أرشيف المقالات

الأسرة وخطر الفكر النسوي

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
الحمد لله المحمود على كل لسان، المعبود في كل مكان، المقصود في كل زمان، يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ أما بعد:
 
فاتقوا الله عباد الله، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة، وحصِّنوا بيوتكم من فتن آخر الزمان، قبل حلول الندم، ووقوع الألم، وزوال النعم، نسأل الله أن يحفظنا جميعًا من مُضلَّات الفتن .
 
عباد الله:
امتنَّ الله عز وجل علينا بأن خلق لنا من أنفسنا أزواجًا؛ لنسكن إليها، ولن تكتمل سعادة الإنسان، حتى يجد شريك حياته الذي يناسبه، ويتوافق معه، ويقاسمه لحظات حياته بما فيها من سعادة أو صعوبات؛ قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، ‏وأساس بناء الأسرة في الإسلام قائم على: المودة، والرحمة، فالمودة تعني المحبة، التي تؤدي إلى إشباع حاجات ومشاعر صاحبها، والرحمة تعني الشفقة والرأفة بين الزوجين؛ ليرحم كلٌّ منهما الآخر، ويتحمل كل منهما صاحبه.
 
لقد أولَى الإسلام تكوين وبناء الأسرة أهميةً بالغة؛ لأنها أهم مكونات المجتمع وعليها تُبنى الأمة، وقد حدد أهم مواصفات بناء الأسرة، التي تبدأ من اختيار الزوجة الصالحة؛ كما في وصية النبي صلى الله عليه وسلم: «...
فاظفر بذات الدين تربت يداك»
، فحدد أهم شروط اختيار الزوجة؛ وهو دينها.
 
‏ كذلك ينبغي على ولي المخطوبة الاهتمام بصفات الخاطب لقبول خطبته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكد على أهمية الدين والخُلُق؛ فقال: «إذا خُطِب إليكم من ترضَون دينه وخلقه، فزوِّجوه، إلا تفعلوا، تكن فتنة في الأرض وفساد عريض».
 
وخلال عقود من الزمان كانت الأسرة هي الملاذ الآمن عند حلول الأزمات، فالأب هو الحصن والملاذ، والأم هي المربية الباذلة، والأخ هو خط الدفاع ومصدر القوة، والأخت هي الحنان والمحبة، والأبناء والبنات هم زينة الحياة الدنيا .
 
وبهذه الأعطيات والجماليات نشأت الأسر، وترعرعت، وكان لها ثمرة العطاء في خدمة الدين والوطن، والارتقاء إلى معالي الأمور.
 
وقد فطِنَ أعداء الملة والدين إلى أهمية الأسرة في بناء المجتمع المسلم وتكاتفه وقوة تماسكه، وأثر الأب الصالح والأم الصالحة في إخراج لَبِنات صالحات ينفع الله بها الأمة والمجتمع، فسَعَوا بما أُوتُوا لنقضِ عُرى هذه الأسرة وتفكيكها، وتحريرها من الضوابط الشرعية، والعادات المرعية، والأخلاق الحسنة، حتى تُخرِج أجيالًا لا تعرف إلا شهواتها، ولا تنفع إلا أنفسها، ولا تهتم لأمر دينها ووطنها، بل أجيالًا لا يمكن الاتكال عليها في بناء حضارة، أو تأسيس تجارة، أو تحرير قضية.
 
أيها المسلمون:
وإن من أعظم ما ابتُلِيَتْ به الأمة في هذا الزمان تغيير الأفكار، والسعي لتجريد المتلقي من عقله بطرح أفكار غريبة وفاسدة، لا يتقبلها العقل، ولا الفطرة السليمة في البداية، لكنها سرعان ما تصبح متقبَّلة مع مرور الوقت ، ثم تبدأ مرحلة التجنيد لأبنائنا وبناتنا؛ ليصبحوا حملةً لتلك الأفكار الفاسدة، ودعاة لها، بل يبذلون من أجلها أرواحهم وأموالهم وأوقاتهم، وما فكر الدواعش الذي هدد مجتمعنا في وقت مضى عنا ببعيد، فمن تشبَّع به من الشباب ضحى بوالديه وإخوانه، وحارب وطنه وجيرانه، وقتل إخوانه المسلمين بدم بارد، حتى ولو كانوا رُكَّعًا سُجَّدًا في المساجد؛ بسبب تلك القناعات الزائفة التي تلقَّوها عبر تلك المواقع والقنوات.
 
وبفضل الله تعالى ثم بجهود هذه الدولة المباركة، ورجال الأمن، والعلماء والمصلحين، ووعي الشباب بخطر تلك الأفكار الزائفة، تَمَّ اجتثاث هذا الفكر في بلادنا، وإغلاق قنواته ومواقعه التي كانت تروِّج له، ولله الحمد والمنة.
 
