فقه الصلاة مكروهات الصلاة [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار، أما بعد:

أيها الإخوة الكرام! في بداية هذه المحاضرة لا بد من التنبيه على أن السنة ألا يبدأ الناس صفاً حتى يكملوا الصف الذي قبله، فإني دخلت في صلاة المغرب بعد تكبيرة الإحرام، فوجدت ثلاثة صفوف ناقصة؛ وذلك لأن صفوف المسجد طويلة، فالناس يتكاسلون عن إكمال الصف فيبدءون صفاً جديداً، ولربما بعض الناس بدءوا صفاً من ناحية الشمال، وآخرون بدءوا من خلف الإمام، فيكون الصف مقطعاً، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: يتمون الصف الأول فالأول) يعني: لا نبدأ صفاً جديداً حتى نتأكد من إكمال الصف الذي قبله.

ثم الإنسان إذا وجد الصف مكتملاً فأراد أن يبدأ بصف جديد فلا بد أن يكون البدء من خلف الإمام، ثم ينتشر الناس يميناً وشمالاً، ولو كان يمين الإمام قليلاً فلا يضر، أما أن يبدأ الناس من الناحية اليسرى فهذا مخالف للسنة، والأصل في ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (فصففت أنا واليتيم خلفه والعجوز من ورائنا)، فلا بد من التزام هذا الأمر.

الأمر الثاني أيها الفضلاء! ورد سؤال في نهاية المحاضرة الماضية عن الرجوع إلى الكتاب والسنة مباشرة، وأحسب أن الجواب عليه لم يك كافياً، وأريد أن أقول في تكملة الجواب: إن الأئمة الكبار قديماً وحديثاً اقتدوا بمن تلقوا عنهم، فإذا قويت ملكة الواحد منهم، ورسخ في العلم قدمه؛ صار له منهج أو صارت له أقوال، لكن لم يبدأ أحد من هؤلاء الأئمة بالإفتاء قبل أن يحفظ القرآن، وقبل أن يعرف السنة، وقبل أن يدرس اللغة العربية، فيقول: أنا آخذ مباشرة من القرآن والسنة!

حتى العلماء الكبار المعاصرون في زماننا هذا عندهم مذاهب، فمثلاً الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه حنبلي، والشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله حنبلي، ولا يعني ذلك أنهما لا يخالفان مذهب الإمام أحمد في قليل أو كثير، لكن بعدما رسخت أقدامهم في العلم، وقويت شوكتهم، واشتدت ملكتهم صاروا ينظرون في المذاهب الأخرى، ولربما يختار أحدهم لنفسه قولاً.

وقل مثل ذلك في المتقدمين، فمثلاً الإمام أبو عبد الله بن القيم أو الإمام أبو العباس بن تيمية رحمة الله على الجميع، هؤلاء جميعاً كانت لهم مذاهب.

والآن من يقولون: نرجع إلى الكتاب والسنة حقيقة الأمر أنهم مقلدون، ولكنهم يقلدون بعض المعاصرين، فمثلاً الآن تجد بعض الإخوة يقول: أنا ليس لي مذهب، وإنما آخذ من الكتاب والسنة مباشرة، لكنه في غالب الأمر يرجع إلى أقوال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمة الله عليه، أو يرجع إلى ترجيحاته، فهو مقلد شاء أم أبى، لكن الفرق بينه وبين غيره، أن غيره قلد أحد الأئمة الأربعة أبا حنيفة و مالكاً و الشافعي و أحمد ، وهو قلد معاصراً من المعاصرين، فالمفروض أن يعرف كل امرئ منا قدره، وألا يعدو هذا القدر، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، فنقلد أولئك الأئمة لأنهم أتقى وأورع، وأعلم وأفضل، وأقرب عهداً بالنبوة، ثم بعد ذلك إن بان لنا الحق في خلاف قول الإمام الذي نقلده نأخذ بالحق اتباعاً للإمام؛ لأن الإمام نفسه سواء كان أبا حنيفة أو مالكاً أو الشافعي أو أحمد أمرنا بأن نتبع الدليل.

