شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [6]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فقال المصنف رحمه الله: [ خاتمة].

بعد أن ذكر المصنف رحمه ما يتعلق بقواعد المصطلح وعلوم الحديث أراد أن يعرج على شيء هو في الغالب منفصل عن المسائل السابقة، فأراد أن يجعلها في خاتمة، لا في فصول وثنايا الكتاب، وذلك لتعلقها بشيء من الآداب، أو ببعض المسائل التي هي ليست في جوهر علم الحديث ولا في قواعده، وإنما هي بعض المهمات، أو اللطائف أو الآداب.

قال المصنف رحمه الله: [ومن المهم معرفة طبقات الرواة ومواليدهم، ووفياتهم، وبلدانهم وأحوالهم، تعديلاً وتجريحاً وجهالة ].

تقدم الكلام معنا على هذا فيما يتعلق بمعرفة التاريخ عند قول المصنف: (ثم احتيج إلى التاريخ) وأنه ينبغي للطالب أن يعرف تواريخ الرواة من جهة الولادة والوفاة، ومن جهة ابتداء السماع، وزمن الارتحال، ومعرفة أزمنة الاختلاط التي وقع فيها اختلاط، وكذلك الأزمنة التي كان فيها الإنسان صاحب كتاب، أو صاحب ضبط كتاب، والأزمنة التي كان فيها صاحب ضبط صدر. إذاً فالحاجة إلى التاريخ متسعة، ولا تتعلق بباب دون باب.

هنا سيذكر المصنف مراتب الجرح، ومراتب التعديل.

أهمية معرفة مناهج العلماء في ألفاظ الجرح والتعديل

وإنما ذكر المصنف رحمه الله ما يتعلق بالمراتب؛ لأن العلماء عليهم رحمة الله من جهة إطلاقاتهم لهم ألفاظ قد تتباين عن عرف الناس في الوضع، فلهم معانٍ ينفردون بها عن غيرهم من الألفاظ العامة، فتجد أن بعض الكلام يقصدون به شيئاً يختلف عن وضع الناس، كقول بعض الأئمة: فيه نظر، أو فلان صالح، أو يكتب حديثه، فقوله: (يكتب حديثه) إذا أراد الإنسان أن ينظر إليها من جهة المعنى اللغوي، يعني: أن الإنسان يأخذ الحديث عنه، وهو موضع احتجاج، ولكن من جهة الاعتبار بالراوي فهذه الكلمة تعني عدم تصحيح رواية الراوي، وإنما يكتب حديثه من باب الاستئناس إذا وجد ما يعضد هذا الراوي.

وكذلك تجد في بعض ألفاظهم يقولون عن بعض الرواة: (لا بأس) ونحو ذلك، هل هي من ألفاظ الجرح أو من ألفاظ التعديل أو غير ذلك.

وفي مسألة الجهالة والستر يقولون: مستور ومجهول، فهذه ألفاظ متقاربة من جهة اللغة، ولكن من جهة الوضع متباينة في اصطلاح العلماء، ولا بد لطالب العلم أن يعرف مناهج العلماء في ألفاظ الجرح وألفاظ التعديل.

ألفاظ العلماء في الجرح والتعديل

قال المصنف رحمه الله: [ ومراتب الجرح: وأسوؤها الوصف بأفعل كأقرب الناس، ثم دجال، أو وضاع أو كذاب. وأسهلها لين، أو سيئ الحفظ، أو فيه أدنى مقال. ومراتب التعديل؛ وأرفعها الوصف بأفعل كأوثق الناس، ثم ما تأكد بصفة أو صفتين كثقة ثقة أو ثقة حافظ، وأدناها ما أشعر بالقرب من أسهل التجريح كشيخ. وتقبل التزكية من عارف بأسبابها، ولو من واحد على الأصح].

قوله: (وأسوؤها الوصف بأفعل) هذا الوصف بـ(أفعل) كما أنه في الجرح فهو كذلك في التعديل، يقولون: أوثق الناس، أو أعلم الناس، أو أحفظ الناس، أو أحفظهم، أو أعلمهم، أو أوثقهم ونحو ذلك، وهذه من العبارات التي تعني تعديلاً قوياً على غيره.

