شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [22]


الحلقة مفرغة

في الدروس السابقة تكلمنا عن شيء من أحكام الجنائز، فتعرض المؤلف رحمه الله في بداية كتاب الجنائز لشيء من الآداب التي تفعل بالميت بعد موته ثم بعد ذلك شرع فيما يتعلق بتغسيل الميت، ثم شرع بما يتعلق بتكفينه وأحكام ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: [وأحق الناس بغسله والصلاة عليه ودفنه وصيه في ذلك، ثم الأب، ثم الجد].

يعني: من يستحق ولاية تغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه، وحمله، ودفنه يقول المؤلف: الأولى في ذلك وصيه، وهذا عند التنازع وعند التشاح، يعني إذا تنازع الناس في تغسيل هذا الميت، أو تشاحوا في تغسيله كل يريد أن يغسله فمن الأولى؟ من الذي يقدم؟ من المستحق لهذا؟

يقول المؤلف رحمه الله: وصيه، فإن كان الميت أوصى أن يغسله فلاناً أو أن يكفنه فلاناً أو أن يتولى دفنه فلاناً فإنه يقدم؛ والدليل على هذا أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنه فغسلته.

وكذلك أيضاً أنس رضي الله تعالى عنه أوصى أن يغسله محمد بن سيرين رحمه الله ففعل، فهذه الوصايا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم دليل على أن الموصى له أحق بالتقديم.

قال: (ثم الأب) يعني: إذا لم يكن هناك وصي أو كان هناك وصي لكن الوصي يتأخر عن ذلك فإننا نقدم الأصول أو نقول: الأحق بتغسيله أصوله، وأصوله هم آباؤه، ثم بعد ذلك بعد الآباء الأجداد، ثم بعد الأصول الفروع، الفروع أبناؤه، ثم أبناء أبنائه.. وهكذا، ثم بعد الفروع الحواشي، فنقدم الإخوة وبنيهم ثم الأعمام وبنيهم كالميراث تماماً.

فنقول: أولاً الوصي، ثم بعد الوصي الأصول الأب ثم الجد وإن علا، ثم بعد الأصول الفروع الابن وابن الابن وإن نزل، ثم بعد الفروع الحواشي الإخوة وبنوهم الأخ الشقيق، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق، ثم ابن الأخ لأب، ثم بعد ذلك الأعمام العم الشقيق، ثم العم لأب، ثم ابن العم الشقيق، ثم ابن العم لأب.

قال المؤلف رحمه الله: [فالأقرب من العصبات]. وهذا كما بيناه أننا نبدأ بالأصول ثم الفروع ثم الحواشي، وبينا أن الإخوة يقدمون على الأعمام كما تقدم.

قال المؤلف رحمه الله: [والأولى بغسل المرأة الأم ثم الجدة].

بالنسبة للمرأة الأولى بتغسيلها وصيتها، فإذا أوصت أن تغسلها فلانة إلى آخره فنقول: بأن من أوصت لها فإنها تغسلها، هي أحق بالتغسيل كما قلنا في الذكر أنه إذا أوصى أن يغسله أحداً فإن الموصى له أولى بالتغسيل، وذكرنا دليل ذلك، ثم بعد ذلك بعد وصيتها ووصية المرأة أصولها كما أفاده كلام المؤلف رحمه الله تعالى الأم ثم الجدة.. وهكذا وإن علت، ثم بعد الأصول الفروع، ثم بعد الفروع الحواشي كما سبق بيانه؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم الأقرب فالأقرب من نسائها].

قال المؤلف رحمه الله: [إلا أن الأمير يقدم في الصلاة على الأب ومن بعده].

تقدم أن ذكرنا من هو الأولى في تغسيله وتكفينه ودفنه، بالنسبة للصلاة عليه عندنا الأمير وكذلك أيضاً إمام المسجد هذان مستثنيان فإنهما يقدمان.

فالأمير إذا حضر فإنه الأولى بالصلاة على الميت، حتى ولو كان هناك الأصول أو الفروع أو الحواشي أو الوصي نقول: بأن الأمير مقدم، هذا استثناه المؤلف رحمه الله.

كذلك أيضاً استثنى بعض العلماء إمام المسجد، فقالوا: بأن إمام المسجد مقدم في الصلاة.

