خطب ومحاضرات
شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [4]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الإبدال في متن وسند الحديث للامتحان
قال المصنف رحمه الله: [وقد يقع الإبدال عمداً امتحاناً].
الإبدال يقع في بعض الأسانيد، وكذلك المتون، بإبدال راوٍ مكان راوٍ، وإبدال لفظ مكان لفظ، سواءً كان ذلك اللفظ من الأماكن أو من الرواة أو من المعاني أو غيرها، يبدلها بعضهم اختباراً، اختباراً لمن؟ إما اختباراً للطلبة وحفظهم، أو اختباراً للأستاذ وحفظه، وربما سمع ذلك الحديث فدون على أنه هكذا، فقبل أن يستبين الإنسان، ومثل هذا يعرف على ما تقدم الكلام عليه بجمع الطرق، أو مخالفة الحديث لغيره لما هو أصح منه.
التصحيف والتحريف لألفاظ الحديث
قال المصنف رحمه الله: [ أو بتغيير حروف مع بقاء السياق، فالمصحف والمحرف].
لدينا تصحيف وتحريف، وقيل: إنهما بمعنى واحد، والتصحيف هو المشابهة بظاهر الرسم مع الاختلاف في النطق، فهذا يسمى تصحيفاً، يعني: الحروف رسمها واحد ونطقها يختلف، مثلاً حبان وحيان، وكذلك زبيد وزييد وغير ذلك، فالرسم واحد، ولكن النطق لاختلاف النقط اختلف من جهة اللفظ، كذلك حتى من غير التشابه أحياناً بالرسم في الحروف، ولكن يكون ثمة تشابه بالخط في الظاهر كحمد وعمر، فمحمد إذا كتبها الإنسان على سبيل الاستعجال تكون مشابهة لكتابته لعمر، فيكون رأس العين كأنه ميم، ثم أسفل العين كأنه حاء، ثم الميم توافق ميم محمد، ثم الراء تكون دالاً، وهكذا، فيكون ثمة مشابهة خاصة أن محمداً وعمر ليستا بمنقوطتين، فيقع في ذلك تصحيف.
ومن العلماء من يقول: إن التحريف هو إذا جاء بلفظ وصورة جديدة، كأن يغير محمداً إلى إسماعيل، فهذا اختلف في الرسم واختلف في النطق، ولا تشابه بينهما، وغالب التحريف يكون من الإنسان وهماً من ذاته أنه كتب أو نطق هذا الشيء، أو ربما يكون من بعض الرواة -وهو قلة- كذباً، فيغير بعض أسماء الرواة؛ إما أن يكون ذلك لتعدد الطرق أو نحو هذا، فنقول: هذا يعرفه العالم الحاذق المستبصر في هذا الأمر.
لهذا ينبغي لطالب العلم أن يعرف المتشابهات رسماً والمختلفات نطقاً، تتشابه من جهة الرسم، وتختلف من جهة النطق، وقد كانت الكتابة في الزمن الأول تكتب من غير نقط، ولكنهم يعرفونها، فمنها ما يعرف بسياقه، ومنها ما يعرف بضبط الأسماء، فيعرفون أن هذا الاسم لا يأتي تابعياً، وإنما يأتي صحابياً، أو هذا لا يأتي صحابياً، وإنما يأتي تابعياً أو تابع تابعي أو نحو ذلك، بخلاف ضعف الإنسان وجهله في مثل هذا، ربما إذا تشابهت عليه الأسماء نطقها بنطق واحد، فاختلط عليه الأول بالثاني؛ لأنه لا يعرف الطبقات، فمعرفة الطبقات مهمة، وممارسة اللفظ النبوي من جهة الحفظ، وإدامة النظر يعطي طالب العلم ملكة قوية بالتمييز بين السياقات ومعرفة كذلك مواضع التدليس.
قال المصنف رحمه الله: [وقد يقع الإبدال عمداً امتحاناً].
الإبدال يقع في بعض الأسانيد، وكذلك المتون، بإبدال راوٍ مكان راوٍ، وإبدال لفظ مكان لفظ، سواءً كان ذلك اللفظ من الأماكن أو من الرواة أو من المعاني أو غيرها، يبدلها بعضهم اختباراً، اختباراً لمن؟ إما اختباراً للطلبة وحفظهم، أو اختباراً للأستاذ وحفظه، وربما سمع ذلك الحديث فدون على أنه هكذا، فقبل أن يستبين الإنسان، ومثل هذا يعرف على ما تقدم الكلام عليه بجمع الطرق، أو مخالفة الحديث لغيره لما هو أصح منه.
قال المصنف رحمه الله: [ أو بتغيير حروف مع بقاء السياق، فالمصحف والمحرف].
لدينا تصحيف وتحريف، وقيل: إنهما بمعنى واحد، والتصحيف هو المشابهة بظاهر الرسم مع الاختلاف في النطق، فهذا يسمى تصحيفاً، يعني: الحروف رسمها واحد ونطقها يختلف، مثلاً حبان وحيان، وكذلك زبيد وزييد وغير ذلك، فالرسم واحد، ولكن النطق لاختلاف النقط اختلف من جهة اللفظ، كذلك حتى من غير التشابه أحياناً بالرسم في الحروف، ولكن يكون ثمة تشابه بالخط في الظاهر كحمد وعمر، فمحمد إذا كتبها الإنسان على سبيل الاستعجال تكون مشابهة لكتابته لعمر، فيكون رأس العين كأنه ميم، ثم أسفل العين كأنه حاء، ثم الميم توافق ميم محمد، ثم الراء تكون دالاً، وهكذا، فيكون ثمة مشابهة خاصة أن محمداً وعمر ليستا بمنقوطتين، فيقع في ذلك تصحيف.
ومن العلماء من يقول: إن التحريف هو إذا جاء بلفظ وصورة جديدة، كأن يغير محمداً إلى إسماعيل، فهذا اختلف في الرسم واختلف في النطق، ولا تشابه بينهما، وغالب التحريف يكون من الإنسان وهماً من ذاته أنه كتب أو نطق هذا الشيء، أو ربما يكون من بعض الرواة -وهو قلة- كذباً، فيغير بعض أسماء الرواة؛ إما أن يكون ذلك لتعدد الطرق أو نحو هذا، فنقول: هذا يعرفه العالم الحاذق المستبصر في هذا الأمر.
لهذا ينبغي لطالب العلم أن يعرف المتشابهات رسماً والمختلفات نطقاً، تتشابه من جهة الرسم، وتختلف من جهة النطق، وقد كانت الكتابة في الزمن الأول تكتب من غير نقط، ولكنهم يعرفونها، فمنها ما يعرف بسياقه، ومنها ما يعرف بضبط الأسماء، فيعرفون أن هذا الاسم لا يأتي تابعياً، وإنما يأتي صحابياً، أو هذا لا يأتي صحابياً، وإنما يأتي تابعياً أو تابع تابعي أو نحو ذلك، بخلاف ضعف الإنسان وجهله في مثل هذا، ربما إذا تشابهت عليه الأسماء نطقها بنطق واحد، فاختلط عليه الأول بالثاني؛ لأنه لا يعرف الطبقات، فمعرفة الطبقات مهمة، وممارسة اللفظ النبوي من جهة الحفظ، وإدامة النظر يعطي طالب العلم ملكة قوية بالتمييز بين السياقات ومعرفة كذلك مواضع التدليس.
قال المصنف رحمه الله: [ ولا يجوز تعمد تغيير المتن بالنقص والمرادف إلا لعالم بما يحيل المعاني ].
هذه المسألة مسألة الرواية، رواية الحديث بالمعنى، نقول: إننا نقطع أن الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في أصح الكتب عنه عليه الصلاة والسلام كصحيح البخاري و مسلم لم تنقل عن النبي عليه الصلاة والسلام بحروفها كالقرآن، وإنما ثمة شيء من زيادة الحروف غير المغيرة للمعنى، وهذا دليل على تجوزهم، فلو كانوا يقطعون بالتحريم لثبت ذلك حفظاً وضبطاً كما ضبطوا القرآن، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ السنة من ربه وحياً لفظاً، ثم يوردها معنى بحسب الحال، فإذا أوردها معنى للأمة أخذوها كذلك بمعرفة مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيروونها كما سمعوها، ولو زادوا في ذلك حرفاً أو نقصوه لا يؤثر في السياق ولم يكن ضاراً، ولم يكن أيضاً الناقل في ذلك آثماً، وهذا محل إجماع عندهم، ولهذا ضبطوا القرآن بحروفه بتمامه، وسياقاته، لا بتقديم ولا بتأخير، ولا بزيادة ولا نقصان، ولا بحرف واحد، وهذا يدل على التباين.
