كيف نتعامل مع الفتن؟


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله, نحمده ونستعينه, ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

الحكمة من الفتن

أيها الإخوة المسلمون! فإن من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى قد جعل هذا الدين بيناً واضحاً، وجعله محكماً، وجعل هذا الإحكام هو الأصل في هذه الشريعة، وجعل ثمة مناوءات ومناكفات لهذا الإحكام، وجعل الله سبحانه وتعالى ابتلاءات للإنسان في ماله وولده ودينه وكذلك نفسه، جعل الله جل وعلا هذه الابتلاءات تتنوع ويتقلب فيها الإنسان بين حين وآخر، وهذا ما يسمى بالفتن ابتلاءً واختباراً وامتحاناً من الله جل وعلا، وهي تتباين قوةً وكثرةً، وكذلك تتباين من جهة القلة والضعف، ومن جهة التكرار والتنوع.

وهذا من حكم الله سبحانه وتعالى ليميز الله جل وعلا الخبيث من الطيب، ولكي يقوى عود الإنسان, ويصلب قلبه؛ وذلك -كما لا يخفى- لأن الإنسان لا يمكن أن يكون من أهل الثبات والقوة إلا بمجموع ابتلاءات واختبار, كما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد واجه أنواع الفتن وقابلته سائر البلايا والمصائب، ولهذا أمر الله جل وعلا بسلوك نهجه والاهتداء بهديه، وعدم الخروج عن طريقه عليه الصلاة والسلام.

طريق النجاة من الفتن

ولهذا من أراد النجاة وأراد الهداية وأراد التوفيق فليسلك طريق محمد صلى الله عليه وسلم، لهذا قال الله جل وعلا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] ، فمن كان متبعاً لمحمد صلى الله عليه وسلم فعليه بطريق محمد، ومن استوفى ذلك الطريق وأخذ بأسبابه بمجموع ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصل إلى الغاية كما وصل إليها النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قصرت به الهمة أو ضعف به النظر بقلة علم أو قلة إدراك أو غير ذلك، فإنه يقع فيه من الاضطراب والخطأ والزلل مما يؤثر على غاية الإنسان ومقصوده، وكذلك ضعف الثمار التي يصل إليها الإنسان، كذلك أيضاً مع بطأ يشرك سبيل الإنسان الذي يسلكه بالوصول إلى الغاية، فسبب ذلك هو القصور عن استيعاب منهج محمد صلى الله عليه وسلم.

لهذا من أراد النجاة فعليه بطريق محمد عليه الصلاة والسلام، والنجاة التي ربطها الله جل وعلا بنبينا هي النجاة في صالح الإنسان في آخرته ودنياه، مما يتعلق ذلك السبب بأمر الدنيا, وينعكس عليه مما يمتزج معه أمر الدين بأمر الدنيا، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أوصى أصحابه لم يوصهم عليه الصلاة والسلام بقول فلان وفلان، وإنما أرشدهم إلى قوله، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسند والسنن من حديث العرباض بن سارية : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظهم موعظةً بليغةً، فقالوا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ).

والنبي صلى الله عليه وسلم حينما أرشد أمته بالتمسك بطريقه بين النبي صلى الله عليه وسلم إلى وجود شيء من المنازعات لهذا الطريق من الأهواء والفتن والبلايا التي تكتنف ذلك الحق وذلك السبيل، وتلك الفتن وكذلك الصوارف التي تصرف الإنسان عن الطريق يتقلب فيها الإنسان من جهة القوة والكثرة والضعف والقلة، وذلك أن ما يطرأ على طريق الإنسان يرجع فيه من جهة تقبله إلى قوة الإنسان، فإن الفتن إذا كانت قوية في طريق الإنسان وكان من أهل الإيمان والثبات والعلم والدراية، كانت الفتن القوية بالنسبة له ضعيفة، وإن تزلزلت أقدام كثير من الناس الجهلة الذين لا يواجهون أو لا يوازون الأول من جهة الإدراك والمعرفة والإيمان والثبات.

