خطب ومحاضرات
شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [1]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فهذه مجالس نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا فيها لشرح (نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر) للشيخ الإمام العالم العلامة الرحلة، فريد عصره ووحيد دهره، وشيخ مشايخ مصره، بحر الفوائد، ومعدن الفرائد، عمدة الحفاظ والمحدثين، شهاب الملة والدين، أبي الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلاني الشهير بـابن حجر رحمه الله.
الحكمة من الابتداء بالحمد
قال المصنف رحمه الله: [الحمد لله الذي لم يزل عالماً قديراً، وصلى الله على سيدنا محمد الذي أرسله إلى الناس بشيراً ونذيراً، وعلى آل محمد وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد].
ابتدأ المصنف رحمه الله هذا المؤلف اليسير بالحمد لله تيمناً وطلباً للاستعانة، وتبركاً بذكر الله سبحانه وتعالى، وتيمناً بإتمامه وكماله، وكذلك اقتداءً بما فعله الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا نقول: يشرع للإنسان عند كتابة شيء أو قول شيء ذي بالٍ أن يبتدئ ذلك بذكر الله، أو ببسم الله الرحمن الرحيم، وعلى سبيل التخصيص إذا كان ذلك في المكاتبات اليسيرة، والتي تكون بين الأفراد، كما جاء في حديث عبد الله بن عباس في كتابة النبي صلى الله عليه وسلم أنه (كان إذا كتب قال: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله).
وهذا الأمر جرى عليه فعل الصحابة عليهم رضوان الله من بعده، وقد كان أيضاً هو حال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه؛ في خطب الجمعة، وفي الخطب العامة للناس، وفي الأمور ذات البال، ولو لم يكن ذلك الخطاب للناس عامة، ولو كان لأفراد معدودين، فإذا كان مهماً أو جليل القدر، كما يتعلق بخطبة النكاح، وإن كان الناس قليلاً في ذلك حضوراً فإنه يشرع للإنسان أن يبتدئ ذلك بالحمد لله رب العالمين، وغير ذلك مما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء في هذا حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( كل أمرٍ ذي بال لا يبتدئ فيه ببسم الله أو بذكر الله أو بالحمد لله فهو أجدع أو أبتر أو أقطع ) على روايات وألفاظ مختلفة متعددة في هذا، وهذا الحديث لا يصح إسناده، والصواب فيه الإرسال، وقد أعله الدارقطني رحمه الله، وقد روى هذا الحديث الخطيب البغدادي وغيره.
على كل نقول: يغني عن ذلك ظاهر القرآن الكريم، فإن الله عز وجل جعل ابتداء السور بالبسملة، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم عند ابتداء المكاتبات، وما يتعلق بالخطب، وأصبح سنة جارية في هذا.
والعلماء لا يختلفون في مشروعية ذلك وتمكينه، بل ذهب بعضهم إلى وجوبه. وإنما يختلفون في البداءة ببعض المعاني كالبداءة بالأشعار، هل يبتدأ الشعر ببسم الله الرحمن الرحيم أم لا؟ وبذكر الله عموماً أم لا؟ هذا من مواضع الخلاف، فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يبتدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، وقد جاء عن سعيد بن جبير وغيرهم، كما رواه الخطيب البغدادي في كتابه الجامع، وذهب جمهور العلماء وهو مروي أيضاً عن سعيد بن جبير و الزهري وغيرهم، القول بالبدء ببسم الله الرحمن الرحيم، باعتبار أن الشعر كالنثر؛ حسنه حسن، وقبيحه قبيح، وقد جاء عند ابن عدي في كتابه الكامل من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الشعر كالكلام؛ حسنه حسن، وقبيحه قبيح)، وهذا الحديث جاء مرفوعاً وموقوفاً، والأظهر أنه لا يصح مرفوعاً، وعلى كل فقد مال غير واحد من العلماء إلى تحسينه موقوفاً على عائشة عليها رضوان الله.
ثم أيضاً: إن ما يتعلق بالشعر هو يتعلق بالنثر، والعكس كذلك، باعتبار أنها ألفاظ، وقد أشار الإمام الشافعي رحمه الله إلى أن الشعر يعامل بمعاملة النثر من من جهة حسن معانيه وقبحها، ولهذا المصنف رحمه الله ابتدأ هذا الكتاب بالحمد لله لجلالة هذا العلم والفن، والمعاني التي يوردها لتعلقها بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
الفصل بين الإجمال والتفصيل بـ(أما بعد)
قوله: (أما بعد) هذا هو فصل الخطاب، وثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: أما بعد.
