شرح عمدة الفقه - كتاب النكاح [1]


الحلقة مفرغة

مناسبة جعل الفقهاء لأبواب النكاح بعد العبادات والمعاملات

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كتاب النكاح].

يبدأ العلماء والفقهاء في تآليفهم بأحكام العبادات، ثم بعد ذلك يثنون بأحكام المعاملات، والمعاملات تشتمل على أحكام المعاوضات والتبرعات, ثم بعد ذلك يثلثون بأحكام الأنكحة, ثم يربعون بعد أحكام الأنكحة بأحكام الحدود والقصاص، ثم يختمون بأحكام القضاء.

وإنما يبدأ العلماء رحمهم الله بأحكام العبادات لأمور, منها:

أن العبادات مبناها على التوقيف, والأصل فيها المنع والحظر، فلا يتعبد لمسلم بعبادة من العبادات إلا بعبادة جاءت في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, فالأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم الدليل على شرعية هذه العبادة.

وأيضاً حاجة الإنسان إلى العبادة أشد من حاجته إلى المعاملة, إذ إن الإنسان تصح منه العبادة إذا بلغ التمييز إلا الحج والعمرة, الحج والعمرة لا يشترط في ذلك التمييز, فالوضوء يصح من الصبي إذا ميز وفهم الخطاب ورد الجواب, يصح منه الوضوء، ويصح منه العسل، ويصح منه التيمم، وتصح صلاته وصيامه, الحج والعمرة لا يشترط في ذلك التمييز؛ ولهذا بدأ العلماء بأحكام العبادات.

ويبدءون من أحكام العبادات بالصلاة ويفتتحون الصلاة ويقدمون لها بأحكام الطهارة, وإنما قدموا أحكام الطهارة؛ لأن الطهارة مفتاح الصلاة, كما تقدم من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )؛ لأن التخلي قبل التحلي, فالإنسان يتخلى من الحدث، ومن الخبث ثم بعد ذلك يتحلى بالوقوف بين يدي الله عز وجل.

ويبدءون بالصلاة؛ لأن الصلاة أهم العبادات, فهي الركن الثاني من أركان الإسلام.

وأيضاً اتباعاً لترتيب أركان الإسلام كما ورد في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت ).

فيبدءون بالصلاة ويفتتحون الصلاة ويقدمون لها بأحكام الطهارة ثم بعد ذلك يثنون بالزكاة؛ لأن الزكاة حولية؛ ولأنها قرينة الصلاة في كتاب الله عز وجل فيما يقرب من ثلاثة وثمانين موضعاً.

ثم بعد ذلك يثلثون بأحكام الصيام، ثم بعد ذلك يربعون بأحكام الحج؛ لأن الحج عمري، وأما الصيام فهو حولي.

ثم بعد أحكام العبادات يشرعون بأحكام المعاملات, ويبدءون من أحكام المعاملات بأحكام المعاوضات كالبيع وشروط البيع والشروط في البيع وأحكام الخيارات، وما يتعلق أيضاً بأحكام التوثقات أو عقود التوثقات, كعقد الرهن وعقد الضمان وعقد الكفالة, وأيضاً أحكام الشركات وما يتعلق بذلك, أو ما يلحق بذلك من أحكام المعاوضات، ثم بعد أن يتكلموا عن أحكام المعاوضات يتكلمون عن أحكام التبرعات.

وإنما قدموا أحكام المعاوضات على أحكام التبرعات؛ لأن أحكام المعاوضات يحتاج إليها الإنسان أكثر من أحكام التبرعات, فلا يمر على الإنسان يوم إلا وهو يحتاج إلى البيع والشراء، فهو محتاج إلى السلع التي بيد الآخرين, والآخرون محتاجون إلى ما بيده من الأثمان.

وبعد أن يتكلموا على أحكام المعاوضات يشرعون في أحكام التبرعات كأحكام الهبة والعطية وأحكام الوصايا وأحكام العتق، وأيضاً أحكام الوقف وما يلحق بذلك من أحكام الإرث.