إلا أننا في أيامنا هذه وعلى مستوى العالم نشطت حركة تتبنى فكرًا خبيثًا، لا يبعد كثيرًا عن فكر الدواعش وإجرامهم، وهذا الفكر مسلَّط أيضًا على الأسرة بشكل عام، وعلى بنات المسلمين بشكل خاص، يتزعم هذا الفكر منظمات ومواقع مشبوهة، ولهم أذناب من بني جلدتنا في أغلب بلاد المسلمين، وينتشر تأثيره عبر مواقع النت؛ ليصيد في المقام الأول البنات ثم الأمهات؛ ليصبحوا ألعوبة في أيديهم، وعالة على الدولة والمجتمع، ويزداد الخطر عندما يتم إقناع الضحايا بالهروب لخارج البلاد، لتستقبلهم منظمات معادية لهذه البلاد المباركة، وليُظْهِروهن في الإعلام على أنهن مظلومات مضطهدات، وأن أنظمة البلاد ودستورها ودينها سبَّب لهن تلك المآسيَ.
 
عباد الله:
ويقوم أرباب هذا الفكر على تبنِّي هذه الأفكار الخبيثة، ومحاولة إقناع النساء ، وبث هذه السموم في عقولهن؛ حتى يتشبَّعْنَ بها، ويصبحن دعاة لها في أوساطهن، وقد سهلت لهن وسائل التواصل الحديثة هذا الأمر بكل سرية وسرعة وانتشار، في ظل غياب الوعي لديهن، وإهمال كثير من البيوت للأبناء والبنات في استخدام الشبكة العنكبوتية دون رقابة، أو توجيه وتوعية، وهنا يكمن الخطر، فأهم ما يهدم مشاريع أصحاب هذا الفكر الخبيث هو العلم والتوعية، والوازع الديني، والحوار والمحبة بين أفراد الأسرة.
 
إن من أهم الأفكار التي يروِّج لها حَمَلَةُ الفكر النسوي المنحرف ما يلي:
1- تصوير الدين الإسلامي على أنه دين متشدد، يمقت المرأة ويظلمها، ويجعلها خادمة لدى الرجل، وأن الحجاب ما هو إلا تغطية لجمال المرأة الذي يفترض أن تبديه، كما هو حال المجتمعات المتحررة التي تسمح بظهور المرأة عارية في الشارع.
 
2- التغرير بالفتيات بكونهن مظلومات داخل المجتمع الذكوري، وأنه يجب التحرر من القيود التي فرضها الرجال عليهن، والمطالبة بأن تكون الأنثى كالرجل في كل شيء دون قيود أو حدود.
 
3- تصوير الأب على أنه مصدر للظلم، والحرص على تهوين أمر عقوق الوالدين ، وأن الفتاة لها حريتها الشخصية، وليس لأحدٍ الحق في التحكم بها، وأن الأب مجرد خادم عليه إحضار متطلبات الأسرة فقط.
 
4- تصوير الإخوة على أنهم ذكور حازوا كل المميزات، واستأثروا بها على الإناث، وأنهم مصدر من مصادر الظلم ضد الأخوات، ويجب مقاومتهم وكرههم، والحرص على انتزاع الحقوق منهم وعدم طاعتهم.
 
5- التشجيع على النشوز على الزوج وعدم طاعته، والسعي إلى الانعتاق من أغلاله، والتغرير بالمتزوجات على أن الانفصال عن الزوج نوع من الحرية والمتعة والسفر بلا قيود، وتصوير حالات الطلاق التي تنشأ عن هذا الفكر على أنها حالات ناجحة، وعمل حفلات الطلاق، والترويج لها عبر منصات التواصل الاجتماعي كنوع من الفرح والسعادة؛ يقول أحد القضاة: "من أغرب حالات الطلاق التي مرت بي، فتاة لم تكمل السنتين من زواجها، لم يقصر عليها زوجها في شيء، وتَفاجَأ بإصرارها على طلب الطلاق، فلما سألها القاضي وألح عليها أن تبين السبب، قالت: زميلاتي في العمل كلهن مطلقات، ويَعِشْنَ حياة الحرية والانفتاح، والمقاهي والسفر، وأنا الوحيدة بينهن المحرومة من هذه الحياة".
 
6- تشجيع الفتيات على عدم الزواج ، وتصوير الزواج على أنه نوع من الكبت للحرية والتقديس للذكر، والتقييد عن الملذات والسفريات، وتصوير العلاقات المحرمة على أنها نوع من الحرية الشخصية، وحق من حقوق أي فتاة للاستمتاع بحياتها، بعيدًا عن رِبْقَةِ الحياة الزوجية وتبعاتها.
 
7- تصوير الفتيات الهاربات من أُسَرِهن إلى خارج البلاد على أنهن قدوات قويات، تحرَّرن من قيود الرجال، وعِشْنَ حياة الحرية والانفلات، مع أن بعضهن وصلت بها الحال، والعياذ بالله، إلى الانتحار أو السقوط في مستنقع الدعارة والعُرْيِ، مع ما يَنْفُثن من سموم فكرية ضد ديننا ومجتمعنا وحكومتنا الرشيدة.
 