لهذا نقول: إن حقيقة الميزان في معرفة الطريق الحق, وكذلك وزن العقبات ومعرفة الفتن يرجع في ذلك إلى قوة الإنسان من جهة استيعابه لمعاني ما أراده الله جل وعلا في كتابه العظيم، وما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن الناس من تكون الفتن الصغيرة لديه مجلبة إلى الانحراف والبعد عن المنهج الحق، ومن الناس من تكون الفتن العظيمة كبيرة القدر بالنسبة له هي كحال الصغائر عند غيره؛ لقوة ثباته، ومن نظر إلى أهل العلم والدراية في هذا -كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ربط الثبات بوجود أولئك لقربهم زمناً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك لمعرفتهم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وطريقه، وهذا كما جاء في الصحيح في حديث أبي بردة عن أبي موسى في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد ) ، والمراد بذلك هو ما تعلق بالصحابة عليهم رضوان الله تعالى من يقين وثبات ومعرفة بهدي محمد صلى الله عليه وسلم.

والنبي عليه الصلاة والسلام حينما قال: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ) ، كأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي يعرف قدر النبوة والخلافة بعده وهذا أمر معلوم، مع ذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أقواماً بعد كثير ممن يسمع منه هذا الخطاب، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بأولئك الخلفاء الراشدين الذين أخذوا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كيفية معرفة الفتن

ولهذا ينبغي أن يعلم أن الإنسان لا يمكن أن يعرف الفتنة إلا بمعرفة الحق الظاهر البين، وأن الإنسان لا يمكن أن يعرف قدر الظلام ومراتبه ودرجاته إلا وقد عاش في النور وهذا أمر معلوم، ومن عاش في نور يسير فإنه يشكل عليه ويؤثر عليه الظلام اليسير وهذا أمر معلوم، كما أنه في النور كذلك في الظلمة، وكذلك كما أنه أيضاً في الأمور المدركة بالنظر كذلك في الأمور المدركة بالسمع، وكذلك ما يطرأ على قلب الإنسان، فإن العوارض الدقيقة التي تطرأ على قلب الإنسان تتراكم حتى تكون هرماً كبيراً لا يشعر به الإنسان إلا وقد انصرف وانقلب.

ومعلوم أن انحراف الإنسان من جهة إلى جهة يشابهه انصراف قلب الإنسان من جهة إلى جهة، فإن الإنسان قد ينحرف شيئاً فشيئاً إذا كان في طريق قد اتجه شمالاً أو اتجه جنوباً، فإذا انحرف به الطريق شيئاً فشيئاً فإنه يظن أنه على جهته الأولى، كذلك بالنسبة للإنسان من جهة انصراف قلبه، إذا انصرف قلب الإنسان فتشرب شيئاً من الفتن شعرةً أو عوداً عوداً، فإنه حينئذ ينكر الحقائق فيحل مكان النور الظلمة ومكان الحق الباطل ومكان الكلام الصحيح والمعاني الحقة الكلام الخطأ والمعاني الباطلة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تعرض الفتن على القلوب عوداً عوداً ) ، وفي قوله عليه الصلاة والسلام جاء في رواية: (عوداً عودًا)، أي أن المراد بذلك: أنها تتكرر على نحو لا يدركه الإنسان حساً، فتتراكم تلك الفتن التي تعرض على القلوب حتى يشربها الإنسان ولا يدرك من ذلك شيئاً وهذا أمر معلوم.

لهذا ينبغي للإنسان أن يعلم أنه ينبغي له أن يحافظ على سلامة دينه، وكذلك أيضاً أن يدرك أن البعد عن مواضع الفتن لمن جهل حقيقتها وكذلك منافذها بالنسبة للوصول إلى قلب الإنسان أن هذا من أعظم مواضع السلامة، ولهذا حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مخالطة المشركين إذا أظهروا الباطل؛ وذلك أن في إظهار الباطل مع وجود النكران أو النكير في قلب الإنسان يجعل الإنسان يتشرب ذلك الباطل شيئاً فشيئاً حتى يستروحه، فإذا استروحه مرةً تلتها مرة أخرى، ثم بعد ذلك يقع الإنسان في استرواح الباطل وقبوله والبعد عن طريق الحق والهداية.

إن النبي صلى الله عليه وسلم -كما تقدم في حديث العرباض بن سارية- قد بين الحق وبين الضد المناقض له، وهذا ظاهر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور ) ، فهذا الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزوم طريق الحق فيه تضمين أو إشارة إلى وجود المناقض لذلك الطريق، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: تمسكوا بها، فإن المتمسك بشيء فيه إشارة إلى وجود من ينازعه في هذا الشيء، وكذلك لوجود زلزلة لقدمه حتى يضطرب أو يسقط، وهذا أمر معلوم، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى وجود مناقض لمن سلك هذا الطريق، فأمر بالتمسك به وليس السير عليه مجرداً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تمسكوا بها)، وأكد ذلك بقوله: (وعضوا عليها بالنواجذ)، والإنسان لا يمكن أن يعض على شيء بنواجذه إلا لوجود أحد يجذب ذلك الحق منه، فإن الإنسان يمسك بالشيء، وإمساكه بالشيء دليل على وجود منازعة، أو أن هذا الشيء الذي يمسك به لو لم ينازعه أحد بغيره فإنه ينازعه بذاته، فإن الحفاظ على الشيء ولو لم يكن ثمة أحد ينازعه فيه فإن الحق بذاته يحتاج إلى تمسك به وإلا غادر.