ثم بعد أن يتكلموا عن أحكام المعاملات سواء كان ما يتعلق بأحكام المعاوضات أو أحكام التبرعات يشرعون بأحكام الأنكحة, وإنما أخروا أحكام الأنكحة بعد أحكام المعوضات؛ لأن النكاح لا يحتاج إليه الإنسان إلا في زمن معين, وهو ما بعد البلوغ بخلاف أحكام المعاوضات والتبرعات، فيحتاج إليها الإنسان قبل البلوغ, فيشرعون في أحكام الأنكحة، وما يتعلق بحكم النكاح وأركانه وشروطه وأحكام الصداق، وأيضاً ما يتعلق بذلك أو ما يلحق به من أحكام الشروط في النكاح, وأحكام العيوب وأحكام وليمة العرس.. إلخ.

ثم بعد ذلك يشرعون بأحكام الفسوخات: ما يتعلق بفسخ النكاح وإبطاله كأحكام الطلاق وأحكام الخلع.. إلخ.

ثم بعد ذلك يربعون بأحكام الحدود والقصاص, وإنما أخروا أحكام الحدود والقصاص لأمرين:

الأمر الأول: أن الإنسان إذا حصلت له شهوة البطن، وحصلت له شهوة الفرج قد يحمله ذلك على الأشر والبطر فيعتدي, فشرع ما يتعلق بأحكام الحدود والقصاص؛ لأن الإنسان إذا باع واشترى فإنه سيحصل له شهوة البطن, وإذا نكح ستحصل له شهوة الفرج، فقد يحمله ذلك على شيء من الأشر والبطر والتعدي والظلم فشرع ما يتعلق بأحكام الحدود والقصاص.

الأمر الثاني: الأصل في هذه الأشياء ألا تقع من المسلم, يعني: ما يتعلق بأحكام القصاص والحدود الأصل أن المسلم لا تقع منه هذه الأشياء, فأخر الكلام عليها.

ويبدءون بأحكام القصاص -فيما يتعلق بالجناية على النفس، وفيما يتعلق على ما دون النفس- قبل أحكام الحدود؛ لأن أحكام القصاص متعلقة بحق الآدمي وأما أحكام الحدود فهي متعلقة بحق الله عز وجل.

ثم بعد ذلك يختمون بأحكام القضاء؛ لأن أحكام القضاء لا يحتاج إليه في الغالب إلا شخص واحد وهو القاضي.

تعريف النكاح وبيان حكمه

النكاح في اللغة: يطلق على معانٍ منها الضم والتداخل, ويقال: تناكحت الأشجار إذا حصل بينها شيء من الضم والتداخل.

وأما في الاصطلاح: فهو عقد يفيد حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر. والأصل في النكاح من حيث الدليل الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فالآيات في ذلك كثيرة من ذلك قوله سبحانه وتعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، ومن ذلك أيضاً قول الله عز وجل: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32].

وأما السنة أيضاً فالأحاديث في ذلك كثيرة، وسيأتي إن شاء الله طرف منها, فمن ذلك ما أورده المؤلف رحمه الله من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )، وقال: النبي صلى الله عليه وسلم, في حديث أنس وفي حديث معقل رضي الله تعالى عنهما: ( تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ).

والإجماع قائم على شرعية النكاح.

واختلف العلماء رحمهم الله في أصل النكاح, هل الأصل في النكاح الوجوب يعني: يجب على الإنسان أن يتزوج, أو الأصل في ذلك السنية وقد يخرج إلى الوجوب؟

اختلفوا في ذلك على رأيين:

الرأي الأول: وهو ما يفيده كلام المؤلف رحمه الله وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد وهو قول جمهور أهل العلم: أن الأصل في النكاح السنية, وأنه ليس واجباً، لكن قد يخرج ذلك إلى الوجوب كما سنشير إلى ذلك إن شاء الله تعالى.

والرأي الثاني: رأي الظاهرية أن الأصل في النكاح الوجوب.

ولكل من هذين القولين دليل:

أما الذين قالوا: بأن الأصل في النكاح السنية وليس واجباً لكن قد يخرج إلى الوجوب استدلوا على ذلك بأدلة، منها: قول الله عز وجل: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]. قالوا: بأن الله عز وجل علق النكاح على الاستطابة، ولو كان واجباً لم يعلق على استطابة الإنسان.

وكذلك أيضاً استدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم )، فالنبي عليه الصلاة والسلام جعل الصوم بديلاً عن النكاح, والإجماع قائم على أن الصوم غير واجب في غير شهر رمضان, فكذلك أيضاً المبدل منه الذي هو النكاح من باب أولى أن لا يكون واجباً.

