة الأصل فهذه التقاسيم ما ولدت إلا في القرن الثالث، قيل: في أوله، وقيل: في أوسطه، ولكن من جهة التقليل إنما وجدت في أوساط القرن الثالث، ووجدت من جهة اللفظ عند بعض العلماء في أواخر القرن الثاني، لكن لم تكن كذلك في علم دراستهم لعلوم الشريعة على هذا التقسيم، ولم يكن حينئذٍ يفرق بين العالم أن هذا يكون من العالمين والعارفين في أبواب الفقه، وليس من العالمين بأبواب الحديث، وهذا عارف بأبواب الحديث، وليس بعارف بأبواب الفقه، أو هذا عالم بالتفسير ليس بعالم بغيره، وإن وجدت هذه الإطلاقات إلا أنهم يريدون بذلك أنهم من أهل العناية بهذا الباب مع وجود العلم بغير هذه الأبواب كعلوم الحديث، وعلوم الفقه.

التلازم بين علم الرواية وعلم الدراية لا بد أن يكون مستقراً لدى طلاب العلم، فإنه لا ينفك بحال على الإطلاق، ومن أراد أن يكون من أهل الاختصاص في علم السنة أو علم الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا يطلب تقليداً، فهو يبحث أو يخرج من التقليد إلى تقليد آخر، وهذا هو النقص الطارئ عند كثير من المتأخرين، فمن أراد أن ينظر إلى كثير ممن يشار إليه بالبنان في علم من العلماء المتأخرين، يجد أنهم أهل اختصاص، وكأنهم قسموا الشريعة إلى عدة أقسام، فجعلوا الفقه لا يمكن أن يستوعب علم الحديث، وجعلوا علم الحديث لا يمكن أن يستوعب علم الفقه، ومن كان حاذقاً في علم الحديث أو علم العلل فلا يمكن أن يشرك علمه في الحديث بعلم الفقه، فيكون حينئذٍ فتاواه في أبواب الفقه يسيرة، فلم يكن حينئذٍ قد أفاد في علم الرواية أو كذلك لم يفد بعلم التفسير شيئاً، فأصبح لدى المتلقين عنه قصور في هذا الباب، كذلك في أبواب الفقه ممن يقوم بأهل المعرفة بأبواب القياس والرأي والنظر، ولكنه يكون مقللاً أيضاً في أبواب الحديث، وحينئذٍ لا يخرج عن تقليد من صحيح هذا الحديث أو ضعفه، فإن ضعفه غيره خرج إلى حديث آخر صححه، وإن صحح ذلك الحديث رجل آخر وقع في الاضطراب، ولهذا نجد أن الفقه إذا تجرد عن علم الحديث يكون شبيهاً بالرأي المحض الذي يورد لدى الإنسان تقليداً فيتقلب من تقليد إلى تقليد، فإنه لا يلتزم بكثير من المواضع الالتزامات التي ينبغي أن يلتزمها في نظائر هذه المسألة في بقية أبواب الدين.

وكما لا يخفى فإن الدراسة المهمة لعلم الحديث: أن يكون طالب العلم قارناً لجميع العلوم في هذا العلم، وكما تقدم الإشارة إليه أن علم الحديث على نوعين: علم رواية, وعلم دراية، وعلم دراية إذا أردنا أن نتوسع في معناه والمراد به فهو فقه المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفقه المروي أن يكون طالب العلم عارفاً بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فهم، وهذا الفهم لا يمكن أن يتلقاه طالب العلم إلا عن غيره، فلا يمكن أن يكتفي بمعنى جديد قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينظر إلى قواميس اللغة المجردة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد أوتي جوامع الكلم, كما جاء في البخاري ، قال: ( بعثت بجوامع الكلم )، وهذا كما أنه في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً، فإن كلام الله جل وعلا هو أجمع وأوسع.

ولهذا يقول أهل الفقه والنظر والدراية في علم الأصول: إن كلام الله جل وعلا غائي، أي: أنه يبلغ الغايات من جهة استيعاب المعاني بخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها غائية ووسطية، أي: أنها ترد على جميع معاني الألفاظ الكلية، ومعلوم أن الألفاظ الكلية هي ألفاظ قليلة تشمل معاني كثيرة بخلاف الألفاظ التفصيلية، وهذا ما يسميه العلماء في أبواب تفسير القرآن: الألفاظ الكليات، وكذلك ما جاء بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحاديث الكلية، أو ما يسمى بجوامع الكلم.

