شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فقال المصنف رحمه الله: [ثم الغرابة إما أن تكون في أصل السند أو لا، فالأول الفرد المطلق، والثاني الفرد النسبي، ويقل إطلاق الفردية عليه].

تقدم معنا الكلام على الغرابة، وأن المراد بالغرابة هو التفرد، سواءً كان ذلك في جميع طبقات السند، أو كان في طبقة واحدة، فإن ذاك يوصف بالغرابة.

والغرابة على نوعين: غرابة نسبية وغرابة مطلقة، والغرابة المطلقة هي التي تكون في جميع طبقات السند، يعني: يرويه راوٍ واحد عن راوٍ واحد عن راوٍ واحد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: في جميع الطبقات، وهذا يسمى بالغريب، ويسمى بالفرد، ويطلق عليه بعض النقاد تارة المنكر، ولا يعني من ذلك الرد، وإنما لم يكن معروفاً.

وأما الغرابة النسبية فهي التي توجد في طبقة واحدة أو طبقتين، ولكن ليست في جميع الطبقات.

الغرابة النسبية والغرابة المطلقة أيهما أقوى من الثاني؟ نقول: لا ينضبط هذا، أي: لا نستطيع أن نقول: الغرابة النسبية أقوى من الغرابة المطلقة، باعتبار أن الغرابة النسبية ربما تكون قرينة على إعلال الحديث، مع كون الحديث مثلاً يرويه ثلاثة عن ثلاثة، عن واحد عن ثلاثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا غريب نسبي، وقد يكون ذلك إشارة إلى علة، أي: كيف يكون هذا الحديث يرويه ثلاثة شيوخ، ثم لا يرويه عنهم إلا واحد، ولا يروي عن هذا الواحد إلا ثلاثة، فهذا يكون ضمن ورود الوهم والغرابة. وحينئذٍ لا نستطيع أن نقول: إن وجود العدد في بعض الطبقات أقوى من عدم وجوده في جميع الطبقات، فنقول: إن هذا ينظر كل حديث بحسبه.

قال المصنف رحمه الله: [وخبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط، متصل السند، غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته].

تمام ضبط الراوي

تقدم معنا الكلام على مسألة العدالة، وأشرنا إلى شروطها، وهنا ذكر المصنف بعد ذلك تام الضبط.

وهو هنا يريد الإشارة إلى شروط الحديث الصحيح، أو إلى تعريفه، فذكر تمام الضبط، يعني: أن الحديث لا يكون صحيحاً إلا وقد تم ضبط راويه، وأن عدم تمام الضبط بقدر نقصانه ينزل الحديث عن رتبة الصحة إلى ما دونها، سواءً كان ذلك الحسن، أو كان ذلك الضعيف، وهذا له مراتب أيضاً من جهة الحسن، حسن لذاته أو حسن لغيره، ضعيف في ذاته، أو ضعيف في غيره، فمن العلماء من يتوسع في مسألة الضعيف، ومنهم من يجعل الضعيف اسماً واحداً، فيقول: هو الضعيف، تعددت طرقه أو لم يتعدد؛ لأن ما دون الضعف لا ينجبر، ونقول: قد نحتاج إلى تقوية الضعيف بغيره، ممن ضعفه شديد، ولكن هذا الضعف يحمله العلماء إذا كان في غير الأحكام، كأبواب التفسير والسير والمغازي، ولو جعلناها في الأحكام لكان ضعفها شديداً، ولكن يحملها العلماء في أمور الأحكام، فترتقي من شدة الضعف إلى ما هو أعلى منها، وقليلاً ما يستعمل العلماء ذلك في أمور الأحكام.

ولهذا نقول: إنه لا بد لراوي الحديث أن يكون ضابطاً.

أنواع الضبط

والضبط على نوعين: ضبط صدر وضبط كتاب، وضبط الصدر هو الحفظ، وضبط الكتاب هو التدوين، والإنسان إذا كان ضابطاً لكتابه متقناً له عالماً بالدخيل فيه لو أدخل فيه ما ليس في غيره، فإنه حينئذٍ يكون أضبط من حفظ أو ضبط الصدر، ولكن الكتب والألواح في زمانهم التي يضبط فيها ليست كزماننا؛ ولقلتها وندرتها تستعار، فيستعير الإنسان اللوحة من فلان، ويأخذها فلان، ويقرأ فيها فلان، ويقرأ فيها فلان، فربما أدخل فيها واحد من الحديث ما ليس منه، خاصة مع ضعف الناس في باب القراءة في ذلك الزمن، فهم حدثاء عهد بأمية، وربما غاب على الإنسان خطه وتمييز ما يقرأ، واختلال أو اندماج خطه مع خط غيره.

لهذا نقول: إن الإنسان إذا كان ضابطاً وحافظاً لمكتوبه من الدخيل فيه، وضابطاً لتدوينه عمن سمعه منه، فإنه أولى من ضبط الصدر؛ لأن الوهم يرد على ضبط الصدر أكثر من ضبط الكتاب، ولكن ضبط الصدر يقدم على ضبط الكتاب في قوة الملكة، يعني: في إعطاء قوة الملكة للإنسان يكون ذلك بضبط الصدر، فكلما كثر ضبط الصدر عند الإنسان قويت ملكته، واستطاع حينئذٍ أن يكون ناقداً أكثر من غيرهم ممن يدونوا.

