مجلاتنا الممتازة
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
ونصيب المسرح والسينما والغناء منها
للأستاذ دريني خشبة
هل تكتب (الرسالة) أو (الثقافة) أو (المقتطف) أو (الهلال) شيئاً في المسرح المصري الحاضر أو السينما المصرية الحاضرة أو الغناء المصري الحاضر أو الموسيقى المصرية الحاضرة؟ وإن لم تكن هذه المجلات تكتب شيئاً من ذلك، فهل هي على حق في خطتها تلك! وهل هي بتلك الخطة التي تلتزمها حيال أرقى فنونها الجميلة تمثل النهضة المصرية أو تنطق بلسان مصر الحديثة؟ وهل هناك فرق أن تصدر الرسالة - وتلك خطتها - في القاهرة أو في بغداد؟ وهل يتغير المقتطف إن كان يطبع في دمشق، لا في القاهرة؟ وإن صدرت الثقافة في مكة، ولم تصدر في مصر، فماذا كان يتغير فيها بحكم تلك البيئة الجديدة؟ وإذا كان الهلال يأتي إلينا من صنعاء اليمن فهل كنا نرى فيه هلالاً غير هذا الهلال الذي يصدر عن القاهرة؟
وما السبب يا ترى في امتناع مجلاتنا الممتازة هذه عن الكتابة في المسرح المصري الحديث والسينما المصرية الحديثة، والغناء المصري الحديث، والموسيقى المصرية الحديثة، وفي سائر الفنون المصرية الحديثة!
هل يستطيع أحد أن يتهم الأستاذ الزيات أو الأستاذين أحمد أمين وعبد الواحد خلاف، أو الأستاذ يعقوب صروف أو الأستاذين أميل وشكري زيدان بأنهم رجال لا يستطيعون أن يزنوا هذه الفنون من حيث تمثيلها للنهضة المصرية الحديثة والذوق المصري الحديث؟
وإن قلنا إن هذه المجلات قد خصصت نفسها للأدب الجد والعلم الجد، فهل نفهم من ذلك أن أصحابها لا يقولون بأن المسرح المصري الحديث ليس من الأدب الجد في شيء، ومثله السينما والغناء والموسيقى!!
وهل العلاقة بين هذه الفنون وبين الأدب الجد لا تصل في أهميتها إلى خطورة العلاقة بين الأدب الجد وبين اشتقاق كلمة (اجلوّز) وما إليها من تلك الببغائيات التي تحفل بها مجلاتنا الممتازة وتفسح لها صفحاتها؟
ولكن. ما علة امتناع مجلاتنا الممتازة، هذا الامتناع الإجماعي، عن الكتابة في هذه النواحي من مقومات نهضتنا الفكرية الأدبية الحديثة؟! هل هو الاستعلاء كما زعم لي أحد الزاعمين وأنا أحاوره في هذا الموضوع؟ وفيم يا ترى استعلاء مجلاتنا المصرية الممتازة عن الكتابة في المسرح المصري الحديث والسينما المصرية الحديثة؟ هل هي في حاجة إلى من ينبهها إلى خطر المسرح والسينما ومكانهما من الأدب الذي تضطلع بنشره في مصر قاطبة؟! وهل ترفض هذه المجلات الممتازة نشر بحث يقدم لها عن المسرح اليوناني، أو المسرح الإنجليزي، أو المسرح الفرنسي؟ كلا.
إنها ترحب دائماً بهذا البحث وتعده من واجبها الأول! وهل ترفض ترجمة لأحد رجال المسرح اليوناني أو المسرح الإنجليزي أو المسرح الفرنسي؟.
وهل ترفض ترجمة لأحد الموسيقيين من أمثال موزارت وباخ وهاندل وبيتهوفن وهايدن وشوبين وليزت ولتنتايكوفسكي؟ أم ترفض ترجمة لأحد المغنين القدامى من أمثال إسحاق وإبراهيم الموصلي وزرياب وعنان؟ هذه طائفة من الأسئلة كانت وما تزال تملأ التفكير، وتجعل الرأس أشبه بخلية النحل من كثرة ما كانت تتوارد فيه، في شدة وفي عنف.
بل في شبه ثورة جارفة، مُغثاة بكثير من الهم والاكتئاب!.
لماذا تستعلي مجلاتنا عن تناول المسرح المصري، والسينما المصرية، والغناء المصري والموسيقى المصرية؟.