وأما قول: (وبعد) فلا أعلمه يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مع صحته، فنقول: إن الأصح والأولى أن يقول الإنسان في فصل الخطاب: (أما بعد) عند الفصل بين الإجمال والتفصيل، ولا حرج على الإنسان أن يكررها أيضاً في أكثر من موضع.
سبب تأليف متن (نخبة الفكر)
قال المصنف رحمه الله: [فإن التصانيف في اصطلاح أهل الحديث قد كثرت وبسطت واختصرت، فسألني بعض الإخوان أن ألخص له المهم من ذلك، فأجبته إلى سؤاله؛ رجاء الاندراج في تلك المسالك].
هنا أشار المصنف رحمه الله إلى عنايته واهتمامه بالمصنفات المتعددة، وأنه قصد بتصنيف هذا الكتاب إيجاد متن مختصر في علوم الحديث وقواعده ومصطلحه، تقريباً للأفهام، وباستطاعة طالب العلم أن يحفظه ويفهمه، وأن يطبقه عند إرادته ذلك.
وقوله: (فسألني بعض الإخوان) هنا المصنف رحمه الله بيّن أنه سئل تصنيف هذا الكتاب، وفي هذا بيان أن الإنسان إنما يصنف لمصالح الناس وحاجاتهم، ولا يصنف لإظهار إبداع أو تميز أو قدرة على الكتابة في الفن، وإنما ينظر إلى حاجة الناس. وكذلك فإن التصنيف عند طلب الناس وحاجتهم فيه كسر لرغبة النفس، ودفع لإحسان الظن بالمؤلف، وأنه إنما كتب لحاجة الناس، ولطلبهم لهذا الأمر، واستجابة له، ولم يكن ذلك مجرد رغبة ذاتية أو هوى.
وقد ذكر المصنف رحمه الله ما يتعلق بتعدد المصنفات في هذا الباب، والمراد بتعدد المصنفات فيه وكثرتها هي علوم الآلة الموصلة إلى الحديث، والعلوم عندنا على نوعين: علوم أصلية، وعلوم آلة، وعلوم الآلة هي العلوم الموصلة إلى تلك العلوم الأصلية، فكل علم من العلوم الأصلية له علم آلة يوصل إليه، وعلوم الآلة تتنوع صعوبة بمقدار صعوبة الغاية، وهذا أمر معلوم، فعلوم القرآن علوم معلومة، وثمة علوم توصل إليها، والسنة لها علوم معلومة، وثمة علوم توصل إليها مما يسمى بمصطلح الحديث وقواعد الحديث، وغير ذلك مما يتعلق بقرائن الترجيح ومسائل العلل ونحو ذلك من العلوم الموصلة إلى الغاية. وكذلك ما يتعلق بعلم الفقه وهو علم أصلي، وأما ما ينسب إليه من علوم فهي من علوم الآلة كالقواعد الفقهية وأصول الفقه، وغير ذلك كعلوم اللغة العربية، فثمة علوم أصلية فيها، وثمة علوم آلة موصلة إليها.
فذكر المصنف تعدد المصنفات في هذا الباب، وكثرتها وتشعبها على الإنسان، وأنه يحتاج إلى مصنف مختصر في ذلك يرشده إلى الصواب على سبيل الاختصار.
قال المصنف رحمه الله: [الحمد لله الذي لم يزل عالماً قديراً، وصلى الله على سيدنا محمد الذي أرسله إلى الناس بشيراً ونذيراً، وعلى آل محمد وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد].
ابتدأ المصنف رحمه الله هذا المؤلف اليسير بالحمد لله تيمناً وطلباً للاستعانة، وتبركاً بذكر الله سبحانه وتعالى، وتيمناً بإتمامه وكماله، وكذلك اقتداءً بما فعله الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا نقول: يشرع للإنسان عند كتابة شيء أو قول شيء ذي بالٍ أن يبتدئ ذلك بذكر الله، أو ببسم الله الرحمن الرحيم، وعلى سبيل التخصيص إذا كان ذلك في المكاتبات اليسيرة، والتي تكون بين الأفراد، كما جاء في حديث عبد الله بن عباس في كتابة النبي صلى الله عليه وسلم أنه (كان إذا كتب قال: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله).