طرق معرفة ضبط الراوي

لكن كيف نعرف أن هذا الراوي ضابط أو ليس بضابط؟

نعرف هذا بأمور: منها ما ينص الأئمة عنه بضبطه، وذلك أن الأئمة عليهم رحمة الله يعرفون الراوي بأمور: إما بالمعاينة والمشاهدة؛ خالطوه فرأوه، وسمعوا كلامه وأخباره وأحاديثه، ونقله للكلام في أمور الناس، فعرفوا أنه يضبط الكلام، ولا يزيد فيه ولا ينقص حتى في أمور الناس، في تجاراتهم وأخبارهم ونحو ذلك، فهذا نوع ضبط، فيعطيهم ذلك إحسان ظن به في تحمله للكلام وقوة إدراكه له، وعدم الزيادة والنقصان فيه، وهذه المخالطة أمر قد رفعه الله عز وجل عن المتأخرين، وجعلها الله عز وجل لبعض أو لكثير من المتقدمين بحسب ما يدركونه من الرواة.

ولهذا نقول: إن الأئمة الأوائل جعل الله عز وجل لهم من الخصائص من معرفة النقد ما لا يوجد عند المتأخرين، حتى لو أرادوا تحقيقه فإن تحقيقه محال، ولو أرادوا فلا يوجد بالتعلم، وإنما هو أمر قدري أوجده الله عز وجل لهم ثم رفعه عمن كان بعدهم، ولهذا من الأئمة من عاين شريك بن عبد الله النخعي ، ورآه وعرف ضبطه، وكذلك ابن لهيعة ونحو ذلك، فعاينوهم وعرفوا أحوالهم وأخبارهم وأحاديث الناس عنهم، أما من جاء بعدهم فإنهم لا يستطيعون أن يحكموا عليهم إلا بتقرير كلام الأئمة الذين نقلوا عنهم تلك الأحكام أو بسبر مروياتهم، وهو الأمر الثاني في معرفة الراوي.

إذاً نعرف أن الراوي ضابط إما بلقيه من العلماء، وإما بسبر مرويات الراوي.

وما معنى السبر؟

السبر هو أن يتأمل الإنسان أحوالاً أو أعياناً متعددة ليخرج منها بحكم على عين، يعني: يتأمل عشرة أمور ليخرج بحكم على واحد، فالإنسان مثلاً إذا كان معلماً، أو كان تاجراً، أو كان زارعاً يريد أن يتخذ أجيراً أو عاملاً أو نحو ذلك، فيقوم بإجراء مقابلات مع عشرة وعشرين وثلاثين، وهذا نسميه السبر، وهو يريد واحداً، ويريد من قراءة أحوال العشرين أن يخرج أعلاهم مرتبة، لكن لو رأى واحداً منهم منفرداً وهو أدناهم ربما استحسنه، وقدمه على غيره، ولهذا كلما كثرت مسألة السبر لدى الإنسان والمادة المسبورة كان حكمه في ذلك أدق.

ومن وجوه معرفة ضبط الراوي أن يقوم الناقد بضبط أو بسبر مرويه، فيجمع مرويات هذا الراوي من كتب ودواوين السنة، كم له حديث؟ له عشرون، أو ثلاثون، أو أربعون، أو خمسون، أو مائة، أو مائتان، ويقوم الناقد بسبرها والنظر فيها. وإذا لم يكن يحفظها فيقوم بالنظر فيها، ويتأملها واحداً واحداً، فإذا كانت مروياته مائتين، ووجدت أن الأئمة حكموا على صحة مائة وتسعين، أو خمسة وتسعين منها، فإن هذا يعتبر ضبطاً عند الراوي. وأعلى من ذلك إذا ضبطها كلها، وكان وهمه في موضع أو موضعين، ثم إذا نقص ذلك ووجدت الإعلال في حديثه يزداد، فالصحيح من حديثه مائة، والضعيف مائة، فإن هذا يعتبر خفة ضبط، ثم إذا نقصت في ذلك يكون ضعفه في الضبط شديداً، وهذا يكون للناظر بقدر قوة سبره.

أسباب ضعف السبر عند المتأخرين

والسبر آلة ضعفت عند المتأخرين مع إمكانهم فيها، لأمرين:

الأمر الأول: ضعف الملكة في الحفظ، فالمتأخرون يحفظون المتون، لكن لا يحفظون الأسانيد، لماذا؟ يحفظ المتن يريد أن يعرف الحكم الشرعي منه، ولا يريد أن يوجد لديه ملكة يستطيع بها أن يحكم على الناس، فالمتن الواحد فيه خمسة أو ستة أو سبعة أو أقل من ذلك أو أكثر من الرواة، وهذه آلة من آلات السبر، فإذا حفظت هذه المتون بأسانيدها أصبح لديك استحضار لعدد مروياته، وتستطيع حينئذٍ أن تخرج حكماً لمجموع أحاديثه التي توجد عندك ضبطاً، فتحكم عليه، وتقول: هذا راوٍ ضابط، أحفظ له مائة حديث، وكلها مستقيمة، وهذا يحصل إذا عرفت الأسانيد، ثم عرفت علل العلماء في هذه الأسانيد، وكلامهم أيضاً عليه.