ومثل هذه الإطلاقات وصيغة (أفعل) لا بد أن يعرف سياقها، حتى يعرفها طالب العلم على وجهها، وذلك أن مثل هذا الإطلاق إذا جاء: فلان أحفظ هؤلاء، أو فلان أحفظهم، أو فلان أحفظ، أو نحو ذلك، هذه ربما تأتي في سياق المقارنة مع الضعفاء، فإذا قال الإمام في الراوي: فلان أحفظ من فلان، فلا يعني أنه حافظ، بل ربما يكون ضعيفاً وهم مطروحون ومردودو الرواية، وهذا نجده كثيراً في صيغة (أفعل) عند الاقتران مع مجموعة من الرواة، ولهذا يسأل بعض الأئمة: أيهما أحفظ فلان أم فلان؟ فيقول: فلان، ولا يعني أنه حافظ، وإنما ينظر فيمن اقترن معه، وإذا أطلقت من غير اقتران فإن هذا تعديل، أو أقوى مراتب التعديل.

ومن ألفاظ الجرح نعرف مراتب الحكم على الحديث في الغالب، وليس على الاطراد، وهذا من الأمور المهمة أن طالب العلم لا بد أن يعرف مراتب ألفاظ الجرح والتعديل، ولا بد أن يعرف مناهج العلماء بإطلاقها، وأن يعرف أيضاً أحوال الأئمة من جهة تشددهم، وتساهلهم، وتوسطهم.

قوله: (وأدناها ما أشعر بالقرب من أسهل التجريح كشيخ) إطلاق كلمة شيخ، وهذه العبارة إذا أرادها الإنسان أن يحملها على الوضع فهي تعني التزكية، أو ربما الإمامة، فيقال: فلان شيخ، يعني: إمام في الناس، وسيد في قومه، ولكنها عند أئمة الجرح إذا أطلقوا هذه العبارة فيقولون: شيخ، يعني: مقل الرواية، وربما فيه ستر، وليس معروفاً بالعلم، ولا معروفاً بالرواية.

وإنما ذكر المصنف رحمه الله ما يتعلق بالمراتب؛ لأن العلماء عليهم رحمة الله من جهة إطلاقاتهم لهم ألفاظ قد تتباين عن عرف الناس في الوضع، فلهم معانٍ ينفردون بها عن غيرهم من الألفاظ العامة، فتجد أن بعض الكلام يقصدون به شيئاً يختلف عن وضع الناس، كقول بعض الأئمة: فيه نظر، أو فلان صالح، أو يكتب حديثه، فقوله: (يكتب حديثه) إذا أراد الإنسان أن ينظر إليها من جهة المعنى اللغوي، يعني: أن الإنسان يأخذ الحديث عنه، وهو موضع احتجاج، ولكن من جهة الاعتبار بالراوي فهذه الكلمة تعني عدم تصحيح رواية الراوي، وإنما يكتب حديثه من باب الاستئناس إذا وجد ما يعضد هذا الراوي.

وكذلك تجد في بعض ألفاظهم يقولون عن بعض الرواة: (لا بأس) ونحو ذلك، هل هي من ألفاظ الجرح أو من ألفاظ التعديل أو غير ذلك.

وفي مسألة الجهالة والستر يقولون: مستور ومجهول، فهذه ألفاظ متقاربة من جهة اللغة، ولكن من جهة الوضع متباينة في اصطلاح العلماء، ولا بد لطالب العلم أن يعرف مناهج العلماء في ألفاظ الجرح وألفاظ التعديل.

قال المصنف رحمه الله: [ ومراتب الجرح: وأسوؤها الوصف بأفعل كأقرب الناس، ثم دجال، أو وضاع أو كذاب. وأسهلها لين، أو سيئ الحفظ، أو فيه أدنى مقال. ومراتب التعديل؛ وأرفعها الوصف بأفعل كأوثق الناس، ثم ما تأكد بصفة أو صفتين كثقة ثقة أو ثقة حافظ، وأدناها ما أشعر بالقرب من أسهل التجريح كشيخ. وتقبل التزكية من عارف بأسبابها، ولو من واحد على الأصح].

قوله: (وأسوؤها الوصف بأفعل) هذا الوصف بـ(أفعل) كما أنه في الجرح فهو كذلك في التعديل، يقولون: أوثق الناس، أو أعلم الناس، أو أحفظ الناس، أو أحفظهم، أو أعلمهم، أو أوثقهم ونحو ذلك، وهذه من العبارات التي تعني تعديلاً قوياً على غيره.