مراتب رواية الحديث بالمعنى
ولكن المصنف رحمه الله هنا أشار إلى مسألتين:
المسألة الأولى: الزيادة والنقصان مؤثرة وغير مؤثرة، وهذه الزيادة منها ما هي حروف، أو ألفاظ لا تؤثر بالسياق، وذلك كإيراد النبي صلى الله عليه وسلم في ثنايا حديث، فتجد أن الصحابة يقولون: صلى الله عليه وسلم، فعندما يأتي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه جاء أعرابي إليه فقال: يا محمد! مثلاً يذكر بعدها: صلى الله عليه وسلم، وهذا من باب التجوز، لكن في القرآن مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ[الفتح:29]، هل يأتي أحد ويضع بين قوسين: صلى الله عليه وسلم في القرآن؟ لا؛ لأنها زيادة حروف، ولا يجوز للإنسان أن يضيف حرفاً في القرآن، وأما في السنة ففي ذلك شيء من التجوز.
ولهذا نقول: الحروف والألفاظ اليسيرة التي هي من بيان تعظيم أو إجلال، ويعرفها القارئ بالسياق أنها ليست من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، أو الألفاظ حتى لو ظن قارئ أنها من كلام النبي عليه الصلاة والسلام التي لا تؤثر باللفظ ولا بالسياق في كلام النبي عليه الصلاة والسلام مما يتجوز به الصحابة فضلاً عن غيرهم.
المسألة الثانية: هو تغيير اللفظ أو الحديث بتمامه بلفظ آخر يتضمن ذات المعنى، وهذا لأن لغة النبي صلى الله عليه وسلم عالية، والنبي عليه الصلاة والسلام هو أفصح العرب، ويقول كما في الأثر: (أنا أفصح العرب، ولدتني قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر فأنى يأتيني اللحن)، وبنو سعد بن بكر هم من أفصح العرب، وقريش أفصحهم، فنشأ في بيئتين لا يمكن أن يلقن أو يطرأ عليه حرف من الحروف لا يأتي على لغة العرب، وهذا هو المراد (ولدتني قريش ونشأت) يعني: تربيت وأخذت اللسان في بني سعد بن بكر فمن أين يأتيني اللحن.
ولهذا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بألفاظ وعبارات ربما يستثقلها بعض التابعين حال رواية الصحابة عليهم رضوان الله للحديث، فربما تجوز بعض الصحابة بالإتيان بالحديث بلفظ مغاير، وهذه المغايرة منها ما هي مغايرة يسيرة، ومنها ما هي مغايرة كبيرة، ومنها ما هو اختصار لتقريب المعنى، ومنها ما هي أحاديث نجزم أن النبي عليه الصلاة والسلام ما قالها إلا مرة، أو نجزم أن الصحابي ما قالها إلا مرة، ولهذا حديث: ( إنما الأعمال بالنيات )، وهو في الصحيحين، قاله عمر بن الخطاب على المنبر مرة واحدة، ورواه عنه علقمة بن وقاص الليثي ، فنقول حينئذٍ: إن هذه الرواية عن علقمة عن عمر إنما هو سماع واحد، وأخرجه البخاري في كتابه الصحيح في سبعة مواضع، وكل موضع يختلف لفظاً عن الآخر، وإن اتفق من جهة المعنى، فتارة يختصر، وتارة يكون ثمة مغايرة في اللفظ.
ولهذا نقول: إن تجوز الأئمة عليهم رحمة الله في الألفاظ مع قطعهم ويقينهم أن الحديث ما جاء إلا من وجه واحد، ولا حكاه الصحابي عن النبي عليه الصلاة والسلام إلا في موضع واحد فنقل عنه؛ لأن الأصل في الصحابة خاصة في الخطب وأمثالها أنهم لا يعيدون الكلام، حتى لا يستثقله السامع إلا في حال البيان لأمر مهم حتى لا يستشكل الناس، أو ربما جاء أحد من الناس متأخراً فيعاد الكلام إليه، ولهذا جاء عن أنس بن مالك عليه رضوان الله كما في الصحيح (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم تكلم ثلاثاً، وإذا سلم سلم ثلاثاً حتى يفهم عنه)؛ لأن الإنسان ربما يدخل مجلساً وفيه العشرات من الناس، فيسلم في ابتداء الدخول وفي وسط الدخول وفي نهايته حتى يسمع الناس السلام، أما إذا دخل الإنسان مثلاً على واحد فيسلم عليه: السلام عليكم ورحمة الله، ثم لا يعيد هذه العبارة، أو دخل على اثنين أو نحو ذلك.
إذاً: التكرار في ذاته ليس مقصوداً في كلام النبي عليه الصلاة والسلام إلا لأجل الإسماع، وكذلك لأجل الإفهام.
وقد صنف غير واحد من العلماء في مسألة التصحيف والتحريف، وكذلك في جواز الرواية بالمعنى.
ونحن نقول: إن جماهير السلف على جواز الرواية بالمعنى من عالم بالمعنى، لا يغير الإنسان اللفظ ويحيل المعنى، فربما جاء بتراكيب أخرى.
بعض المؤثرات في رواية الحديث بالمعنى
الحديث كلما بعد مخرجه عن المدينة غلب عليه تغير اللفظ، لماذا؟ لورود العجمة، وأشهر الرواة تغييراً للمعنى هم الكوفيون، وهم أكثر الرواة من التابعين، والتابعون من الكوفيين أكثر من التابعين من المدنيين؛ لكثرتهم ووفرتهم وإقبالهم، والمدينة قليلة، والناس فيها قليل، ولكن لما مصرت الأمصار في العراق في الخلافة الراشدة كثر اجتماع الناس عليها، وذلك للرزق فيها وجوها، ولأنهارها وسعة العيش فيها، وتواطأ الناس بالإتيان إليها، ثم كانت موضعاً لانطلاقة كثير من الفتوحات؛ لقربها من الأطراف، بخلاف المدينة فهي بعيدة، فكان يستوطن فيها المجاهدون، ويستوطن فيها كذلك طلاب العلم وأصحاب المصالح من التجارات وغير ذلك، فكانت أكثر اتساعاً، وكان التابعون من أهل الكوفة أكثر من التابعين من أهل المدينة من الفقهاء، وكذلك الرواة.
ولهذا نقول: إذا تغير مخرج الحديث وبعد عن المدينة، فهذا أمارة على روايته بالمعنى أو تغير عن الأقل بعض ألفاظه.
وعلى طالب العلم إذا أراد أن ينظر في ألفاظ الحديث أو ورد لديه اختلاف بين حديثين في الألفاظ فإنه ينظر في رجال الإسناد، منهم المدنيون، ومنهم غير المدنيين، غير المدنيين هم الذين يغيرون.
وكذلك أن ينظر في العرب، وينظر في الموالي، فالموالي ليسوا عرباً بالطبع، ولكن أخذوا العربية تعلماً، فربما تعلموا العربية على غير ما وضع اللفظ عليه، فعلى طالب العلم أن يلتمس الأسانيد القوية من المدنيين والعرب حتى يقرب من اللفظ النبوي.
وكذلك: كلما علا الإسناد كان أقرب إلى اللفظ بخلاف إذا نزل، والحديث إذا رواه خمسة وتناقلوه، يختلف عن الحديث الذي يرويه اثنان؛ لأنه كلما زاد العدد في الإسناد زاد احتمال التغيير، فينقله واحد عن واحد عن واحد، ثم تبدأ استحالة المتن كلما تأخر.
وأما بالنسبة لقصور الأسانيد وعلوها فيبقى التغيير بذلك يسيراً، فينتقل من الأول إلى الثاني بتغيير يسير، ثم إلى الذي يليه بتغيير يسير، فإذا توقف بإسناد عالٍ كان أقرب من الإسناد النازل الذي فيه ستة أو سبعة أو نحو ذلك.
ولكن المصنف رحمه الله هنا أشار إلى مسألتين:
المسألة الأولى: الزيادة والنقصان مؤثرة وغير مؤثرة، وهذه الزيادة منها ما هي حروف، أو ألفاظ لا تؤثر بالسياق، وذلك كإيراد النبي صلى الله عليه وسلم في ثنايا حديث، فتجد أن الصحابة يقولون: صلى الله عليه وسلم، فعندما يأتي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه جاء أعرابي إليه فقال: يا محمد! مثلاً يذكر بعدها: صلى الله عليه وسلم، وهذا من باب التجوز، لكن في القرآن مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ[الفتح:29]، هل يأتي أحد ويضع بين قوسين: صلى الله عليه وسلم في القرآن؟ لا؛ لأنها زيادة حروف، ولا يجوز للإنسان أن يضيف حرفاً في القرآن، وأما في السنة ففي ذلك شيء من التجوز.