ولهذا حث وحض رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهمية معاهدة القرآن، ومعلوم أن القرآن من جهة اللفظ في ذاته لا ينتزعه شيء خارج عنه وإنما ينتزع ذاته، أعني القرآن ينتزع ذاته، والإنسان الذي لا يكرر القرآن ولا يتعاهد القرآن فإنه ينفلت منه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما: ( تعاهدوا القرآن؛ فوالذي نفسي بيده إنه لأشد تفلتاً من الإبل في عقلها ) ، والمراد بذلك أن الإنسان إذا لم يتعاهد الحق ويكثر من الإمساك به ولو لم يجذبه أحد، فإن ذلك يعني انصراف الحق بذاته على سبيل التدرج شيئاً فشيئاً حتى يغادر الحق من الإنسان ولا يبقى معه شيء.

ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن أعظم ما يستمسك به الإنسان للوقاية من طرق الشر هو الإمساك بالحق بذاته، فإن الإمساك بالحق بذاته يجعل الإنسان من أهل الثبات واليقين، وإذا استقر الحق في ذات الإنسان ولم يعده الإنسان من جهة التكرار وكذلك التأمل والنظر وكذلك الاعتبار بغيره، فإن الفائدة تلحق الأخرى معها، فإن الإنسان يضعف شيئاً فشيئاً؛ لأن ذلك الحق إذا زاح حل محله الباطل وهذا أمر معلوم ومشاهد، وهذا كما أنه في المعاني كذلك أيضاً في الأمور المحسوسة، وقد جعل الله جل وعلا كثيراً من أمور المعاني تشابه المحسوسات.

ونحن في المجالس القادمة بإذن الله جل وعلا وفي هذا المجلس بإذنه تعالى سنتكلم على جملة من الفتن, وتقرير جملة من المسائل التي تتعلق بالفتن، سواءً الفتن الحاضرة أو الفتن الغائبة، الفتن الباطنة أو الفتن الظاهرة، بحسب الحاجة إليه، والعالم والداعية والمبلغ عن الله جل وعلا ينبغي له أن يهتم بأمر نفسه من جهة ما يضطرب أو يشكل عليه من جهة معرفة الحق وكذلك تبليغه للناس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عاش مع أصحابه بما يحتاجون إليه من جهة جلب أسباب الخير وتكميلها، ودفع أسباب الشر وتنقصيها قدر الإمكان والوسع.

أيها الإخوة المسلمون! فإن من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى قد جعل هذا الدين بيناً واضحاً، وجعله محكماً، وجعل هذا الإحكام هو الأصل في هذه الشريعة، وجعل ثمة مناوءات ومناكفات لهذا الإحكام، وجعل الله سبحانه وتعالى ابتلاءات للإنسان في ماله وولده ودينه وكذلك نفسه، جعل الله جل وعلا هذه الابتلاءات تتنوع ويتقلب فيها الإنسان بين حين وآخر، وهذا ما يسمى بالفتن ابتلاءً واختباراً وامتحاناً من الله جل وعلا، وهي تتباين قوةً وكثرةً، وكذلك تتباين من جهة القلة والضعف، ومن جهة التكرار والتنوع.

وهذا من حكم الله سبحانه وتعالى ليميز الله جل وعلا الخبيث من الطيب، ولكي يقوى عود الإنسان, ويصلب قلبه؛ وذلك -كما لا يخفى- لأن الإنسان لا يمكن أن يكون من أهل الثبات والقوة إلا بمجموع ابتلاءات واختبار, كما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد واجه أنواع الفتن وقابلته سائر البلايا والمصائب، ولهذا أمر الله جل وعلا بسلوك نهجه والاهتداء بهديه، وعدم الخروج عن طريقه عليه الصلاة والسلام.