ومثل هذه الإطلاقات وصيغة (أفعل) لا بد أن يعرف سياقها، حتى يعرفها طالب العلم على وجهها، وذلك أن مثل هذا الإطلاق إذا جاء: فلان أحفظ هؤلاء، أو فلان أحفظهم، أو فلان أحفظ، أو نحو ذلك، هذه ربما تأتي في سياق المقارنة مع الضعفاء، فإذا قال الإمام في الراوي: فلان أحفظ من فلان، فلا يعني أنه حافظ، بل ربما يكون ضعيفاً وهم مطروحون ومردودو الرواية، وهذا نجده كثيراً في صيغة (أفعل) عند الاقتران مع مجموعة من الرواة، ولهذا يسأل بعض الأئمة: أيهما أحفظ فلان أم فلان؟ فيقول: فلان، ولا يعني أنه حافظ، وإنما ينظر فيمن اقترن معه، وإذا أطلقت من غير اقتران فإن هذا تعديل، أو أقوى مراتب التعديل.

ومن ألفاظ الجرح نعرف مراتب الحكم على الحديث في الغالب، وليس على الاطراد، وهذا من الأمور المهمة أن طالب العلم لا بد أن يعرف مراتب ألفاظ الجرح والتعديل، ولا بد أن يعرف مناهج العلماء بإطلاقها، وأن يعرف أيضاً أحوال الأئمة من جهة تشددهم، وتساهلهم، وتوسطهم.

قوله: (وأدناها ما أشعر بالقرب من أسهل التجريح كشيخ) إطلاق كلمة شيخ، وهذه العبارة إذا أرادها الإنسان أن يحملها على الوضع فهي تعني التزكية، أو ربما الإمامة، فيقال: فلان شيخ، يعني: إمام في الناس، وسيد في قومه، ولكنها عند أئمة الجرح إذا أطلقوا هذه العبارة فيقولون: شيخ، يعني: مقل الرواية، وربما فيه ستر، وليس معروفاً بالعلم، ولا معروفاً بالرواية.

قال المصنف رحمه الله: [ وتقبل التزكية من عارف بأسبابها ولو من واحد على الأصح].

التزكية لها أسباب، وتقدم الكلام على مسألة شروط العدالة، وتقدم أيضاً في أنواع الضبط أنه لا بد أن يكون عارفاً بذلك، وأن يكون من أهل الرواية، ولهذا ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن ينظر في ألفاظ الجرح والتعديل أن يكون متبصراً في أمور عدة، وهي من المهمات:

النظر في كلام الأئمة

أولها: أن ينظر في الأئمة الذين يطلقون ألفاظ الجرح والتعديل، فالأئمة يتفاوتون، وينبغي له أن يحرص على الأئمة الذين عاينوا الراوي، وهؤلاء يكونون متقدمين بالنسبة لمن جاء بعدهم بحسب حال الراوي، فينظر في الراوي ثم ينظر إلى أقرب الأئمة إليه، فينظر مثلاً في كلام ابن عيينة إذا كان الراوي مكياً، أو سفيان الثوري إذا كان كوفياً، أو الإمام أحمد إذا كان الراوي بغدادياً، أو الشافعي إذا كان الراوي مصرياً، أو أبي حاتم و أبي زرعة إذا كان الراوي رازياً، وغير ذلك من الأئمة، فينظر إليهم بحسب قربهم منه، إما لقيهم وشاهدهم؛ لأن هذا أدعى إلى معرفة حاله، أو أن يكون بلدياً له.

فإن لم يعرفه بعينه عرف أحاديث الناس الذين يتكلمون عنه، فعرف إما بعض تلامذتهم وما ينقلون عنه من جهة ضبطه وديانته واستقامته ومروءته، وصلاحه وغير ذلك، فهم أعلم الناس به.

ولهذا نقول: إن كلام الأئمة ليس على حد سواء يضعف ويقوى بحسب عبارات منها القرب والبعد، ومنها قوة الملكة لدى ذلك الإمام بالرواية ونحو ذلك، ولهذا لا بد من معرفة الأئمة الذين يطلقون الألفاظ، ومن ذلك على ما تقدم: الأول: أن يكون بلدياً له.

الثاني: أن يكون لقيهم، فينظر في هذه المسألة.