وكذلك أيضاً استدلوا بحديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ : ( إنك تأتي قوماً من أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم )، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الفرائض ما يتعلق بالنكاح.

وكذلك أيضاً ما ثبت في الصحيح من حديث أنس وحديث طلحة بن عبيد الله في قصة الرجل الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن فرائض الإسلام، فذكر له النبي عليه الصلاة والسلام فرائض الإسلام، ومع ذلك لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الفرائض النكاح، وإنما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة، الزكاة..الخ, ولم يذكر النبي عليه الصلاة والسلام النكاح.

أما الذين قالوا: الأصل في النكاح الوجوب، استدلوا على ذلك بأدلة، منها:

الأوامر الواردة في النكاح كقول الله عز وجل: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32] .

وأيضاً حديث ابن مسعود : ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج )، قالوا: هذه الأوامر تدل على الوجوب.

والأقرب في ذلك هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وهو أن الأصل في النكاح السنية, وأنه سنة وليس واجباً، بمعنى: لو أن الإنسان ترك هذا النكاح ولم يتزوج فإننا لا نقول بتأثيمه، ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه أنه ألزم أحداً من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالنكاح.

فالأقرب في ذلك أنه سنة، لكن يخرج عن هذه السنة إلى الوجوب إذا خاف الزنا بتركه, قال العلماء رحمهم الله: إذا خاف الإنسان على نفسه الزنا إذا ترك النكاح فإنه يكون واجباً؛ لأن ترك الزنا واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وقال ابن قدامة رحمه الله: إذا خاف على نفسه فعل المحظور، وعنده القدرة على النكاح فإنه يجب عليه أن يتزوج, فقوله رحمه الله: إذا خاف على نفسه فعل المحظور، هذا أشمل وأعم من قول من قال: إذا خاف على نفسه الزنا, مثل: الاستمناء إذا خاف على نفسه أنه إذا لم يتزوج يؤدي به ذلك إلى فعل المحرم كالاستمناء أو النظر إلى النساء الأجنبيات, فإنه في هذه الحالة يجب عليه أن يتزوج.

فأصبح عندنا النكاح سنة، ويجب قيل: إذا خاف على نفسه الزنا بتركه, والرأي الثاني أعم من ذلك: أنه إذا خاف على نفسه فعل المحظور فإنه يجب عليه أن يتزوج.

فضل النكاح

قال المؤلف رحمه الله: [النكاح من سنن المرسلين].

وهذا ظاهر، النكاح من سنن المرسلين، وقد دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

أما القرآن فقول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38] .

وأما السنة فحديث أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ).

قال المؤلف رحمه الله: [وهو أفضل من التخلي منه لنفل العبادة].

يعني: إذا كان الإنسان بين أمرين: إما أن يتزوج ويشتغل بأمر الزوجة وأمر الأولاد, وإما أن يخلي نفسه للعبادة, لقراءة القرآن والصيام وقيام الليل؟ هل الأفضل أن يخلي نفسه للعبادة فيما يتعلق بقراءة القرآن والصيام وقيام الليل والجهاد ونحو ذلك أو أن نقول: أن الأفضل له أن يتزوج ولو شغله هذا الزواج عن نوافل العبادات؟

يقول المؤلف رحمه الله: الأفضل أن يتزوج، وأن هذا الزواج أفضل من أن يخلي نفسه ويفرغها من الزواج لنوافل العبادات, وهذا ما ذكره المؤلف رحمه الله ظاهر؛ لأن الزواج يترتب عليه مصالح كثيرة, فمن ذلك:

الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك أيضاً ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود : غض الأبصار وحفظ الفروج.

ومن ذلك أيضاً تكثير نسل هذه الأمة وفي ذلك عزتها.

ومن ذلك أيضاً تحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم, فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ).

ومن ذلك أيضاً القيام على المرأة وكفايتها وغض بصرها، والإنفاق عليها، وحفظ فرجها وغير ذلك.

فالصواب ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله: أن النكاح أفضل من نوافل العبادات, فكون الإنسان يتزوج أفضل له من أن يخلي نفسه من الزواج لكي يشتغل بنوافل العبادات لما يترتب على هذا النكاح من مصالح عظيمة.