ولهذا نقول: الحروف والألفاظ اليسيرة التي هي من بيان تعظيم أو إجلال، ويعرفها القارئ بالسياق أنها ليست من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، أو الألفاظ حتى لو ظن قارئ أنها من كلام النبي عليه الصلاة والسلام التي لا تؤثر باللفظ ولا بالسياق في كلام النبي عليه الصلاة والسلام مما يتجوز به الصحابة فضلاً عن غيرهم.
المسألة الثانية: هو تغيير اللفظ أو الحديث بتمامه بلفظ آخر يتضمن ذات المعنى، وهذا لأن لغة النبي صلى الله عليه وسلم عالية، والنبي عليه الصلاة والسلام هو أفصح العرب، ويقول كما في الأثر: (أنا أفصح العرب، ولدتني قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر فأنى يأتيني اللحن)، وبنو سعد بن بكر هم من أفصح العرب، وقريش أفصحهم، فنشأ في بيئتين لا يمكن أن يلقن أو يطرأ عليه حرف من الحروف لا يأتي على لغة العرب، وهذا هو المراد (ولدتني قريش ونشأت) يعني: تربيت وأخذت اللسان في بني سعد بن بكر فمن أين يأتيني اللحن.
ولهذا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بألفاظ وعبارات ربما يستثقلها بعض التابعين حال رواية الصحابة عليهم رضوان الله للحديث، فربما تجوز بعض الصحابة بالإتيان بالحديث بلفظ مغاير، وهذه المغايرة منها ما هي مغايرة يسيرة، ومنها ما هي مغايرة كبيرة، ومنها ما هو اختصار لتقريب المعنى، ومنها ما هي أحاديث نجزم أن النبي عليه الصلاة والسلام ما قالها إلا مرة، أو نجزم أن الصحابي ما قالها إلا مرة، ولهذا حديث: ( إنما الأعمال بالنيات )، وهو في الصحيحين، قاله عمر بن الخطاب على المنبر مرة واحدة، ورواه عنه علقمة بن وقاص الليثي ، فنقول حينئذٍ: إن هذه الرواية عن علقمة عن عمر إنما هو سماع واحد، وأخرجه البخاري في كتابه الصحيح في سبعة مواضع، وكل موضع يختلف لفظاً عن الآخر، وإن اتفق من جهة المعنى، فتارة يختصر، وتارة يكون ثمة مغايرة في اللفظ.
ولهذا نقول: إن تجوز الأئمة عليهم رحمة الله في الألفاظ مع قطعهم ويقينهم أن الحديث ما جاء إلا من وجه واحد، ولا حكاه الصحابي عن النبي عليه الصلاة والسلام إلا في موضع واحد فنقل عنه؛ لأن الأصل في الصحابة خاصة في الخطب وأمثالها أنهم لا يعيدون الكلام، حتى لا يستثقله السامع إلا في حال البيان لأمر مهم حتى لا يستشكل الناس، أو ربما جاء أحد من الناس متأخراً فيعاد الكلام إليه، ولهذا جاء عن أنس بن مالك عليه رضوان الله كما في الصحيح (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم تكلم ثلاثاً، وإذا سلم سلم ثلاثاً حتى يفهم عنه)؛ لأن الإنسان ربما يدخل مجلساً وفيه العشرات من الناس، فيسلم في ابتداء الدخول وفي وسط الدخول وفي نهايته حتى يسمع الناس السلام، أما إذا دخل الإنسان مثلاً على واحد فيسلم عليه: السلام عليكم ورحمة الله، ثم لا يعيد هذه العبارة، أو دخل على اثنين أو نحو ذلك.
إذاً: التكرار في ذاته ليس مقصوداً في كلام النبي عليه الصلاة والسلام إلا لأجل الإسماع، وكذلك لأجل الإفهام.
وقد صنف غير واحد من العلماء في مسألة التصحيف والتحريف، وكذلك في جواز الرواية بالمعنى.
ونحن نقول: إن جماهير السلف على جواز الرواية بالمعنى من عالم بالمعنى، لا يغير الإنسان اللفظ ويحيل المعنى، فربما جاء بتراكيب أخرى.
الحديث كلما بعد مخرجه عن المدينة غلب عليه تغير اللفظ، لماذا؟ لورود العجمة، وأشهر الرواة تغييراً للمعنى هم الكوفيون، وهم أكثر الرواة من التابعين، والتابعون من الكوفيين أكثر من التابعين من المدنيين؛ لكثرتهم ووفرتهم وإقبالهم، والمدينة قليلة، والناس فيها قليل، ولكن لما مصرت الأمصار في العراق في الخلافة الراشدة كثر اجتماع الناس عليها، وذلك للرزق فيها وجوها، ولأنهارها وسعة العيش فيها، وتواطأ الناس بالإتيان إليها، ثم كانت موضعاً لانطلاقة كثير من الفتوحات؛ لقربها من الأطراف، بخلاف المدينة فهي بعيدة، فكان يستوطن فيها المجاهدون، ويستوطن فيها كذلك طلاب العلم وأصحاب المصالح من التجارات وغير ذلك، فكانت أكثر اتساعاً، وكان التابعون من أهل الكوفة أكثر من التابعين من أهل المدينة من الفقهاء، وكذلك الرواة.
ولهذا نقول: إذا تغير مخرج الحديث وبعد عن المدينة، فهذا أمارة على روايته بالمعنى أو تغير عن الأقل بعض ألفاظه.
وعلى طالب العلم إذا أراد أن ينظر في ألفاظ الحديث أو ورد لديه اختلاف بين حديثين في الألفاظ فإنه ينظر في رجال الإسناد، منهم المدنيون، ومنهم غير المدنيين، غير المدنيين هم الذين يغيرون.
وكذلك أن ينظر في العرب، وينظر في الموالي، فالموالي ليسوا عرباً بالطبع، ولكن أخذوا العربية تعلماً، فربما تعلموا العربية على غير ما وضع اللفظ عليه، فعلى طالب العلم أن يلتمس الأسانيد القوية من المدنيين والعرب حتى يقرب من اللفظ النبوي.
وكذلك: كلما علا الإسناد كان أقرب إلى اللفظ بخلاف إذا نزل، والحديث إذا رواه خمسة وتناقلوه، يختلف عن الحديث الذي يرويه اثنان؛ لأنه كلما زاد العدد في الإسناد زاد احتمال التغيير، فينقله واحد عن واحد عن واحد، ثم تبدأ استحالة المتن كلما تأخر.
وأما بالنسبة لقصور الأسانيد وعلوها فيبقى التغيير بذلك يسيراً، فينتقل من الأول إلى الثاني بتغيير يسير، ثم إلى الذي يليه بتغيير يسير، فإذا توقف بإسناد عالٍ كان أقرب من الإسناد النازل الذي فيه ستة أو سبعة أو نحو ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [ فإن خفي المعنى احتيج إلى شرح الغريب وبيان المشكل ].
الغرابة في الحديث ليست غرابة مطلقة، ولكنها غرابة نسبية، يعني: بالنسبة لنا، فألفاظ الوحي وألفاظ النبي عليه الصلاة والسلام من جهة أصلها ليست غريبة؛ لأنها نزلت على عرب، ونزلت على وضع معين كان معروفاً مستقراً، فالوحي لا ينزل بغرابة، والأصل فيه البيان والظهور والجلاء، ولكن لما اتسعت البلدان واختلف وضع الألفاظ استشكل كثير من الناس بعض الألفاظ الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولأجل هذا ألف غير واحد من العلماء في غريب الحديث، فجاء غريب الحديث لـابن قتيبة وغريب الحديث للحربي ، وغريب الحديث لـأبي عبيد القاسم بن سلام ، وغريب الحديث لـابن الأثير ، وغريب الحديث للسرقسطي ، وغير هذه المصنفات في أبواب غريب الحديث، ويرتبون كثيراً على المعجم، ومنهم من يرتبه على الأبواب، فيأتون باللفظ، ثم يأتون بورودها في الحديث، ثم يبينونها ويدللون عليها، إما من أشعار العرب، أو من سياقات أخرى تبين مراد النبي صلى الله عليه وسلم بها.