إذاً: الأصل في القرآن أنه كلي يشمل كثيراً من المعاني الواردة في لغة العرب، والسنة تفصل ذلك مما جاء في كلام الله سبحانه وتعالى، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يجمع بين المطلق والمقيد، وألا يتجرد بالأخذ بتمرير المطلق على إطلاقه، وتنحية المقيد، أو يجعل قاعدة لديه مطردة بكل حال، كمسألة أن النص لو تعارض مع نص عام ببعض أجزائه بتقييده، أو بيانه ونحو ذلك، فإنه يكون ناسخاً له، فهذا نوع من القصور، فلا بد من استيعاب جميع قواعد الدين حتى يسلم الإنسان في الدين ولا يقع حينئذٍ في التناقض والتضاد، فإنه إذا تجرد عن معرفة الرواية والدراية على طرائق الأئمة يقع في الحيرة في كثير من الأبواب، وإن استوعب هذين البابين وسلك في ذلك نهج الأئمة عليهم رحمة الله في استيعاب الفقه ومعرفة كيف يتلقى فإنه حينئذٍ يكون حاذقاً في الفقه, بصيراً كذلك في أبواب النقد، وينبغي أيضاً أن يعلم أن أبواب الرواية -وهي طرائق التحديد أو معرفة أحوال الأسانيد المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن السلف الصالح- لها أيضاً أبواب متنوعة، ومن هذه الأبواب: علم الرجال، ومن هذه الأبواب: علم ما يسمى بعلم العلل، ومن هذه الأبواب أيضاً ما يسمى بعلم قواعد الحديث أو علوم الحديث، وهذه أبواب متداخلة تتباين من جهة التفصيل، وبينها تداخل، فلا يمكن أن يكون طالب العلم حاذقاً في علم الرواية متبصراً في علم العلل حتى يكون شاملاً لأبواب الرواية هذه مع الاقتران أيضاً بأبواب الدراية، فإن جمع بين الرواية بأنواعها، وكذلك الدراية بأنواعها كان من أهل الحذق، وإذا كان طالب العلم يقلد في معرفته لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو زعم أنه يتحرر بمعرفة صحيح الحديث من ضعيفه، ولكنه لا يستطيع أن يستنبط معنى فقهياً لم يكن عند غيره، فالأصل الذي ينبغي أن ينطلق منه طالب العلم، ويكون حاضراً لديه: أن طالب العلم إذا لم يستطع أن يولد معنى جديداً لا يخالف غيره من السلف في المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ليس بطالب علم، وذلك أن طالب العلم إذا تجرد عن ذلك تجرد عن مسألة التحمل وإطالة النظر في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا يعلم أنه يبالغ في التقليد.

وكثيراً ما يورد كثير من طلاب العلم مقولة, وهي: لا تقل بقول ليس لك فيه سلف، هذه الكلمة التي ينقلها طلاب العلم، وهي قد جاءت عن غير واحد من السلف كـسفيان الثوري وغيره، هي من جهة الإجمال صحيحة، ولكن من جهة التفصيل ينبغي أن يخرج منها شيء قد اتفق العلماء عليه من مسائل الاستنباط والتدليل، وأنه قد يرد عند بعض طلاب العلم من الاستنباط من المعاني مما لا يخالف قولاً للسلف الصالح، وأما لو استنبط معنى جديداً قد خالف ما كان عليه إجماع السلف الصالح فيقال حينئذٍ: إن هذا الاستنباط لا ينبغي أن يكون، وبه يعلم أن طرائق الاستنباط والاستدلال من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم باب واسع يستفيد منه طالب العلم في الترجيح في كثير من مسائل الدين سواءً المتعلقة في مورد النص في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في كلام الله جل وعلا، فإن كان ذلك مما ليس بمورد للنص فإنه يستفيد منه في موضع آخر، وكما تقدم الإشارة إليه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، ومعنى جوامع الكلم: أن طالب العلم يستطيع أن يستفيد من كلامه في أبواب الصلاة في مسألة تتعلق بأبواب الزكاة، كذلك في أبواب الصيام وأبواب الحج، سواءً بما يسميه العلماء بالسبر؛ سبر الألفاظ حتى يستخرج منها طالب العلم طريقة للنبي عليه الصلاة والسلام في الاستدلال، أو كان مؤكداً لبعض الألفاظ العامة التي تأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يسمى بالأمر هل هو على الوجوب أو النهي؟ هل هو على الكراهة أو على التحريم؟ على طرائق وقرائن هي متوسعة، قد يستطيع طالب العلم أن يولد من الألفاظ أو السبر الذي يسلكه في معرفة كلام النبي عليه الصلاة والسلام مما لا يكون لغيره.

مسألة معرفة أبواب الرواية والعناية بذلك أقسام منها تقدم الإشارة إليه، ومنها معرفة الرجال، ويتفرع عن هذا معرفة ما يسمى بالجرح والتعديل، معرفة ألفاظ الجرح والتعديل، ومراتب كذلك الأئمة المعدلين، وطرائق هؤلاء الأئمة في نقلهم للرواة، كذلك معرفة المصنفات التي تصنف في هذا الباب.

كيفية الاستفادة من مصنفات الجرح والتعديل

وينبغي أن يعلم أن المصنفات في هذا الباب الذي يسمى بعلم الرجال هي على مراتب متنوعة بحسب طرائق الأئمة وقصدهم في التصنيف، هناك مصنفات صنفت للتعليم، منها ما هو بين من جهة العنوان، ومنها ما يعرف بالنظر، فما كان بيناً من جهة العنوان ككتب الضعفاء، كالضعفاء للعقيلي ، والضعفاء للنسائي , والضعفاء للبخاري ، وكذلك الكامل في الضعفاء لـابن عدي وغيرها من المصنفات, ومنها أيضاً ما هو مصنف للعلل، لكن لم يكن بيناً في عنوانه، وإنما يعرف بالسبر، سواءً كان في أبواب الرجال، أو كان كذلك أيضاً في أبواب إيراد الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كان في أبواب الرجال ككتاب الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم، فإنه أورده في الأغلب لبيان حال الرواة المجروحين، وربما أوردوا جملة من المعدلين.