الثالث: أن يكون حافظاً وعالماً بالرواة، فلا يلزم أن يكون بلدياً له، أو رأى أن يكون حاذقاً في معرفة ما يستنكر من مروياته، وأن ينظر إلى الإمام الذي هو أكثر إلمام بمعرفة المرويات، والسبر لها، فإنه أعرف بهذا من غيره، وربما يكون الإمام الحافظ أعلم بحال راوي ليس ببلدي له، فهو أعلم من أهل بلده ممن لا يحفظ، وإنما ينظرون إلى حاله كما ينظر العوام، فيطلقون عليه بعض الألفاظ.

رابعاً: أن ينظر إلى مذاهب الأئمة، فمنهم من له عقيدة معينة، ويغلظ ويشدد على مخالفه، فيكون مطعنه في ذلك عقدياً، لا ما يدور في قواعد علم الحديث وما يتعلق بالضبط، وأمر العدالة، كحال الجوزجاني وهو من الأئمة ومن الحفاظ، يشدد على مخالفيه، كذلك ما يروى من ألفاظ الجرح عن الأزدي بالفتح، والأزدي له كلام في ذلك يشدد فيه على بعض الرواة.

فينبغي للإنسان أن ينظر إلى منهج ذلك الراوي من جهة شدته على ما يعتقده ونحو ذلك، وأن إطلاقات بعض الأئمة مبنية على بعض ما لديهم من الحمل على بعض أهل المذاهب، أو بعض الآراء ونحو ذلك.

النظر إلى إجماع الأئمة أو اختلافهم

ثانيها: أن ينظر إلى إجماع الأئمة أو اختلافهم في ألفاظ الجرح والتعديل، هل أطبقوا أو لم يطبقوا؟

فإذا وجدهم أجمعوا فإنه ينبغي ألا يخرج عن قولهم، فإذا حكموا على راوٍ بالضعف فلا يلتفت إلى قول من خالفهم من الأفراد، فإذا وجدت مثلاً شعبة و يحيى بن معين و وكيع ، و يحيى بن سعيد و علي بن المديني ، و أحمد و البخاري و مسلم و النسائي ، وغير هؤلاء من الأئمة أجمعوا على الطعن في راوٍ، فجاء واحد من الأئمة فحكم عليه بالتوثيق أو الصلاح، فنقبل قول الأئمة الكبار، وينظر إلى حجم الاتفاق وحجم الخلاف، والغالب أن الأئمة لا يختلفون على راوٍ من الرواة إلا وثمة سبب من الأسباب المقبولة، وسنفهم ذلك فيما يأتي بإذن الله تعالى.

النظر إلى حال الراوي

ثالثها: أن ننظر إلى حال الراوي هل له حال واحدة أم له حالات؟

فالرواة إذا رووا عن النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحيان لا يكون لهم حال واحدة، وإنما يحتاج إلى تعديل تارة، ويحتاج إلى جرح تارة أخرى، وذلك إما أن يكون مر بمرحلة اختلاط، واختلاطه مثلاً جاء متأخراً في زمن يسير كسنة أو سنتين، والغالب من مرويه أنه روى قبل اختلاطه، وأكثر كلام العلماء عليه بالتعديل، وتجد من العلماء من يضعفه، وسبب تضعيفه لأجل اختلاطه، فهو له حالات.

ولا بد أن ننظر إلى حال الراوي من جهة مرويه، وكذلك من جهة اختصاص بعض الرواة ببلد، أو ضعفه ببلد دون بلد، كحال إسماعيل بن عياش وأضرابه، أو ربما بعض الرواة تجده ضابطاً لفن دون غيره، كـمحمد بن إسحاق ، فبعض الأئمة يوثقه، وبعض الأئمة يجرحه، وهذا الجرح والتعديل نحمله على اختلاف الأنواع، وكأننا نضع الجرح في قسمه، ونضع التعديل في قسمه، ونقول: لا يوجد خلاف بحيث لا نحمل العبارات على تعارض.

ولهذا ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن ينظر في رواية راوي أن ينظر في ترجمته من جهة اسمه وعمله، ومن جهة شيوخه، واختصاصه، فربما يقولون: إمام في السير، إمام في التفسير، ونحو ذلك، فنحمل أن المرويات عنه تتباين بحسب اختصاصه، وبحسب عنايته في باب من الأبواب، أو في بلد من البلدان.