فعندنا فيما يتعلق بالصلاة كما تقدم في التغسيل نقول: الأولى الوصي، ثم بعد ذلك الأصول، ثم الفروع، ثم الحواشي، إلا أننا في الصلاة نستثني اثنين لهما الأحقية:

الأول: الأمير؛ ويدل لهذا أن سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنه تولى الصلاة على أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنها، تقدم وصلى عليها سعيد بن العاص ، والحسن بن علي رضي الله تعالى عنه كان حاضراً، والحسين كان حاضراً، أخواها الحسن والحسين كانا حاضرين، وكذلك أيضاً أبو هريرة وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم، فـسعيد بن العاص كان أميراً على المدينة وتولى الصلاة على أم كلثوم بنت علي رضي الله تعالى عنها مع حضور الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما.

وأيضاً يدل لهذا حديث أبي مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله.. إلى أن قال النبي عليه الصلاة والسلام: ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه )، فدل هذا على تقديم السلطان، وكذلك أيضاً نواب السلطان من الأمراء، فإنهم يستحقون الإمامة.

وكذلك أيضاً إمام المسجد استثناه بعض العلماء؛ لأن إمام المسجد سلطان في مسجده، وله الولاية عليه، فنقول: بأن إمام المسجد له أن يتولى الصلاة وهو الأحق بالتقديم، لكن لو تنازل للوصي أو تنازل للأصول أو الفروع فله ذلك.

فأصبح عندنا فيما يتعلق بالصلاة كما قلنا في التغسيل: الأولى الوصي ثم الأصول، ثم الفروع، ثم الحواشي، إلا أن العلماء رحمهم الله استثنوا اثنين لهما الأحقية:

الأول: الأمير؛ لما تقدم من الدليل على ذلك.

الثاني: إمام المسجد، أيضاً لما تقدم من حديث أبي مسعود البدري رضي الله تعالى عنه، وأشرنا أن إمام المسجد سلطان في مسجده. ‏

حكم الصلاة على الميت

الصلاة على الميت حكمها فرض كفاية، وهذا باتفاق الأئمة رحمهم الله أن الصلاة على الميت حكمها فرض كفاية، فهي فرض بالأمر، وهذا الفرض على الكفاية وليس على التعيين؛ لأن الملاحظ هنا هو العمل وليس العامل.

وهذا هو الفرق بين فرض الكفاية وفرض العين، أنه إذا لوحظ العمل، وأن المطلوب هو تحصيل هذا العمل فهذا فرض كفاية، وإذا لوحظ العامل، وأن المطلوب حصول هذا العمل من كل عامل فهذا فرض عين، وهنا المطلوب تحصيل الصلاة على هذا الميت سواء قام به زيد أو عمرو أو بكر… إلى آخره.

فنقول: الصلاة على الميت حكمها فرض كفاية؛ والدليل على ذلك الأمر أنها فرض، وأما أنها على الكفاية فلأن هذا الأمر لوحظ فيه العمل دون العامل.

وأيضاً الصلاة على الجنازة تجوز فرادى وتجوز جماعةً، لكن قال العلماء رحمهم الله: السنة أن تصلى جماعة، وقد ذكره النووي رحمه الله بلا خلاف أن السنة أن تصلى جماعة؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي على الجنائز ومعه صحابته رضي الله عنهم.

مكان وقوف الإمام من الميت وترتيب الجنائز

لم يذكر المؤلف رحمه الله أين يقف الإمام من الميت، فنقول: بالنسبة لوقوف المصلي من الميت لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: وقوف جائز؛ وذلك بأن يقف على أي جزء من أجزاء الميت، فسواء وقف عند رأسه أو عند وسطه أو عند رجليه نقول: بأن هذا كله جائز.

الأمر الثاني: وقوف مستحب؛ وهذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله.

والصواب في هذه المسألة: ما دلت عليه السنة وهو أن يقف على الرجل عند رأسه إذا كان ذكراً، وأما إن كان أنثى فإن السنة أن يقف عند وسطها.

ويدل لهذا ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أم كعب فقام عند وسطها ).