وهذا الأمر جرى عليه فعل الصحابة عليهم رضوان الله من بعده، وقد كان أيضاً هو حال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه؛ في خطب الجمعة، وفي الخطب العامة للناس، وفي الأمور ذات البال، ولو لم يكن ذلك الخطاب للناس عامة، ولو كان لأفراد معدودين، فإذا كان مهماً أو جليل القدر، كما يتعلق بخطبة النكاح، وإن كان الناس قليلاً في ذلك حضوراً فإنه يشرع للإنسان أن يبتدئ ذلك بالحمد لله رب العالمين، وغير ذلك مما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء في هذا حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( كل أمرٍ ذي بال لا يبتدئ فيه ببسم الله أو بذكر الله أو بالحمد لله فهو أجدع أو أبتر أو أقطع ) على روايات وألفاظ مختلفة متعددة في هذا، وهذا الحديث لا يصح إسناده، والصواب فيه الإرسال، وقد أعله الدارقطني رحمه الله، وقد روى هذا الحديث الخطيب البغدادي وغيره.
على كل نقول: يغني عن ذلك ظاهر القرآن الكريم، فإن الله عز وجل جعل ابتداء السور بالبسملة، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم عند ابتداء المكاتبات، وما يتعلق بالخطب، وأصبح سنة جارية في هذا.
والعلماء لا يختلفون في مشروعية ذلك وتمكينه، بل ذهب بعضهم إلى وجوبه. وإنما يختلفون في البداءة ببعض المعاني كالبداءة بالأشعار، هل يبتدأ الشعر ببسم الله الرحمن الرحيم أم لا؟ وبذكر الله عموماً أم لا؟ هذا من مواضع الخلاف، فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يبتدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، وقد جاء عن سعيد بن جبير وغيرهم، كما رواه الخطيب البغدادي في كتابه الجامع، وذهب جمهور العلماء وهو مروي أيضاً عن سعيد بن جبير و الزهري وغيرهم، القول بالبدء ببسم الله الرحمن الرحيم، باعتبار أن الشعر كالنثر؛ حسنه حسن، وقبيحه قبيح، وقد جاء عند ابن عدي في كتابه الكامل من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الشعر كالكلام؛ حسنه حسن، وقبيحه قبيح)، وهذا الحديث جاء مرفوعاً وموقوفاً، والأظهر أنه لا يصح مرفوعاً، وعلى كل فقد مال غير واحد من العلماء إلى تحسينه موقوفاً على عائشة عليها رضوان الله.
ثم أيضاً: إن ما يتعلق بالشعر هو يتعلق بالنثر، والعكس كذلك، باعتبار أنها ألفاظ، وقد أشار الإمام الشافعي رحمه الله إلى أن الشعر يعامل بمعاملة النثر من من جهة حسن معانيه وقبحها، ولهذا المصنف رحمه الله ابتدأ هذا الكتاب بالحمد لله لجلالة هذا العلم والفن، والمعاني التي يوردها لتعلقها بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (أما بعد) هذا هو فصل الخطاب، وثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: أما بعد.
وأما قول: (وبعد) فلا أعلمه يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مع صحته، فنقول: إن الأصح والأولى أن يقول الإنسان في فصل الخطاب: (أما بعد) عند الفصل بين الإجمال والتفصيل، ولا حرج على الإنسان أن يكررها أيضاً في أكثر من موضع.
قال المصنف رحمه الله: [فإن التصانيف في اصطلاح أهل الحديث قد كثرت وبسطت واختصرت، فسألني بعض الإخوان أن ألخص له المهم من ذلك، فأجبته إلى سؤاله؛ رجاء الاندراج في تلك المسالك].
هنا أشار المصنف رحمه الله إلى عنايته واهتمامه بالمصنفات المتعددة، وأنه قصد بتصنيف هذا الكتاب إيجاد متن مختصر في علوم الحديث وقواعده ومصطلحه، تقريباً للأفهام، وباستطاعة طالب العلم أن يحفظه ويفهمه، وأن يطبقه عند إرادته ذلك.