قال المصنف رحمه الله: [ ثم الجهالة].
قوله: (ثم الجهالة) الجهالة هي ضد العلم، والجهل مأخوذ ومشتق من الجهل، وهو انتفاء العلم، فعلم الإنسان بشيء هو ضد جهله به، وجهله ضده، والأصل في الجهالة أنها مردودة، أي: ترد الحديث، وهي علة أيضاً.
أنواع الجهالة في الرواة
والجهالة على نوعين: جهالة عين وجهالة حال.
النوع الأول: جهالة العين هي التي لا تعرف فيها عين الراوي تحديداً، فلا يعرف نسبه، ولا يعرف حاله، ولا ربما موضعه الذي هو فيه، فإذا لم تجتمع فيه معرفة هذه الأشياء كان في الغالب من مجهول العين، فمجهول العين لا تقبل روايته لا في ذاتها ولا عاضدة لغيرها، لماذا؟ لأنه شبيه بسقط راوٍ لا يدرى من هو، وربما يكون كذاباً.
وجهالة العين تتباين وتختلف، فمنها ما هي جهالة عين لا تحتف القرائن بتعديل صاحبها، ومنها ما تحتف القرائن بتعديل صاحبها ولو كان مجهولاً في عينه، وذلك كأن يقول إمام من الأئمة: حدثني الثقة، ثم يذكر الحديث، أو يذكر شيخه، وهذا فيه نوع تعديل، ولكنه لا يخرجه ذلك عن جهالة عينه.
النوع الثاني: جهالة الحال، وهي الجهالة التي يعرف فيها عين الرجل، ومعنى (تعرف عينه) أن هذا فلان بن فلان، وأبوه معروف، ولكن لا تعرف حاله من جهة العدالة والضبط، كأن يأتي شخص يقول لك: أنا محمد بن زيد، وأنت تعرف زيد، فتقول: زيد بن فلان الذي في الحي الفلاني؟ يقول لك: نعم، هو في الحي الفلاني له ابن اسمه محمد؟ تقول: نعم، قد رأيته وزرته، وكان ابنه عنده، لكني لا أعرفه، فهذه جهالة حال، فهو عرف عينه وعرف أهله، وعرف كذلك اسم أبيه، ولكنه جهل حاله، فلا يدري هل الرجل صالح أو ليس بصالح، الرجل ضابط أو ليس بضابط وغير ذلك.
وللتفريق بين الجهالتين يقول العلماء: إن جهالة العين ما يرويه واحد عن المجهول، فيكون هذا مجهول العين، ولم يوثق بالطبع، وأما جهالة الحال فهو ما يرويه اثنان أو ثلاثة عن راو، ويكون في هذا مجهول الحال، إذا لم يوثق.
القرائن المؤثرة في جهالة الرواة
ونلحظ في كتب المصطلح وقواعد الحديث أنهم عند ذكرهم لجهالة الحال يهتمون بعدد الرواة الذين يروون عن المجهول، فيقولون: يروي عنه اثنان أو ثلاثة، وربما إذا وجدوا ثلاثة قالوا: ارتفعت عنه الجهالة، وهذا فيما أرى هو أخذ صحيح لكنه قاصر، فثمة مؤثرات في الجهالة قد تجعل الراوي إذا روى عنه اثنان أنه عدل وثقة، وربما يروي عنه ثلاثة ويبقى على جهالته. لكن ما هي القرائن المؤثرة في هذا؟ هي قرائن متعددة:
القرينة الأولى: معرفة التلاميذ من جهة العدد ومن جهة الجلالة.
وفي الرواة لدينا أمران:
الأمر الأول: العدد، فاثنان يختلفون عن ثلاثة، واثنان يختلفون عن واحد، وهكذا، وإذا زاد العدد فإنه كان أقوى اعتباراً ورفعاً لجهالة الراوي.
الأمر الثاني: عدالة في الرواة وقيمة، العدد وعدالة الرواة، فـمالك عندما يروي عن مجهول يكون أقوى من اثنين يروون عن مجهول؛ لأن مالك إمام لا يتفرغ لسماع حديث عن راوٍ ثم لا يكون عدلاً؛ لأنه شديد الاحتياط، وكذلك سفيان بن عيينة ، سفيان الثوري ، شعبة بن الحجاج وأضراب هؤلاء، فهؤلاء الواحد منهم أثقل من الاثنين والثلاثة، بل والأربعة إذا رووا عن مجهول، ولهذا ينبغي أن نلتفت إلى هذه الأشياء.
القرينة الثانية: النظر إلى شيوخ المجهول، فمجهول يروي عن مالك يختلف عن مجهول يروي عن غيره، وهذا أيضاً على النوعين السابقين، ينظر إلى العدد وينظر إلى القيمة، فمجهول يروي عن شيخين يختلف عن مجهول يروي عن شيخ واحد، ومجهول يروي عن مالك يختلف عن مجهول يروي عن غيره من الرواة من المتوسطين، ومجهول يروي عن رجل أجنبي يختلف عن مجهول يروي عن أبيه، فتفرده بروايته عن أبيه محتملة؛ لأنه من آل بيت أبيه، وإذا لم يرو هو عن أبيه، فمن يروي؟!
وعلى هذا نقول: رواية المجهول عن أبيه تختلف عن رواية المجهول عن أجنبي عنه، خاصة إذا بعدت البلدان، كأن يروي مجهول كوفي عن معلوم مدني، فإن هذا فيه غرابة، أين التقيا؟ ثم أيضاً كيف هذا الرجل يكون لديه همة في الطلب، ويذهب إلى المدينة ولا يسمع إلا هذا الحديث ويبقى مجهولاً، هذا فيه نوع من التعارض، وهذا من مواضع القدح، فننظر إلى كونه بلدي له وقريب منه، أخذ عنه أو كان بعيداً عنه.
القرينة الثالثة: أن ننظر إلى المتن الذي يرويه المجهول، فإذا كان المتن جليل القدر، ومن المعاني الظاهرة في الإسلام، فإن لدينا في معاني الحديث أصول وفروع، فالأول: ما يتعلق بالأصول ويدخل في هذا مسائل العقائد، ويلحق في مسائل العقائد الأصول الكلية في الإسلام كأركان الإسلام ونحوها، وإن لم تكن داخلة في باب العقائد أصالة، لكنها تلحق بذلك لكونها من الأصول والدعائم العظيمة التي بني عليها الإسلام. الثاني: لدينا فروع، وذلك ككثير من العبادات التي يفعلها الإنسان من السنن، والصلوات كصلاة العيد وصلاة الاستسقاء، وصلاة الكسوف، وقيام الليل، والوتر، وسنة الفجر، وتحية المسجد، وأبواب المعاملات، والنكاح، والطلاق، والحدود، والتعزيرات، والمواريث، فهذه فروع.
نقول: إن رواية المجهول لحديث في الأصول لا يحتمل منه غالباً، وروايته في شيء من الفروع هي دون ذلك، قد يحتمل منه تارة، ولا يحتمل منه تارة.
وكلامنا هنا على مجهول الحال، لا على مجهول العين؛ لأن مجهول العين لا تقبل روايته على الإطلاق، فلا يقوى بنفسه على الاحتمال، ولا يقويه غيره، ولهذا لا بد من النظر أيضاً للمتن الذي يرويه: هل مثل هذا يحمله أن يروي في فضائل الأعمال، أو في السير، أو في المغازي، أو في التفسير، أو في الفتن والملاحم، فهذه أمور سهلة يمكن للإنسان أن يتجوز فيها، وأما إذا روى معان كثيرة، فإن هذا مما لا يقبل.
والتقسيم في مسائل الدين فيه اعتباران:
الاعتبار الأول: اعتبار القيمة وهي الأصول والفروع على ما تقدم.
الاعتبار الثاني: الشهرة والخفاء، فنقول: إن أقسام معاني الحديث على نوعين:
النوع الأول: أعلام مسائل مشهورة، منها ما هو من أصول الدين، ومنها ما هو من فروع الدين.