وكذلك أيضاً حديث أنس رضي الله تعالى عنه: ( أنه أتي إليه برجل فقام عند رأسه، ثم أتي إليه بامرأة فقام عند وسطها، ورفع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي ، وحسنه الترمذي ، وكذلك أيضاً أخرجه ابن ماجه إلى آخره.

فإن اجتمعت جنائز فإنه يقدم إلى الإمام الذكور، ثم بعد ذلك النساء؛ ويدل لهذا فعل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فإن ابن عمر صلى على تسع جنائز، فجعل الرجال مما يلي الإمام، وجعل النساء مما يلي القبلة.

فنقول: إذا اجتمع عندنا ذكور وإناث فإننا نقدم الذكور إلى الإمام، وأما النساء فإنهن يلين القبلة، ومن نقدم من الذكور؟ نقول: يقدم من الذكور من سبق فإنه يقدم، ثم بعد ذلك الأفضل، الأفضل من هؤلاء الذكور فإنه يقدم، نقول: من سبق نقدمه، فإن استووا في السبق نقدم الأفضل علماً وورعاً إلى آخره، وكذلك أيضاً بالنسبة للنساء.

تكبيرة الإحرام

قال المؤلف رحمه الله: [والصلاة عليه يكبر].

سيأتينا إن شاء الله ما يتعلق بأركان الصلاة على الجنازة، يكبر تكبيرة الإحرام، هذه ركن من أركان الصلاة على الجنازة، ويدل لهذا حديث المسيء في صلاته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر ).

وأيضاً: يدل لهذا حديث علي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم )، ويدل لهذا أيضاً حديث أبي أمامة بن سهل : ( أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخبره: أن السنة في الصلاة على الجنازة: أن يكبر الإمام ثم يقرأ الفاتحة، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخلص الدعاء للميت ).

قراءة الفاتحة

قال المؤلف رحمه الله: [ويقرأ الفاتحة].

قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة على الجنازة؛ ويدل لهذا حديث أبي أمامة بن سهل الذي أوردناه: ( أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخبره: أن السنة في الصلاة على الجنازة: أن يكبر، ثم يقرأ الفاتحة، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويخلص الدعاء للميت ).

وأيضاً: حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، وأيضاً حديث ابن عباس في النسائي : ( أنه قرأ الفاتحة وجهر وقال: لتعلموا أنها سنة ).

ولم يذكر المؤلف رحمه الله هل يبسمل ويستعيذ أو لا يبسمل ولا يستعيذ؟ المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله والشافعي أنه يستعيذ ويبسمل, يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو ما ورد من صفات الاستعاذة, ثم يقول: بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن الاستعاذة والبسملة ليستا للصلاة وإنما للقراءة، والقراءة مشروعة في صلاة الجنازة عند الشافعية والحنابلة فيستعيذ ويبسمل.

عند أبي حنيفة رحمه الله ومالك : أنه لا يبسمل ولا يستعيذ؛ لأنهم يرون أن صلاة الجنازة لا قراءة فيها، حتى قراءة الفاتحة لا قراءة فيها، وهذا لا شك أن فيه نظراً.

والصواب: أن فيها القراءة؛ كما تقدم من حديث أبي أمامة بن سهل وغيره من الأحاديث، فالصواب أن القراءة مشروعة، وعلى هذا نقول: بأنه يستعيذ ويبسمل.

وهل يستفتح؟ هل يأتي بدعاء الاستفتاح أو لا يأتي به؟

الإمام أحمد رحمه الله سئل: هل يقول: سبحانك اللهم وبحمدك؟ فقال الإمام أحمد رحمه الله: ما سمعت. يعني: أنه لم يرد شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

وعلى هذا نقول: بأن الاستفتاح في صلاة الجنازة ليس مشروعاً، فلا يشرع أن يستفتح في صلاة الجنازة؛ لأن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والعبادات توقيفية عن النبي عليه الصلاة والسلام.

قراءة سورة بعد الفاتحة

قال المؤلف رحمه الله: [ويقرأ الفاتحة].

ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يقرأ سورةً بعد الفاتحة؛ لأنه قال: (يقرأ الفاتحة ثم يكبر)، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله, وهو قول أكثر أهل العلم، وتقدم أن أشرنا أن الحنفية والمالكية لا يرون القراءة في صلاة الجنازة حتى قراءة الفاتحة لا يرون قراءة الفاتحة، فأكثر أهل العلم على أن قراءة السورة ليست مشروعة.

وقال بعض العلماء بشرعية قراءة السورة بأنه يقرأ سورةً؛ لحديث ابن عباس في سنن النسائي : ( أنه قرأ الفاتحة وسورة )، فإن ثبت هذا الحديث حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فنقول: بأن الإمام أحياناً يقرأ وأحياناً لا يقرأ، أما بالنسبة للمأموم فالأمر في حقه ظاهر، المأموم لا يسكت؛ لأن الصلاة لا سكوت فيها.

نقول: المأموم يقرأ الفاتحة، وإذا انتهى من قراءة الفاتحة ولم يكبر الإمام التكبيرة الثانية فإنه يقرأ ولا يسكت، فنقول: بالنسبة للمأموم لا يسكت، وأما بالنسبة للإمام أو المنفرد فإن ثبت حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في النسائي فإنه يقرأ أحياناً بسورة.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يكبر الثانية ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم].

وهذا دليله ما تقدم من حديث أبي أمامة بن سهل : (أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخبره: أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر، ثم يقرأ الفاتحة، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم)، فنقول: يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام.

والمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة ركن من أركان صلاة الجنازة، وكيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة ككيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة المفروضة في التشهد الأخير، فيقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

وقد سلف أن ذكرنا الصيغ الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة المفروضة في التشهد، سبق أن أشرنا إلى هذه الصيغ وكتبناها ووزعناها لكي يحفظها الإخوة.

الدعاء للميت

قال المؤلف رحمه الله: [ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يكبر ويقول: اللهم أغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا].

الدعاء للميت يقسمه العلماء رحمهم الله إلى قسمين:

القسم الأول: الدعاء الكامل؛ وهو أن يتقيد الإنسان بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أربع صيغ للدعاء في صلاة الجنازة:

الصيغة الأولى: ما أشار إليها المؤلف: ( اللهم اغفر لحينا وميتنا.. ) إلى آخره، وهذا حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.

والصيغة الثانية: أشار بقوله: ( اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.. ) إلى آخره, وهذا حديث عوف بن مالك .

فعندنا الأول: حديث أبي هريرة , والثاني: حديث عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه.

وأيضاً الثالث: حديث واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه.

والرابع: حديث يزيد بن ركانة .

والمؤلف رحمه الله فيما نقل لم ينقل متن الحديث بتمامه، وإنما زاد فيه بعض الزيادات، ولهذا نحتاج إلى أن نرجع إلى أصول السنة، لننقل حديث أبي هريرة لكي نحفظه ( اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا.. ) إلى آخره، وأيضاً حديث عوف بن مالك : ( اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأبدله داراً خيراً من داره، وزوجاً خيراً من زوجه.. ) إلى آخره.

وأيضاً حديث واثلة بن الأسقع ، وحديث يزيد بن ركانة ، زاد المؤلف رحمه الله فيه بعض الجمل على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الأدعية ينبغي أن يحفظها الإنسان, ويتقيد بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتي بالدعاء الكامل.

وأما القسم الثاني: فالدعاء المجزئ، فأن يدعو الإنسان بما شاء، العلماء قالوا: إذا دعا بما شاء ولو لم يتقيد بالوارد فإن هذا مجزئ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء )، وأيضاً ما تقدم من حديث أبي أمامة بن سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السنة عن صلاة الجنازة قال: ( ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويخلص الدعاء للميت ).

عدد التكبيرات

ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه يكبر أربع تكبيرات فقط؛ لأنه ذكر التكبيرة الأولى، ثم قراءة الفاتحة، ثم يكبر الثانية، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يكبر الثالثة، ثم يدعو، ثم يكبر الرابعة ثم يسلم.

فظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن التكبير على الميت أربع تكبيرات فقط، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى أنه يكبر على الميت أربع تكبيرات فقط؛ وهذا دل له حديث أبي هريرة في الصحيحين، وحديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ، فإن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على النجاشي ، فنقول: بالنسبة للأربع هذا دلل لها حديث أبي هريرة وحديث جابر بن عبد الله .

