خطب ومحاضرات
شرح عمدة الفقه - كتاب البيع [12]
الحلقة مفرغة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا تقبل هدية المقترض إلا أن يكون بينهما عادة قبل القرض].
الهدية من المقترض للمقرض لا تخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يكون ذلك بعد الوفاء، فإن هذا جائز، سواء كانت الزيادة والهدية في الكمية أو كان ذلك في الكيفية، مثاله في الكمية: اقترض منه ألف ريال، ثم بعد ذلك عند الوفاء رد ألفاً ومائة، في الكيفية اقترض منه مثلاً بُرَّاً متوسطاً فرد براً جيداً، ودليل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم (استسلف بكراً ورد خيراً منه رباعياً، وقال عليه الصلاة والسلام: خيركم أحسنكم قضاء).
فنقول: الهدية من المقترض للمقرض إذا كان ذلك بعد الوفاء أو مع الوفاء، أتاه بالدراهم وزادها، فنقول: بأن هذا جائز ولا بأس به؛ لما ذكرنا من الدليل على ذلك.
الأمر الثاني: أن تكون الهدية قبل الوفاء، فيأتي المقترض ويهدي للمقرض، فهذا غير جائز سواء كان ذلك بشرط، أو كان ذلك بغير شرط، وسواء كان ذلك في الأعيان، أو كان ذلك في المنافع، مثاله بشرط: أن يقول: أقرضتك عشرة آلاف ريال بشرط أن تعطيني كتاباً، هذه هبة عين، نقول: بأن هذا لا يجوز، أو يقول: بشرط أن تعيرني سيارتك أركبها لمدة يوم أو يومين، هذه هبة منفعة، نقول: هذه غير جائزة.
وذكرنا الدليل على ذلك، وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يحل سلف وبيع)، وأيضاً ما ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن كل قرض جر نفعاً فهو رِبا.
مثاله إذا كان بغير شرط: أهداه مثلا كتاباً، أو أهداه قلماً أو ثوباً أو طعاماً أو نحو ذلك من الهدايا، فهل هذا جائز أو ليس جائزاً؟ أو المنافع، أهداه مثلاً أن يسكن بيته، أن يستعمل سيارته قبل تمام الوفاء.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا تقبل هدية المقترض إلا أن يكون بينهما عادة قبل القرض).
نقول: حالات الأصل أن الهدية للمقرض من قبل المقترض أنها محرمة ولا تجوز؛ لما ذكرنا من الدليل على ذلك، يستثنى من ذلك:
الحالة الأولى: إذا كان بينهما عادة بالتهادي، يعني هذان قريبان، أو متجاوران وبينهما عادة في التهادي، هذا يهدي إلى هذا وهذا يهدي إلى هذا، فهنا الهدية ليست بسبب القرض، وإنما بسبب ما بينهما من قرابة أو من جوار وتهادي، فنفهم أن الهدية هنا ليست بسبب القرض، فنقول: بأن هذا جائز، هذه الحالة الأولى.
الحالة الثانية: إذا كان سيحتسب هذه الهدية من الدين، كما ورد ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فنقول: بأن هذا حكمه جائز، مثلاً هذا رجل اقترض من زيد، فجاء المقترض وأعطى المقرض كتاباً أو أعطاه قلماً أو ثوباً أو نحو ذلك من الهدايا من الأعيان أو المنافع، فنقول: إذا كان المقرض سيحتسب ذلك من الدين، مثلاً أقرضه ألف ريال، هذا الكتاب قيمته تساوي عشرين ريالاً، أو تساوي ثلاثين ريالاً، وسيحسب هذا من الدين، يطرح عشرين ريالاً قيمة الكتاب، فنقول: بأن هذا جائز ولا بأس به إن شاء الله، ما دام أن المقرض سيحسب هذا من الدين.
ويدل على ذلك أن هذا وارد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فإن رجلاً اقترض منه سماك، يعني رجل يبيع السمك، فكان السماك يعطيه من السمك، فسأل هذا الرجل الذي أقرض هذا السماك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن هذا السمك الذي يأخذه منه؟ فقال: إن كنت تريد أن تحسبه من دينه وإلا فرده عليه، فنقول: بأن هذا جائز إذا كان يريد أن يحسبه من دينه.