كذلك أيضاً كتاب التاريخ للإمام البخاري سواءً كان كتابه التاريخ الكبير أو الأوسط أو الصغير، قد أوردها البخاري من جهة الأصل للتأليف، وبيان تفردات الرواة، فما يذكر فيه البخاري عليه رحمة الله من الرواة في هذا الباب فإنه مظنة للجرح.

كذلك أيضاً ما يريده من الأحاديث في ترجمة هذا الراوي هو مظنة للتعديل، ولم يكن هذا ظاهراً في عنوان هذا الكتاب، كتاب التاريخ، لكنه من جهة النظر والسبر يعرف أنه قصد بذلك مواضع الظنة في الجرح، كذلك أيضاً ينبغي أن يعلم أن المصنفات منها ما هي مصنفات متقدمة، ومنها ما هي مصنفات متأخرة، وينبغي العناية بالمصنفات المتقدمة وتفضيلها على المتأخرة من وجوه متعددة، من هذه الوجوه أن الرجوع إلى ألفاظ الأئمة المتقدمين يفيد طالب العلم دراية وخبرة وعناية بطرائقهم في السياق، وكذلك في الكلام، وكذلك معرفة ما لا يتيسر للإنسان عند المتأخرين.

كذلك معرفة جلالة هؤلاء الأئمة في التصميم، مما لم يكن لغيرهم مع شح المصادر، فإنهم جمعوا هذه المصنفات في حال شح مصادر، وتفرق الرواة في البلدان، بخلاف المتأخرين الذين جمعوا هذه المصنفات فلديهم من مصنفات وبطون كتب متيسرة بين أيديهم، فقلبوا الأوراق، وألفوا بينها، فخرجوا بمصنفات عديدة في أبواب الرجال، بخلاف الكتب المتقدمة مثل: كتب التاريخ للبخاري ، وكذلك الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم والكامل لـابن عدي ، وكذلك الضعفاء للعقيلي ، وكتب النسائي وسؤالات الدارقطني ، والعلل للإمام أحمد وغيرها، فهذه المصنفات إنما جمعت ولم يكن ثمة مصادر، والرواة متفرقون في البلدان.

كيفية معرفة أحوال الرواة

ومعرفة الرواة عند الأئمة عليهم رحمة الله لا يمكن أن تتم من جهة الجرح والتعديل إلا في الحالتين:

الحالة الأولى: بمعرفة الراوي وبمعاينته والمخالطة، والمخالطة سواءً تكون بمعرفة حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، أو في سائر أمور دنياه، يعرف الصادق من الكاذب، فإذا عرف الصادق من الكاذب فهذا ييسر للناخب معرفة عدالة الراوي من غير عدالته، وذلك أن الإنسان إذا خالط الرجل بالبيع والشراء وخالطه كذلك بالمجاورة، أو أنه كان من جماعة مسجده ونحو ذلك فإنه يعرف بالسبر إذا عاشره سنوات هل هو ضابط للحديث وينقل الأخبار جيداً أو أنه مندفع؟ وربما أتى بحكاية وزاد عليها، وهذا ينقدح في أذهان الناس عن بعض الناس مع السبر وطول المخالطة، فيعرف أن فلاناً ضابط وفلاناً متحرٍ، أو فلان يلقي الكلام على عواهله، فيطلقون هذه الأوصاف بالمخالطة، وهذا يحتاج طول مخالطة وصبراً وتأنياً، وما هو أشد من ذلك هو أن يخالط الراوي أو يخالط المحدث ذلك الراوي مخالطة تعتني بعلم الحديث، أي أن يعتني بحديثه ويسمع منه كثيراً، ثم ينقل من ذلك بمعرفة كلام الرواة من أهل بلده، أو من أصحابه في ذلك الشيخ، هل خالفهم أو لم يخالفهم، فإن خالفهم فإنه يعلم أنه تفرد بأحاديث لم يأت بها هذا الراوي، والأمر الآخر الذي يتيسر للمتقدم والمتأخر هو أن يكون لدى الراوي مرويات هذا الراوي ويجمعها في جزء ثم يصدرها كاملة، وأن يقارنها بطبقته وكذلك معرفة شيوخه، وأن يقارنها أيضاً بالأصول من الكتاب والسنة، ويعرف ما تفرد به وما خالف غيره، فيعرف حينئذٍ أنه قد شذ أو انفرد أو وافق، فيعلم حينئذٍ أنه قد وافق أكثر الرواة، ويكون حينئذٍ هذا الراوي قد ضبط ما لم يضبطه غيره، فيستطيع طالب العلم المتأخر أن يصف الراوي بالثقة، وكذلك بالعدالة، وإن لم يجد ثمة نصاً، والعناية بالمصنفات المتقدمة كما تقدم الإشارة إليه مهم جداً في هذا الباب، ولباب آخر أدق، وهو أن العناية للمصنفات المتأخرة المجموعة في كلام الرواة يجتزئون كلام الأئمة الأوائل في الراوي، فيقولون: إن الإمام أحمد عليه رحمة الله قال في الراوي: إنه صدوق، أو قال: لا بأس به، أو قال: ضعيف، أو قال ثقة، هذه الكلمة جاءت في سياق طويل، أو في حكاية ونحو ذلك، الأئمة على سيبل الاختصار؛ لأنهم يجمعون كلام أحمد وغيره يجمعون هذه الألفاظ مجردة عن السياق، وهذا السياق مهم لطالب العلم، فربما كان التضعيف لأجل سياق معين، أو في حديث بخصوصه، فإن الأئمة حينما يجدون حديثاً من الأحاديث فيه راوٍ معتدل، أو راوٍ ثقة، أو متوسط، ولكن في هذا الموضع كان هذا الراوي ضعيفاً، ولكن لضعف هذا الراوي في هذا الحديث ويسئل عنه يقولون فيه: فلان ضعيف، ولكن عند الإطلاق والسؤال العام يقال: إنه ثقة أو صدوق.