وقوله: (فسألني بعض الإخوان) هنا المصنف رحمه الله بيّن أنه سئل تصنيف هذا الكتاب، وفي هذا بيان أن الإنسان إنما يصنف لمصالح الناس وحاجاتهم، ولا يصنف لإظهار إبداع أو تميز أو قدرة على الكتابة في الفن، وإنما ينظر إلى حاجة الناس. وكذلك فإن التصنيف عند طلب الناس وحاجتهم فيه كسر لرغبة النفس، ودفع لإحسان الظن بالمؤلف، وأنه إنما كتب لحاجة الناس، ولطلبهم لهذا الأمر، واستجابة له، ولم يكن ذلك مجرد رغبة ذاتية أو هوى.
وقد ذكر المصنف رحمه الله ما يتعلق بتعدد المصنفات في هذا الباب، والمراد بتعدد المصنفات فيه وكثرتها هي علوم الآلة الموصلة إلى الحديث، والعلوم عندنا على نوعين: علوم أصلية، وعلوم آلة، وعلوم الآلة هي العلوم الموصلة إلى تلك العلوم الأصلية، فكل علم من العلوم الأصلية له علم آلة يوصل إليه، وعلوم الآلة تتنوع صعوبة بمقدار صعوبة الغاية، وهذا أمر معلوم، فعلوم القرآن علوم معلومة، وثمة علوم توصل إليها، والسنة لها علوم معلومة، وثمة علوم توصل إليها مما يسمى بمصطلح الحديث وقواعد الحديث، وغير ذلك مما يتعلق بقرائن الترجيح ومسائل العلل ونحو ذلك من العلوم الموصلة إلى الغاية. وكذلك ما يتعلق بعلم الفقه وهو علم أصلي، وأما ما ينسب إليه من علوم فهي من علوم الآلة كالقواعد الفقهية وأصول الفقه، وغير ذلك كعلوم اللغة العربية، فثمة علوم أصلية فيها، وثمة علوم آلة موصلة إليها.
فذكر المصنف تعدد المصنفات في هذا الباب، وكثرتها وتشعبها على الإنسان، وأنه يحتاج إلى مصنف مختصر في ذلك يرشده إلى الصواب على سبيل الاختصار.
المصنف يعتبر من أئمة هذا الفن نظراً وتطبيقاً، ومن أئمة الحديث والسنة، وله مصنفات عديدة في هذين البابين: في باب علم الآلة، وفي باب علم الأصل والغاية، وعلوم الحديث بمعرفة الصحيح والضعيف منها، وكذلك فقهها، ويكفي في هذا الباب كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، ومن مصنفاته فيما يتعلق بالتصحيح والتضعيف كتاب التلخيص الحبير، وله مصنفات متعددة فيما يتعلق بعلوم الآلة منها نزهة النظر، وكذلك نخبة الفكر، وهو هذا المتن.
أما شيوخه وشيوخ شيوخه فلهم مصنفات متعددة، وهذه المدرسة كان من ثمارها الحافظ ابن حجر رحمه الله، وهي مدرسة اعتنت عناية بالغة فيما يتعلق بعلوم الآلة وقواعد الحديث، فمن شيوخه البلقيني ، وكذلك ابن الملقن ، وعناية ابن الملقن ظاهرة في هذا الباب، وله كتاب في ذلك اسمه المقنع في علوم الحديث، وكذلك شيوخ ابن الملقن كانت لهم عناية بهذا الفن والباب.
قال المصنف رحمه الله: [فأقول: الخبر إما أن يكون له طرق بلا عدد معين، أو مع حصر بما فوق الاثنين، أو بهما].
أول ما ابتدأ به المصنف هو البداءة بالتركيب الأشهر في هذا الفن؛ لأن كل هذه القواعد هي موصلة إلى الخبر، فأصل الآلة هو الخبر، فالناس تقوم بتحليل هذا الخبر، وبالوصول إليه صحة وضعفاً، وكذلك معرفة أنواعه سواءً كان مرفوعاً أو موقوفاً أو مقطوعاً، وكذلك من جهة كمه ووفرة طرقه، ومن جهة اشتهاره وغرابته، وما في هذا من الخبر من معانٍ أخرى، مما يتعلق بالإدراج، وتفسير الألفاظ وغريب الحديث، ومعرفة محكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، ومتقدمه ومتأخره، ومطلقه ومقيده، وغير ذلك من المعاني التي تتعلق بهذه العبارة، فهذه العبارة هي نواة هذا العلم، وعنه يتفرع هذا العلم، ولهذا ابتدأ المصنف بهذه العبارة وهي لفظ الخبر.