النوع الثاني: مسائل أو معاني خفية، ويدخل في هذا أصول وفروع، ونشدد في النوع الأول كما نشدد في الأصول، ولو كانت فروع، ولا نشدد في الثاني ولو كانت أصولاً. ما هي أعلام المسائل؟ تتداخل عقيدة أو غير عقيدة، نجعل ما يتعلق بتوحيد الله والشركيات وغير ذلك يتساوى معه تشديداً، فمن أعلام المسائل الأذان، فالأذان يرفع في اليوم والليلة خمس مرات، وربما يضبط أعظم من الأصول، وربما يضبط أعظم من مسائل الزكاة مع كونه من أعلام المسائل والأمور السهلة، فإذا جاء أحد من الرواة بلفظ في الأذان لم يأت به أحد غيره، ألم نشدد عليه؟
يأتينا أحد يقول: إنكم بالاعتبار الأول قلتم: الفروع يتساهل فيها، نقول: نحن قسمنا من باب التقريب الأمور إلى قسمين، باعتبار قيمة المتن، وباعتبار الشهرة والخفاء، فإذا ضبطنا هذين الاعتبارين عرفنا موضع التساهل مع موضع التشديد.
ومن هذه المسائل أيضاً ما يتعلق بالجهر بالبسملة في الصلاة، وهذه من أعلام المسائل، فكم مرة يقرأ الإمام بالصلاة الجهرية في اليوم والليلة؟ يصلي ركعتين في الفجر، وركعتين في المغرب، وركعتين في العشاء، وربما زادت في بعض الأيام ركعتين صلاة الجمعة وأضيفت إلى هذا، وكذلك ربما جاء في بعض المواضع ما يتعلق بصلاة العيد وأشباهها، فهي إذاً تتكرر كثيراً في اليوم الواحد على الإنسان، والأصل أنها تضبط، ونحن نطالب التشديد فيها أكثر من تشديدنا لبعض مسائل الصيام، لماذا؟ لأن مسائل الصيام الفرضية حولية.
ولهذا ما يرد على مسامع الناس ويشتهر، ثم ينفرد به راو مثلاً مستور فإننا نشدد فيه، أو ربما حتى لو كان راوياً صدوقاً فيه ضبط، ولكن ضبطه يسير، فنرد تفرده بالروايات، ولهذا تجد جمهور الأئمة يعلون الأحاديث الواردة في الجهر بالبسملة في الصلاة، لماذا؟ لأنه لم يروها الكبار، وأشهر ما جاء في هذا هو حديث نعيم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( صلى بنا أبو هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2]، ولما انتهى قال: هذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وهذه المسألة ينبغي أن يرويها مالك عن نافع عن ابن عمر ، أو يرويها سالم عن ابن عمر ، لأنه يراه الكبار، فمن أقرب الناس إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم دنواً موضعاً، أليس العلية من الكبار؟ نعم، خلف النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة أبو بكر و عمر و عثمان ، علي بن أبي طالب ، وليست أمراً عارضاً، بل على سبيل الدوام، ومثل هذه تطبق.
بل قد نشدد في بعض المسائل الفرعية ما لم نشدد أحياناً في بعض المسائل الأصول المتباعدة، فنشدد في التورك، ونشدد أحياناً في الإشارة بالأصبع، ونشدد في صفة الرفع باليدين، وطريقة السجود ونحو ذلك، فإذا جاء راوٍ بصفة من السجود لم يروها غيره نقوم بإنكارها، لماذا؟ لأن هذا موضع مشاهدة وما يسمى بأعلام المسائل ومشهورها، وهذا نما ينبغي لطالب العلم أن يضبطه.
القرينة الرابعة: التفريق بين الرجل والمرأة، فجهالة المرأة تحمل، لماذا؟ لأن الأصل فيها الستر، بمعنى أنه لا يوصل إلى معرفة حالها، فتجد الجار لا يعرف حال امرأة جاره وهو يجاوره في ذلك سنين؛ لماذا؟ لأن الأصل في النساء الستر، والابتعاد عن مواضع الرجال، ولكن يجاور جاره ويعرف حاله، وحال أبنائه في بضعة أيام، لماذا؟ لأن الأصل فيهم العلم.
وما كان الأصل فيه الخفاء ويتعذر على الإنسان معرفته فإنه يخفف فيه، وأن هذا ليس بمقدور الإنسان أن يصل إلى معرفة الحال، فيتسامح في ذلك، وأما بالنسبة إلى ما معرفته ممكنة ثم لا يعرف، يعني: أنه لا يحضر مجالس العلم، وليس معروفاً بالرواية، فلماذا لم يعرفه أهل بلده، ولهذا يقومون بالتشديد بجهالة الرجل وعدم التشديد بجهالة المرأة، وليس هذا يتعلق بحقوق المرأة، وإنما هو باب آخر، فيتسامحون في المرأة ولا يتسامحون في الرجل.
القرينة الخامسة: كثرة الحديث وقلته، ونحن قلنا: إن الأئمة عليهم رحمة الله ينظرون إلى رواية الراوي برواية الرواة عن المجهول، هل هم اثنان أو ثلاثة أو واحد، وهذا هو الغالب في كلام العلماء، ولكن قلنا: إنه ينظر للتلاميذ، ينظر لنوع الرواة، ينظر لنوع الشيوخ، ينظر إلى عدد الأحاديث، لماذا ننظر إلى عدد الأحاديث؟ لأن رواية المجهول ربما تكون عن شيخ واحد روى عنه حديثين، وربما ثلاثة، وربما أربعة، وربما له شيخان لم يرو عنهما إلا اثنين.
ولهذا نقول: قلة الشيوخ وقلة الرواة عنه من التلاميذ لا تعني كثرة وقلة، فربما لا يعرف هذا الراوي إلا في هذا الإسناد، ولكن لديه خمسة أو ستة أو عشرة من الأحاديث، وهذا أقرب إلى التعديل، لماذا؟ لأن لدينا آلة قد وضعها أمامنا لسبرها، وتقدم معنا تعريف السبر، وهو النظر في أحوال وأعيان معدودة للخروج بحكم على واحد.
مثلاً حينما يأتيك شخص، وأنت لست بخبير به من أهل البلد أو نحو ذلك، أليست مثلاً ملامح الناس ووجوه الناس تختلف؟ فيأتيك ويقول: احكم على وجه هذا الرجل هل هو مريض أو حزين أو ليس بحزين؟ تقول: لا. لا أستطيع، ملامح الناس تختلف، لكن أعطني عشرين من أهل البلد لأنظر إليهم، أو من إخوانه وأهله فأستطيع أن أنظر إليهم، ثم أخرج بحكم على هذا أن هذا يختلف عنهم، ولهذا إذا أعطاك الراوي مساحة كلما اتسعت قوي سبرك لك، فالمجهول الذي يروي عشرة أحاديث قد أعطاك آلة للخروج بحكم عليه، فتقوم بسبر عشرة أحاديث عليه، وإذا وجدت أن هذه الأحاديث مستقرة من جهة المعنى ومستقيمة لا تخالف الثقات، فتستطيع حينئذٍ أن تقول على هذا الراوي ثقة.
ولهذا بعض الذين يتعللون بالمجهول، ويربطون الجهالة برواية التلاميذ اثنين أو ثلاثة، ثم يقول: وجدنا راوياً ثالثاً إذاً نرفع الجهالة عنه، وربما عارضوا كلام الأئمة من المتقدمين، أو قالوا: هذا مجهول يتناقض فيه ذلك الإمام لماذا؟ لأنه قال في هذا الراوي: مجهول، وقال في هذا: ثقة، مع أن كلا الراويين لم يرو عنهما إلا اثنان، هل هذا على إطلاقه؟ لا. هذا روى عنه اثنان، ولكن روى لنا عشرة أحاديث، وهي موضع اختبار وتحليل فوجدناها كلها مستقيمة، فأطلقنا عليه الثقة.
كذلك: من يروي لنا حديثاً واحداً ويروي عنه اثنان، أو ربما يروي ثلاثة، وليس له إلا حديث واحد، نقول: من يروي عنه اثنان، أو بل من يروي عنه واحد من الرواة وهو معروف باسمه، ثم لدينا عشرة أحاديث يرويها وهي مستقيمة فنقوم بتوثيقه.