فمثلاً إمامنا مالك رحمه الله في صيام ست من شوال قال: أكرهه ولم أر أحداً من أهل العلم يفعله، وأكره أن يلحقه أهل الجفاء برمضان. فهذا القول من مالك رحمه الله لا يعمل به حتى المالكية أنفسهم؛ لأن الحديث ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر).

النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي الذي لم يحقق شرط الطمأنينة أن يعيد الصلاة، ولم يأمر معاوية بن الحكم الذي تكلم في الصلاة بالإعادة، مع أن هذا ارتكب مبطلاً والآخر ارتكب مبطلاً، فما الفرق؟

هذا محمول على أن معاوية بن الحكم كان حديث عهد بالتشريع الذي منع فيه الكلام في الصلاة؛ لأنهم في أول الأمر كانوا يتكلمون، فـمعاوية تكلم بناء على الأصل وهو إباحة الكلام، فجاء دليل رافع لهذا الأصل وهو قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ[البقرة:238].

قال الراوي: [ فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام ] و معاوية ما كان يعرف هذا فتكلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم عذره لحداثة عهده؛ ولأنه لم يعلم بهذا التشريع. ومثل هذا عندما صلى المسلمون في قباء مستقبلين بيت المقدس، وكانت الآية قد نزلت: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة:144]، ولما جاء من يبلغهم كانوا قد أتموا ركعتين فقال لهم: نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة:144]، فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال وأكملوا الركعتين الأخيرتين وهم مستقبلون المسجد الحرام، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالإعادة رغم أن صلاتهم كانت بعد نزول الآية، لكن الآية لم تبلغهم.

والإمام الشوكاني رحمه الله ذكر جواباً آخر وهو أن الأعرابي أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة صراحة: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ونقل إلينا، أما معاوية فإنه لم ينقل إلينا أنه أمره بالإعادة، وعدم حكاية الأمر بالإعادة لا يستلزم عدم الأمر بها، يعني: راوي الحديث ما نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا معاوية ! أعد الصلاة، لكن نقل إلينا أنه قال له: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح وقراءة القرآن) وعدم العلم ليس علماً بالعدم، فمثلاً قال عبد الله بن عباس : الرسول صلى الله عليه وسلم ما صلى في جوف الكعبة، غاية ما عنده أنه ليس عنده علم، ولا يستلزم هذا العلم العدم؛ لأن بلالاً رضي الله عنه أثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة.

فهذا جواب آخر ذكره الإمام الشوكاني رحمة الله عليه، وحقيقة هذه المسألة ترجع إلى أصل وهو هل يعذر الجاهل بالجهل أو لا يعذر؟ فبعض العلماء قالوا: يعذر، وبعضهم قال: لا يعذر.

ومسألة الكلام في الصلاة فيها مسائل كثيرة، مثل من تكلم بآية يقصد جواب مخلوق فصلاته باطلة، كمن يستأذن عليه أحد وهو يصلي فيقرأ قوله تعالى: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ[الحجر:46]، أو جاء رجل اسمه نوح، فأزعجك وأنت تصلي فتقول: يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا[هود:32]، ولكن بعض العلماء يقولون: لا تبطل صلاته، لأنه في حقيقة الأمر قرأ آية، واستدلوا بأن علياً رضي الله عنه بينما كان يصلي جاء رجل من الخوارج ممن ساء أدبهم وقل علمهم فقال له: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الزمر:65]، فهم كانوا يتهمون علي بالكفر، فـعلياً رضي الله عنه أجابه على البديهة هكذا: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ[الروم:60]، وقصد بذلك جوابه، لكن في مسائل الخلاف الورع يقتضي أن الإنسان يخرج من الخلاف، فلا يفعل شيئاً يجعل صلاته عند البعض صحيحة، وعند البعض باطلة.