إذاً: هذه اللفظة التي تذكر في كتب الرواة، أو كتب الرجال المتأخرة تؤخذ من سياقها، ولهذا يجد طالب العلم في بعض كتب الرجال بعض الخلاف عند بعض الأئمة، فيقول له: الإمام أحمد قد اضطرب كلامه في راوٍ من الروات، تارة يقول: صدوق، وتارة يقول: ضعيف، وتارة يقول: ثقة، وتارة يقول: لا بأس به، وهذا فيه نوع تضاد، ولو رجع إلى الأصول لوجد أن هذا في سياق وذاك في سياق، والأئمة في الأغلب كلامهم متوافق؛ لأنهم أهل حذق ودراية بحال الرواة والسبر لأحوالهم، فلا يطلقون الكلام جزافاً؛ لأنهم يعلمون أن هذا الأمر يتعلق بأمور الديانة والذب عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجرح والتعديل هو سلاح له حدان:

الحد الأول: أنك إذا وثقت الراوي الضعيف، يعني: أنك تقبل سنة جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه ضعيف، ثم أنك تصححها.

والحد الثاني: أنك تضعف راوياً ثقة في حال التضعيف فترد الناس عن الاحتجاج والتعبد بهذا الدين، وهذا رد لهذا الدين، وكلاهما خطر، والأئمة عليهم رحمة الله يستشعرون هذا الأمر، ولهذا يقل الاضطراب في كلام الأئمة لو رجع طالب العلم إلى الكتب الأولى في معرفة الجرح والتعديل، وأخذ منها.

اختلاف مناهج الأئمة في الجرح والتعديل

ثم إنه ينبغي لطالب العلم في أبواب الرجال أن يعلم أن للأئمة مناهج ومسالك، فمنهم من هو شديد الورع، لا يلقي الكلام جزافاً، بل إنه يتشدد جداً، وينقل كلام اللطيف الجارح الذي يعرفه من سبر كلامه، كطريقة الإمام البخاري عليه رحمة الله، وكذلك في بعض الأحيان نهج الإمام أحمد عليه رحمة الله، ومنهم من يشدد في العبارة كـشعبة بن الحجاج ، وكذلك كـأبي حاتم و أبي زرعة يشدون في العبارة على الرواة، ولو كان ضعفهم يسيراً، ولهذا يستطيع طالب العلم أن يأخذ موازنة أن لكل إمام طريقاً.

ومن الأئمة من يطلق بعض الألفاظ التي فيها نوع تعديل، ولكن لما كان كتابه كتاب تصنيف جمع الضعفاء والمتروكين أراد أن ينتشل هذا الضعيف الضعف المتوسط عن مستوى هذا البحر من الضعفاء ككتاب الكامل لـابن عدي وهو الكامل في الضعفاء، قد جمع فيه بحراً متلاطماً من الضعفاء والمتروكين وكذلك الكذابين ونحو ذلك، فإذا كان رجل فيه نوع اعتدال أراد أن يخرجه من ذلك، فيقول: إنه لا بأس به، وهو من جهة الأصل داخل في دائرة الضعف، فيقول: إنه قال: لا بأس به، رأيت الأئمة قد أطبقوا على أن هذا الراوي ضعيف، فيقول: إن ابن عدي قد قال: إنه لا بأس به، فيقال له: أين قال هذا؟ قال: في كتاب الكامل، وكتاب الكامل الغالب فيه أنه فيه المطروحين والمتروكين وهذا مترفع عنهم شيئاً، لكنه لا يخلو من ضعف.