8- وآخر محطاتهن: أن الأم ما هي إلا مربية يجب عليها القيام بمهامها تجاه الفتاة، فإن تركتها على حريتها فهي أمٌّ متفتحة، وإن صادمتها ومنعتها من الانفلات في مستنقعاتهن، فهي مجرد مربية ليس لها حق الطاعة، ولا يلزم برها ولا الالتزام بتوجيهاتها، ويجب التحرر من قيودها.
 
والقائمة تطول حول تلك الأفكار التي يروج لها أعداء الدين والوطن عبر الفكر النسوي المنحرف، الذي يجب علينا كمجتمع مسلم أن نتنبه لخطر هذا الفكر على بيوتنا وأسرنا، وما بعض حالات الطلاق التي بدأت تنتشر في أوساط المجتمع بشكل مثير وبأعداد كبيرة، إلا ثمرة عفنة من ثمرات ذلك الفكر المنحرف.
 
الحمد لله الذي خلقنا من نفس واحدة، وجعل منها زوجها ليسكن إليها، وجعل بينهما مودة ورحمة، والصلاة والسلام على معلم البشرية الذي بعثه الله رحمة للعالمين، فأعطى المرأة حقوقها بعد أن كانت تُدفَن في التراب وهي حية، وأمر برعايتها وإعطائها حقوقَها، ونهى عن ظلمها؛ فقال: «استوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنما هن عَوَان عندكم»؛ أما بعد عباد الله:
 
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
 
ثم اعلموا - أيها الإخوة المؤمنون - أن من أهم ما يحمي الأسرة المسلمة من أمواج الفتن والشبهات والشهوات، ومن خطر الجماعات الإرهابية والمنظمات الإفسادية والنسويات المنحرفات - ما يلي:
1- التنشئة الصالحة للأسرة المسلمة، وتبدأ منذ الوهلة الأولى في اختيار الزوجة الصالحة الناصحة، فالأبناء في الغالب على دين أمهاتهن، وأغلب عظماء الإسلام نشؤوا أيتامًا في أحضان أمهات صالحات.
 
2- الحرص على بث الرقابة الداخلية في نفوس الأبناء والبنات، وأن الله تعالى مطَّلِعٌ على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأن نعظم رقابة الله في قلوبهم، وأن يكون للقرآن والسنة مكانة عظيمة في نفوسهم، وأنهما المرجع الأساسي لكل شؤون الحياة.
 
3- إشاعة روح الحوار بين أفراد الأسرة، وأن يتقبل الوالدان ما يرد عليهما من تساؤلات وحوارات، والحرص على إيجاد الحلول لها؛ فالابن والبنت إذا وقعا في شباك هذه العصابات سواء في شبهة أو شهوة، وعلِما أن والديهما سيكونان خطَّيِ الدفاع الأول، والملاذ الآمن، قاما بإبلاغهما وطلب مساعدتهما، وإذا علما أن الوالدين سيكونان مصدرًا للعنف، فلن يتجرأا على إبلاغهما، وكم من شاب وقع ضحية ولم يستطع إبلاغ والده، حتى انهارت حياته! وكم من فتاة تم ابتزازها وأصبحت ألعوبة في يد ذلك المجرم، ولو كان والداها قريبَين منها، لأخبرتهما بما وقع لها، وعالجا مصيبتها قبل أن تصبح ضحية!
 
4- التوعية والتوجيه لأفراد المجتمع عن خطر هذه الأفكار التي يروج لها أعداء الملة والدين لاستهداف أبنائنا وبناتنا، وذلك من خلال منابر الجمعة ، ومِنصَّات الإعلام، والمدارس والجامعات، ووسائل التواصل الاجتماعي، لكبح خطر تلك الجماعات والمنظمات، ووأدها في مهدها، وبيان حقيقتها، ونشر الجانب المظلم لضحاياها الذين أصبحوا مُشرَّدين ومشردات وعالة على تلك المجتمعات، بعد أن كانوا معززين مكرمين في بلادهم، وبين أسرهم.
 
5- كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأب الذي يوفر جميع وسائل التواصل في بيته، ويفتح جميع القنوات الفاسدة لأسرته، ولا يبالي بخروج ابنه أو بنته في أي ساعة من ليل أو نهار، دون معرفة من يصاحبون، ويترك المجال مفتوحًا بلا حسيب ولا رقيب، وبلا توعية ولا توجيه، فهذه من خيانة الأمانة التي سيُسأل عنها؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيِّعَ من يقوت» (إن هذه الأجهزة وغيرها زاحمت الأسرة في توجيه الأبناء والبنات داخل المعقل الحصين بجاذبية مدروسة، وغزو مستور ومكشوف؛ لتقطع صلتهم بأمتهم، وتضعف عقيدتهم، وتنسِف غيرتهم، إن لم نتنبه لها ونحذرهم من أخطارها، ونكثر من الدعاء لهم بالهداية والصلاح، والحفظ من شر الأشرار، وكيد الفجار، وشر طوارق الليل والنهار)).
_______________________________________________________
الكاتب: متعب بن علي الأسمري

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