إن أحداً لا ينقم على مجلاتنا الممتازة مظهرها العربي الصميم الذي هو مفخرة الصحافة المصرية، ونحن حين نرى العالم العربي كله يقرأ مجلاتنا ويقبل عليها هذا الإقبال لنحمد الله على أن جعل لنا الصدارة في هذا الباب، وأن هيأ لنا من الزعامة الفكرية ما يجعل مصر نبراساً للأمم العربية جمعاء.
هذا حسن جداً.
وهو خير كل الخير، لكن ماذا يضرنا لو أظهرنا شقيقاتنا من الأمم العربية على هذا الجانب الهام من مصريتنا الصميمة؟ لماذا لا نكتب لهم عن مسرحنا وعن هذه النخبة الفاضلة العامة المجدة من رجاله؟ لماذا لا ننقد لهم الروايات المصرية التي يؤديها هذا المسرح ويعالج فيها عللنا الاجتماعية؟ ألم تكن فرقنا تذهب إلى فلسطين وسوريا ولبنان والعراق وتونس والجزائر وأمريكا الجنوبية لتمثل هنالك تلك الروايات المصرية؟ أليست هذه هي الأفلام المصرية تصدر من مصر إلى تلك الأقطار الشقيقة فيقبل عليها الأهلون إقبالاً منقطع النظير ليشهدوا مصر الحديثة، وليطالعوا الأدب المصري الحديث، والتمثيل المصري الحديث.
وليمتعوا أنفسهم بالغناء المصري الحديث ويشنفوا آذانهم بالموسيقى المصرية الحديثة؟ الحقيقة أن شطراً كبيراً من مسئولية ذلك تقع على عواتق رجال تلك الفنون من المسرحيين ومخرجي السينما وممثليها والمغنين والموسيقيين المصريين.
وسنكون صرحاء في تحديد هذا الشطر من المسئولية فنقولها كلمة حق إن كثيرين منهم يكادون يكونون أُميين.
أميين في فنهم نفسه، وأميين في طريقة أدائه، وأميين في منوال حياتهم بوصف كونهم رجال الفنون الرفيعة في مصر.
أما أن منهم الأميين في فنهم فهذا هو المشاهد الملحوظ في كثير من الروايات المصرية المسرحية، وأشرطة الصور المصرية تأليفاً وإخراجاً وتصويراً وتمثيلاً - وأنا أكتفي هنا بالإشارة العابرة دون التصريح والتجريح، فما لهذا كتب المقال - ولست تعرف من أين يأتي أكثر العيب؟ أيأتي من المؤلف الذي يتناول الموضوع المصري أو إحدى البيئات المصرية فيشيع فيهما مرض خياله ويمسخها بسقم تصويره ويجعل منها أضحوكة لا تخطر في بال مصري؟ أم يأتي من المخرج الذي يضرب أخماس المشاهد في أسداسها حتى تبرز عرجاء شوهاء مقعدة في كثير من الأحيان؟ أم يأتي العيب من المعمور الذي لم يدرس قط، أو درس دراسة ارتجالية - فن الضوء المسرحي أو السينمائي وزوايا المناظر؟ أم يأتي أكثر العيب من الممثلين وفيهم مهرجون كثيرون فرضوا بطولتهم على الشركات التي ألفوها، وعلى النظارة الذين أفسدوا أذواقهم بالإلحاح عليها بشعبذاتهم ومساخرهم أما أميتهم في أسلوب حياتهم فذاك أن أكثرهم لا يحاول قط أن يتعلم أو أن يثقف نفسه بمطالعة ما تصل إليه يده عن تاريخ فنه وتراجم أبطال هذا الفن وما يجد كل يوم فيه وما ينضاف إليه من جهود المتخصصين فيه، ثم هم غير هذا يحيون حياة سائبة ليس فيها أي شعور بالكرامة الفنية التي كان يخلق بها التسامي عن التبذل والانغماس فيما يشين الأقدار.
وليس يضير هذه الفنون قط أن كثيرين من أبطالها في مصر قد نشئوا من صميم الشعب، فهنا مفخرة هذه الفنون، بل هنا حياتها، لأنه لا يعرف هوى الشعب ولا يدرك علله إلا أفراد منه أوتوا تلك الملكات الشعبية التي يجهلها السراة جهلاً تاماً وبمناسبة فقر أبطال المسرح والسينما والغناء والموسيقى في ثقافتهم، ذلك الفقر المضحك المخزي، يذكر الإنسان ما كان يشترط في المغني العربي والمغنية العربية في العصر العباسي من إلمام واسع بنحو العربية وصرفها وعروض الشعر وقوافيه، وما كان ينبغي أن يتوفر له من محفوظ الشعر والبصر بعلله ودقة الذوق في نقده وطول الباع في الوقوف على أخبار الأدباء والكتاب والشعراء والمحبين.