وأيضاً ورد في السنة خمس تكبيرات؛ كما في صحيح مسلم من حديث زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه، فنقول: الأربع ثابتة في السنة، والخمس أيضاً ثابتة في السنة.

والست والسبع فيهما آثار عن الصحابة، فالست تكبيرات هذه وردت عن علي رضي الله تعالى عنه كما في المحلى وغيره لـابن حزم ، والسبع أيضاً واردة عن علي رضي الله تعالى عنه أنه صلى على أبي قتادة وكبر عليه سبع تكبيرات كما في الطحاوي والسنن الكبرى للبيهقي ، والست صلى على سهل بن حنيف وكبر عليه ست تكبيرات، فنقول: الست والسبع هذه واردة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

ويذكر بعض العلماء أن الوارد عن الصحابة إلى تسع، لكن أنا لم أر إلا إلى سبع تكبيرات، يمكن فيه شيء لم يصل إلينا، لكن يذكر بعض العلماء كـالقاضي عياض أن الوارد عن الصحابة إلى تسع تكبيرات.

وعلى هذا نقول: عندنا أربع تكبيرات هذه ثابتة في السنة، خمس تكبيرات ثابتة في السنة، ست وسبع هذه ثابتة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وعلى هذا التكبير في الجنائز يكون إلى سبع تكبيرات، ويظهر من أثر علي رضي الله تعالى عنه أن الزيادة تكون لمن كان من أهل الفضل؛ لأنه لما زاد علل بأنه بدري يعني من أهل بدر، فيظهر أن أهل الفضل يزاد في التكبير عليهم.

أما بالنسبة للخمس ظاهر السنة أنه يكبر الخمس سواء على أهل الفضل أو على غيرهم، لكن بالنسبة للست والسبع هذا يظهر من التعليل الذي ذكره علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن الزيادة على من كان من أهل الفضل.

وعلى هذا إذا كبر خمساً أو ستاً أو سبعاً فماذا يقول بعد الرابعة وبعد الخامسة إلى آخره؟ نقول: بأنه يدعو؛ لأن هذه الصلاة على الميت صلاة دعاء وصلاة شفاعة؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما من ميت يقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه )، فهذه صلاة دعاء وصلاة شفاعة.

فنقول: بأنه يدعو للميت، فيذكر الأدعية والصيغ الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أتم هذه الصيغ يدعو أيضاً, يسأل الله عز وجل له المغفرة والعفو والتجاوز… إلى آخره.

وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه بعد التكبيرة الرابعة يكبر ولا يذكر شيئاً، والصواب أنه يدعو للميت، فإن كانت الأدعية قد انتهت قد أتى على كل الأدعية الواردة فإنه يدعو للميت بما شاء؛ ويدل لهذا حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه، ولما سبق أن أشرنا إليه أن الصلاة على الميت صلاة دعاء وصلاة شفاعة فلا يسكت، وعلى هذا إذا كبر الرابعة فإنه لا يسكت بل يدعو للميت.

التسليم

قال المؤلف رحمه الله: [ويسلم تسليمةً واحدةً عن يمينه].

هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وكذلك أيضاً مذهب الإمام مالك رحمه الله أن المشروع في الصلاة على الجنازة أن يسلم تسليمةً واحدةً فقط.

الحنابلة وكذلك أيضاً المالكية اعتمدوا في ذلك على الآثار الواردة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم ورد عنهم تسليمة واحدة، علي بن أبي طالب ، ابن عمر ، جابر ، ابن عباس ، عبد الله بن أبي أوفى ، أبو هريرة ، فهؤلاء الصحابة علي وابن عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو هريرة وعبد الله بن أبي أوفى كلهم ورد عنهم أنه يسلم تسليمةً واحدةً على الجنازة.

وعند الحنفية والشافعية أنه يسلم تسليمتين، وألحقوا صلاة الجنازة بالصلاة المفروضة؛ لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسلم تسليمتين في الصلاة المفروضة وفي سائر الصلوات، هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسلم تسليمتين.