الحالة الثالثة: إذا كان هذا الشيء مما جرت به عادة الناس، وهذا يكون في الدعوات، يعني لو أن المقترض أضاف المقرض في بيته، يعني دعاه إلى البيت وأدخله البيت وأطعمه، أحضر له مثلا تمراً أو أحضر له مشروباً ونحو ذلك، هل يحسب هذا التمر الذي يأكله؟ المقرض الآن أكل هذا التمر في بيت المقترض، أو شرب هذا الشراب في بيت المقترض، هل يحسب ذلك أو لا يحسب ذلك؟
هذا موضع خلاف، قال بعض العلماء: يحسب مثل هذه الأشياء، فإذا أكل عنده تمراً يحسب قيمة التمر، وإذا شرب عنده شيئاً يحسب قيمة هذا الشراب، فهذه الأشياء يقوم بحسبانها .
والرأي الثاني: أن هذا يرجع إلى العادة، إذا كانت مثل هذه الأشياء تبذل، يعني إذا كان هذا المقترض بذل هذا الشيء للمقرض، ولو لم يقرضه لبذل له ذلك، هذه أمور جرت بها العادة، فنقول: بأن هذه لا تحتسب، أما إذا كانت خارجة عن العادة فإنه يقوم بحسابها, إذا تكلف له شيئاً خارجاً عن العادة، فنقول: بأن المقرض يقوم بحساب هذا الشيء الذي أكله عند المقترض ويخصمه من الدين.
فتلخص لنا أن الهدية إذا كانت قبل الوفاء فالأصل أنها لا تجوز، وذكرنا الدليل على ذلك إلا في ثلاثة مواضع:
الموضع الأول: إذا كان بينهما تهادي.
الموضع الثاني: إذا كان يريد أن يحسبه من الدين.
الموضع الثالث: فيما يتعلق بالدعوات والإضافة، هذا نقول: فيه تفصيل، إن كان هذا الشيء مما جرت به العادة، فإن المقرض لا يحسبه، وإن كان هذا الشيء خارج عن العادة فإنه يحسبه.
تعريف الدين
الدين هو كل ما وجب في الذمة، سواء كان بمقابل أو بغير مقابل، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله.
والرأي الثاني رأي الحنفية قالوا: بأن الدين هو ما ثبت في الذمة إذا كان بمقابل.
والصواب في ذلك ما ذكره جمهور أهل العلم، فنقول: الدين هو كل ما ثبت في الذمة، سواء كان بمقابل أو كان بغير مقابل.
مثال الذي بمقابل: ثمن المبيع، إذا اشتريت شيئا بثمن مؤجل، فهذا الثمن في ذمتك يكون ديناً، إذا اشتريت شيئاً بثمن مؤجل فنقول: هذا الثمن في ذمتك يسمى ديناً، أيضاً إذا اقترض منه قرضاً نقول: هذا يسمى ديناً، أيضاً إذا تزوج امرأة على صداق مؤجل، فهذا الصداق في ذمة الزوج يسمى ديناً، أيضاً قيم المتلفات أروش الجنايات هذه كلها تسمى ديوناً، فمثلاً لو أنه أتلف سيارته وتحتاج إلى ألف ريال، فهذه الألف في ذمة المتلف تسمى ديناً، أيضاً أروش الجنايات، لو أنه جنى عليه جناية وهذه الجناية قدرها كذا وكذا فنقول: بأن ذلك يسمى ديناً.
المهم نفهم من ذلك أن الدين هو ما ثبت في الذمة سواء كان بمقابل أو بغير مقابل، مثل الزكاة، فمثلاً إذا حال الحول وجب على التاجر أن يخرج الزكاة، زكاته مثلاً تساوي ألف ريال، أو تساوي ألفي ريال، فنقول: هذه الألف في ذمة التاجر تسمى ديناً، وإن كانت بغير مقابل.