مما ينبغي أن ينبه عليه أن علم الحديث وعلم المصطلح وقواعد الحديث هي من العلوم الشاقة، وذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن مسالك العلماء في هذا العلم متعددة بحسب ما وهبهم الله عز وجل، وتعدد المسالك في ذلك يجعل الإنسان يضطرب في هذا الباب، وذلك أن العلماء يختلفون في التمكن، وفي الدراية بمعرفة الحديث محفوظاً، وفي معرفة الرواة والرجال وكثرة الطرق وتعددها، فيختلفون في هذا الباب مما يجعل طالب العلم ربما يضطرب في بعض القواعد.
الوجه الثاني: أن القواعد التي يجري عليها العلماء في هذا الفن هي قواعد أغلبية لا قواعد مطردة، وينبغي أن نعلم أن كل علم من العلوم إذا تضمن على قاعدة أو ضابط فهذه القاعدة وهذا الضابط ليس بمطرد، ولا يوجد شيء من القواعد الكونية يجعلها الله عز وجل قاعدة ثابتة لا تنخرم على الإطلاق، ولكن الله عز وجل يجعل لذلك الشيء استثناء، ومن ذلك ما يطرأ على تلك القواعد، سواء كان من الأمور الكونية فيما يتعلق بأمور الأفلاك وغيرها، أو القواعد النظرية التي تطرأ في ذهن الإنسان، فهذه كلها لها شيء من الاستثناء، منها ما يتعلق بأمر الفناء والنهاية باعتبار أنها ليست دائمة، ومنها ما يتعلق بالاستثناء الذي يطرأ عليها في ثنايا مسيرها، فما من شيء إلا وله استثناء، حتى مسير الشمس والقمر، فالله عز وجل جعله على حساب، ولكن الله سبحانه وتعالى يجعل هذا النظام يختل في بعض المواضع، ولذلك يجعل الله عز وجل الشمس تخرج من مغربها، وكذلك من جهة الظهور والخفاء يجعل الله عز وجل لظهور الشمس والقمر شيئاً من عدم الاطراد، فلا تظهر الشمس للإنسان وهي تغيب، ولا القمر وهو يخسف.
وكذلك فيما يتعلق بالقواعد العلمية النظرية، نقول: هي قواعد ليست مطردة، وإنما هي أغلبية، ونسبة الغلبة في ذلك تختلف من قاعدة إلى قاعدة.
وهذا العلم بما يسمى علم المصطلح أو علم قواعد الحديث هو علم متعدد القواعد، متعدد الفصول والأبواب، وتعدده في ذلك بحسب قدرة الناقد أو العالم أو المحدث على استخراج تلك القواعد، فالقواعد لا حد لها ولا نهاية، ولهذا نجد العلماء في أبواب الفقه، في أبواب القواعد، في أبواب العقيدة، في أبواب الحديث، في أبواب التفسير ما زالوا يستخرجون ضوابط وقواعد جديدة بحسب غوص ذلك العالم وتبحره في هذا الفن.
وكذلك فإن الغلبة هي موضع خلاف على ما تقدم الكلام عليه، منهم من يجعل الغلبة في ذلك كثيرة، ومنهم من يجعل الغلبة في ذلك ليست بكثيرة، وإنما تقارب النصف، أو تزيد عليه يسيراً، ولا يسمى الشيء غالباً إلا إذا زاد على النصف، ولكن إذا أردنا أن ننظر إلى النسبة المئوية، فمن القواعد ما تعمل بنسبة (90%)، ومنها ما هو (80%)، ومنها ما هو (95%)، ومنها ما هو (60%)، وهي حينئذٍ إذا غلبت على النصف وزادت فإنها تسمى قاعدة، فإذا اضطربت وأصبحت قريبة من النصف، ونقصت في موضع وزادت في موضع فلا تسمى قاعدة.
ولهذا فإن بعض المواضع في هذا الكتاب هي موضع خلاف في التسليم بها، هل هي قاعدة أصلاً أو ليست بقاعدة، ولكن العلماء يضعون هذه الضوابط حتى يسهل الفهم لدى طالب العلم، وسهولة الفهم هي في كل علم.
ولذلك إذا كان الإنسان يعلم أن النجم الفلاني يظهر في الجهة الفلانية، ولكن في فصل الشتاء يميل وينحرف قليلاً، فهذا يجعل لدى الإنسان استثناء عن القاعدة، وإذا لم يكن عارفاً بهذا الاستثناء اختل لديه نظام الحساب.