وأيضاً ورد في حديث ابن مسعود في مسند الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: ( ثلاث خلال من السنة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل بهن تركهن الناس، وذكر منهن التسليم في الجنازة كالتسليم في المكتوبة ) والتسليم في المكتوبة أنه يسلم تسليمتين, وهذا الحديث جود إسناده النووي رحمه الله.

وعلى هذا نقول: إن ثبت هذا الحديث فيشرع للإمام وللمصلي على الجنازة الإمام أو المنفرد إذا صلى على الجنازة أنه يسلم تارةً تسليمة واحدة، يعني الغالب على هديه أنه يسلم تسليمة واحدة؛ كما ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وفي بعض الأحيان يسلم تسليمتين؛ لما ورد من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.

فنقول: تارةً يسلم تسليمة واحدة، وتارةً يسلم تسليمتين، والغالب على هديه أنه يسلم تسليمة واحدة كما ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

رفع اليدين مع التكبيرات

قال المؤلف رحمه الله: [ويرفع يديه مع كل تكبيرة].

رفع اليدين ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: رفع اليدين في التكبيرة الأولى التي هي تكبيرة الإحرام، فهذا متفق عليه، فقد حكى ابن المنذر الإجماع على شرعية رفع اليدين في التكبيرة الأولى.

أما بالنسبة لبقية التكبيرات فقد اختلف فيها الأئمة رحمهم الله، فالإمام أحمد والشافعي قالا: يشرع الرفع في بقية التكبيرات، وعلى هذا ترفع في التكبيرة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة إن زدت… إلى آخره يشرع أن ترفع.

واعتمدوا على أن هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهو الوارد عن ابن عمر كما في صحيح البخاري معلقاً، ووصله البخاري في كتابه جزء القراءة خلف الإمام إن لم أكن نسيت، فورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كما في البخاري معلقاً.

وكذلك أيضاً ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في سنن سعيد بن منصور بإسناد صحيح، وكذلك أيضاً ورد عن زيد بن ثابت في مصنف ابن أبي شيبة رحمه الله، فعندنا أثر ابن عمر في صحيح البخاري ، وأثر ابن عباس في سنن سعيد بن منصور ، وأثر زيد بن ثابت في مصنف ابن أبي شيبة ، وأيضاً ورد حديث ابن عمر مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم في رفع الأيدي في تكبيرات الجنائز، وهذا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله يرى صحته.

فعندنا ما اعتمد عليه الشافعية والحنابلة في رفع الأيدي في الصلاة على الجنازة حديث ابن عمر , والآثار الواردة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة وأيضاً مالك : أنه لا يشرع، الحنفية والمالكية يرون عدم شرعية رفع الأيدي.

أركان الصلاة على الجنازة

قال المؤلف رحمه الله: [والواجب من ذلك التكبيرات].

شرع المؤلف رحمه الله في بيان أركان الصلاة على الجنازة، فقال: الواجب من ذلك التكبيرات، التكبيرات الأربع يرى أنها واجبة، هذا الركن الأول.

قال المؤلف رحمه الله: [والقراءة].

هذا الركن الثاني، قراءة الفاتحة؛ تقدم حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ).

والتكبيرات الأربع تقدم أيضاً لنا دليلها حديث أبي أمامة بن سهل ( أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.. ) إلى آخره، وأيضاً تقدم أن أشرنا إلى حديث أبي هريرة وحديث جابر وحديث زيد بن أرقم , وغير ذلك من الأحاديث.

قال المؤلف رحمه الله: [والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم].

الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام يرى المؤلف رحمه الله أنها ركن، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.

وتقدم لنا لما تكلمنا عن أركان الصلاة المفروضة أن جمهور أهل العلم يرون أن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ليست ركناً، حتى في الصلاة المفروضة ليست ركناً، وإنما هي سنة، وهذا من مفردات الحنابلة، فالحنابلة يرون أنها ركن، تقدم أن ذكرنا أن الأقرب أنها سنة وليست ركناً، وإذا كان ذلك في الصلاة المفروضة فكذلك أيضاً في الصلاة على الجنازة.

قال المؤلف رحمه الله: [وأدنى دعاء الحي للميت].

هذا ركن، ولا إشكال في أن الدعاء ركن، يعني أدنى دعاء.