ننتقل الآن إلى محاضرة اليوم وهي مكروهات الصلاة، والمحاضرة الماضية كانت عن المبطلات، والمبطل: اسم فاعل من البطلان، والبطلان: هو أن يكون العمل باطلاً فلا يعتد به، سواء كان في المعاملات أو في العقود، فالباطل ما لا يترتب عليه أثره، فمثلاً: عقد البيع أثره هو انتقال ملكية الثمن للبائع والمثمن للمشتري، وإذا كان البيع باطلاً لا يترتب عليه أثره شرعاً، يعني: لا ينتقل الثمن للبائع ولا المثمن أو السلعة للمشتري، ومثلاً: عقد النكاح أثره حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر، فإذا كان العقد باطلاً فلا يترتب عليه أثره، مثل أن يكون النكاح من غير الولي، أو فقد الشهود، أو كانت المرأة ليست محلاً للعقد لكونها من المحارم مثلاً، أو لكونها أختاً له من الرضاعة ونحو ذلك، فهذا هو الباطل.

أما المكروه فهو: الذي يثاب تاركه، ولا يعاقب فاعله، مثل النوم على البطن، فهو عند أكثر العلماء مكروه؛ (لأن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً نائماً على بطنه فأيقظه برجله وقال له: قم؛ فإنها ضجعة أهل النار).

قال القرافي رحمه الله: المكروه هو: ما رجح تركه على فعله شرعاً من غير ذم، والمباح ما استوى فيه الطرفان الفعل والترك، يعني: كونك تشرب ماءً أو تشرب عصيراً هذا مباح، أي: ليس في فعله ثواب ولا في تركه عقاب، أما المكروه فطرف الترك فيه راجح، لكن لا يلحق فاعله ذم مثلما يلحق فاعل الحرام، وفاعل الحرام يلحقه الذم، فما هي المكروهات التي على المصلي أن يجتنبها؟

الدعاء أثناء قراءة الفاتحة

الأول: يكره الدعاء أثناء الفاتحة، والمصلي لا يخلو من ثلاثة أحوال:

إما أن يكون إماماً، أو منفرداً، أو مأموماً، فالإمام والمنفرد يقرأان، والمأموم ينصت، فالمصلي لا يخلو من هذين الحالين، إما أن يقرأ، وإما أن ينصت، ولا محل للدعاء، وبعض الناس يدعو عندما يقرأ الإمام: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5]، فتجد أحدهم يقول: استعنت بالله، وبعض العلماء يبطل الصلاة بهذه الكلمة، ويجعلها من الكلام الأجنبي الذي هو من غير جنس الصلاة.

وأيضاً بعض الناس إذا قال الإمام: وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7] يدعو بدعوات كثيرة: رب اغفر لي ولوالدي والمؤمنين يوم يقوم الحساب، وفي ظنه أن الناس حين يقولون: آمين، أنهم يؤمنون على دعائه هو! فهذا من الأمور المكروهة في الصلاة، فما ينبغي أن يدعو الإنسان حال قراءة الفاتحة، بل إما أن يقرأ، وإما أن ينصت.

الدعاء أثناء الركوع

الثاني: الدعاء أثناء الركوع، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قسم الأذكار في أثناء الصلاة، ففي حال القيام القراءة، وفي حال الركوع ذكر معين، وهو تعظيم الرب جل جلاله، وفي أثناء السجود ذكر معين مع الإكثار من الدعاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)، فالإنسان حال ركوعه إما أن يقول: سبحان ربي العظيم، وإما أن يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده، وإما أن يقول: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح)، وهذا ثابت في صحيح مسلم، ولا يختص بقيام الليل، وإما أن يقول: اللهم لك ركعت وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقلت به قدمي لله رب العالمين.

ويستثنى من الدعاء ذكر واحد ثبت من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في آخر حياته من أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)، قالت: كان يتأول القرآن؛ لأن الله تعالى قال له: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:3]، وفي البخاري وغيره أن عبد الله بن عباس رضي الله عنه كان يدخله عمر في مجلسه وهو شاب، فكأن بعض الصحابة وجد في نفسه وقال: لم يدخل عمر هذا الفتى وعندنا أبناء مثله؟! فـعمر رضي الله عنه كأنه علم بما قالوا فسألهم في مجلس من مجالسه: ما تقولون في قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ[النصر:1]؟ فقال بعضهم: أمرنا ربنا إذا نصرنا وفتح علينا أن نستغفره ونسبحه، وسكت آخرون فلم يقولوا شيئاً، فقال عمر : وأنت ما تقول يا ابن عباس ؟ فقال رضي الله عنه: هذه السورة نعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه فقال الله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا[النصر:1-2]، وذلك علامة أجلك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:3]، فقال له عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول.