أما العلماء الأوائل فيعرفون المتون، ويعرفون الأسانيد، ويعرفون موضع الخطأ في كل إسناد، ثم يخرجون بنتيجة، ولهذا العلماء ربما يسألون عن راو من الرواة فيقولون: صالح، يهم شيئاً، أو ربما وهم، أو يخطئ، ونحو ذلك، وهذا الكلام جاء عن طريق السبر.

وحينئذٍ نقول: إن السبر ضعف لضعف الحفظ عند المتأخرين، ولو حفظوا المتون فإن هذا ينفع في باب من العلل، لكن لا ينفع في جميع أبوابها.

الأمر الثاني: العجز؛ لأنه يقول: أريد أن أحكم على حديث واحد، يعني: أحتاج أن أسبر مائتي حديث، وهذا هل هي في الحديث كله؟ لا. في راوٍ واحد، حتى تخرج بحكم واحد تستقل به عن غيرك، وهكذا مع الراوي الثاني والثالث والرابع، وإذا استكثرت من السبر في كل طبقة أصبح لديك ملكة خاصة في كل راوٍ عرفت الحكم بسبرك أنت، ثم استكثرت من معرفة أحوال الرواة بالسبر حتى يتكرر الرواة، وتكررت الأسانيد لديك، فأصبح لديك حكم خاص على مثل هذا.

ولهذا كثير من المتأخرين يحكمون على الحديث بناءً على القاعدة، والأوائل لا يحكمون بناءً على القاعدة، وإنما يحكمون بناءً على السبر، وهذا من وجوه البون بين منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين، ولهذا إذا أدرك الإنسان الفارق بين الآلة التي تكون لدى المتقدم، والآلة التي تكون للمتأخر عظم لديه مقام المتقدم، وضعف عنده مقام نفسه، وتوقى عند الحكم على الحديث.

ومما يؤسى له أن تجد بعض طلاب العلم جسر عن الحكم على حديث، فيحكم عليه في دقيقة، وكأنه يعرف هؤلاء الرواة كلهم، ويعرف البلدان، ويعرف ما اختص به أهل كل بلد، وشيوخ البلد، وفيما يروي هذا الراوي، والمتن وعلاقته بالمتن الذي روى، وهذه كلها تحتاج إلى سبر، فالرواة يتباينون، هناك راوٍ لا يروي ولا يعرف إلا في دواوين التفسير، وهو في ذاته ثقة، لكن إذا جاء يروي حديث الأحكام تستغرب وجود هذا الرجل هنا، كما ترى في أحوال الناس، فقد ترى محللاً اقتصادياً يتكلم في جوانب الاقتصاد، ثم تتفاجأ منه يصدر فتوى، وإذا كنت تعرف اختصاص الرجل وتعلم حاله، ووجدته في خبر مثل هذا فإنك تستغرب وجوده في هذه القضية المنقولة عنه، ولهذا تجد الأئمة يعرفون الراوي، ويعرفون الشيخ، ويعرفون المتن واختصاص الراوي في ماذا، واعتاد أن يروي عن ماذا.

وعلم الشريعة ليس واحداً، فيه التفسير، فيه الفتن والملاحم، فيه السير، فيه الأحكام، فيه ما يتعلق بفضائل الأعمال، ومنهم من لا يروي حديثاً إلا في مسائل السير والمغازي، فصار مختصاً بذلك، وإذا جاء يروي حديثاً في الأحكام فإن العلماء يتوقفون؛ لأن لديهم ربط، لكثرة مرويه، ومحفوظه لديهم، وهذا أصبح خارجاً ونشازاً عن ذلك.

وكذلك: بعض الأئمة حتى في مسألة الترجيح في الراوي عند الاشتباه مع اسم غيره، فإننا نعرفه إذا اشتركا في الشيخ، اشتركا في التلميذ، معرفة الباب والمتن الذي يرويه، فإن هذا الرجل له نفس، فإما يميل إلى الأحكام، أو يميل إلى أحاديث فضائل الأعمال، أو السير أو نحو ذلك، وهذا الأمر لا تستطيع أن تخرجه من كتب الرجال، وإنما تخرجه من المحفوظ الموجود لديه.

مثلاً راوي لديه مائتا حديث، مائة وخمسون منها في الأحكام، وخمسون منها مفرقة في أبواب الدين، والذي يشاركه في الاسم هذا لديه مائتا حديث، مائة وخمسون في التفسير، وخمسون في بقية الأبواب، وهذا الحديث الذي اختلفوا فيه في الأحكام أيهما أولى؟ أليس الأول؟ الأول. كيف تخرج هذه النسبة، أليس بالسبر؟ بلى بالسبر، وهذا شاق على الإنسان من جهة تطبيقه في الأمر العملي، ولكن إذا كان الإنسان صاحب ملكة وصاحب حفظ، ومعرفة للمتون، وما يختص فيه الراوي استطاع أن يحكم بمباشرة يقول: هذا فلان.