القرينة السادسة: عمل المجهول له أثر على عدالته، بمعنى: أن المجهول كيف يكون هذا؟ مجهول مؤذن أو إمام مسجد، هل يستوي مع مجهول لا يعرف له ارتباط بشيء، كأن يقال مثلاً: أبو زيد أو أبو مريم مؤذن الكوفة، ويبقى مجهولاً على هذا الوصف، أي: لا نعرفه إلا بهذا، ولم يرو عنه إلا اثنان، وهذا يختلف عن قولنا: أبو زيد الكوفي فقط، يختلف؛ لأن عمله أعطاه نوع تعديل، والناس لا تصدر أحداً للأذان، ويبقى ثابتاً على ذلك حتى يصبح لقباً عليه إلا وقد استقر فيه أصل العدالة، أو أن يوصف بشيء من أعمال البر والطاعات، كأن يقال: العابد أو الزاهد أو نحو ذلك، نعم قد يكون زاهداً، لكنه في باب الرواية مجهول، كـمالك بن دينار الإمام الزاهد المشهور، تجد الأئمة في أبواب الرواية يقولون: مجهول أو مستور؛ لماذا؟ لأنه لم يشتهر بالرواية عنه للحديث، فبقي من باب الرواية ومن جهة عدد الرواة في الأخذ عنه تكلم عليه العلماء بالجهالة.
كذلك: إذا وصف بالتفرغ بالجهاد أو بالقضاء أو الإقراء، فيوجد راوٍ مقرئ معروف بالقراءة، لكنه في رواية الحديث لا يعرف، فيعتبر حينئذٍ مجهولاً، وهذا يختلف عن غيره، إذاً عمله وحرفته قد تعطينا نوعاً من تزكيته.
القرينة السابعة: بلد المجهول، فالمجهول المدني يختلف عن المجهول الكوفي؛ لماذا؟ لأن المدينة لم يظهر فيها الكذب إلا متأخراً، ولم يوجد الكذب في المدينة في طبقة التابعين أبداً، ووجد في طبقة التابعين في جميع البلدان سوى مكة، ولهذا نقول: إن المدينة لها أثر في دفع ظنة عدم العدالة.
القرينة الثامنة: طبقة المجهول، فمجهول في طبقة متأخرة في السابعة والثامنة يختلف عن مجهول في الطبقة الثالثة أو الطبقة الثانية أو الرابعة، وكلما تقدم طبقة قرب من زمن الفضل وزمن العدالة وانتفاء تهمة الكذب.
سبب جهالة الراوي
قال المصنف رحمه الله: [ ثم الجهالة؛ وسببها أن الراوي قد تكثر نعوته، فيذكر بغير ما اشتهر به لغرض، وصنفوا فيه الموضح].
الرواة في سائر البلدان سواءً كانوا في بلدة واحدة أو تعددت البلدان قد يشترك معه غيرهم بالاسم، فيلتبس على بعض النقلة خاصة إذا اشتركوا في طبقة واحدة، وإذا اختلفت الطبقة فالأمر في ذلك هين، ولكن إن اتحدوا في طبقة واحدة ويكون ثمة أحمد ومحمد البصري، أو أحمد بن عبد الله أو أحمد بن سليمان، ويوجد أنه يشاركه وهم اثنان أو ثلاثة، بعض المترجمين يجعلهما واحد خاصة إن اجتمعت قلة الراوية عند الراوي مع من يشترك معه في ذات الاسم، فقلت الرواية عند الاثنين والثلاثة، واشتركا في الطبقة، واشتركا في ربما أيضاً في الشيوخ، وفي البلد، فهذا يلتبس، ويؤلف في ذلك العلماء كشفاً للأوهام، وأحاديث في ذلك، في موضحات الجمع والتفريق، للتفريق بين هذا الراوي وغيره، فيقولون: إن في هذا الاسم اثنين، فلان بن فلان، وهو كوفي، وفلان بن فلان بصري، أو كوفيان، ويميزون بينهما بشيء من الدلالات في هذا على اعتبارات وقرائن كثيرة، وثمة مصنفات في ذلك، ومن أوائل من صنف في هذا الخطيب البغدادي وغيره.
رواية المبهم
قال المصنف رحمه الله: [ وقد يكون مقلاً فلا يكثر الأخذ عنه، وصنفوا فيه الوحدان، أو لا يسمى اختصاراً، وفيه المبهمات، ولا يقبل المبهم، ولو أبهم بلفظ التعديل على الأصح].
المبهم ما لم يعين، كأن يقال: رجل في الرجال، أو يقال في بلد: ذهب إلى بلدة كذا، فلا يعين، أو يقال: امرأة فلا يعين، فهذا له مصنفات في ذلك، كالمبهمات لـابن بشكوال .
والمبهمات تكون في الأسانيد وتكون في المتون.
ويعرف الإنسان المبهمات بجمع الطرق، فإذا كان لديه إبهام في المتن يبحث في الطرق، ثم يجد من يسمي ذلك الراوي، إما في الإسناد أو في المتن، أو يسمي تلك البلد إذا كان لها أثر في المعنى، فيجمع الطرق فيتحصل له ذلك.
وقوله: (وصنفوا فيه الوحدان) الوحدان هي المفاريد، والأحاديث التي لا يروي فيها إلا واحد عن واحد هي الأحاديث الغريبة، ولها مظان، وثمة مصنفات في ذلك، منها كتاب الآحاد والمثاني لـابن أبي عاصم ، والمسند للبزار ، ومعجم الطبراني وغيرها.
قوله: (ولا يقبل المبهم، ولو أبهم بلفظ التعديل على الأصح) فالمبهم لا يقبل، ولو علل أو وصف بشيء، إن رأيتم شيخاً مكياً، أو رأيتم شيخاً في مكة، أو رأيتم رجلاً يقرأ القرآن حدثني عن أبيه أنه قال كذا أو نحو ذلك، فمثل هذه الأوصاف لا تغنينا شيئاً؛ لأنه لو عرفه لوصفه، وهو عدل عنده، وعدالته عنده لا يعني أنها عدالة عند الأئمة.
وذلك كقول الشافعي رحمه الله في مواضع من الأم: حدثني الثقة، وهو ثقة عنده، ويحسن الظن به، ولكن عند غيره من الأئمة ليس بعدل، وذلك أن عادة الإمام الشافعي إذا حدث عن شيخ من شيوخه قال: حدثني فلان بن فلان، وفي هذا قرينة على أن غيره يتهمه، ويريد أن يبتعد لجلالة قدره وديانته عن التدليس، فيدلسه، فذكره بوصف يعدله فيه، فقال: حدثني الثقة، ويريد في الغالب إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي ، وتارة يريد غيره.
التفريق بين مجهول العين ومجهول الحال
قال المصنف رحمه الله: [فإن سمي وانفرد واحداً عنه فمجهول العين، أو اثنين فصاعداً ولم يوثق فمجهول الحال، وهو المستور].
هذا على ما تقدم الكلام عليه، أن العلماء غالباً في التفريق بينهما يذكرون الرواة عنه، ويجعلون ذلك علماً على التفريق، وهذا التنظير جعل بعض الناس يستدرك على الأئمة وصفهم لبعض الرواة بالثقة، ولم يرو عنه إلا اثنان، ووصفهم لآخر بالجهالة، ولم يرو عنه إلا اثنان، ويقولون: إنه لم يجرووا على طريقة منضبطة، نقول: لماذا؟ لأن ثمة قرائن أخرى لم تكن حاضرة في ذهن هذا المتكلم، ولا في ذهن غيره، فهي موجودة عند العلماء، فرفعوا هذا لاعتبارات، ووضعوا هذا لاعتبارات مع الاشتراك في عدد الرواة عنه.
والجهالة على نوعين: جهالة عين وجهالة حال.
النوع الأول: جهالة العين هي التي لا تعرف فيها عين الراوي تحديداً، فلا يعرف نسبه، ولا يعرف حاله، ولا ربما موضعه الذي هو فيه، فإذا لم تجتمع فيه معرفة هذه الأشياء كان في الغالب من مجهول العين، فمجهول العين لا تقبل روايته لا في ذاتها ولا عاضدة لغيرها، لماذا؟ لأنه شبيه بسقط راوٍ لا يدرى من هو، وربما يكون كذاباً.
وجهالة العين تتباين وتختلف، فمنها ما هي جهالة عين لا تحتف القرائن بتعديل صاحبها، ومنها ما تحتف القرائن بتعديل صاحبها ولو كان مجهولاً في عينه، وذلك كأن يقول إمام من الأئمة: حدثني الثقة، ثم يذكر الحديث، أو يذكر شيخه، وهذا فيه نوع تعديل، ولكنه لا يخرجه ذلك عن جهالة عينه.