فإطلاق ابن عدي لكلمة لا بأس تختلف عن غيره، كذلك كلام الأئمة عليهم رحمة الله في بعض السياقات على بعض الأحاديث كـابن معين عليه رحمة الله، قد يتكلم على حديث من الأحاديث في باب من الأبواب، فيطعن في هذا الراوي لضعف الحديث بسبب هذا الراوي، ولكن من جهة الأصل هذا الراوي ثقة وعدل، وذلك أن هذا الراوي مثلاً يروي مائة حديث، تسعون منها جيدة، وعشرة منها ضعيفة، فإذا أراد الإمام أن يعل هذا الحديث ويسأله سائل: ما علته؟ فيقول: فيه فلان ضعيف، يعني: أنه ضعيف في روايته لهذا الحديث لا يعني ضعفاً عاماً، فالرجوع للأصل في حال السياق مطلب مهم، كذلك لا بد لطالب العلم من الاستفادة من كتب الأئمة عليهم رحمة الله في أبواب الجرح والتعديل المتأخرة، أو الكتب المعاصرة، فيأخذها طالب العلم ويجعلها كالدليل إلى الكتب الأولى، وثمة كتب متينة في هذا الباب قد جمع فيها الأئمة، ومن أفضل وأمتن هذه الكتب المتأخرة للأئمة المتأخرين بعد عصر الرواية كتاب تهذيب الكمال للمزي عليه رحمة الله، وكذلك من الكتب المعتنية في أبواب الجرح كتاب ميزان الاعتدال للذهبي، وثمة كتب هي فروع عن هذه الكتب، وهي كثيرة من الكتب المختصرة، ولكن ينبغي لطالب العلم عند البداية أن يهتم عناية بالغة بكتب الأئمة الأوائل حتى يتوسع في هذا، ثم إذا ملك الآلة، وملك آلة التمييز فلا حرج عليه أن يرجع إلى المختصرات، عكس ما لا يقوله كثير من طلاب العلم، يقولون: أنا نعتمد على كلام بعض الأئمة المتأخرين؛ لأنا لا نملك الآلة، نقول: إن هذا فيه تباين، وذلك أن طالب العلم إذا قلد ابتداءً، خاصة في أبواب الرجال يصعب عليه أن يخرج من طور التقليد حتى يستمر على هذا النحو، ولو اجتهد ابتداءً في الرجوع إلى كلام الأئمة عليهم رحمة الله، وحاول أن يؤلف بينهم خاصة أن طالب العلم في بداية الأمر لا يكون ممن يتصدر، ولا يسمع قوله، ولا يقلد، ولا يفتي الناس، ولو أراد لم يتيسر له ذلك حتى يتمكن بالنظر في كلام الأئمة عليهم رحمة الله، ويتوسع ويكون حينئذٍ من أهل التمكن.

إذا توسع في معرفة كلام الأئمة وطرائقهم استطاع أن يرجع إلى المختصرات وأن يميز أن هذا المختصر قد أصاب أو لم يصب، أو أن هذا المختصر يدله إلى ما هو أوسع منه كلاماً، أو وجد ريبة في هذا اللفظ المجمل في هذه الكتب المختصرة، ونحو ذلك، فيكون حينئذٍ هذا كالكشاف الذي يوصل طالب العلم إلى ما هو أوسع من كلام الأئمة عليهم رحمة الله تعالى في أبواب الجرح والتعديل.

وينبغي أن يعلم أن المصنفات في هذا الباب الذي يسمى بعلم الرجال هي على مراتب متنوعة بحسب طرائق الأئمة وقصدهم في التصنيف، هناك مصنفات صنفت للتعليم، منها ما هو بين من جهة العنوان، ومنها ما يعرف بالنظر، فما كان بيناً من جهة العنوان ككتب الضعفاء، كالضعفاء للعقيلي ، والضعفاء للنسائي , والضعفاء للبخاري ، وكذلك الكامل في الضعفاء لـابن عدي وغيرها من المصنفات, ومنها أيضاً ما هو مصنف للعلل، لكن لم يكن بيناً في عنوانه، وإنما يعرف بالسبر، سواءً كان في أبواب الرجال، أو كان كذلك أيضاً في أبواب إيراد الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كان في أبواب الرجال ككتاب الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم، فإنه أورده في الأغلب لبيان حال الرواة المجروحين، وربما أوردوا جملة من المعدلين.

كذلك أيضاً كتاب التاريخ للإمام البخاري سواءً كان كتابه التاريخ الكبير أو الأوسط أو الصغير، قد أوردها البخاري من جهة الأصل للتأليف، وبيان تفردات الرواة، فما يذكر فيه البخاري عليه رحمة الله من الرواة في هذا الباب فإنه مظنة للجرح.

كذلك أيضاً ما يريده من الأحاديث في ترجمة هذا الراوي هو مظنة للتعديل، ولم يكن هذا ظاهراً في عنوان هذا الكتاب، كتاب التاريخ، لكنه من جهة النظر والسبر يعرف أنه قصد بذلك مواضع الظنة في الجرح، كذلك أيضاً ينبغي أن يعلم أن المصنفات منها ما هي مصنفات متقدمة، ومنها ما هي مصنفات متأخرة، وينبغي العناية بالمصنفات المتقدمة وتفضيلها على المتأخرة من وجوه متعددة، من هذه الوجوه أن الرجوع إلى ألفاظ الأئمة المتقدمين يفيد طالب العلم دراية وخبرة وعناية بطرائقهم في السياق، وكذلك في الكلام، وكذلك معرفة ما لا يتيسر للإنسان عند المتأخرين.