قد يقول قائل: لماذا اشتركا في الشيخ واشتركا في التلميذ واشتركا في الطبقة؟ لماذا تجزم؟ أنت جسور بالحكم على مثل هذا، هل يستطيع الإنسان أن يدلل؟ لا يستطيع أن يدلل تدليلاً ظاهراً حتى يأتي بالمائتين، ويقوم بشرحها لهم، يأتي بمائتي حديث ويقول: إن هذا روى نسبة كذا وهذا نسبة كذا، وهذا مما يكون، ولهذا تجد الأئمة عليهم رحمة الله يحكمون في المتشابهات عند من دونهم بالجزم، لوضوحها وجلائها، وذلك لقوة آلة السبر عندهم.

اتصال السند

قوله: (متصل السند) أي: أنه لا بد من اتصال السند حتى يكون الحديث صحيحاً، وقد ذكرنا في مسألة تمام الضبط، وأنه شرط من شروط الصحة، لكن قد يوصف الراوي بعدم تمام الضبط ونقبل حديثه أحياناً للاختصاص، أي: اختصاصه في هذا الباب، فهو في مجموع مرويه ليس بضابط، لكن نحن نعلم من اختصاص هذا الراوي بهذا الشيء، وهو أعلم الناس بمثل ذلك.

ما يتعلق باتصال السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا من شروط الصحة، لكنه ليس مطرد، فقد يكون الحديث منقطعاً وهو صحيح، ولكن القاعدة الأغلبية في هذا أن الاتصال شرط؛ لأن الانقطاع هو ورود جهالة في الإسناد فأصبحت علة، وهذه الجهالة قد تعلم من وجه آخر غير منصوص عليه، غير محدد، لكن نعلمه أنه لا يخرج عن الخمسة.

ولذلك إبراهيم النخعي مع أنه لم يدرك عبد الله بن مسعود إلا أنه من الرواة عنه، وتجده يقول: إذا رويت عن عبد الله بن مسعود فسميت رجلاً فهو عمن سميت، وإذا رويت عن عبد الله بن مسعود ولم أسم رجلاً فهو عن غير واحد.

فأنا عندما أعطيك إسناد إبراهيم النخعي عن عبد الله بن مسعود ، وأقول: احكم عليه بناءً على هذه القاعدة، ستبحث في ترجمة إبراهيم ، ويقول لك: إنه لم يدرك عبد الله بن مسعود ، إذاً الحكم ضعيف، هل حكمك (ضعيف) يجري على القاعدة أو لا يجري على القاعدة؟ يجري على القاعدة، هل هو صحيح أم خطأ؟ خطأ، هل هي مسألة واحدة؟ لا. إبراهيم النخعي عن عبد الله بن مسعود له أحاديث كثيرة، إذاً ستهدر أحاديث كثيرة جداً بناءً على ضبطك لقاعدة لا تعلم ما يند عنها.

كذلك رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، توفي أبوه وهو حمل في بطن أمه، يقول العلماء: إن رواية أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود صحيحة، لماذا؟ لأنه يروي عن أهل بيت أبيه.

والشخص إذا أراد أن يروي عن أبيه ولم يدرك أباه هل يسأل الجيران أم يسأل أمه؟ يسأل أمه إذا كانت موجودة، ويسأل إخوانه إذا كانوا موجودين، فيقوم العلماء بسبر من حوله وفي محيط هذا الراوي، ثم يخرجون حكماً، ولا يخرجون تعييناً للواسطة، يقول: لا يخرج عن هؤلاء الخمسة، ثم يقومون بالتصحيح.

كذلك رواية سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب ، هو له عناية، ولهذا يقول الإمام أحمد كما جاء في رواية أبي طالب لما سئل عن رواية سعيد بن المسيب عن عمر ؟ قال: إذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل؟ وقد رأيت لبعضهم كلاماً يقول: الإمام أحمد يصحح حديث سعيد بن المسيب عن عمر وهو يقول: إنه لم يسمع منه، وجل من لا يسهو، وهذا جرى على القاعدة، لكنه جنى على نفسه، وجنى على هذا العلم، وهذه جسارة.

إذاً هذه الأمور قواعد أغلبية، لكنها ليست مطردة، إبراهيم النخعي عن عمر بن الخطاب ، سعيد بن المسيب ، أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، عبد الجبار بن وائل بن حجر عن أبيه، ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر ، ابن جريج عن مجاهد بن جبر ، ليث بن أبي سليم عن مجاهد بن جبر ، أيضاً رواية طاوس بن كيسان عن معاذ بن جبل ، وغير ذلك من الروايات، فإذا أراد الإنسان أن يجمع مجموع الأحاديث الواردة في هذا تبلغ نحو ألف حديث، موقوفة ومرفوعة، في باب الاتصال فقط، وتجد أن العلماء يكادون يطبقون على صحتها وهي منقطعة، ولكن نسبة هذا العدد الألف لخمسين أو مائة ألف حديث مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام هي نسبة قليلة، ولهذا يقع الإنسان في الخطأ بحسب كثرة الذي يخرج عن القاعدة، وبحسب قلته، ولهذا ينبغي لطالب العلم مع عنايته للقاعدة أن يبحث عما يند عنها.