ولهذا من أراد النجاة وأراد الهداية وأراد التوفيق فليسلك طريق محمد صلى الله عليه وسلم، لهذا قال الله جل وعلا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] ، فمن كان متبعاً لمحمد صلى الله عليه وسلم فعليه بطريق محمد، ومن استوفى ذلك الطريق وأخذ بأسبابه بمجموع ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصل إلى الغاية كما وصل إليها النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قصرت به الهمة أو ضعف به النظر بقلة علم أو قلة إدراك أو غير ذلك، فإنه يقع فيه من الاضطراب والخطأ والزلل مما يؤثر على غاية الإنسان ومقصوده، وكذلك ضعف الثمار التي يصل إليها الإنسان، كذلك أيضاً مع بطأ يشرك سبيل الإنسان الذي يسلكه بالوصول إلى الغاية، فسبب ذلك هو القصور عن استيعاب منهج محمد صلى الله عليه وسلم.

لهذا من أراد النجاة فعليه بطريق محمد عليه الصلاة والسلام، والنجاة التي ربطها الله جل وعلا بنبينا هي النجاة في صالح الإنسان في آخرته ودنياه، مما يتعلق ذلك السبب بأمر الدنيا, وينعكس عليه مما يمتزج معه أمر الدين بأمر الدنيا، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أوصى أصحابه لم يوصهم عليه الصلاة والسلام بقول فلان وفلان، وإنما أرشدهم إلى قوله، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسند والسنن من حديث العرباض بن سارية : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظهم موعظةً بليغةً، فقالوا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ).

والنبي صلى الله عليه وسلم حينما أرشد أمته بالتمسك بطريقه بين النبي صلى الله عليه وسلم إلى وجود شيء من المنازعات لهذا الطريق من الأهواء والفتن والبلايا التي تكتنف ذلك الحق وذلك السبيل، وتلك الفتن وكذلك الصوارف التي تصرف الإنسان عن الطريق يتقلب فيها الإنسان من جهة القوة والكثرة والضعف والقلة، وذلك أن ما يطرأ على طريق الإنسان يرجع فيه من جهة تقبله إلى قوة الإنسان، فإن الفتن إذا كانت قوية في طريق الإنسان وكان من أهل الإيمان والثبات والعلم والدراية، كانت الفتن القوية بالنسبة له ضعيفة، وإن تزلزلت أقدام كثير من الناس الجهلة الذين لا يواجهون أو لا يوازون الأول من جهة الإدراك والمعرفة والإيمان والثبات.

لهذا نقول: إن حقيقة الميزان في معرفة الطريق الحق, وكذلك وزن العقبات ومعرفة الفتن يرجع في ذلك إلى قوة الإنسان من جهة استيعابه لمعاني ما أراده الله جل وعلا في كتابه العظيم، وما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن الناس من تكون الفتن الصغيرة لديه مجلبة إلى الانحراف والبعد عن المنهج الحق، ومن الناس من تكون الفتن العظيمة كبيرة القدر بالنسبة له هي كحال الصغائر عند غيره؛ لقوة ثباته، ومن نظر إلى أهل العلم والدراية في هذا -كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ربط الثبات بوجود أولئك لقربهم زمناً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك لمعرفتهم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وطريقه، وهذا كما جاء في الصحيح في حديث أبي بردة عن أبي موسى في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد ) ، والمراد بذلك هو ما تعلق بالصحابة عليهم رضوان الله تعالى من يقين وثبات ومعرفة بهدي محمد صلى الله عليه وسلم.

والنبي عليه الصلاة والسلام حينما قال: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ) ، كأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي يعرف قدر النبوة والخلافة بعده وهذا أمر معلوم، مع ذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أقواماً بعد كثير ممن يسمع منه هذا الخطاب، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بأولئك الخلفاء الراشدين الذين أخذوا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا ينبغي أن يعلم أن الإنسان لا يمكن أن يعرف الفتنة إلا بمعرفة الحق الظاهر البين، وأن الإنسان لا يمكن أن يعرف قدر الظلام ومراتبه ودرجاته إلا وقد عاش في النور وهذا أمر معلوم، ومن عاش في نور يسير فإنه يشكل عليه ويؤثر عليه الظلام اليسير وهذا أمر معلوم، كما أنه في النور كذلك في الظلمة، وكذلك كما أنه أيضاً في الأمور المدركة بالنظر كذلك في الأمور المدركة بالسمع، وكذلك ما يطرأ على قلب الإنسان، فإن العوارض الدقيقة التي تطرأ على قلب الإنسان تتراكم حتى تكون هرماً كبيراً لا يشعر به الإنسان إلا وقد انصرف وانقلب.