كذلك معرفة جلالة هؤلاء الأئمة في التصميم، مما لم يكن لغيرهم مع شح المصادر، فإنهم جمعوا هذه المصنفات في حال شح مصادر، وتفرق الرواة في البلدان، بخلاف المتأخرين الذين جمعوا هذه المصنفات فلديهم من مصنفات وبطون كتب متيسرة بين أيديهم، فقلبوا الأوراق، وألفوا بينها، فخرجوا بمصنفات عديدة في أبواب الرجال، بخلاف الكتب المتقدمة مثل: كتب التاريخ للبخاري ، وكذلك الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم والكامل لـابن عدي ، وكذلك الضعفاء للعقيلي ، وكتب النسائي وسؤالات الدارقطني ، والعلل للإمام أحمد وغيرها، فهذه المصنفات إنما جمعت ولم يكن ثمة مصادر، والرواة متفرقون في البلدان.

ومعرفة الرواة عند الأئمة عليهم رحمة الله لا يمكن أن تتم من جهة الجرح والتعديل إلا في الحالتين:

الحالة الأولى: بمعرفة الراوي وبمعاينته والمخالطة، والمخالطة سواءً تكون بمعرفة حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، أو في سائر أمور دنياه، يعرف الصادق من الكاذب، فإذا عرف الصادق من الكاذب فهذا ييسر للناخب معرفة عدالة الراوي من غير عدالته، وذلك أن الإنسان إذا خالط الرجل بالبيع والشراء وخالطه كذلك بالمجاورة، أو أنه كان من جماعة مسجده ونحو ذلك فإنه يعرف بالسبر إذا عاشره سنوات هل هو ضابط للحديث وينقل الأخبار جيداً أو أنه مندفع؟ وربما أتى بحكاية وزاد عليها، وهذا ينقدح في أذهان الناس عن بعض الناس مع السبر وطول المخالطة، فيعرف أن فلاناً ضابط وفلاناً متحرٍ، أو فلان يلقي الكلام على عواهله، فيطلقون هذه الأوصاف بالمخالطة، وهذا يحتاج طول مخالطة وصبراً وتأنياً، وما هو أشد من ذلك هو أن يخالط الراوي أو يخالط المحدث ذلك الراوي مخالطة تعتني بعلم الحديث، أي أن يعتني بحديثه ويسمع منه كثيراً، ثم ينقل من ذلك بمعرفة كلام الرواة من أهل بلده، أو من أصحابه في ذلك الشيخ، هل خالفهم أو لم يخالفهم، فإن خالفهم فإنه يعلم أنه تفرد بأحاديث لم يأت بها هذا الراوي، والأمر الآخر الذي يتيسر للمتقدم والمتأخر هو أن يكون لدى الراوي مرويات هذا الراوي ويجمعها في جزء ثم يصدرها كاملة، وأن يقارنها بطبقته وكذلك معرفة شيوخه، وأن يقارنها أيضاً بالأصول من الكتاب والسنة، ويعرف ما تفرد به وما خالف غيره، فيعرف حينئذٍ أنه قد شذ أو انفرد أو وافق، فيعلم حينئذٍ أنه قد وافق أكثر الرواة، ويكون حينئذٍ هذا الراوي قد ضبط ما لم يضبطه غيره، فيستطيع طالب العلم المتأخر أن يصف الراوي بالثقة، وكذلك بالعدالة، وإن لم يجد ثمة نصاً، والعناية بالمصنفات المتقدمة كما تقدم الإشارة إليه مهم جداً في هذا الباب، ولباب آخر أدق، وهو أن العناية للمصنفات المتأخرة المجموعة في كلام الرواة يجتزئون كلام الأئمة الأوائل في الراوي، فيقولون: إن الإمام أحمد عليه رحمة الله قال في الراوي: إنه صدوق، أو قال: لا بأس به، أو قال: ضعيف، أو قال ثقة، هذه الكلمة جاءت في سياق طويل، أو في حكاية ونحو ذلك، الأئمة على سيبل الاختصار؛ لأنهم يجمعون كلام أحمد وغيره يجمعون هذه الألفاظ مجردة عن السياق، وهذا السياق مهم لطالب العلم، فربما كان التضعيف لأجل سياق معين، أو في حديث بخصوصه، فإن الأئمة حينما يجدون حديثاً من الأحاديث فيه راوٍ معتدل، أو راوٍ ثقة، أو متوسط، ولكن في هذا الموضع كان هذا الراوي ضعيفاً، ولكن لضعف هذا الراوي في هذا الحديث ويسئل عنه يقولون فيه: فلان ضعيف، ولكن عند الإطلاق والسؤال العام يقال: إنه ثقة أو صدوق.

إذاً: هذه اللفظة التي تذكر في كتب الرواة، أو كتب الرجال المتأخرة تؤخذ من سياقها، ولهذا يجد طالب العلم في بعض كتب الرجال بعض الخلاف عند بعض الأئمة، فيقول له: الإمام أحمد قد اضطرب كلامه في راوٍ من الروات، تارة يقول: صدوق، وتارة يقول: ضعيف، وتارة يقول: ثقة، وتارة يقول: لا بأس به، وهذا فيه نوع تضاد، ولو رجع إلى الأصول لوجد أن هذا في سياق وذاك في سياق، والأئمة في الأغلب كلامهم متوافق؛ لأنهم أهل حذق ودراية بحال الرواة والسبر لأحوالهم، فلا يطلقون الكلام جزافاً؛ لأنهم يعلمون أن هذا الأمر يتعلق بأمور الديانة والذب عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجرح والتعديل هو سلاح له حدان:

الحد الأول: أنك إذا وثقت الراوي الضعيف، يعني: أنك تقبل سنة جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه ضعيف، ثم أنك تصححها.