مطالبة المدين بالدين قبل أجله
الدين ينقسم إلى قسمين:
ديون مؤجلة، وديون حالّة، والمدين ينقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: المعسر، والقسم الثاني: الواجد، والواجد تحته صورتان، والقسم الثالث: المفلس الذي يحجر عليه القاضي كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
هنا شرع المؤلف رحمه الله في بيان حكم الدين المؤجل فقال: (من لزمه دين مؤجل لم يطالب به قبل أجله).
من لزمه دين مؤجل لم يطالب به قبل أجله، ودليل ذلك قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، والأمر بإيفاء العقد يتضمن الأمر بإيفاء أصله ووصفه، ومن وصفه الشرط فيه، فإذا اشترط التأجيل مثلاً في ثمن المبيع، فنقول: يجب أن يكون مؤجلاً ،ولا يجوز أن يطالب المشتري، يدل على ذلك حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم).
وأيضاً التأجيل حق مالي، وإذا كان كذلك فإنه لا يملك مَنْ له الدين أن يطالب من عليه الدين؛ لأنه يستحق هذا التأجيل.
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله في قوله: من لزمه دين مؤجل لم يطالب به قبل أجله، أن ذلك يشمل القرض وغيره, فالقرض ما يطالب به المقترض قبل أجله، وثمن المبيع إذا كان مؤجلاً لا يطالب به المشتري، فظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن هذا يشمل القرض وغيره.
وسبق لنا أن المؤلف رحمه الله يرى أن القرض لا يتأجل بالتأجيل، وهذا هو المذهب، وعلى هذا لو أقرضه ألف ريال لمدة سنة، فإن المقرض يملك مطالبة المقترض حالّاً، ولا يتأجل بالتأجيل، وسبق أن ذكرنا رأي الإمام مالك رحمه الله، وأن القرض يتأجل بالتأجيل، والصواب في هذه المسألة أن القرض يتأجل بالتأجيل، وعلى هذا لا فرق بين القرض وغيره من الديون، وأنها إذا كانت مؤجلة فإن صاحب الدين لا يملك مطالبة المدين قبل حلول الأجل، كما هو ظاهر كلام المؤلف رحمه الله هنا.
قال: (ولم يحجر عليه من أجله).
لم يحجر عليه من أجله؛ لأنه لا يستحق المطالبة به قبل أجْله، قبل أجَله، يعني القاضي لا يحجر على هذا المدين الذي عليه دين مؤجل؛ لأنه لا يطالب به قبل حلول الأجل، وإذا كان كذلك فإنه لا يحجر عليه، مثال ذلك: هذا زيد عليه مليون ريال مؤجل لمدة سنة، فجاء صاحب الدين وقال للقاضي: أنا أريد من زيد مليون ريال، أحجر عليه، هل يحجر عليه القاضي أو نقول: بأن القاضي لا يحجر عليه؟
نقول: لا يحجر عليه القاضي، لماذا؟ لأنك أنت ما تملك أن تطالبه بوفاء الدين؛ لأنه مؤجل، لا يجوز أن تطالب ما دام أنه مؤجل، وهو يستحق أن يؤخر، إذا كان كذلك فإنك ما تملك أن تطالبه.
مدى حلول الدين المؤجَّل إذا أفلس المدين أو توفي
يقول المؤلف رحمه الله: إذا فُلِّس لا يحل, مثال ذلك : هذا رجل عليه دين، وعنده مال، الدين الذي عليه مائة ألف، والمال الذي عنده يساوي خمسين ألفاً، هذا له مال وعليه دين، هذا المدين الذي له مال وعليه دين يحجر عليه بطلب الغرماء كلهم أو بعضهم، لكن لو كان هذا الدين الذي عليه -وهو مائة ألف ريال- بعضه مؤجل، وحجر القاضي على هذا الشخص كما سيأتينا، هل الدين المؤجل يحل بتفليس القاضي للمدين أو لا يحل؟ نقول: بأنه لا يحل؛ لأن التأجيل كما سلف حق.
نعيد صورة المسألة، هذا رجل عليه دين قدره مائة ألف ريال، وله مال قدره خمسون ألف ريال، هذا الذي يحجر عليه عند العلماء، مدين عليه ديون، وعنده أموال، لكن الأموال لا تفي الديون، أقل من الديون، فهذا يحجر عليه بطلب الغرماء كلهم أو بعضهم.