سبق أن أشرنا أن الدعاء في الصلاة ينقسم إلى قسمين:

كامل؛ وهو أن يأتي بما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام.

ومجزئ، وهو أدنى دعوة للميت، فلو قلت: اللهم اغفر له كفى ذلك، أو اللهم ارحمه كفى ذلك، أي دعوة تدعوها يتحقق بها الركن.

لكن الأولى المحافظة على سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ودليل ذلك ما تقدم من حديث أبي أمامة بن سهل عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ).

قال المؤلف رحمه الله: [والسلام].

هذا الركن الأخير: السلام؛ وهذا دليله كما تقدم حديث ابن مسعود , وأيضاً حديث أبي هريرة والآثار الواردة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأيضاً حديث علي : ( تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ).

الصلاة على القبر

قال المؤلف رحمه الله: [ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر إلى شهر].

وفي هذه الجملة مسألتان:

المسألة الأولى: الصلاة على القبر.

والمسألة الثانية: حد الصلاة على القبر.

فبين المؤلف رحمه الله شرعية الصلاة على القبر، وبين أيضاً حدها، فقال: (صلى على القبر إلى شهر)، ذكر المسألتين جميعاً، أما الصلاة على القبر فهذه متفق عليها بين الأئمة، فالأئمة يتفقون على ذلك, وأنه تشرع الصلاة على القبر؛ ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر منبوذ ).

وكذلك أيضاً في قصة الجارية السوداء التي كانت تقم المسجد ففقدها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح فأخبروه أنها ماتت وأنهم قبروها، فقال: ( دلوني على قبرها، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليها ).

فنقول: الصلاة على القبر هذه متفق عليها بين الأئمة، لكن اختلف الأئمة رحمهم الله في حد ذلك.

فقال المؤلف رحمه الله: (إلى شهر) يعني: لك أن تصلي إلى شهر، بعد الشهر ما تصلي، فأنت مثلاً إذا دفن الميت لك أن تصلي عليه بعد يوم ويومين وأسبوع وأسبوعين، لكن إذا مضى شهر فإنك لا تقدر على الصلاة عليه.

واستدلوا على ذلك: ( بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أم سعد بن عبادة بعدما دفنت بعد شهر )، قالوا: هذا دليل على أن هذا هو أقصى حد.

الرأي الثاني: لم يقيدوه بالزمن وإنما قيدوه بالحال؛ وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ، قيدوه بحال الميت، فقالوا: لا بأس أن يصلى عليه ما لم يغلب على الظن أن جسده قد فني، قالوا: نصلي عليه ما لم يغلب على الظن أن جسده قد فني، فإن غلب على الظن أن جسده قد فني فإنه لا يصلى عليه.

يعني: ينظر إلى الجسد، فإذا ظننا أن الجسد قد فني وأكلته الأرض فإنه لا يصلى عليه، فإذا كان في أرض لا يبقى إلا شهر أو شهران ثم تأكله الأرض فإنه لا يصلى بعد ذلك، أما إذا كنا نظن أن الجسد لا يزال باقياً فإننا نصلي عليه، هذا ما ذهب إليه الحنفية والمالكية.

الشافعية قالوا: يقيد بالحال لكن ليست حال الميت، وإنما هي حال المصلي، قالوا: إذا كان المصلي من أهل فرض الصلاة عليه حين موته فله أن يصلي عليه بلا حد.

ما معنى من أهل فرض الصلاة عليه؟

يعني: هذا الشخص إذا كان مكلفاً بالغاً عاقلاً حين مات هذا الميت له أن يصلي عليه بعد شهر أو شهرين أو سنة أو سنتين، المهم أنه حال الموت كان مكلفاً، يعني من أهل فرض الصلاة عليه الذين يسقط بهم الفرض، والمكلف هو هذا الذي يسقط به الفرض.

وقال بعض علمائهم: ليس من أهل الفرض وإنما من أهل الصلاة عليه بأن يكون مميزاً، والمميز من أهل الصلاة عليه؛ لأنه تصح صلاته على الميت، فإذا كان مميزاً حين موته فله أن يصلي عليه، حتى بعد سنة أو سنتين.. إلى آخره.