والحد الثاني: أنك تضعف راوياً ثقة في حال التضعيف فترد الناس عن الاحتجاج والتعبد بهذا الدين، وهذا رد لهذا الدين، وكلاهما خطر، والأئمة عليهم رحمة الله يستشعرون هذا الأمر، ولهذا يقل الاضطراب في كلام الأئمة لو رجع طالب العلم إلى الكتب الأولى في معرفة الجرح والتعديل، وأخذ منها.

ثم إنه ينبغي لطالب العلم في أبواب الرجال أن يعلم أن للأئمة مناهج ومسالك، فمنهم من هو شديد الورع، لا يلقي الكلام جزافاً، بل إنه يتشدد جداً، وينقل كلام اللطيف الجارح الذي يعرفه من سبر كلامه، كطريقة الإمام البخاري عليه رحمة الله، وكذلك في بعض الأحيان نهج الإمام أحمد عليه رحمة الله، ومنهم من يشدد في العبارة كـشعبة بن الحجاج ، وكذلك كـأبي حاتم و أبي زرعة يشدون في العبارة على الرواة، ولو كان ضعفهم يسيراً، ولهذا يستطيع طالب العلم أن يأخذ موازنة أن لكل إمام طريقاً.

ومن الأئمة من يطلق بعض الألفاظ التي فيها نوع تعديل، ولكن لما كان كتابه كتاب تصنيف جمع الضعفاء والمتروكين أراد أن ينتشل هذا الضعيف الضعف المتوسط عن مستوى هذا البحر من الضعفاء ككتاب الكامل لـابن عدي وهو الكامل في الضعفاء، قد جمع فيه بحراً متلاطماً من الضعفاء والمتروكين وكذلك الكذابين ونحو ذلك، فإذا كان رجل فيه نوع اعتدال أراد أن يخرجه من ذلك، فيقول: إنه لا بأس به، وهو من جهة الأصل داخل في دائرة الضعف، فيقول: إنه قال: لا بأس به، رأيت الأئمة قد أطبقوا على أن هذا الراوي ضعيف، فيقول: إن ابن عدي قد قال: إنه لا بأس به، فيقال له: أين قال هذا؟ قال: في كتاب الكامل، وكتاب الكامل الغالب فيه أنه فيه المطروحين والمتروكين وهذا مترفع عنهم شيئاً، لكنه لا يخلو من ضعف.

فإطلاق ابن عدي لكلمة لا بأس تختلف عن غيره، كذلك كلام الأئمة عليهم رحمة الله في بعض السياقات على بعض الأحاديث كـابن معين عليه رحمة الله، قد يتكلم على حديث من الأحاديث في باب من الأبواب، فيطعن في هذا الراوي لضعف الحديث بسبب هذا الراوي، ولكن من جهة الأصل هذا الراوي ثقة وعدل، وذلك أن هذا الراوي مثلاً يروي مائة حديث، تسعون منها جيدة، وعشرة منها ضعيفة، فإذا أراد الإمام أن يعل هذا الحديث ويسأله سائل: ما علته؟ فيقول: فيه فلان ضعيف، يعني: أنه ضعيف في روايته لهذا الحديث لا يعني ضعفاً عاماً، فالرجوع للأصل في حال السياق مطلب مهم، كذلك لا بد لطالب العلم من الاستفادة من كتب الأئمة عليهم رحمة الله في أبواب الجرح والتعديل المتأخرة، أو الكتب المعاصرة، فيأخذها طالب العلم ويجعلها كالدليل إلى الكتب الأولى، وثمة كتب متينة في هذا الباب قد جمع فيها الأئمة، ومن أفضل وأمتن هذه الكتب المتأخرة للأئمة المتأخرين بعد عصر الرواية كتاب تهذيب الكمال للمزي عليه رحمة الله، وكذلك من الكتب المعتنية في أبواب الجرح كتاب ميزان الاعتدال للذهبي، وثمة كتب هي فروع عن هذه الكتب، وهي كثيرة من الكتب المختصرة، ولكن ينبغي لطالب العلم عند البداية أن يهتم عناية بالغة بكتب الأئمة الأوائل حتى يتوسع في هذا، ثم إذا ملك الآلة، وملك آلة التمييز فلا حرج عليه أن يرجع إلى المختصرات، عكس ما لا يقوله كثير من طلاب العلم، يقولون: أنا نعتمد على كلام بعض الأئمة المتأخرين؛ لأنا لا نملك الآلة، نقول: إن هذا فيه تباين، وذلك أن طالب العلم إذا قلد ابتداءً، خاصة في أبواب الرجال يصعب عليه أن يخرج من طور التقليد حتى يستمر على هذا النحو، ولو اجتهد ابتداءً في الرجوع إلى كلام الأئمة عليهم رحمة الله، وحاول أن يؤلف بينهم خاصة أن طالب العلم في بداية الأمر لا يكون ممن يتصدر، ولا يسمع قوله، ولا يقلد، ولا يفتي الناس، ولو أراد لم يتيسر له ذلك حتى يتمكن بالنظر في كلام الأئمة عليهم رحمة الله، ويتوسع ويكون حينئذٍ من أهل التمكن.