هذه المائة التي هي دين بعضها مؤجل، تسعون ألف حالّة، وعشرة مؤجلة، فحجر القاضي عليه، لما حجر عليه, الدين المؤجل هل يحل بحجر القاضي أو نقول: بأنه لا يحل؟
يقول المؤلف رحمه الله: لا يحل، فيبقى المؤجل مؤجلاً، ولا يملك صاحبه أن يطالب به حتى يحل.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا بموته).
هل يحل بالموت أو لا يحل بالموت؟ هذا رجل اشترى من زيد سيارة بعشرة آلاف مؤجلة، زيد يملك العشرة لكنها مؤجلة، مات المشتري بعد أن مضى شهر، بقي لكي يحل الثمن أحد عشر شهراً، هل نقول بأنه بموت المدين الذي هو المشتري حلّ الدين الذي في ذمته، أو نقول: يبقى مؤجلاً؟
قال المؤلف رحمه الله: [إذا وثقه الورثة برهن أو كفيل].
فنقول: إن قام الورثة وأعطوا الدائن رهناً؛ لأنهم ربما يقتسمون التركة ويضيع حق الدائن، إذا أعطوه رهناً أو كفيلاً أو ضميناً، هل يحل أو لا يحل؟ نقول: بأنه لا يحل، أما إذا لم يفعلوا ذلك لم يوثقوا لا برهن ولا بضمين ولا كفيل فنقول: بأنه يحل, لماذا؟ نحافظ على حق الدائن، وأيضاً إبراء لذمة الميت؛ لأن الورثة إذا قلنا: بأن هذا الدين حتى الآن لم يحل، ربما اقتسموا التركة، ثم إذا حل الدين وجاء صاحب الدين يطالب لم يجد شيئاً، فنقول: لابد أن الورثة يوثقون برهن أو بضمين أو كفيل، لابد أن يوثقوا بذلك.
سفر المدين قبل حلول الدين
هذا يدل على خطر الدين، ومع ذلك اليوم كثير من الناس يتهاونون بالدين، كثير من الفقهاء يقولون: إذا أراد سفراً له أنه يمنعه منه، إذا أراد أن يذهب إلى الجهاد التطوع له أن يمنعه، فإذا أراد سفراً يحل الدين قبل مدته، يعني قبل مدة السفر، أراد مثلاً الذهاب إلى مكة، الذهاب إلى مكة يستغرق عشرين يوماً، والدين يحل بعد عشرة أيام، يملك صاحب الدين أن يمنع المدين من السفر ما دام أنه سيحل قبل أن يقدم، إلا إن وثقه برهن أو كفيل أو ضمين، إن وثقه برهن أو كفيل أو ضمين فإن هذا لا بأس به، لكن إذا لم يوثق نقول: ليس له أن يسافر إذا لم يوثق.
ويفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن الدين إذا كان يحل بعد قدومه ليس له أن يمنعه.
إذا أراد المدين السفر له حالتان:
الحالة الأولى: أن يحل قبل قدومه، فله أن يمنعه إلا أن يوثقه.
الحالة الثانية: أن يقدم قبل أن يحل الدين، فهذا لا يملك أن يمنعه.
مثله أيضاً الغزو تطوعاً، يعني إذا أراد أن يذهب للغزو التطوع، لا يملك صاحب الدين أن يمنعه إلا أن يوثق ذلك برهن أو بكفيل أو ضمين، حتى إذا كان سيقدم قبل حلوله، لأن الغزو موضع خطر، فما يملك أن يسافر للغزو إذا كان تطوعاً إلا بعد إلا أن يوثق برهن أو ضمين أو كفيل.
ويفهم من قول المؤلف رحمه الله: الغزو تطوعاً، أن الغزو إذا كان واجباً لا يملك أن يمنعه.
إنظار المدين المعسر
هذا القسم الثاني من أقسام الديون، القسم الأول: المؤجل، تقدم الكلام عليه، وذكر المؤلف رحمه الله من أحكام المؤجل.