عدم العلة والشذوذ

قوله: (غير معلل) يعني: ليس له علة، والعلة الغالب أن العلماء يطلقونها على ما كان خفياً من العلل، ولم يكن ظاهراً، والمصنف ذكر الاتصال وأنه ضده هو العلة التي تطرأ على الإسناد، وكذلك عدالة الراوي وعدم ذلك هي من وجوه العلل في الإسناد.

قوله: (ولا شاذ) كذلك ألا يكون الحديث شاذاً، ومعنى الشذوذ أن يخالف غيره، ويأتي الكلام عليه، وله باب في مسألة الشذوذ، ولا معلل أيضاً بأي شيء من أمور العلل، ولهذا نجد العلماء من جهة معرفة دقائق الرواة ودقائق الأسانيد يقوون أحاديث هي في ظاهرها لا تجري صحة على القواعد.

مثلاً حديث أبي قتادة عليه رضوان الله في الهرة، قال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات)، يروي هذا الحديث الإمام مالك رحمه الله، وفي إسناده حميدة و كبشة ، عن أبي قتادة عليه رضوان الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث في إسناده مجهولة، وواحدة منهما هي زوجة ابن أبي قتادة ، تروي عن والد زوجها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء مجاهيل من جهة الجهالة، والعلماء يقوون هذا الحديث، يقول الإمام البخاري رحمه الله: جود مالك إسناده، يعني: جاء بإسناد قوي، مع أن الرواة مجاهيل، لكن كيف قويناه؟ هناك قرائن:

أولاً: مالك مدني، ويعلم برجال ونساء أهل المدينة، ولا يروي إلا عن ثقة. ولدينا قرائن تدفع قاعدة أن رواية المجهول ترد الحديث، وقد تجتمع قرائن متعددة ثم تقوم بكسر القاعدة.

ثانياً: كونه عن قريبها ومن أهل بيتها، يعني: ليست امرأة تروي عن رجل بعيد فيه غرابة.

ثالثاً: نظافة الأواني من اختصاص النساء، فالنبي عليه الصلاة والسلام سئل عن سؤر الهرة قال: ( إنها من الطوافين عليكم والطوافات)، والهرة تشرب في الأواني، وهذا الحكم في الغالب ينفرد به النساء؛ لأن الهرة تغشى المرأة في المنزل ونحو ذلك، وتهتم بهذا الأمر، أما الرجل فلا يهتم بغسيل ملابسه أصلاً، فكيف بغسيل الأواني.

إذاً انتقاء المرأة وضبطها للحديث ليس بغريب، وانفرادها بهذا الحديث وجيه، بل إنها ينبغي أن تروي الحديث أولى من الرجل.

تقدم معنا الكلام على مسألة العدالة، وأشرنا إلى شروطها، وهنا ذكر المصنف بعد ذلك تام الضبط.

وهو هنا يريد الإشارة إلى شروط الحديث الصحيح، أو إلى تعريفه، فذكر تمام الضبط، يعني: أن الحديث لا يكون صحيحاً إلا وقد تم ضبط راويه، وأن عدم تمام الضبط بقدر نقصانه ينزل الحديث عن رتبة الصحة إلى ما دونها، سواءً كان ذلك الحسن، أو كان ذلك الضعيف، وهذا له مراتب أيضاً من جهة الحسن، حسن لذاته أو حسن لغيره، ضعيف في ذاته، أو ضعيف في غيره، فمن العلماء من يتوسع في مسألة الضعيف، ومنهم من يجعل الضعيف اسماً واحداً، فيقول: هو الضعيف، تعددت طرقه أو لم يتعدد؛ لأن ما دون الضعف لا ينجبر، ونقول: قد نحتاج إلى تقوية الضعيف بغيره، ممن ضعفه شديد، ولكن هذا الضعف يحمله العلماء إذا كان في غير الأحكام، كأبواب التفسير والسير والمغازي، ولو جعلناها في الأحكام لكان ضعفها شديداً، ولكن يحملها العلماء في أمور الأحكام، فترتقي من شدة الضعف إلى ما هو أعلى منها، وقليلاً ما يستعمل العلماء ذلك في أمور الأحكام.

ولهذا نقول: إنه لا بد لراوي الحديث أن يكون ضابطاً.

والضبط على نوعين: ضبط صدر وضبط كتاب، وضبط الصدر هو الحفظ، وضبط الكتاب هو التدوين، والإنسان إذا كان ضابطاً لكتابه متقناً له عالماً بالدخيل فيه لو أدخل فيه ما ليس في غيره، فإنه حينئذٍ يكون أضبط من حفظ أو ضبط الصدر، ولكن الكتب والألواح في زمانهم التي يضبط فيها ليست كزماننا؛ ولقلتها وندرتها تستعار، فيستعير الإنسان اللوحة من فلان، ويأخذها فلان، ويقرأ فيها فلان، ويقرأ فيها فلان، فربما أدخل فيها واحد من الحديث ما ليس منه، خاصة مع ضعف الناس في باب القراءة في ذلك الزمن، فهم حدثاء عهد بأمية، وربما غاب على الإنسان خطه وتمييز ما يقرأ، واختلال أو اندماج خطه مع خط غيره.