الأصل في النكاح من حيث التعدد

اختلف العلماء هل الأصل في سنية النكاح التعدد أو الأصل أن الإنسان يقتصر على واحدة؟

يعني: هل السنية تكفي في زواج امرأة واحدة أو أن الإنسان كلما تزوج فهذا هو أفضل؟

في ذلك رأيين لأهل العلم:

المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن الأصل في النكاح عدم التعدد، وأن السنة أن الإنسان يقتصر على زوجة واحدة, ويباح له أن يتزوج أكثر من ذلك.

والرأي الثاني: أن الأصل هو التعدد، وأن الإنسان كلما عدد من الزوجات -إذا كان عنده القدرة المالية والبدنية- فإن هذا هو الأفضل لما يترتب على ذلك من مصالح النكاح العظيمة, فكلما أكثر الإنسان من الزوج حصل إكثار لهذه المصالح العظيمة، حصل الإكثار من غض الأبصار، وحصل الإكثار من تحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً من تكثير نسل الأمة، ومن القيام على النساء وكفايتهن وكفالتهن.. الخ, ولهذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: خير هذه الأمة أكثرها نساءً.

وهذا القول: هو الصواب, وأن الأصل في ذلك التعدد، وأن الإنسان كلما أكثر من الزواج فإن هذا هو الأفضل, لكن بشرط أن يكون عنده القدرة المالية والبدينة على الزواج، وأيضاً يعرف من نفسه العدل؛ لأن الله عز وجل قال: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3]، فنقول: الأفضل هو التعدد بهذين الشرطين: القدرة وأيضاً أن يعرف من نفسه العدل.

قال المؤلف رحمه الله: [لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد على عثمان بن مظعون التبتل].

التبتل: هو عدم النكاح.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كتاب النكاح].

يبدأ العلماء والفقهاء في تآليفهم بأحكام العبادات، ثم بعد ذلك يثنون بأحكام المعاملات، والمعاملات تشتمل على أحكام المعاوضات والتبرعات, ثم بعد ذلك يثلثون بأحكام الأنكحة, ثم يربعون بعد أحكام الأنكحة بأحكام الحدود والقصاص، ثم يختمون بأحكام القضاء.

وإنما يبدأ العلماء رحمهم الله بأحكام العبادات لأمور, منها:

أن العبادات مبناها على التوقيف, والأصل فيها المنع والحظر، فلا يتعبد لمسلم بعبادة من العبادات إلا بعبادة جاءت في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, فالأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم الدليل على شرعية هذه العبادة.

وأيضاً حاجة الإنسان إلى العبادة أشد من حاجته إلى المعاملة, إذ إن الإنسان تصح منه العبادة إذا بلغ التمييز إلا الحج والعمرة, الحج والعمرة لا يشترط في ذلك التمييز, فالوضوء يصح من الصبي إذا ميز وفهم الخطاب ورد الجواب, يصح منه الوضوء، ويصح منه العسل، ويصح منه التيمم، وتصح صلاته وصيامه, الحج والعمرة لا يشترط في ذلك التمييز؛ ولهذا بدأ العلماء بأحكام العبادات.

ويبدءون من أحكام العبادات بالصلاة ويفتتحون الصلاة ويقدمون لها بأحكام الطهارة, وإنما قدموا أحكام الطهارة؛ لأن الطهارة مفتاح الصلاة, كما تقدم من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )؛ لأن التخلي قبل التحلي, فالإنسان يتخلى من الحدث، ومن الخبث ثم بعد ذلك يتحلى بالوقوف بين يدي الله عز وجل.

ويبدءون بالصلاة؛ لأن الصلاة أهم العبادات, فهي الركن الثاني من أركان الإسلام.

وأيضاً اتباعاً لترتيب أركان الإسلام كما ورد في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت ).

فيبدءون بالصلاة ويفتتحون الصلاة ويقدمون لها بأحكام الطهارة ثم بعد ذلك يثنون بالزكاة؛ لأن الزكاة حولية؛ ولأنها قرينة الصلاة في كتاب الله عز وجل فيما يقرب من ثلاثة وثمانين موضعاً.