ومعلوم أن انحراف الإنسان من جهة إلى جهة يشابهه انصراف قلب الإنسان من جهة إلى جهة، فإن الإنسان قد ينحرف شيئاً فشيئاً إذا كان في طريق قد اتجه شمالاً أو اتجه جنوباً، فإذا انحرف به الطريق شيئاً فشيئاً فإنه يظن أنه على جهته الأولى، كذلك بالنسبة للإنسان من جهة انصراف قلبه، إذا انصرف قلب الإنسان فتشرب شيئاً من الفتن شعرةً أو عوداً عوداً، فإنه حينئذ ينكر الحقائق فيحل مكان النور الظلمة ومكان الحق الباطل ومكان الكلام الصحيح والمعاني الحقة الكلام الخطأ والمعاني الباطلة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تعرض الفتن على القلوب عوداً عوداً ) ، وفي قوله عليه الصلاة والسلام جاء في رواية: (عوداً عودًا)، أي أن المراد بذلك: أنها تتكرر على نحو لا يدركه الإنسان حساً، فتتراكم تلك الفتن التي تعرض على القلوب حتى يشربها الإنسان ولا يدرك من ذلك شيئاً وهذا أمر معلوم.

لهذا ينبغي للإنسان أن يعلم أنه ينبغي له أن يحافظ على سلامة دينه، وكذلك أيضاً أن يدرك أن البعد عن مواضع الفتن لمن جهل حقيقتها وكذلك منافذها بالنسبة للوصول إلى قلب الإنسان أن هذا من أعظم مواضع السلامة، ولهذا حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مخالطة المشركين إذا أظهروا الباطل؛ وذلك أن في إظهار الباطل مع وجود النكران أو النكير في قلب الإنسان يجعل الإنسان يتشرب ذلك الباطل شيئاً فشيئاً حتى يستروحه، فإذا استروحه مرةً تلتها مرة أخرى، ثم بعد ذلك يقع الإنسان في استرواح الباطل وقبوله والبعد عن طريق الحق والهداية.

إن النبي صلى الله عليه وسلم -كما تقدم في حديث العرباض بن سارية- قد بين الحق وبين الضد المناقض له، وهذا ظاهر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور ) ، فهذا الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزوم طريق الحق فيه تضمين أو إشارة إلى وجود المناقض لذلك الطريق، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: تمسكوا بها، فإن المتمسك بشيء فيه إشارة إلى وجود من ينازعه في هذا الشيء، وكذلك لوجود زلزلة لقدمه حتى يضطرب أو يسقط، وهذا أمر معلوم، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى وجود مناقض لمن سلك هذا الطريق، فأمر بالتمسك به وليس السير عليه مجرداً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تمسكوا بها)، وأكد ذلك بقوله: (وعضوا عليها بالنواجذ)، والإنسان لا يمكن أن يعض على شيء بنواجذه إلا لوجود أحد يجذب ذلك الحق منه، فإن الإنسان يمسك بالشيء، وإمساكه بالشيء دليل على وجود منازعة، أو أن هذا الشيء الذي يمسك به لو لم ينازعه أحد بغيره فإنه ينازعه بذاته، فإن الحفاظ على الشيء ولو لم يكن ثمة أحد ينازعه فيه فإن الحق بذاته يحتاج إلى تمسك به وإلا غادر.

ولهذا حث وحض رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهمية معاهدة القرآن، ومعلوم أن القرآن من جهة اللفظ في ذاته لا ينتزعه شيء خارج عنه وإنما ينتزع ذاته، أعني القرآن ينتزع ذاته، والإنسان الذي لا يكرر القرآن ولا يتعاهد القرآن فإنه ينفلت منه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما: ( تعاهدوا القرآن؛ فوالذي نفسي بيده إنه لأشد تفلتاً من الإبل في عقلها ) ، والمراد بذلك أن الإنسان إذا لم يتعاهد الحق ويكثر من الإمساك به ولو لم يجذبه أحد، فإن ذلك يعني انصراف الحق بذاته على سبيل التدرج شيئاً فشيئاً حتى يغادر الحق من الإنسان ولا يبقى معه شيء.

ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن أعظم ما يستمسك به الإنسان للوقاية من طرق الشر هو الإمساك بالحق بذاته، فإن الإمساك بالحق بذاته يجعل الإنسان من أهل الثبات واليقين، وإذا استقر الحق في ذات الإنسان ولم يعده الإنسان من جهة التكرار وكذلك التأمل والنظر وكذلك الاعتبار بغيره، فإن الفائدة تلحق الأخرى معها، فإن الإنسان يضعف شيئاً فشيئاً؛ لأن ذلك الحق إذا زاح حل محله الباطل وهذا أمر معلوم ومشاهد، وهذا كما أنه في المعاني كذلك أيضاً في الأمور المحسوسة، وقد جعل الله جل وعلا كثيراً من أمور المعاني تشابه المحسوسات.

ونحن في المجالس القادمة بإذن الله جل وعلا وفي هذا المجلس بإذنه تعالى سنتكلم على جملة من الفتن, وتقرير جملة من المسائل التي تتعلق بالفتن، سواءً الفتن الحاضرة أو الفتن الغائبة، الفتن الباطنة أو الفتن الظاهرة، بحسب الحاجة إليه، والعالم والداعية والمبلغ عن الله جل وعلا ينبغي له أن يهتم بأمر نفسه من جهة ما يضطرب أو يشكل عليه من جهة معرفة الحق وكذلك تبليغه للناس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عاش مع أصحابه بما يحتاجون إليه من جهة جلب أسباب الخير وتكميلها، ودفع أسباب الشر وتنقصيها قدر الإمكان والوسع.

ولهذا ينبغي للإنسان إذا أراد ثباتاً ويقيناً، أولاً: أن يعرف الحق بذاته، وهذا أمر قد تقدم الإشارة إليه، الأمر الثاني: أن يعرف الباطل، ومعرفة تفاصيله من الأمور المهمة، ولهذا كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى يستبصرون ويستفصلون في أمور الفتن، وكذلك يدققون ويتذاكرونها، وإن في مذاكرتها معرفةً لمواضعها ودقائقها، ولهذا قال حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله تعالى كما جاء في الصحيحين وغيرهما، قال: ( كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ فقال: نعم ) ، إلى آخر الخبر.

وفي ذلك أيضاً إشارة إلى ما جاء في الصحيح من حديث شقيق عن حذيفة بن اليمان قال: ( كنا جلوساً عند عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، فقال عمر: أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتن؟ فقال حذيفة : نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتنة الرجل في ماله وولده ونفسه تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى: ليس هذا الذي أريد، ولكن أريد الفتنة التي تموج كموج البحر ).

والمراد: بهذا أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى يهتمون بحسب الفتن التي يعيشونها، وأن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى في زمنه كان الناس في حال تقشف ولم يكونوا على أمر الانفتاح من جهة المال، مع إدراكه عليه رضوان الله تعالى أن الفتنة في أمر المال هي المجلبة لفتنة الرأي وفتنة القول، ولهذا قد روى ابن جرير الطبري في كتابه التفسير من حديث عمر بن الخطاب أنه قال: إذا وجد الماء وجد المال وإذا وجد المال وجدت الفتنة وهذا أمر معلوم، فإن الله عز وجل إذا بسط الرزق لعباده بغوا في الأرض، وقد روى ابن جرير الطبري أيضاً في كتابه التفسير عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال عند هذه الآية، قال: كانت العرب إذا كانوا في عام سنة انشغلوا بأنفسهم، وإذا كانوا في عام بسطة رزق اقتتلوا وقتل بعضهم بعضاً، وهذا أمر معلوم.

ومسألة المقاتلة قد لا تكون في مسألة رفع السلاح بالرماح, وكذلك السيوف وإراقة الدماء، وإنما قد يكون ذلك ببذل أو إطلاق اللسان بالوقيعة بالأعراض أو إطلاق آراء الكفر وغير ذلك، ولهذا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سباب المؤمن كقتله، وهذا أمر معلوم، فإن الإنسان إذا أطلق لسانه في عرض غيره فإن هذا مما يشابه استباحة دم الإنسان، ومعلوم أن الإنسان لا يمكن أن يقدم على إراقة دم غيره إلا وقد تسبب قبل ذلك أحد من الأطراف باستباحة عرضه، ومعلوم أن القتل لا يأتي إلا عن طريق اللسان، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في المسند والسنن من حديث معاذ بن جبل : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما قال معاذ : ( أنحن مؤاخذون بما نقول؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ) ، يعني: أن حصائد الألسنة هي التي تكب الإنسان في النار، وتتسبب بالفتنة، ولهذا لا يمكن أن تقع الفتنة من أعلاها وأدناها إلا بسبب إطلاق العبارة.