لهذا نقول: إن الإنسان إذا كان ضابطاً وحافظاً لمكتوبه من الدخيل فيه، وضابطاً لتدوينه عمن سمعه منه، فإنه أولى من ضبط الصدر؛ لأن الوهم يرد على ضبط الصدر أكثر من ضبط الكتاب، ولكن ضبط الصدر يقدم على ضبط الكتاب في قوة الملكة، يعني: في إعطاء قوة الملكة للإنسان يكون ذلك بضبط الصدر، فكلما كثر ضبط الصدر عند الإنسان قويت ملكته، واستطاع حينئذٍ أن يكون ناقداً أكثر من غيرهم ممن يدونوا.

لكن كيف نعرف أن هذا الراوي ضابط أو ليس بضابط؟

نعرف هذا بأمور: منها ما ينص الأئمة عنه بضبطه، وذلك أن الأئمة عليهم رحمة الله يعرفون الراوي بأمور: إما بالمعاينة والمشاهدة؛ خالطوه فرأوه، وسمعوا كلامه وأخباره وأحاديثه، ونقله للكلام في أمور الناس، فعرفوا أنه يضبط الكلام، ولا يزيد فيه ولا ينقص حتى في أمور الناس، في تجاراتهم وأخبارهم ونحو ذلك، فهذا نوع ضبط، فيعطيهم ذلك إحسان ظن به في تحمله للكلام وقوة إدراكه له، وعدم الزيادة والنقصان فيه، وهذه المخالطة أمر قد رفعه الله عز وجل عن المتأخرين، وجعلها الله عز وجل لبعض أو لكثير من المتقدمين بحسب ما يدركونه من الرواة.

ولهذا نقول: إن الأئمة الأوائل جعل الله عز وجل لهم من الخصائص من معرفة النقد ما لا يوجد عند المتأخرين، حتى لو أرادوا تحقيقه فإن تحقيقه محال، ولو أرادوا فلا يوجد بالتعلم، وإنما هو أمر قدري أوجده الله عز وجل لهم ثم رفعه عمن كان بعدهم، ولهذا من الأئمة من عاين شريك بن عبد الله النخعي ، ورآه وعرف ضبطه، وكذلك ابن لهيعة ونحو ذلك، فعاينوهم وعرفوا أحوالهم وأخبارهم وأحاديث الناس عنهم، أما من جاء بعدهم فإنهم لا يستطيعون أن يحكموا عليهم إلا بتقرير كلام الأئمة الذين نقلوا عنهم تلك الأحكام أو بسبر مروياتهم، وهو الأمر الثاني في معرفة الراوي.

إذاً نعرف أن الراوي ضابط إما بلقيه من العلماء، وإما بسبر مرويات الراوي.

وما معنى السبر؟

السبر هو أن يتأمل الإنسان أحوالاً أو أعياناً متعددة ليخرج منها بحكم على عين، يعني: يتأمل عشرة أمور ليخرج بحكم على واحد، فالإنسان مثلاً إذا كان معلماً، أو كان تاجراً، أو كان زارعاً يريد أن يتخذ أجيراً أو عاملاً أو نحو ذلك، فيقوم بإجراء مقابلات مع عشرة وعشرين وثلاثين، وهذا نسميه السبر، وهو يريد واحداً، ويريد من قراءة أحوال العشرين أن يخرج أعلاهم مرتبة، لكن لو رأى واحداً منهم منفرداً وهو أدناهم ربما استحسنه، وقدمه على غيره، ولهذا كلما كثرت مسألة السبر لدى الإنسان والمادة المسبورة كان حكمه في ذلك أدق.

ومن وجوه معرفة ضبط الراوي أن يقوم الناقد بضبط أو بسبر مرويه، فيجمع مرويات هذا الراوي من كتب ودواوين السنة، كم له حديث؟ له عشرون، أو ثلاثون، أو أربعون، أو خمسون، أو مائة، أو مائتان، ويقوم الناقد بسبرها والنظر فيها. وإذا لم يكن يحفظها فيقوم بالنظر فيها، ويتأملها واحداً واحداً، فإذا كانت مروياته مائتين، ووجدت أن الأئمة حكموا على صحة مائة وتسعين، أو خمسة وتسعين منها، فإن هذا يعتبر ضبطاً عند الراوي. وأعلى من ذلك إذا ضبطها كلها، وكان وهمه في موضع أو موضعين، ثم إذا نقص ذلك ووجدت الإعلال في حديثه يزداد، فالصحيح من حديثه مائة، والضعيف مائة، فإن هذا يعتبر خفة ضبط، ثم إذا نقصت في ذلك يكون ضعفه في الضبط شديداً، وهذا يكون للناظر بقدر قوة سبره.

والسبر آلة ضعفت عند المتأخرين مع إمكانهم فيها، لأمرين:

الأمر الأول: ضعف الملكة في الحفظ، فالمتأخرون يحفظون المتون، لكن لا يحفظون الأسانيد، لماذا؟ يحفظ المتن يريد أن يعرف الحكم الشرعي منه، ولا يريد أن يوجد لديه ملكة يستطيع بها أن يحكم على الناس، فالمتن الواحد فيه خمسة أو ستة أو سبعة أو أقل من ذلك أو أكثر من الرواة، وهذه آلة من آلات السبر، فإذا حفظت هذه المتون بأسانيدها أصبح لديك استحضار لعدد مروياته، وتستطيع حينئذٍ أن تخرج حكماً لمجموع أحاديثه التي توجد عندك ضبطاً، فتحكم عليه، وتقول: هذا راوٍ ضابط، أحفظ له مائة حديث، وكلها مستقيمة، وهذا يحصل إذا عرفت الأسانيد، ثم عرفت علل العلماء في هذه الأسانيد، وكلامهم أيضاً عليه.