ثم بعد ذلك يثلثون بأحكام الصيام، ثم بعد ذلك يربعون بأحكام الحج؛ لأن الحج عمري، وأما الصيام فهو حولي.

ثم بعد أحكام العبادات يشرعون بأحكام المعاملات, ويبدءون من أحكام المعاملات بأحكام المعاوضات كالبيع وشروط البيع والشروط في البيع وأحكام الخيارات، وما يتعلق أيضاً بأحكام التوثقات أو عقود التوثقات, كعقد الرهن وعقد الضمان وعقد الكفالة, وأيضاً أحكام الشركات وما يتعلق بذلك, أو ما يلحق بذلك من أحكام المعاوضات، ثم بعد أن يتكلموا عن أحكام المعاوضات يتكلمون عن أحكام التبرعات.

وإنما قدموا أحكام المعاوضات على أحكام التبرعات؛ لأن أحكام المعاوضات يحتاج إليها الإنسان أكثر من أحكام التبرعات, فلا يمر على الإنسان يوم إلا وهو يحتاج إلى البيع والشراء، فهو محتاج إلى السلع التي بيد الآخرين, والآخرون محتاجون إلى ما بيده من الأثمان.

وبعد أن يتكلموا على أحكام المعاوضات يشرعون في أحكام التبرعات كأحكام الهبة والعطية وأحكام الوصايا وأحكام العتق، وأيضاً أحكام الوقف وما يلحق بذلك من أحكام الإرث.

ثم بعد أن يتكلموا عن أحكام المعاملات سواء كان ما يتعلق بأحكام المعاوضات أو أحكام التبرعات يشرعون بأحكام الأنكحة, وإنما أخروا أحكام الأنكحة بعد أحكام المعوضات؛ لأن النكاح لا يحتاج إليه الإنسان إلا في زمن معين, وهو ما بعد البلوغ بخلاف أحكام المعاوضات والتبرعات، فيحتاج إليها الإنسان قبل البلوغ, فيشرعون في أحكام الأنكحة، وما يتعلق بحكم النكاح وأركانه وشروطه وأحكام الصداق، وأيضاً ما يتعلق بذلك أو ما يلحق به من أحكام الشروط في النكاح, وأحكام العيوب وأحكام وليمة العرس.. إلخ.

ثم بعد ذلك يشرعون بأحكام الفسوخات: ما يتعلق بفسخ النكاح وإبطاله كأحكام الطلاق وأحكام الخلع.. إلخ.

ثم بعد ذلك يربعون بأحكام الحدود والقصاص, وإنما أخروا أحكام الحدود والقصاص لأمرين:

الأمر الأول: أن الإنسان إذا حصلت له شهوة البطن، وحصلت له شهوة الفرج قد يحمله ذلك على الأشر والبطر فيعتدي, فشرع ما يتعلق بأحكام الحدود والقصاص؛ لأن الإنسان إذا باع واشترى فإنه سيحصل له شهوة البطن, وإذا نكح ستحصل له شهوة الفرج، فقد يحمله ذلك على شيء من الأشر والبطر والتعدي والظلم فشرع ما يتعلق بأحكام الحدود والقصاص.

الأمر الثاني: الأصل في هذه الأشياء ألا تقع من المسلم, يعني: ما يتعلق بأحكام القصاص والحدود الأصل أن المسلم لا تقع منه هذه الأشياء, فأخر الكلام عليها.

ويبدءون بأحكام القصاص -فيما يتعلق بالجناية على النفس، وفيما يتعلق على ما دون النفس- قبل أحكام الحدود؛ لأن أحكام القصاص متعلقة بحق الآدمي وأما أحكام الحدود فهي متعلقة بحق الله عز وجل.

ثم بعد ذلك يختمون بأحكام القضاء؛ لأن أحكام القضاء لا يحتاج إليه في الغالب إلا شخص واحد وهو القاضي.

النكاح في اللغة: يطلق على معانٍ منها الضم والتداخل, ويقال: تناكحت الأشجار إذا حصل بينها شيء من الضم والتداخل.

وأما في الاصطلاح: فهو عقد يفيد حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر. والأصل في النكاح من حيث الدليل الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فالآيات في ذلك كثيرة من ذلك قوله سبحانه وتعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، ومن ذلك أيضاً قول الله عز وجل: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32].