وحينئذٍ نقول: ينبغي لطالب العلم أن يكون عالماً بشيئين:
الأول: عالم بحجم غلبة القاعدة.
الثاني: أن يكون عالماً بالاستثناء ومقداره، فحينما نقول مثلاً: إن قاعدة: إن رواية الثقة مقبولة أو ليست مقبولة؟ وهل هي قاعدة أو ليست بقاعدة؟ هي قاعدة، لكن هل هي مطردة؟ ليست مطردة؛ لأن الثقة قد يخطئ ويهم ويغلط، وغير ذلك. لكن ما هي مواضع الوهم والغلط لدى الثقة؟ هذا هو المشكل في هذا الفن.
إذاً نقول: إن فهم القواعد سهل، ولكن ما ند عن القاعدة من الاستثناء صعب، وكذلك مقدار ذلك الاستثناء مما يند عن القاعدة أيضاً صعب جداً.
إن علم قواعد الحديث تسهل على طالب العلم الحكم على الأحاديث والجسارة عليها، فإذا أخذ هذه القاعدة استطاع أن يحكم، ولكن يقع لديه كثير من الخلل في هذا الباب، ولهذا نقول: ينبغي أن يتلازم معرفة القاعدة مع معرفة ما خرج عنها، وما خرج عنها هو نوعين: مقداره ونوعه، مقداره من جهة الحجم والكثرة، وكذلك تعداد هذه الأنواع والصور، منها ما هي كثيرة جداً، فالقاعدة سهل على الإنسان أن يكون عارفاً بها باعتبار أنها الغلبة، ولذلك أنت تعرف أن هذا الكوكب يخرج من هذه الجهة، فهو إذاً لمدة مائتين يوم أو ثلاثمائة يوم من السنة يخرج من هذه الجهة، لكن في بقية الأيام له ستة مخارج أو سبعة مخارج يميل عنها قليلاً، فهنا تعدد الاستثناء.
إذاً القاعدة أسهل لدى الإنسان من جهة التعلم، وأوفر له من جهة الإصابة، ولكن إذا لم يكن عارفاً بحجم الاستثناء، وكذلك عدمه ومواضعه وقع في الوهم والغلط.
وهنا إشارة مهمة ينبغي أن نفهمها، أن علم الحديث وعلم العلل ليس علم قواعد، علم القواعد سهل.
مكمن الخطورة في عدم معرفة الاستثناءات في قواعد علم الحديث
وتظهر الخطورة في هذا الباب أن الاستثناء إذا كان كثيراً كأن تكون القاعدة حجمها (60%) أو (55%) فحينئذٍ يقع لدى الإنسان الوهم والغلط، وهذا ما نسميه بالفرق بين منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين، فالعلماء الأوائل عرفوا القاعدة والاستثناء، والمتأخرون عرفوا القاعدة وعرفوا شيئاً من الاستثناء، أو ما عرفوه أبداً، فعندهم الراوي الثقة ثقة على الإطلاق، وحديثه صحيح على الإطلاق، والراوي الضعيف حديثه مردود على الإطلاق، وهذه قواعد صحيحة لكنها ليست مطردة، ولهذا نقول: ينبغي أن نعلم أن هذه المصنفات إنما وضعها العلماء تقريباً لهذا العلم.
وأنا أريد أن أبين لكم بالنظر أن الإنسان إذا لم يعرف الأفراد ما استطاع أن يصنع القواعد، ولا ما ند عنها، أي: إذا لم يكن عارفاً للأعيان بأفرادهم.
مثلاً أنا الآن رجل غريب عن هذا البلد وهو الأردن، وأنا حينما أرى أهل الأردن بجميع أنواعهم وأشكالهم، أرى أنهم من أهل بلد واحد ولغتهم واحدة، لكن أنتم تعرفون أن هذا من البلدة الفلانية وهذا من البلدة الفلانية، لماذا؟ لأنكم عشتم أحوالكم، ونظرتم إلى وجودكم وعرفتم ملامحكم ولهجاتكم، فاستطعتم أن تميزوا، فأهل الأردن نقاد لأهل الأردن، بخلاف أنا أجنبي كحال المتأخر الذي يريد أن يوازي أحمد و أبا حاتم ونحوهما.