وربما يكون اللفظ الذي أطلق عليه من التعديل يتعلق بديانته وصلاحه، لا من جهة ضبطه وحفظه، وهذا له مؤشرات في ترجمة الراوي، فإذا قرأت في ترجمة الراوي: فلان بن فلان، إمام في الزهد والصلاح والورع والديانة، وعابد، وحج سبعين حجة أو خمسين، أو غير ذلك من العبارات التي يطلقونها على كثير من المتعبدين.

وليس كل عابد حافظ؛ لأن ألفاظ الضعف لا تعني طعناً في الديانة، وإنما تعني طعناً في الملكة، والملكة لا يملكها الإنسان، فليس كل الناس حافظاً، وحينما تطعن وتقول: فلان ضعيف الحفظ، وربما يكون في الفردوس الأعلى من الجنة، وأنت تتكلم على حفظه، ولا علاقة للأمر بدينه، ومن الناس من هو ثقة في حفظه، ولكن من أمر الديانة دون غيره، ولهذا ينبغي أن نفرق، فنعرف ما يتعلق بأحوال ذلك الراوي، وقلما نجد راوياً من الرواة إلا وله أكثر من حال، وإما أن يكون مثلاً إماماً في العلم أو في السنة أو نحو ذلك.

وبعض الأئمة شديد على أهل البدع، ويمدح ويثنى عليه في هذا الباب كحال نعيم بن حماد الخزاعي ، وهو إمام من أئمة السنة، وشديد على أهل البدع، ويثنى عليه كثيراً في هذا الباب، ولكن إذا أردت أن تنظر إلى ما يتعلق بحفظه تجد الأئمة يقولون بالضعف، ويثنون عليه في هذا الباب.

ومن الأئمة كذلك من هو من أهل القراءة، كـنافع و حفص وغيرهم، وهؤلاء أئمة القراءة، وكذلك شهر بن حوشب مقرئ، وعالم بالقراءة، يزكى في هذا الباب، ولكن من جهة الحفظ يطعن به.

فإذا وجدنا ألفاظاً مختلطة على راوٍ من الرواة ننظر إلى تعدد أحواله، هل له حال واحدة، باعتبار أنه فلان بن فلان، لا يوجد له عمل، ما وصف بالعبادة، ما وصف بالديانة، وإنما له مرويات أطلق الحكم عليها، حينئذٍ نقول: إن هذه الإطلاقات هي على الحفظ.

ومثل هؤلاء الذين ليس لهم إلا حال واحدة قلما تجد الخلاف فيه، وإذا تعددت أحواله تجد خلافاً عند العلماء، ولكن الخلاف في ذلك في قولنا: قلما تجد الخلاف عند الأئمة الذين هم أهل توسط واعتدال، وعلى هذا نحمل الألفاظ التي تأتي على بعض الأئمة من جهة الخلاف في راوٍ بعينه، فتجد مثلاً يحيى بن معين يقول في راوٍ: ثقة، وتارة يقول: لا بأس به، وتارة يقول: ضعيف، وتارة يقول: لا بأس به أو ثقة، وهو إمام واحد ويتكلم في راوٍ واحد، فنحمل هذا على ما تقدم الكلام عليه، فربما الراوي له أكثر من حال، فتارة أراد ديانته لزهده وورعه وإمامته، أو أراد علمه الذي اختص به كالسير أو إقراء القرآن أو غير ذلك، والتضعيف أراد في ذلك الحفظ.

أولها: أن ينظر في الأئمة الذين يطلقون ألفاظ الجرح والتعديل، فالأئمة يتفاوتون، وينبغي له أن يحرص على الأئمة الذين عاينوا الراوي، وهؤلاء يكونون متقدمين بالنسبة لمن جاء بعدهم بحسب حال الراوي، فينظر في الراوي ثم ينظر إلى أقرب الأئمة إليه، فينظر مثلاً في كلام ابن عيينة إذا كان الراوي مكياً، أو سفيان الثوري إذا كان كوفياً، أو الإمام أحمد إذا كان الراوي بغدادياً، أو الشافعي إذا كان الراوي مصرياً، أو أبي حاتم و أبي زرعة إذا كان الراوي رازياً، وغير ذلك من الأئمة، فينظر إليهم بحسب قربهم منه، إما لقيهم وشاهدهم؛ لأن هذا أدعى إلى معرفة حاله، أو أن يكون بلدياً له.