أما العلماء الأوائل فيعرفون المتون، ويعرفون الأسانيد، ويعرفون موضع الخطأ في كل إسناد، ثم يخرجون بنتيجة، ولهذا العلماء ربما يسألون عن راو من الرواة فيقولون: صالح، يهم شيئاً، أو ربما وهم، أو يخطئ، ونحو ذلك، وهذا الكلام جاء عن طريق السبر.

وحينئذٍ نقول: إن السبر ضعف لضعف الحفظ عند المتأخرين، ولو حفظوا المتون فإن هذا ينفع في باب من العلل، لكن لا ينفع في جميع أبوابها.

الأمر الثاني: العجز؛ لأنه يقول: أريد أن أحكم على حديث واحد، يعني: أحتاج أن أسبر مائتي حديث، وهذا هل هي في الحديث كله؟ لا. في راوٍ واحد، حتى تخرج بحكم واحد تستقل به عن غيرك، وهكذا مع الراوي الثاني والثالث والرابع، وإذا استكثرت من السبر في كل طبقة أصبح لديك ملكة خاصة في كل راوٍ عرفت الحكم بسبرك أنت، ثم استكثرت من معرفة أحوال الرواة بالسبر حتى يتكرر الرواة، وتكررت الأسانيد لديك، فأصبح لديك حكم خاص على مثل هذا.

ولهذا كثير من المتأخرين يحكمون على الحديث بناءً على القاعدة، والأوائل لا يحكمون بناءً على القاعدة، وإنما يحكمون بناءً على السبر، وهذا من وجوه البون بين منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين، ولهذا إذا أدرك الإنسان الفارق بين الآلة التي تكون لدى المتقدم، والآلة التي تكون للمتأخر عظم لديه مقام المتقدم، وضعف عنده مقام نفسه، وتوقى عند الحكم على الحديث.

ومما يؤسى له أن تجد بعض طلاب العلم جسر عن الحكم على حديث، فيحكم عليه في دقيقة، وكأنه يعرف هؤلاء الرواة كلهم، ويعرف البلدان، ويعرف ما اختص به أهل كل بلد، وشيوخ البلد، وفيما يروي هذا الراوي، والمتن وعلاقته بالمتن الذي روى، وهذه كلها تحتاج إلى سبر، فالرواة يتباينون، هناك راوٍ لا يروي ولا يعرف إلا في دواوين التفسير، وهو في ذاته ثقة، لكن إذا جاء يروي حديث الأحكام تستغرب وجود هذا الرجل هنا، كما ترى في أحوال الناس، فقد ترى محللاً اقتصادياً يتكلم في جوانب الاقتصاد، ثم تتفاجأ منه يصدر فتوى، وإذا كنت تعرف اختصاص الرجل وتعلم حاله، ووجدته في خبر مثل هذا فإنك تستغرب وجوده في هذه القضية المنقولة عنه، ولهذا تجد الأئمة يعرفون الراوي، ويعرفون الشيخ، ويعرفون المتن واختصاص الراوي في ماذا، واعتاد أن يروي عن ماذا.

وعلم الشريعة ليس واحداً، فيه التفسير، فيه الفتن والملاحم، فيه السير، فيه الأحكام، فيه ما يتعلق بفضائل الأعمال، ومنهم من لا يروي حديثاً إلا في مسائل السير والمغازي، فصار مختصاً بذلك، وإذا جاء يروي حديثاً في الأحكام فإن العلماء يتوقفون؛ لأن لديهم ربط، لكثرة مرويه، ومحفوظه لديهم، وهذا أصبح خارجاً ونشازاً عن ذلك.

وكذلك: بعض الأئمة حتى في مسألة الترجيح في الراوي عند الاشتباه مع اسم غيره، فإننا نعرفه إذا اشتركا في الشيخ، اشتركا في التلميذ، معرفة الباب والمتن الذي يرويه، فإن هذا الرجل له نفس، فإما يميل إلى الأحكام، أو يميل إلى أحاديث فضائل الأعمال، أو السير أو نحو ذلك، وهذا الأمر لا تستطيع أن تخرجه من كتب الرجال، وإنما تخرجه من المحفوظ الموجود لديه.

مثلاً راوي لديه مائتا حديث، مائة وخمسون منها في الأحكام، وخمسون منها مفرقة في أبواب الدين، والذي يشاركه في الاسم هذا لديه مائتا حديث، مائة وخمسون في التفسير، وخمسون في بقية الأبواب، وهذا الحديث الذي اختلفوا فيه في الأحكام أيهما أولى؟ أليس الأول؟ الأول. كيف تخرج هذه النسبة، أليس بالسبر؟ بلى بالسبر، وهذا شاق على الإنسان من جهة تطبيقه في الأمر العملي، ولكن إذا كان الإنسان صاحب ملكة وصاحب حفظ، ومعرفة للمتون، وما يختص فيه الراوي استطاع أن يحكم بمباشرة يقول: هذا فلان.