ونحن في زمن قد كثرت فيه الفتن وأعظمها فتنة هي فتنة إطلاق اللسان، وإطلاق اللسان ما يظهر فيه من كثير من إظهار الأقوال الباطلة من الكفريات وكذلك من النفاق والفسوق وغير ذلك، تحت عبارات متنوعة بما يسمى بحرية الرأي، أو ما يسمى بالنقد وغير ذلك ففتح الباب على مصراعيه، مما يحتاج معه المؤمن إلى معرفة الحق من جهة تأصيله وتقعيده ومعرفة الباطل وتأصيله وتقعيده، فإن الإنسان في بعض الأزمنة يكون أحوج إلى معرفة الباطل من معرفة الحق بذاته، وذلك لكثرة طرق الباطل، فإن طرق الباطل كثيرة وطريق الخير واحد.

ولهذا جاء في حديث أبي وائل عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ( خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، وخط عن يمينه وعن شماله خطوطاً فقال: هذا الصراط المستقيم، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها ) ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصراط المستقيم خطاً واحداً، وجعل السبل متنوعة وجعلها أيضاً من جهة العدد ومن جهة المكان، من جهة العدد متنوعة وكذلك كثيرة، ومن جهة المكان عن يمين وعن شمال، وذلك بحسب التفات القلوب، فإن من القلوب من تتشوف إلى طريق من الطرق كطريق أهل الغلو، ومن الناس من يتشوف إلى طريق أهل الانسلاخ فيلتفت يمنة.

كذلك أيضاً فإن شهوات الناس وتشوفهم للفتن يتنوع، فمن الناس من يلتفت إلى فتنة السمع, ومنهم من يتشوف إلى فتنة البصر، ومنهم من يتشوف إلى فتنة الفرج، ومنهم من يتشوف إلى فتنة الكلام، ومنهم من يتشوف إلى فتنة الفكر وغير ذلك، فتتنوع الفتن، فبحسب أهواء الناس تنوعت الطرق، ولهذا قال الله جل وعلا: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257] ، فسماها: ظلمات، وسمى الحق: نوراً، فجعله نوراً واحداً وجعل الظلمات متعددة، وذلك بحسب المشارب، ولهذا كان على كل طريق منها شيطان يدعو إليها.

والتبصر بمعرفة الطرق هذه يرجع إلى حكمة الإنسان ويرجع أيضاً إلى معرفة العالم المتبصر بخطورة هذه الفتن تراكماً، فإن العالم اليقظ وكذلك الداعية وكذلك العابد الصالح الذي يعرف مواضع الخطورة يعرف الفتنة المقبلة ويعرف الفتنة المدبرة، ويعرف الفتنة العظيمة ويعرف الفتنة الحقيرة، ومرد ذلك كله إلى معرفة العظيم والحقير, والكبير والصغير, والقوي والضعيف بما قدره الشارع من كلام الله جل وعلا, وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نقيم الشريعة بما قيمها الشارع، ونقيم الدنيا مما تركه الشارع لنا بما ننظر إليه، وما أعطانا الله جل وعلا من حس ومعرفة وإدراك، فالخلط في هذين البابين يجعل الإنسان يضطرب في هذا.

لهذا يقول العلماء: إن أهل العلم العارفين بمواضع الخير والشر هم أهل الإدراك والعناية، وهم أولى أن يستمع لقولهم؛ وذلك أن كثيراً من الناس ينظرون إلى دائرة واحدة وهي دائرة الشر، أو ينظرون إلى دائرة واحدة وهي دائرة الخير، فلا يميزون أولى مراتب الخير، وكذلك لا يميزون بين أدنى دركات الشر، وهذا الخلط يقع فيه كثير من العامة ويمتحن فيه كثير من العلماء حتى ينساق كثير من العلماء بأخذ الأدنى تلبيةً لرغبة العامة، وهذا من الجهل.