فإن لم يعرفه بعينه عرف أحاديث الناس الذين يتكلمون عنه، فعرف إما بعض تلامذتهم وما ينقلون عنه من جهة ضبطه وديانته واستقامته ومروءته، وصلاحه وغير ذلك، فهم أعلم الناس به.

ولهذا نقول: إن كلام الأئمة ليس على حد سواء يضعف ويقوى بحسب عبارات منها القرب والبعد، ومنها قوة الملكة لدى ذلك الإمام بالرواية ونحو ذلك، ولهذا لا بد من معرفة الأئمة الذين يطلقون الألفاظ، ومن ذلك على ما تقدم: الأول: أن يكون بلدياً له.

الثاني: أن يكون لقيهم، فينظر في هذه المسألة.

الثالث: أن يكون حافظاً وعالماً بالرواة، فلا يلزم أن يكون بلدياً له، أو رأى أن يكون حاذقاً في معرفة ما يستنكر من مروياته، وأن ينظر إلى الإمام الذي هو أكثر إلمام بمعرفة المرويات، والسبر لها، فإنه أعرف بهذا من غيره، وربما يكون الإمام الحافظ أعلم بحال راوي ليس ببلدي له، فهو أعلم من أهل بلده ممن لا يحفظ، وإنما ينظرون إلى حاله كما ينظر العوام، فيطلقون عليه بعض الألفاظ.

رابعاً: أن ينظر إلى مذاهب الأئمة، فمنهم من له عقيدة معينة، ويغلظ ويشدد على مخالفه، فيكون مطعنه في ذلك عقدياً، لا ما يدور في قواعد علم الحديث وما يتعلق بالضبط، وأمر العدالة، كحال الجوزجاني وهو من الأئمة ومن الحفاظ، يشدد على مخالفيه، كذلك ما يروى من ألفاظ الجرح عن الأزدي بالفتح، والأزدي له كلام في ذلك يشدد فيه على بعض الرواة.

فينبغي للإنسان أن ينظر إلى منهج ذلك الراوي من جهة شدته على ما يعتقده ونحو ذلك، وأن إطلاقات بعض الأئمة مبنية على بعض ما لديهم من الحمل على بعض أهل المذاهب، أو بعض الآراء ونحو ذلك.

ثانيها: أن ينظر إلى إجماع الأئمة أو اختلافهم في ألفاظ الجرح والتعديل، هل أطبقوا أو لم يطبقوا؟

فإذا وجدهم أجمعوا فإنه ينبغي ألا يخرج عن قولهم، فإذا حكموا على راوٍ بالضعف فلا يلتفت إلى قول من خالفهم من الأفراد، فإذا وجدت مثلاً شعبة و يحيى بن معين و وكيع ، و يحيى بن سعيد و علي بن المديني ، و أحمد و البخاري و مسلم و النسائي ، وغير هؤلاء من الأئمة أجمعوا على الطعن في راوٍ، فجاء واحد من الأئمة فحكم عليه بالتوثيق أو الصلاح، فنقبل قول الأئمة الكبار، وينظر إلى حجم الاتفاق وحجم الخلاف، والغالب أن الأئمة لا يختلفون على راوٍ من الرواة إلا وثمة سبب من الأسباب المقبولة، وسنفهم ذلك فيما يأتي بإذن الله تعالى.

ثالثها: أن ننظر إلى حال الراوي هل له حال واحدة أم له حالات؟

فالرواة إذا رووا عن النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحيان لا يكون لهم حال واحدة، وإنما يحتاج إلى تعديل تارة، ويحتاج إلى جرح تارة أخرى، وذلك إما أن يكون مر بمرحلة اختلاط، واختلاطه مثلاً جاء متأخراً في زمن يسير كسنة أو سنتين، والغالب من مرويه أنه روى قبل اختلاطه، وأكثر كلام العلماء عليه بالتعديل، وتجد من العلماء من يضعفه، وسبب تضعيفه لأجل اختلاطه، فهو له حالات.

ولا بد أن ننظر إلى حال الراوي من جهة مرويه، وكذلك من جهة اختصاص بعض الرواة ببلد، أو ضعفه ببلد دون بلد، كحال إسماعيل بن عياش وأضرابه، أو ربما بعض الرواة تجده ضابطاً لفن دون غيره، كـمحمد بن إسحاق ، فبعض الأئمة يوثقه، وبعض الأئمة يجرحه، وهذا الجرح والتعديل نحمله على اختلاف الأنواع، وكأننا نضع الجرح في قسمه، ونضع التعديل في قسمه، ونقول: لا يوجد خلاف بحيث لا نحمل العبارات على تعارض.