إذا توسع في معرفة كلام الأئمة وطرائقهم استطاع أن يرجع إلى المختصرات وأن يميز أن هذا المختصر قد أصاب أو لم يصب، أو أن هذا المختصر يدله إلى ما هو أوسع منه كلاماً، أو وجد ريبة في هذا اللفظ المجمل في هذه الكتب المختصرة، ونحو ذلك، فيكون حينئذٍ هذا كالكشاف الذي يوصل طالب العلم إلى ما هو أوسع من كلام الأئمة عليهم رحمة الله تعالى في أبواب الجرح والتعديل.

ومن المهم أيضاً: أن يعلم طالب العلم أن باب الرواية كما أنه متعلق بأبواب الرجال فهو متعلق أيضاً بمسائل وقواعد مهمة، ويسميها العلماء بقواعد علوم الحديث، أو يسمونها مصطلح الحديث، مصطلح الحديث هو أشبه بالقواعد التي يأخذها طالب العلم حتى تكفيه مئونة البحث في أكثر المسائل، ولهذا الشريعة لو أراد طالب العلم أن يجعل لها قواعد لوجد أن جل الشريعة أو أكثر الشريعة لها قواعد في سائر أبوب الدين، فثمة قواعد للتفسير، وثمة قواعد في اللغة، وثمة قواعد في الفقه، وثمة قواعد في الحديث، وغير ذلك من أبواب العلوم، هذه القواعد قواعد تختلف من جهة ما يندرج تحتها، منها ما يصل إلى درجة الأغلبية، ومنها ما يصل إلى درجة التوسط بين الأغلب في هذه الأبواب، والتوسط في باب والاضمحلال أو العدم في باب دون باب، ولهذا هذه القواعد إذا أخذها طالب العلم على أنها مطردة يقع في الوهم والغلط، وربما صادم كثيراً من الأئمة في سائر أبواب العلم، ولهذا يجد طالب العلم أن كثيراً من المتفقهة بأبواب الفقه يخالفون كلام الأئمة الأوائل، لماذا؟ لأنهم أخذوا بهذه القواعد، كقاعدة مثلاً أن الأمر يقتضي الوجوب، أو قاعدة أن النهي يقتضي التحريم، هذه القاعدة لو أردنا أن ننظر إليها فيما يقول العلماء ويطلقونه نجد أنها أغلبية، ولكن ليس كل أمر يفيد وجوباً، وليس كل نهي يفيد تحريماً، إذاً كيف نخرج هذا ونفصل المتبقي من هذه القاعدة؟ نفصله بالنظر إلى قرائن الحال المحتفة بالدليل إلى عمل السلف، إلى فعل النبي عليه الصلاة والسلام، ينظر أيضاً إلى فتاوى الأئمة عليهم رحمة الله، إلى أدلة هذا الباب المقترنة فيه، هذه المسائل يستطيع طالب العلم أن يخرج نفسه من الاطراد في القواعد العلمية في أبواب الفقه أو أبواب الحديث، أو ما يسمى بالقواعد العامة فيما يتعلق بالأصولية، أو النظريات أو الضوابط أو القواعد الفقهية، أو ما يسمى بقواعد الحديث، أو مصطلح الحديث وغير ذلك، يخرج من ذلك بالبحث والنظر والتقصي لجزئيات مسائل الدين.

وينبغي أن يعلم أن بعض القواعد التي يضعها العلماء في علوم الشريعة هي أيضاً محل تسليم أنها ليست أغلبية، بل هي متوسطة، منها ما يكون على هذه القاعدة شطراً، ومنها ما يكون خارج هذه القاعدة، هذا القدر من يميزه؟ يميزه طالب العلم المتمكن الذي آتاه الله عز وجل قوة السبر والنظر في مسائل الدين قدر الإمكان، وألا يسلم لهذه القواعد، ولكن ينبغي أن يعلم وأن يضع طالب العلم نصب عينيه قاعدة عريضة أنه لا يوجد قاعدة في الدين مطردة في كل حال في سائر أبواب الدين، في أبواب الفقه وأبواب التفسير وأبواب الحديث وغير ذلك، لا يوجد قاعدة مطردة إلا ويند عنها جملة من مسائل هذا العلم، من قال: إن اليقين لا يزول بالشك على الإطلاق، فهذا في أبواب الفقه غلط، ولكن يوجد مسائل تند عن هذه القاعدة، ومن قال مثلاً في أبواب الحديث: كل ضعيف حديثه ضعيف فهذا غلط، ومن قال كل ثقة حديثه صحيح فهذا غلط، ومن قال مثلاً: إن كل حديث منقطع ضعيف فهذا غلط، ولكن يقال: إن المسألة أغلبية، وثمة قواعد هي مجال أخذ ورد من الأئمة في سائر أبواب الدين فيما يتعلق بالتفسير والفقه والحديث، وهذا هو موضع الخلاف عند العلماء عليهم رحمة الله.