ولسنا هنا بمعرض ضرب الأمثال لذلك، فكتب الأدب العباسي والأندلسي تفيض بذلك وتزخر به.
ونحن والحمد لله نعيش في مصر في عصر شباب اللغة العربية ورونق مجدها المبين، مما لم تبلغه في أي عصر من عصورها الذهبية الحوالي؛ والمستمع الذي له دراية بنحو هذه اللغة لا يتلف الغناء أو الإلقاء في نفسه ما يتلفه اللحن في القطعة المغناة أو الملقاة.
إنه يضيق عند ذاك بالغناء وبالمغني.
بل إنه ليضيق بالدنيا جميعاً ولا يعود يعنيه من أمر الغناء ما يعنيه من جهل المغني بنحو اللغة، ذلك الجهل الذي لا عذر له فيه إلا الكسل عن الإلمام بهذا النحو.
لقد كان المغنون في العصر العباسي وفي بلاد الأندلس أدباء من الطراز الأول، وكانوا يحتلون من رواية الرواة ومؤلفي كتب الأدب ما كانوا خليقين به.
وحسبهم فخراً وشرفاً أن يسمي أبو الفرج كتابه (الأغاني) ولم يسمه اسماً آخر بالرغم مما حشد فيه من تراجم الشعراء وقصائدهم وبعد.
فمتى يعني مديرو مجلاتنا الممتازة ورؤساء تحريرها بالمسرح المصري الحديث وما إليه من سائر الفنون الرفيعة التي ذكرنا؟ إننا حينما ندرس الأدب اليوناني القديم نجد ثلاثة أرباع هذه الدراسة تدور حول المسرح اليوناني وحول شعراء مآسيه وملاهيه؛ ودراسة الآداب الأوربية تكاد تكون قسمة عادلة بين القصص في الشعر في ناحية، والدرامة في ناحية أخرى، بل يكاد بعض هذه الآداب يكون مسرحياً صرفاً.
وقد عني أرسطو بدراسة المأساة المسرحية وكرس لها كتابه الخالد (بويتيكا) (الشعر) وعدها مصدر الفضائل ولباب الأدب.
فهل أصحاب مجلاتنا الممتازة ورؤساء تحريرها في حاجة إلى أن يذكرهم أحد بكل ذلك؟.
قد يجادل رؤساء التحرير المحترمون هؤلاء في حقيقة المسرح المصري الحديث: أموجود هو؟ وهل لدينا الممثلون الذين يستحقون أن يكتب عنهم؟ وهل لدينا مذاهب مسرحية تستأهل أن يعنى بها؟ ثم ما هي عيون الأدب المسرحي أو السينمائي التي تستحق أن تفسح لها مجلاتهم ميداناً للنقد أو العرض أو التحليل.
وقد آن أن نكون صرحاء.
فالمسرح المصري أصبح حقيقة لا مرية فيها، وأشرطة الصور المصرية تغزو دور الصور في مصر خاصة وفي الشرق العربي عامة.
وقد أصبح للمسرح المصري والسينما المصرية والغناء المصري أكبر الأثر في التوجيه الأخلاقي والتوجيه الثقافي الحديث.
ورب درامة أو شريط سينمائي للأستاذ يوسف وهبي - كائناً ما كان هذا الشريط - له من الأثر في أخلاق هذه الأمة وفي مزاجها وفي تكييف ذوقها ما لا تستطيع أن تصنعه خمس مدارس أو عشرة أو عشرون.
ورب أغنية للأستاذ محمد عبد الوهاب أو للآنسة أم كلثوم يكون لها من الأثر في عامة الشعب وخاصته مالا يكون لألف مقالة من مقالات الرسالة والثقافة والمقتطف والهلال مجتمعة.
هذه حقيقة لا يماري فيها إلا مكابر.
فإذا كان الأمر كذلك، فكيف تجمع هذه المجلات المحترمة الممتازة على الانصراف عن المسرح المصري والسينما المصرية والغناء المصري والموسيقى المصرية لا تتعرض لها بخير أو شر؟ هل يظن رؤساء تحرير هذه المجلات - وهم قادة الفكر في مصر وفي الشرق العربي - أنهم يؤدون وظيفتهم كاملة على هذا النحو المبتور؟ هل صحيح أن انصرافهم عن هذه النواحي الثقافية التي لها أكبر الخطر في تكييف نهضتنا الفكرية وذوقنا الفني هو صدى هذا الاستعلاء الذي أشار إليه أحد رجال الفكر الذي حاورته في هذا الموضوع.