ولهذا ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن ينظر في رواية راوي أن ينظر في ترجمته من جهة اسمه وعمله، ومن جهة شيوخه، واختصاصه، فربما يقولون: إمام في السير، إمام في التفسير، ونحو ذلك، فنحمل أن المرويات عنه تتباين بحسب اختصاصه، وبحسب عنايته في باب من الأبواب، أو في بلد من البلدان.

وربما يكون اللفظ الذي أطلق عليه من التعديل يتعلق بديانته وصلاحه، لا من جهة ضبطه وحفظه، وهذا له مؤشرات في ترجمة الراوي، فإذا قرأت في ترجمة الراوي: فلان بن فلان، إمام في الزهد والصلاح والورع والديانة، وعابد، وحج سبعين حجة أو خمسين، أو غير ذلك من العبارات التي يطلقونها على كثير من المتعبدين.

وليس كل عابد حافظ؛ لأن ألفاظ الضعف لا تعني طعناً في الديانة، وإنما تعني طعناً في الملكة، والملكة لا يملكها الإنسان، فليس كل الناس حافظاً، وحينما تطعن وتقول: فلان ضعيف الحفظ، وربما يكون في الفردوس الأعلى من الجنة، وأنت تتكلم على حفظه، ولا علاقة للأمر بدينه، ومن الناس من هو ثقة في حفظه، ولكن من أمر الديانة دون غيره، ولهذا ينبغي أن نفرق، فنعرف ما يتعلق بأحوال ذلك الراوي، وقلما نجد راوياً من الرواة إلا وله أكثر من حال، وإما أن يكون مثلاً إماماً في العلم أو في السنة أو نحو ذلك.

وبعض الأئمة شديد على أهل البدع، ويمدح ويثنى عليه في هذا الباب كحال نعيم بن حماد الخزاعي ، وهو إمام من أئمة السنة، وشديد على أهل البدع، ويثنى عليه كثيراً في هذا الباب، ولكن إذا أردت أن تنظر إلى ما يتعلق بحفظه تجد الأئمة يقولون بالضعف، ويثنون عليه في هذا الباب.

ومن الأئمة كذلك من هو من أهل القراءة، كـنافع و حفص وغيرهم، وهؤلاء أئمة القراءة، وكذلك شهر بن حوشب مقرئ، وعالم بالقراءة، يزكى في هذا الباب، ولكن من جهة الحفظ يطعن به.

فإذا وجدنا ألفاظاً مختلطة على راوٍ من الرواة ننظر إلى تعدد أحواله، هل له حال واحدة، باعتبار أنه فلان بن فلان، لا يوجد له عمل، ما وصف بالعبادة، ما وصف بالديانة، وإنما له مرويات أطلق الحكم عليها، حينئذٍ نقول: إن هذه الإطلاقات هي على الحفظ.

ومثل هؤلاء الذين ليس لهم إلا حال واحدة قلما تجد الخلاف فيه، وإذا تعددت أحواله تجد خلافاً عند العلماء، ولكن الخلاف في ذلك في قولنا: قلما تجد الخلاف عند الأئمة الذين هم أهل توسط واعتدال، وعلى هذا نحمل الألفاظ التي تأتي على بعض الأئمة من جهة الخلاف في راوٍ بعينه، فتجد مثلاً يحيى بن معين يقول في راوٍ: ثقة، وتارة يقول: لا بأس به، وتارة يقول: ضعيف، وتارة يقول: لا بأس به أو ثقة، وهو إمام واحد ويتكلم في راوٍ واحد، فنحمل هذا على ما تقدم الكلام عليه، فربما الراوي له أكثر من حال، فتارة أراد ديانته لزهده وورعه وإمامته، أو أراد علمه الذي اختص به كالسير أو إقراء القرآن أو غير ذلك، والتضعيف أراد في ذلك الحفظ.

قال المصنف رحمه الله: [ والجرح مقدم على التعديل إن صدر مبيناً من عارف بأسبابه، فإن خلا عن تعديل قبل مجملاً على المختار ].