قد يقول قائل: لماذا اشتركا في الشيخ واشتركا في التلميذ واشتركا في الطبقة؟ لماذا تجزم؟ أنت جسور بالحكم على مثل هذا، هل يستطيع الإنسان أن يدلل؟ لا يستطيع أن يدلل تدليلاً ظاهراً حتى يأتي بالمائتين، ويقوم بشرحها لهم، يأتي بمائتي حديث ويقول: إن هذا روى نسبة كذا وهذا نسبة كذا، وهذا مما يكون، ولهذا تجد الأئمة عليهم رحمة الله يحكمون في المتشابهات عند من دونهم بالجزم، لوضوحها وجلائها، وذلك لقوة آلة السبر عندهم.

قوله: (متصل السند) أي: أنه لا بد من اتصال السند حتى يكون الحديث صحيحاً، وقد ذكرنا في مسألة تمام الضبط، وأنه شرط من شروط الصحة، لكن قد يوصف الراوي بعدم تمام الضبط ونقبل حديثه أحياناً للاختصاص، أي: اختصاصه في هذا الباب، فهو في مجموع مرويه ليس بضابط، لكن نحن نعلم من اختصاص هذا الراوي بهذا الشيء، وهو أعلم الناس بمثل ذلك.

ما يتعلق باتصال السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا من شروط الصحة، لكنه ليس مطرد، فقد يكون الحديث منقطعاً وهو صحيح، ولكن القاعدة الأغلبية في هذا أن الاتصال شرط؛ لأن الانقطاع هو ورود جهالة في الإسناد فأصبحت علة، وهذه الجهالة قد تعلم من وجه آخر غير منصوص عليه، غير محدد، لكن نعلمه أنه لا يخرج عن الخمسة.

ولذلك إبراهيم النخعي مع أنه لم يدرك عبد الله بن مسعود إلا أنه من الرواة عنه، وتجده يقول: إذا رويت عن عبد الله بن مسعود فسميت رجلاً فهو عمن سميت، وإذا رويت عن عبد الله بن مسعود ولم أسم رجلاً فهو عن غير واحد.

فأنا عندما أعطيك إسناد إبراهيم النخعي عن عبد الله بن مسعود ، وأقول: احكم عليه بناءً على هذه القاعدة، ستبحث في ترجمة إبراهيم ، ويقول لك: إنه لم يدرك عبد الله بن مسعود ، إذاً الحكم ضعيف، هل حكمك (ضعيف) يجري على القاعدة أو لا يجري على القاعدة؟ يجري على القاعدة، هل هو صحيح أم خطأ؟ خطأ، هل هي مسألة واحدة؟ لا. إبراهيم النخعي عن عبد الله بن مسعود له أحاديث كثيرة، إذاً ستهدر أحاديث كثيرة جداً بناءً على ضبطك لقاعدة لا تعلم ما يند عنها.

كذلك رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، توفي أبوه وهو حمل في بطن أمه، يقول العلماء: إن رواية أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود صحيحة، لماذا؟ لأنه يروي عن أهل بيت أبيه.

والشخص إذا أراد أن يروي عن أبيه ولم يدرك أباه هل يسأل الجيران أم يسأل أمه؟ يسأل أمه إذا كانت موجودة، ويسأل إخوانه إذا كانوا موجودين، فيقوم العلماء بسبر من حوله وفي محيط هذا الراوي، ثم يخرجون حكماً، ولا يخرجون تعييناً للواسطة، يقول: لا يخرج عن هؤلاء الخمسة، ثم يقومون بالتصحيح.

كذلك رواية سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب ، هو له عناية، ولهذا يقول الإمام أحمد كما جاء في رواية أبي طالب لما سئل عن رواية سعيد بن المسيب عن عمر ؟ قال: إذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل؟ وقد رأيت لبعضهم كلاماً يقول: الإمام أحمد يصحح حديث سعيد بن المسيب عن عمر وهو يقول: إنه لم يسمع منه، وجل من لا يسهو، وهذا جرى على القاعدة، لكنه جنى على نفسه، وجنى على هذا العلم، وهذه جسارة.

إذاً هذه الأمور قواعد أغلبية، لكنها ليست مطردة، إبراهيم النخعي عن عمر بن الخطاب ، سعيد بن المسيب ، أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، عبد الجبار بن وائل بن حجر عن أبيه، ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر ، ابن جريج عن مجاهد بن جبر ، ليث بن أبي سليم عن مجاهد بن جبر ، أيضاً رواية طاوس بن كيسان عن معاذ بن جبل ، وغير ذلك من الروايات، فإذا أراد الإنسان أن يجمع مجموع الأحاديث الواردة في هذا تبلغ نحو ألف حديث، موقوفة ومرفوعة، في باب الاتصال فقط، وتجد أن العلماء يكادون يطبقون على صحتها وهي منقطعة، ولكن نسبة هذا العدد الألف لخمسين أو مائة ألف حديث مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام هي نسبة قليلة، ولهذا يقع الإنسان في الخطأ بحسب كثرة الذي يخرج عن القاعدة، وبحسب قلته، ولهذا ينبغي لطالب العلم مع عنايته للقاعدة أن يبحث عما يند عنها.