وأما السنة أيضاً فالأحاديث في ذلك كثيرة، وسيأتي إن شاء الله طرف منها, فمن ذلك ما أورده المؤلف رحمه الله من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )، وقال: النبي صلى الله عليه وسلم, في حديث أنس وفي حديث معقل رضي الله تعالى عنهما: ( تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ).

والإجماع قائم على شرعية النكاح.

واختلف العلماء رحمهم الله في أصل النكاح, هل الأصل في النكاح الوجوب يعني: يجب على الإنسان أن يتزوج, أو الأصل في ذلك السنية وقد يخرج إلى الوجوب؟

اختلفوا في ذلك على رأيين:

الرأي الأول: وهو ما يفيده كلام المؤلف رحمه الله وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد وهو قول جمهور أهل العلم: أن الأصل في النكاح السنية, وأنه ليس واجباً، لكن قد يخرج ذلك إلى الوجوب كما سنشير إلى ذلك إن شاء الله تعالى.

والرأي الثاني: رأي الظاهرية أن الأصل في النكاح الوجوب.

ولكل من هذين القولين دليل:

أما الذين قالوا: بأن الأصل في النكاح السنية وليس واجباً لكن قد يخرج إلى الوجوب استدلوا على ذلك بأدلة، منها: قول الله عز وجل: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]. قالوا: بأن الله عز وجل علق النكاح على الاستطابة، ولو كان واجباً لم يعلق على استطابة الإنسان.

وكذلك أيضاً استدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم )، فالنبي عليه الصلاة والسلام جعل الصوم بديلاً عن النكاح, والإجماع قائم على أن الصوم غير واجب في غير شهر رمضان, فكذلك أيضاً المبدل منه الذي هو النكاح من باب أولى أن لا يكون واجباً.

وكذلك أيضاً استدلوا بحديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ : ( إنك تأتي قوماً من أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم )، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الفرائض ما يتعلق بالنكاح.

وكذلك أيضاً ما ثبت في الصحيح من حديث أنس وحديث طلحة بن عبيد الله في قصة الرجل الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن فرائض الإسلام، فذكر له النبي عليه الصلاة والسلام فرائض الإسلام، ومع ذلك لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الفرائض النكاح، وإنما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة، الزكاة..الخ, ولم يذكر النبي عليه الصلاة والسلام النكاح.

أما الذين قالوا: الأصل في النكاح الوجوب، استدلوا على ذلك بأدلة، منها:

الأوامر الواردة في النكاح كقول الله عز وجل: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32] .

وأيضاً حديث ابن مسعود : ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج )، قالوا: هذه الأوامر تدل على الوجوب.

والأقرب في ذلك هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وهو أن الأصل في النكاح السنية, وأنه سنة وليس واجباً، بمعنى: لو أن الإنسان ترك هذا النكاح ولم يتزوج فإننا لا نقول بتأثيمه، ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه أنه ألزم أحداً من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالنكاح.

فالأقرب في ذلك أنه سنة، لكن يخرج عن هذه السنة إلى الوجوب إذا خاف الزنا بتركه, قال العلماء رحمهم الله: إذا خاف الإنسان على نفسه الزنا إذا ترك النكاح فإنه يكون واجباً؛ لأن ترك الزنا واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وقال ابن قدامة رحمه الله: إذا خاف على نفسه فعل المحظور، وعنده القدرة على النكاح فإنه يجب عليه أن يتزوج, فقوله رحمه الله: إذا خاف على نفسه فعل المحظور، هذا أشمل وأعم من قول من قال: إذا خاف على نفسه الزنا, مثل: الاستمناء إذا خاف على نفسه أنه إذا لم يتزوج يؤدي به ذلك إلى فعل المحرم كالاستمناء أو النظر إلى النساء الأجنبيات, فإنه في هذه الحالة يجب عليه أن يتزوج.

فأصبح عندنا النكاح سنة، ويجب قيل: إذا خاف على نفسه الزنا بتركه, والرأي الثاني أعم من ذلك: أنه إذا خاف على نفسه فعل المحظور فإنه يجب عليه أن يتزوج.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [22] 2512 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [1] 2460 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [4] 2429 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [12] 2419 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [2] 2392 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [14] 2348 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [2] 2347 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [23] 2301 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [6] 2295 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [9] 2265 استماع