نقد إطلاق قاعدة: الجرح مقدم على التعديل

هنا ذكر أن الجرح مقدم بناءً على القاعدة أن من علم حجة على من لم يعلم، ولكن الإطلاق على أن الجرح يقدم على التعديل بالإطلاق، هذه قاعدة ضعيفة، فلا نقول: إن الجرح يقدم على التعديل، ومن يقول بتقديمها يجعل الأصل في الراوي التهمة، فإذا وجدنا فيه جرحاً فنقدم الجرح على التعديل.

لكن نقول: إن الأصل أن ينظر في الأئمة الذين جرحوا والذين عدلوا، ونوازن بين ذلك، فلا ننظر للجرح لذاته، ولا للتعديل لذاته، وإنما ثمة قرائن تقوي هذا، وتقوي الآخر.

وكذلك القاعدة التي يطلقها بعضهم، فيقولون: الجرح لا يقبل إلا مفسراً، وهذه قاعدة ضعيفة أيضاً؛ لأن أكثر كلام الأئمة جرحهم في الرواة غير مفسر، فيقولون: فلان ضعيف، وانتهى الأمر، ويقولون: (منكر) وانتهى الأمر، وعلى هذا نهدر أكثر كلام الأئمة في الرواة، وحينما يقول يحيى بن معين : فلان ضعيف، ما تفسير هذا؟ هل هو ضعيف في ديانته؟ ضعيف في ضبطه؟ ضعيف في مروءته؟ ضعيف هو الحكم النهائي عنه، هذا مفسر أو غير مفسر؟ غير مفسر، هل نهدر هذا؟ لا نهدره.

وهذه القاعدة جاءت من المتكلمين، فكثرت واشتهرت في كتب علوم الحديث.

شرط تقديم الجرح على التعديل

والصواب أن الجرح يقدم على التعديل إذا كان من إمام عالم بأسبابه، وكان مفسراً، يعني: وتفسيره كان صحيحاً، أي: وفسر هذا على وجه صحيح، لا على وجه الوهم والغلط أو الظن، فإذا كان صحيحاً وفسره فهو عالم، ويقدم علمه على من لم يعلم، ولا نقدمه على غيره بإطلاق، فإذا استطعنا أن نجمع بين الجرح والتعديل جمعنا، فنقول: الأصل في الراوي العدالة، وأن الجرح الذي جاء مفسراً يحمل على تفسيره، فضعف فلان لأنه يروي من حفظه، فنقول: ثقة لأنه يروي من كتاب، وإذا روى من حفظه حملنا عليه التضعيف، فحملنا الكلام في الجرح والتعديل على النوعين.

خلو الراوي من التعديل مع وجود الجرح فيه

قوله: (فإن خلا عن تعديل قبل مجملاً على المختار) يعني: الراوي لا يوجد من عدله، وإنما وجد من جرحه مفسراً أو بلا تفسير، ونقول حينئذٍ: لا يوجد لدينا إلا القبول.

ولهذا نقول: إن أظهر وجوه التقليد عند المتأخرين للمتقدمين هي في ألفاظ الجرح والتعديل؛ لأنك تقف على كلام الأئمة في الراوي، فتجده يقول: ثقة، ثم تقوم أنت بتصحيح الحديث بناءً على قول ذلك الإمام.

وكثير من الذين يزعمون التحرر في علوم النقد، وعلوم التصحيح والتضعيف هم مقلدون، لماذا؟ لتعطيلهم لآلة السبر، فهو ينظر في كتب الرجال، ويرى أن الأئمة وثقوا فلاناً أو ضعفوه، ثم يقوم بناءً على تقليده هذا يخرج حكماً بصحة الحديث، ويظن أنه قد تحرر في هذا الباب، هل رأيت الراوي؟ لم يره، هل سبرت حديثاً؟ لم تسبر حديثاً، إذاً: كيف عرفت أنه ثقة إلا عن طريق أولئك الأئمة؟ إذاً أنت مقلد.

والعالم الحاذق في هذا هو الذي إذا عطل لديه مسألة اللقاء، وفاته ذلك الزمن، فإنه يقوم بالسبر، أي: بجمع مرويات الراوي، مائتين، ثلاثمائة، مائة وخمسين، سبعين، يجمع هذه المرويات ثم يقوم بسبرها، ثم يخرج بحكم دقيق جداً، وحينئذٍ يجد أنه لا يكاد يخالف أولئك الحفاظ.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [2] 1913 استماع
شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [4] 1662 استماع
شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [1] 1524 استماع
شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [5] 1444 استماع
شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [3] 1060 استماع