النوع الثاني: جهالة الحال، وهي الجهالة التي يعرف فيها عين الرجل، ومعنى (تعرف عينه) أن هذا فلان بن فلان، وأبوه معروف، ولكن لا تعرف حاله من جهة العدالة والضبط، كأن يأتي شخص يقول لك: أنا محمد بن زيد، وأنت تعرف زيد، فتقول: زيد بن فلان الذي في الحي الفلاني؟ يقول لك: نعم، هو في الحي الفلاني له ابن اسمه محمد؟ تقول: نعم، قد رأيته وزرته، وكان ابنه عنده، لكني لا أعرفه، فهذه جهالة حال، فهو عرف عينه وعرف أهله، وعرف كذلك اسم أبيه، ولكنه جهل حاله، فلا يدري هل الرجل صالح أو ليس بصالح، الرجل ضابط أو ليس بضابط وغير ذلك.
وللتفريق بين الجهالتين يقول العلماء: إن جهالة العين ما يرويه واحد عن المجهول، فيكون هذا مجهول العين، ولم يوثق بالطبع، وأما جهالة الحال فهو ما يرويه اثنان أو ثلاثة عن راو، ويكون في هذا مجهول الحال، إذا لم يوثق.
ونلحظ في كتب المصطلح وقواعد الحديث أنهم عند ذكرهم لجهالة الحال يهتمون بعدد الرواة الذين يروون عن المجهول، فيقولون: يروي عنه اثنان أو ثلاثة، وربما إذا وجدوا ثلاثة قالوا: ارتفعت عنه الجهالة، وهذا فيما أرى هو أخذ صحيح لكنه قاصر، فثمة مؤثرات في الجهالة قد تجعل الراوي إذا روى عنه اثنان أنه عدل وثقة، وربما يروي عنه ثلاثة ويبقى على جهالته. لكن ما هي القرائن المؤثرة في هذا؟ هي قرائن متعددة:
القرينة الأولى: معرفة التلاميذ من جهة العدد ومن جهة الجلالة.
وفي الرواة لدينا أمران:
الأمر الأول: العدد، فاثنان يختلفون عن ثلاثة، واثنان يختلفون عن واحد، وهكذا، وإذا زاد العدد فإنه كان أقوى اعتباراً ورفعاً لجهالة الراوي.
الأمر الثاني: عدالة في الرواة وقيمة، العدد وعدالة الرواة، فـمالك عندما يروي عن مجهول يكون أقوى من اثنين يروون عن مجهول؛ لأن مالك إمام لا يتفرغ لسماع حديث عن راوٍ ثم لا يكون عدلاً؛ لأنه شديد الاحتياط، وكذلك سفيان بن عيينة ، سفيان الثوري ، شعبة بن الحجاج وأضراب هؤلاء، فهؤلاء الواحد منهم أثقل من الاثنين والثلاثة، بل والأربعة إذا رووا عن مجهول، ولهذا ينبغي أن نلتفت إلى هذه الأشياء.
القرينة الثانية: النظر إلى شيوخ المجهول، فمجهول يروي عن مالك يختلف عن مجهول يروي عن غيره، وهذا أيضاً على النوعين السابقين، ينظر إلى العدد وينظر إلى القيمة، فمجهول يروي عن شيخين يختلف عن مجهول يروي عن شيخ واحد، ومجهول يروي عن مالك يختلف عن مجهول يروي عن غيره من الرواة من المتوسطين، ومجهول يروي عن رجل أجنبي يختلف عن مجهول يروي عن أبيه، فتفرده بروايته عن أبيه محتملة؛ لأنه من آل بيت أبيه، وإذا لم يرو هو عن أبيه، فمن يروي؟!
وعلى هذا نقول: رواية المجهول عن أبيه تختلف عن رواية المجهول عن أجنبي عنه، خاصة إذا بعدت البلدان، كأن يروي مجهول كوفي عن معلوم مدني، فإن هذا فيه غرابة، أين التقيا؟ ثم أيضاً كيف هذا الرجل يكون لديه همة في الطلب، ويذهب إلى المدينة ولا يسمع إلا هذا الحديث ويبقى مجهولاً، هذا فيه نوع من التعارض، وهذا من مواضع القدح، فننظر إلى كونه بلدي له وقريب منه، أخذ عنه أو كان بعيداً عنه.
القرينة الثالثة: أن ننظر إلى المتن الذي يرويه المجهول، فإذا كان المتن جليل القدر، ومن المعاني الظاهرة في الإسلام، فإن لدينا في معاني الحديث أصول وفروع، فالأول: ما يتعلق بالأصول ويدخل في هذا مسائل العقائد، ويلحق في مسائل العقائد الأصول الكلية في الإسلام كأركان الإسلام ونحوها، وإن لم تكن داخلة في باب العقائد أصالة، لكنها تلحق بذلك لكونها من الأصول والدعائم العظيمة التي بني عليها الإسلام. الثاني: لدينا فروع، وذلك ككثير من العبادات التي يفعلها الإنسان من السنن، والصلوات كصلاة العيد وصلاة الاستسقاء، وصلاة الكسوف، وقيام الليل، والوتر، وسنة الفجر، وتحية المسجد، وأبواب المعاملات، والنكاح، والطلاق، والحدود، والتعزيرات، والمواريث، فهذه فروع.
نقول: إن رواية المجهول لحديث في الأصول لا يحتمل منه غالباً، وروايته في شيء من الفروع هي دون ذلك، قد يحتمل منه تارة، ولا يحتمل منه تارة.
وكلامنا هنا على مجهول الحال، لا على مجهول العين؛ لأن مجهول العين لا تقبل روايته على الإطلاق، فلا يقوى بنفسه على الاحتمال، ولا يقويه غيره، ولهذا لا بد من النظر أيضاً للمتن الذي يرويه: هل مثل هذا يحمله أن يروي في فضائل الأعمال، أو في السير، أو في المغازي، أو في التفسير، أو في الفتن والملاحم، فهذه أمور سهلة يمكن للإنسان أن يتجوز فيها، وأما إذا روى معان كثيرة، فإن هذا مما لا يقبل.
والتقسيم في مسائل الدين فيه اعتباران:
الاعتبار الأول: اعتبار القيمة وهي الأصول والفروع على ما تقدم.
الاعتبار الثاني: الشهرة والخفاء، فنقول: إن أقسام معاني الحديث على نوعين:
النوع الأول: أعلام مسائل مشهورة، منها ما هو من أصول الدين، ومنها ما هو من فروع الدين.
النوع الثاني: مسائل أو معاني خفية، ويدخل في هذا أصول وفروع، ونشدد في النوع الأول كما نشدد في الأصول، ولو كانت فروع، ولا نشدد في الثاني ولو كانت أصولاً. ما هي أعلام المسائل؟ تتداخل عقيدة أو غير عقيدة، نجعل ما يتعلق بتوحيد الله والشركيات وغير ذلك يتساوى معه تشديداً، فمن أعلام المسائل الأذان، فالأذان يرفع في اليوم والليلة خمس مرات، وربما يضبط أعظم من الأصول، وربما يضبط أعظم من مسائل الزكاة مع كونه من أعلام المسائل والأمور السهلة، فإذا جاء أحد من الرواة بلفظ في الأذان لم يأت به أحد غيره، ألم نشدد عليه؟
يأتينا أحد يقول: إنكم بالاعتبار الأول قلتم: الفروع يتساهل فيها، نقول: نحن قسمنا من باب التقريب الأمور إلى قسمين، باعتبار قيمة المتن، وباعتبار الشهرة والخفاء، فإذا ضبطنا هذين الاعتبارين عرفنا موضع التساهل مع موضع التشديد.
ومن هذه المسائل أيضاً ما يتعلق بالجهر بالبسملة في الصلاة، وهذه من أعلام المسائل، فكم مرة يقرأ الإمام بالصلاة الجهرية في اليوم والليلة؟ يصلي ركعتين في الفجر، وركعتين في المغرب، وركعتين في العشاء، وربما زادت في بعض الأيام ركعتين صلاة الجمعة وأضيفت إلى هذا، وكذلك ربما جاء في بعض المواضع ما يتعلق بصلاة العيد وأشباهها، فهي إذاً تتكرر كثيراً في اليوم الواحد على الإنسان، والأصل أنها تضبط، ونحن نطالب التشديد فيها أكثر من تشديدنا لبعض مسائل الصيام، لماذا؟ لأن مسائل الصيام الفرضية حولية.