لهذا ينبغي للإنسان ألا يجامل في دين الله جل وعلا، وأن يقدم أمور الدين وأحكامه بحسب تقديم الله جل وعلا، وأن يأخذ الأشد فالأشد بحسب تأكيد الشارع عليه، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله جل وعلا عليه شريعته على سبيل التدرج، وهذا التدرج جاء بالأهم مع صعوبته وشدته؛ وذلك أن أعظم الأمور ثباتاً ورسوخاً في قلب الإنسان ما يفعله الإنسان على سبيل التعبد والتدين، فإن كفار قريش قد فتنوا بأمر الأصنام والأوثان، وأصلها هي من الأولياء والصالحين فصوروها ثم جعلوا لها أصناماً وتماثيل ثم عبدوها من دون الله جل وعلا، وهذه تتعلق بأفعالهم وأقوالهم في نومهم ويقظتهم، لا يغادر الإنسان إلا وقد تطير بشيء من أصنامهم واستقسم بالأزلام، وكذلك أيضاً في حال ولادة أحد له من ذكر أو أنثى، وكذلك في زواجهم، وكذلك أيضاً في ذبائحهم يهلون بها لغير الله، كذلك أيضاً في أقوالهم ومجالسهم وأيمانهم فتشربت قلوبهم بذلك، فمع كون هذا الأمر قد تشرب بقلوبهم ولكنه يتعلق بأمر التوحيد أكده رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل ما كان من أمر الدين ولو كان متأكداً دون أمر التوحيد، فرسخ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر التوحيد قدر وسعه وإمكانه، فدعا إليه بمكة مع جملة من فضائل الإسلام والإيمان، وكذلك مكارم الأخلاق التي تتوافق مع الفطرة وتحث على ما كان عليه كفار قريش مما يعضد هذا هذا، فإن في تصحيح أجزاء الفطرة تأسيساً وتقعيداً وتأكيداً أيضاً لذلك البساط الذي نشأ عليه، أو تلك القاعدة التي نشأ عليها بناء الإسلام.

إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين لأصحابه أحكام الدين جملةَ وتفصيلاً، فبين ما يحتاجه الناس بياناً فكان الكلام من الله جل وعلا وكذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم محكماً بيناً، ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7] ، فبين الله سبحانه وتعالى أن الأصل في الدين الوضوح والبيان، وهذا ظاهر أيضاً كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث النعمان بن بشير : قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحلال بين والحرام بين ) ، وهذا أيضاً ظاهر في قول الله جل وعلا: كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر:23] ، قد جاء عن عبد الله بن عباس و مجاهد بن جبر وغيرهم أنهم قالوا: يشبه بعضه بعضاً يصدق بعضه بعضاً ويؤكد بعضه بعضاً، ولا يكذب بعضه بعضاً.

وهذا يجعل الإنسان إذا أراد معرفة الحق فإنه يعرف بمعرفة الحق بذاته الباطل، فمن عرف الحق بالإجمال عرف الباطل بالإجمال، ومن عرف الحق بالتفصيل عرف الباطل بالتفصيل، ولهذا ينبغي للإنسان أن يقارن بين مراتب المعلومات قدر وسعه وإمكانه، وألا يوغل في جزئيات تذهب به هذه الجزئيات يمنةً ويسرةً، فيظن أنه قد أدرك من علوم الشريعة أو أدرك من مسائل الدين ما يركن إليه قلبه، أنه قد فعل شيئاً تطمئن إليه النفس، وقد ترك ما هو أولى من ذلك لذاته وكذلك لغيره.

ومعلوم أن من أعظم تلبيس إبليس على كثير من الناس، وكذلك أيضاً من العباد والصالحين والعلماء: أن يشغلهم بالمفضول عن الفاضل عند المزاحمة، أو قوة همة الإنسان بما لا يستطيع معه الشيطان أن يدفع تلك الهمة فيصرفها عن أمر فاضل إلى أمر مفضول، فيسرح الإنسان ويمرح في هذا الأمر المفضول، فحينئذ ينقص من الدين الظاهر بحسب انصراف الإنسان عنه، ولهذا كثير من الناس يسلون أنفسهم ببعض أنواع العبادة، وكذلك بعض أنواع الدعوة، ويظنون أنهم بذلك قد سلكوا طريق الهداية التامة، وإن كانوا قد تركوا ما هو أولى وأعظم من ذلك، فإن هذا نوع من التقصير والخلل، بل هو من الفتنة التي يفتن فيها الإنسان.

ومعلوم أن من ترك التوحيد وتقريره وانصرف إلى معرفة فضائل الإسلام والإيمان، وكذلك الأخلاق ومكارمها والآداب والسلوك التي دل عليها الإسلام، فأخذ يورد من الآيات والأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشبع معها نهم النفس المنصرفة إلى إرضاء الله، أو شعور الإنسان بشيء من التدين والتعبد لله، فينصرف إلى المفضول مع ترك الفاضل، فتقع حينئذ الفتنة فيفتن الإنسان في ذاته، ويفتن أيضاً غيره بانصراف الإنسان القدوة إلى الأمور المفضولة وترك الأمور الفاضلة.