الحكم الأول: أنه لا يطالب المدين قبل الأجل، والثاني: أنه لا يحجر عليه من أجل المؤجل، لا يحجر عليه إلا من أجل الحال، وأنه لا يحل بفلسه ولا بموته، هذه أربعة أحكام، وإذا أراد السفر أو الغزو, فذكر المؤلف رحمه الله للدين المؤجل ستة أحكام، ثم بعد ذلك شرع في الدين الحال.
الذي عليه دين حال لا يخلو من أمور، عليه دين حال، عليه مائة ألف ريال حالة، خمسون ألفاً ... إلى آخره، نقول: من عليه دين حال لا يخلو من أمور:
الأمر الأول قال المؤلف: (وإن كان حالّاً على معسر وجب إنظاره)، الأمر الأول: أن يكون المدين معسراً، مَن هو المعسر؟ المعسر هو الذي لا يقدر على الوفاء، فما الحكم بالنسبة للمعسر؟
نقول: تحته أحكام:
الحكم الأول: يجب إنظاره؛ لأن الله عز وجل قال: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، لا يجوز لك أن تطالبه، يجب عليك أن تنظره، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:185]، أي: الواجب نظرة إلى ميسرة، ينظر إلى أن تتيسر أموره.
الحكم الثاني: يُسن إبراؤه، يسن أن تبرئه ما دام أنه فقير ومعسر؛ لأن هذا من تفريج كربة المسلم كما ثبت في الحديث: (من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، فنقول: يسن لك أن تبرئه من هذا الدين، هذا الحكم الثاني.
الحكم الثالث: أنه يحرم الحجر عليه، القاضي ما يحجر عليه؛ لأنه ما الفائدة أن يحجر عليه؟ ليس هناك مال حتى يحجر عليه ويمنع من التصرف.
الحكم الرابع: أنه لا يجوز طلبه ولا مطالبته، ما يجوز أن تذهب إليه تطرق عليه الباب إذا كان فقيراً، تعرف أنه فقير وتقول: أعطني المال، هذا طلبه، ومطالبته أن تذهب إلى القاضي في المحكمة تطالبه بالدين وهو معسر، هذا ما يجوز، فلا يطالب ولا يطلب منه، ويجب إنظاره، ويسن إبراؤه، ولا يحجر عليه.
تحليف من ادعى الإعسار
هذا الحكم الخامس، إذا ادعى الإعسار قال: أنا معسر، نقول: احلف، فإذا حلف خلينا سبيله، ما الفائدة أن نحبسه؟ ليس هناك فائدة، فنقول: إذا ادعى الإعسار فإنه يحلف ويخلى سبيله.
قال المؤلف: (إلا أن يعرف له مال قبل ذلك فلا يقبل قوله إلا ببينة).
يعني نعرف أن هذا الرجل كان صاحب مال، فكيف يدعي الإعسار الآن؟! فلابد من بينة، قد يقول: أنا عندي مال، لكن المال احترق، تأتي ببينة، قد يقول: بأن المال كان في تجارة وخسر، أو في زراعة وهلكت أصابتها الآفات ونحو ذلك، فنقول: لابد أن يأتي ببينة تشهد على ما قال، أن يأتي ببينة تبين صدق قوله.
مطل الغني
هذا القسم الثاني: أن يكون موسراً، والموسر هو الذي يقدر على الوفاء، ماله أكثر من دينه، فعنده مائة ألف وعليه دين يساوي ثمانين ألفاً، فهذا نقول: بأنه موسر.
الموسر تحته أحكام:
الحكم الأول: قال: (لزمه الوفاء), يجب عليه أن يوفي الناس حقوقهم، الدين حال وأنت موسر يجب عليك أن توفي الناس حقوقهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليُّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته)، وفي لفظ: (مطل الغني ظلم)، المطل هو التأخير في القضاء، سماه النبي صلى الله عليه وسلم ظلماً، والظلم محرم يحل عرضه وعقوبته.
نقول: إذا كان واجداً موسراً، والواجد هو الذي ماله أكثر من دينه, يترتب عليه أحكام:
الحكم الأول: أنه يجب عليه الوفاء، ويحرم عليه المطل.
الحكم الثاني: أنه يحل عرضه وعقوبته، عرضه بأن تقول للقاضي: فلان ظلمني، فلان مطلني حقي، سَوَّفْ في التأخير... إلى آخره، عقوبته أن القاضي يعزره بما يردعه، القاضي يعزره بما يردعه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن أبى حبس حتى يوفيه].