ولهذا ما يرد على مسامع الناس ويشتهر، ثم ينفرد به راو مثلاً مستور فإننا نشدد فيه، أو ربما حتى لو كان راوياً صدوقاً فيه ضبط، ولكن ضبطه يسير، فنرد تفرده بالروايات، ولهذا تجد جمهور الأئمة يعلون الأحاديث الواردة في الجهر بالبسملة في الصلاة، لماذا؟ لأنه لم يروها الكبار، وأشهر ما جاء في هذا هو حديث نعيم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( صلى بنا أبو هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2]، ولما انتهى قال: هذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وهذه المسألة ينبغي أن يرويها مالك عن نافع عن ابن عمر ، أو يرويها سالم عن ابن عمر ، لأنه يراه الكبار، فمن أقرب الناس إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم دنواً موضعاً، أليس العلية من الكبار؟ نعم، خلف النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة أبو بكر و عمر و عثمان ، علي بن أبي طالب ، وليست أمراً عارضاً، بل على سبيل الدوام، ومثل هذه تطبق.
بل قد نشدد في بعض المسائل الفرعية ما لم نشدد أحياناً في بعض المسائل الأصول المتباعدة، فنشدد في التورك، ونشدد أحياناً في الإشارة بالأصبع، ونشدد في صفة الرفع باليدين، وطريقة السجود ونحو ذلك، فإذا جاء راوٍ بصفة من السجود لم يروها غيره نقوم بإنكارها، لماذا؟ لأن هذا موضع مشاهدة وما يسمى بأعلام المسائل ومشهورها، وهذا نما ينبغي لطالب العلم أن يضبطه.
القرينة الرابعة: التفريق بين الرجل والمرأة، فجهالة المرأة تحمل، لماذا؟ لأن الأصل فيها الستر، بمعنى أنه لا يوصل إلى معرفة حالها، فتجد الجار لا يعرف حال امرأة جاره وهو يجاوره في ذلك سنين؛ لماذا؟ لأن الأصل في النساء الستر، والابتعاد عن مواضع الرجال، ولكن يجاور جاره ويعرف حاله، وحال أبنائه في بضعة أيام، لماذا؟ لأن الأصل فيهم العلم.
وما كان الأصل فيه الخفاء ويتعذر على الإنسان معرفته فإنه يخفف فيه، وأن هذا ليس بمقدور الإنسان أن يصل إلى معرفة الحال، فيتسامح في ذلك، وأما بالنسبة إلى ما معرفته ممكنة ثم لا يعرف، يعني: أنه لا يحضر مجالس العلم، وليس معروفاً بالرواية، فلماذا لم يعرفه أهل بلده، ولهذا يقومون بالتشديد بجهالة الرجل وعدم التشديد بجهالة المرأة، وليس هذا يتعلق بحقوق المرأة، وإنما هو باب آخر، فيتسامحون في المرأة ولا يتسامحون في الرجل.
القرينة الخامسة: كثرة الحديث وقلته، ونحن قلنا: إن الأئمة عليهم رحمة الله ينظرون إلى رواية الراوي برواية الرواة عن المجهول، هل هم اثنان أو ثلاثة أو واحد، وهذا هو الغالب في كلام العلماء، ولكن قلنا: إنه ينظر للتلاميذ، ينظر لنوع الرواة، ينظر لنوع الشيوخ، ينظر إلى عدد الأحاديث، لماذا ننظر إلى عدد الأحاديث؟ لأن رواية المجهول ربما تكون عن شيخ واحد روى عنه حديثين، وربما ثلاثة، وربما أربعة، وربما له شيخان لم يرو عنهما إلا اثنين.
ولهذا نقول: قلة الشيوخ وقلة الرواة عنه من التلاميذ لا تعني كثرة وقلة، فربما لا يعرف هذا الراوي إلا في هذا الإسناد، ولكن لديه خمسة أو ستة أو عشرة من الأحاديث، وهذا أقرب إلى التعديل، لماذا؟ لأن لدينا آلة قد وضعها أمامنا لسبرها، وتقدم معنا تعريف السبر، وهو النظر في أحوال وأعيان معدودة للخروج بحكم على واحد.
مثلاً حينما يأتيك شخص، وأنت لست بخبير به من أهل البلد أو نحو ذلك، أليست مثلاً ملامح الناس ووجوه الناس تختلف؟ فيأتيك ويقول: احكم على وجه هذا الرجل هل هو مريض أو حزين أو ليس بحزين؟ تقول: لا. لا أستطيع، ملامح الناس تختلف، لكن أعطني عشرين من أهل البلد لأنظر إليهم، أو من إخوانه وأهله فأستطيع أن أنظر إليهم، ثم أخرج بحكم على هذا أن هذا يختلف عنهم، ولهذا إذا أعطاك الراوي مساحة كلما اتسعت قوي سبرك لك، فالمجهول الذي يروي عشرة أحاديث قد أعطاك آلة للخروج بحكم عليه، فتقوم بسبر عشرة أحاديث عليه، وإذا وجدت أن هذه الأحاديث مستقرة من جهة المعنى ومستقيمة لا تخالف الثقات، فتستطيع حينئذٍ أن تقول على هذا الراوي ثقة.
ولهذا بعض الذين يتعللون بالمجهول، ويربطون الجهالة برواية التلاميذ اثنين أو ثلاثة، ثم يقول: وجدنا راوياً ثالثاً إذاً نرفع الجهالة عنه، وربما عارضوا كلام الأئمة من المتقدمين، أو قالوا: هذا مجهول يتناقض فيه ذلك الإمام لماذا؟ لأنه قال في هذا الراوي: مجهول، وقال في هذا: ثقة، مع أن كلا الراويين لم يرو عنهما إلا اثنان، هل هذا على إطلاقه؟ لا. هذا روى عنه اثنان، ولكن روى لنا عشرة أحاديث، وهي موضع اختبار وتحليل فوجدناها كلها مستقيمة، فأطلقنا عليه الثقة.
كذلك: من يروي لنا حديثاً واحداً ويروي عنه اثنان، أو ربما يروي ثلاثة، وليس له إلا حديث واحد، نقول: من يروي عنه اثنان، أو بل من يروي عنه واحد من الرواة وهو معروف باسمه، ثم لدينا عشرة أحاديث يرويها وهي مستقيمة فنقوم بتوثيقه.
القرينة السادسة: عمل المجهول له أثر على عدالته، بمعنى: أن المجهول كيف يكون هذا؟ مجهول مؤذن أو إمام مسجد، هل يستوي مع مجهول لا يعرف له ارتباط بشيء، كأن يقال مثلاً: أبو زيد أو أبو مريم مؤذن الكوفة، ويبقى مجهولاً على هذا الوصف، أي: لا نعرفه إلا بهذا، ولم يرو عنه إلا اثنان، وهذا يختلف عن قولنا: أبو زيد الكوفي فقط، يختلف؛ لأن عمله أعطاه نوع تعديل، والناس لا تصدر أحداً للأذان، ويبقى ثابتاً على ذلك حتى يصبح لقباً عليه إلا وقد استقر فيه أصل العدالة، أو أن يوصف بشيء من أعمال البر والطاعات، كأن يقال: العابد أو الزاهد أو نحو ذلك، نعم قد يكون زاهداً، لكنه في باب الرواية مجهول، كـمالك بن دينار الإمام الزاهد المشهور، تجد الأئمة في أبواب الرواية يقولون: مجهول أو مستور؛ لماذا؟ لأنه لم يشتهر بالرواية عنه للحديث، فبقي من باب الرواية ومن جهة عدد الرواة في الأخذ عنه تكلم عليه العلماء بالجهالة.
كذلك: إذا وصف بالتفرغ بالجهاد أو بالقضاء أو الإقراء، فيوجد راوٍ مقرئ معروف بالقراءة، لكنه في رواية الحديث لا يعرف، فيعتبر حينئذٍ مجهولاً، وهذا يختلف عن غيره، إذاً عمله وحرفته قد تعطينا نوعاً من تزكيته.
القرينة السابعة: بلد المجهول، فالمجهول المدني يختلف عن المجهول الكوفي؛ لماذا؟ لأن المدينة لم يظهر فيها الكذب إلا متأخراً، ولم يوجد الكذب في المدينة في طبقة التابعين أبداً، ووجد في طبقة التابعين في جميع البلدان سوى مكة، ولهذا نقول: إن المدينة لها أثر في دفع ظنة عدم العدالة.
القرينة الثامنة: طبقة المجهول، فمجهول في طبقة متأخرة في السابعة والثامنة يختلف عن مجهول في الطبقة الثالثة أو الطبقة الثانية أو الرابعة، وكلما تقدم طبقة قرب من زمن الفضل وزمن العدالة وانتفاء تهمة الكذب.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [6] | 2237 استماع |
شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [2] | 1915 استماع |
شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [1] | 1527 استماع |
شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [5] | 1447 استماع |
شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [3] | 1063 استماع |