وحينما نذهب كذلك إلى بعض البلدان كالصين واليابان ترى أنهم إخوة، لكنهم يستطيعون أن يميزوا فيما بينهم، بينما أنت لا تستطيع أن تميز بينهم، فأنت المتأخر بالنسبة لعلم الحديث كحالك حينما تنظر إليهم، لكن بالنسبة للأئمة الأوائل إذا أرادوا أن ينظروا للحديث عاشوا مع الحديث وحفظوه، وضبطوا أعيانه وأفراده، واستطاعوا أن يميزوا بلا دلالة، يعني: لا يستطيع أن يدلل أن هذا دخيل عليهم، كما تميزون أنتم أن هذا دخيل عليكم، أو هذا من الأطراف، أو من الوسط، أو من الشرق أو من الغرب، وهذا ما يسمى بالملكة التي ليس لها قاعدة.
تسمية أئمة الحديث بالنقاد والصيارفة
والعلماء يسمون أهل الحفظ وأئمة الحديث بالنقاد لماذا؟ أخذاً من النقدين الذهب والفضة، ويسمون بالصيارفة، من الصرف بمعرفة المزيف عن غيره.
ولهذا تجد الصيارفة الذين يتعاملون بالنقدين الذهب والفضة ينظر إلى هذه العملة، ثم يقول: هذه العملة مزيفة، مع أنك ترى أنها مطابقة لها، ولهذا كان النقاد الأوائل والصيارفة للذهب والفضة حينما يأتيهم أحد بدينار أو درهم يقوم بوضع الدينار والدرهم على حصاة ثم يسمع طنينه، ولطنينه تمييز، فيقول: هذا مزيف أو غير مزيف، وحينما تأتي أنت تقول: ما الفرق بين هذا الطنين وهذا الطنين هل يستطيع أن يشرح لك؟ لا يستطيع، ولهذا ابن أبي حاتم رحمه الله ذكر عن أبيه وعن أبي زرعة يقول: أتيتهم بعشرين حديثاً، وسألت أبا زرعة عن حاله فيقول: هذا منكر، وهذا لا أصل له، وحينما أقول لهم: لماذا؟ يقول: لا أدري، لكن هل يستطيع أن يدلل؟ لا يستطيع أن يدلل؛ لأن الشاذ لا يمكن أن يدلل عليه، وهذا هو علم العلل؛ أي: أن ينقدح في ذهن الإنسان انقداحاً شديداً أن هذا دخيل وهذا مزيف، فالقاعدة سهل أن الإنسان يدلل عليها.
حتى في أهل الطب تجد أن الطبيب ينظر إلى ملامح الإنسان ويقول: أنت فيك كذا؟ لأنه عرض عليه ألف أو ألفان أو عشرة آلاف شخص، فعرف أن ملامحهم تشابه ملامح هذا الوصف، ولكن لو جاءه هذا منفرداً ولم يأت أحد قبل هل يعرفه أو لا يعرفه؟ لا يعرفه، كحالك أنت حينما يأتيك حديث منفرد، ولم يمر عليك حديث قبل ذلك تريد أن تطبق عليه قواعد علم الأحاديث فتقوم بتصحيحه وهو ضعيف، أو بتضعيفه وهو صحيح، وتجد أن الأئمة قد خالفوك في ذلك، وتقوم بالجسارة على الأئمة.
ولهذا نقول: إن علم الحديث هو علم معرفة ما خرج عن علم العلل، وعلم ما خرج عن القواعد، أما هذه القواعد فيسهل على الإنسان أن يعرفها.
وتظهر الخطورة في هذا الباب أن الاستثناء إذا كان كثيراً كأن تكون القاعدة حجمها (60%) أو (55%) فحينئذٍ يقع لدى الإنسان الوهم والغلط، وهذا ما نسميه بالفرق بين منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين، فالعلماء الأوائل عرفوا القاعدة والاستثناء، والمتأخرون عرفوا القاعدة وعرفوا شيئاً من الاستثناء، أو ما عرفوه أبداً، فعندهم الراوي الثقة ثقة على الإطلاق، وحديثه صحيح على الإطلاق، والراوي الضعيف حديثه مردود على الإطلاق، وهذه قواعد صحيحة لكنها ليست مطردة، ولهذا نقول: ينبغي أن نعلم أن هذه المصنفات إنما وضعها العلماء تقريباً لهذا العلم.
وأنا أريد أن أبين لكم بالنظر أن الإنسان إذا لم يعرف الأفراد ما استطاع أن يصنع القواعد، ولا ما ند عنها، أي: إذا لم يكن عارفاً للأعيان بأفرادهم.