هذا من العقوبة، إذا أبى أن يوفي فإن القاضي يحبسه حتى يوفي.
الحكم الثالث: أنه إذا امتنع بالكلية من الوفاء، فإن القاضي يبيع ماله ويوفي الدين الذي عليه.
بقينا في القسم الثالث: من كان ماله مساوياً لدينه، مثال ذلك عنده مائة ألف، وعليه مائة ألف، فهذا حكمه حكم القسم الثاني، نقول: بأن هذا واجد، ويكون حكمه حكم القسم الثاني.
الحجر على المدين
هذا القسم الرابع، وهو الذي ماله أقل من دينه، دينه أكثر من ماله، هذا الرجل عنده مال وعليه دين، الدين الذي عليه يساوي مائة ألف، أو يساوي مليون، وعنده مال يساوي مائة ألف أو مائتي ألف، فهذا هو الذي يحجر عليه، هذا القسم هو الذي يحجر عليه.
وسيتكلم المؤلف رحمه الله عن أحكام الحجر، فنقول: هذا هو الذي يحجر عليه القاضي بطلب الغرماء كلهم أو بعضهم، إذا طلب الغرماء الحجر عليه كلهم أو بعضهم فإنه يحجر عليه، ويسمى عند الفقهاء بالمفَلَّسْ، المعسر يسمى المُفْلِسْ، الذي ما عنده شيء يسمى المُفْلِسْ، أما هذا الذي عنده مال، لكنه ما يوفي الدين الذي عليه يسمى بالمُفَلَّسْ.
فالحكم الأول: أنه يحجر عليه القاضي بطلب الغرماء كلهم أو بعضهم، وهذا ما عليه ابن حجر ، وهو موضع خلاف، فجمهور أهل العلم يرون الحجر، واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله، وقالوا أيضاً: إن وفاء الدين حكمه واجب، والحجر من طرق وفاء الدين، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وعند الحنفية أنه لا يحجر عليه، قالوا: لأن الحجر عليه إهدار لأهليته، وإلحاق له بالبهائم! وهذا لا يُسَلَّم، فنقول: الصواب أنه يحجر عليه, نحن حجرنا على ماله، فلا يتصرف في هذا المال؛ لأنه تعلق به حق الناس، فلابد أن نعطي الناس حقوقهم، ولا يلزم من كوننا نستولي على ماله ونمنعه من التصرف فيه لكي يقسمه على الغرماء أن نكون قد أهدرنا أهليته وكرامته وألحقناه بالبهائم، هذا غير مُسَلَّم.
هذا الحكم الأول: أنه يحجر عليه بطلب الغرماء كلهم أو بعضهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمه إجابتهم، فإذا حجر عليه لم يجز تصرفه في ماله، ولم يقبل إقراره عليه].
هذا الحكم الثاني: أن الحجر يتعلق بأعيان ماله دون ذمته، فمثلاً هذا الرجل عليه دين وعنده سيارتان، وعنده قطعة أرض، وعنده مثلاً عشرة آلاف, عليه مائة ألف أو مليون فرضاً وعنده سيارتان ... إلى آخره، سيأتينا أن الذي يُحجر عليه يُترك له ما يحتاجه كما سيأتي بيانه إن شاء الله، فعنده سيارتان، السيارة الثانية لا يحتاجها نستولي عليها، عنده قطعة أرض زائدة نستولي عليها، حتى قال العلماء: إذا كانت بيته واسعاً نبيع البيت هذا، ونشتري له بيتاً بقدره.
فالمهم أن الذي لا يتعلق بحاجته يحجر عليه القاضي، ثم بعد ذلك يمنع من التصرف فيه.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [22] | 2513 استماع |
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [1] | 2461 استماع |
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [4] | 2439 استماع |
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [12] | 2420 استماع |
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [2] | 2394 استماع |
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [14] | 2349 استماع |
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [2] | 2348 استماع |
شرح عمدة الفقه - كتاب النكاح [1] | 2310 استماع |
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [23] | 2303 استماع |
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [6] | 2299 استماع |