على أنني لست أدري سبباً لهذا الاستعلاء؟ أليس هو من باب وضع النعامة رأسها في الرمال إذا حاق بها الخطر؟ هل يماري رؤساء التحرير المحترمون هؤلاء في خطر المسرح والسينما والغناء والموسيقى على الأخلاق والأذواق؟ ألا تستحق الأربعون أو الخمسون رواية التي ألفها الأستاذ يوسف وهبي ومثلها أو أخرجها للسينما وشهدها خمسون أو ستون مليوناً من النظارة في مصر وفي العالم العربي.
كلمة نقد أو كلمة تقدير أو كلمة تحليل.
أو حتى كلمة تحذير من إحدى مجلاتنا الممتازة أو المتزمتة.
لا أدري.
ألا يستحق هؤلاء الأبطال: يوسف وهبي وحسين رياض وأحمد علام وزكي طليمات وسليمان نجيب وعباس فارس وعمر وصفي وحسين صدقي وأنور وجدي ومحمود ذو الفقار ومنسي فهمي ومحمود المليجي وأحمد جلال ومختار عثمان ونجيب الريحاني وفوزي الجزايرلي وعلي الكسار.
ألا يستحق هؤلاء أن تقدمهم مجلاتنا الممتازة إلى قرائها فتحلل لهم شخصياتهم أو تقفهم على مزاياهم أو تنقد لهم مذاهبهم في التمثيل أو طرائقهم في الأداء؟ ألا تستحق أمينة رزق وزينب صدقي وفاطمة رشدي وعزيزة أمير وآسيا ودولت أبيض ومن إليهن أن تترجم لهن مجلاتنا الممتازة، أو أن تقدمهن لجمهور قرائها بما ينبغي لنساء المسرح من عرض ونقد وتحليل؟ ما هذا؟ ألا يستحق محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ورياض السنباطي والقصبجي وزكريا أحمد وعبد الغني السيد وصفر علي والنقاد والرشيدي وسامي شوا وفاضل شوا وعبد المطلب والسروجي وأحمد عبد القادر ونور الهدى ورجاء وفتحية وأسمهان ونجاة.
ألا يستحق هؤلاء أن يترجم لهم والعالم كله ينتفع بهم ويلتذ غناءهم وموسيقاهم وألحانهم؟ إني وأنا أكتب هذه الأسماء ألمح الابتسامات العريضة ترقص على شفاه رؤساء التحرير وعلى قسمات الكثيرين من القراء.
وليست هذه الابتسامات من الغموض بحيث يخفى معناها على أحد.
إنها ابتسامات الاستعلاء.
أو الاستهزاء.
ما في ذلك شك.
وهو استعلاء ظالم.
بل هو استعلاء أناني أثر، وأمسك عن وصفه بشيء آخر لقد آن أن تكون مجلاتنا الممتازة صادقة في التعبير عن مصر الحديثة.
ولقد آن أن تعرف مجلاتنا الممتازة حق المسرح المصري الحديث، والسينما المصرية الحديثة، والغناء المصري والموسيقى المصرية.
هذه المظاهر الأربعة الهامة التي تصور للعالم العربي مصر الناهضة التي تتزعم ممالكه ودويلاته، وتصدر إليها الفكر الجديد والثقافة الجديدة.
ليكن بعض رجال هذه الفنون كما وصفنا في هذا المقال؛ ولكن لتكتب مجلاتنا عنهم لتقوم اعوجاجهم، ولترد إليهم كرامتهم، ولتصل أسبابها بأسبابهم، فإنه إذا استمرت تلك القطيعة بينها وبينهم وبين رجال الفنون على هذا النحو صار سواء أصدرت مجلاتنا تلك عن القاهرة أو عن مكة أو عن دمشق أو عن بغداد أو عن صنعاء.
وربما جاء يوم تصبح فيه مجلاتنا صحائف أرثوذكسية لا تعبر عن شخصيات العصر الحديث.
ولست أدري لماذا ألغت الرسالة باب الفنون وباب الموسيقى والموسيقيين وقد كانا من أجمل أبوابها؟ هذه كلمة سريعة وربما كان لنا عود إلى الموضوع. دريني خشبة