مثلاً أنا الآن رجل غريب عن هذا البلد وهو الأردن، وأنا حينما أرى أهل الأردن بجميع أنواعهم وأشكالهم، أرى أنهم من أهل بلد واحد ولغتهم واحدة، لكن أنتم تعرفون أن هذا من البلدة الفلانية وهذا من البلدة الفلانية، لماذا؟ لأنكم عشتم أحوالكم، ونظرتم إلى وجودكم وعرفتم ملامحكم ولهجاتكم، فاستطعتم أن تميزوا، فأهل الأردن نقاد لأهل الأردن، بخلاف أنا أجنبي كحال المتأخر الذي يريد أن يوازي أحمد و أبا حاتم ونحوهما.
وحينما نذهب كذلك إلى بعض البلدان كالصين واليابان ترى أنهم إخوة، لكنهم يستطيعون أن يميزوا فيما بينهم، بينما أنت لا تستطيع أن تميز بينهم، فأنت المتأخر بالنسبة لعلم الحديث كحالك حينما تنظر إليهم، لكن بالنسبة للأئمة الأوائل إذا أرادوا أن ينظروا للحديث عاشوا مع الحديث وحفظوه، وضبطوا أعيانه وأفراده، واستطاعوا أن يميزوا بلا دلالة، يعني: لا يستطيع أن يدلل أن هذا دخيل عليهم، كما تميزون أنتم أن هذا دخيل عليكم، أو هذا من الأطراف، أو من الوسط، أو من الشرق أو من الغرب، وهذا ما يسمى بالملكة التي ليس لها قاعدة.
والعلماء يسمون أهل الحفظ وأئمة الحديث بالنقاد لماذا؟ أخذاً من النقدين الذهب والفضة، ويسمون بالصيارفة، من الصرف بمعرفة المزيف عن غيره.
ولهذا تجد الصيارفة الذين يتعاملون بالنقدين الذهب والفضة ينظر إلى هذه العملة، ثم يقول: هذه العملة مزيفة، مع أنك ترى أنها مطابقة لها، ولهذا كان النقاد الأوائل والصيارفة للذهب والفضة حينما يأتيهم أحد بدينار أو درهم يقوم بوضع الدينار والدرهم على حصاة ثم يسمع طنينه، ولطنينه تمييز، فيقول: هذا مزيف أو غير مزيف، وحينما تأتي أنت تقول: ما الفرق بين هذا الطنين وهذا الطنين هل يستطيع أن يشرح لك؟ لا يستطيع، ولهذا ابن أبي حاتم رحمه الله ذكر عن أبيه وعن أبي زرعة يقول: أتيتهم بعشرين حديثاً، وسألت أبا زرعة عن حاله فيقول: هذا منكر، وهذا لا أصل له، وحينما أقول لهم: لماذا؟ يقول: لا أدري، لكن هل يستطيع أن يدلل؟ لا يستطيع أن يدلل؛ لأن الشاذ لا يمكن أن يدلل عليه، وهذا هو علم العلل؛ أي: أن ينقدح في ذهن الإنسان انقداحاً شديداً أن هذا دخيل وهذا مزيف، فالقاعدة سهل أن الإنسان يدلل عليها.
حتى في أهل الطب تجد أن الطبيب ينظر إلى ملامح الإنسان ويقول: أنت فيك كذا؟ لأنه عرض عليه ألف أو ألفان أو عشرة آلاف شخص، فعرف أن ملامحهم تشابه ملامح هذا الوصف، ولكن لو جاءه هذا منفرداً ولم يأت أحد قبل هل يعرفه أو لا يعرفه؟ لا يعرفه، كحالك أنت حينما يأتيك حديث منفرد، ولم يمر عليك حديث قبل ذلك تريد أن تطبق عليه قواعد علم الأحاديث فتقوم بتصحيحه وهو ضعيف، أو بتضعيفه وهو صحيح، وتجد أن الأئمة قد خالفوك في ذلك، وتقوم بالجسارة على الأئمة.
ولهذا نقول: إن علم الحديث هو علم معرفة ما خرج عن علم العلل، وعلم ما خرج عن القواعد، أما هذه القواعد فيسهل على الإنسان أن يعرفها.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [6] | 2237 استماع |
شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [2] | 1915 استماع |
شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [4] | 1666 استماع |
شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [5] | 1447 استماع |
شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [3] | 1063 استماع |