إذاً: الركوع يشرع فيه تعظيم الرب، إما أن تقول: سبحان ربي العظيم، وإما أن تقول: سبحان ربي العظيم وبحمده، وإما أن تقول سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وإما أن تقول: اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقلت به قدمي لله رب العالمين، وإما أن تقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، ولا تجعل الركوع محل الدعاء، وإنما محل الدعاء هو السجود.

وبهذه المناسبة أقول: الحنفية رحمهم الله يقولون ببطلان الصلاة بالدعاء بما يشبه كلام الناس كمن يقول: اللهم زوجني فلانة، والحنفية رحمهم الله ليس عندهم على هذا دليل، وهذا دعاء مشروع من حسنة الدنيا، فدعاء: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً[البقرة:201] فسرت الحسنة منه بالزوجة الصالحة، والإمام المجد بن تيمية رحمه الله ليس أبا العباس وإنما جده صاحب منتقى الأخبار ترجم باب من دعا بما ليس مشروعاً إذا كان جاهلاً، وأتى بقصة الأعرابي الذي بال في المسجد، ثم دعا فقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فهذا الدعاء ليس بمشروع، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة؛ لأنه جاهل، فإذا كان هذا ما بطلت صلاته، فمن باب أولى من قال: اللهم زوجني فلانة.

قراءة القرآن في الركوع والسجود

الثالث من المكروهات: قراءة القرآن في الركوع وفي السجود؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في نفس الحديث الذي سبق: (ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)، فقراءة القرآن حال الركوع وحال السجود مكروهة؛ لأن هذا الركن ليس محله القراءة، وإنما محل القراءة القيام.

ولو أن سائلاً قال: أنا أريد أن أدعو بشيء من أدعية القرآن فما الحكم؟ فنقول: لا بأس؛ لأنك ما قصدت القراءة، وإنما قصدت الدعاء كما لو قال قائل في دعائه: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ[آل عمران:192]، أو قال: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ[إبراهيم:41]، أو قال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ[إبراهيم:40]، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ[إبراهيم:41]، أو قال: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر:10].

وقد اتفق أهل العلم على أن أفضل الدعاء ما كان في القرآن، ويليه في الرتبة ما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام؛ وأقول هذا الكلام لأن رمضان قد اقترب نسأل الله أن يبلغنا إياه، وبعض الأئمة يتكلف في الدعاء، ويأتي بأدعية ما أنزل الله بها من سلطان، مثل: اللهم احفظنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، اللهم إنا نسألك العافية في الجسد، والصلاح في الولد، والأمن في البلد، وبعض الناس يدعو فيقول: اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وإخواننا وأخواتنا، وأبنائنا وبناتنا، وأعمامنا وعماتنا، وأخوالنا وخالاتنا، وأجدادنا وجداتنا! وخير الدعاء دعاء القرآن، قال تعالى: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ[إبراهيم:41]، رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ[نوح:28]، ونحو ذلك، أما التكلف في الدعاء فهذا خطأ محض، ولذلك بعض الصالحين لما رأى رجلاً يدعو ويتكلف في الدعاء قال له: يا هذا! أتبالغ على الله؟! لقد رأيت فلاناً في يوم عرفة وما كان يزيد على أن يقول: اللهم اجعلنا مؤمنين، اللهم لا تفضحنا يوم العرض عليك، ونحو هذا، كلام يسير، لكنه يخرج من القلب، فيستجيب الله عز وجل له.

واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه، فلا تبالغوا أيها الفضلاء! وإذا صلى أحدكم بالناس فلا يطول في الدعاء، وحبذا لو اقتصر على المأثور من القرآن وما ثبت عن رسولنا عليه الصلاة والسلام كقوله: (اللهم تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، وأجب دعوتنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا، واهد قلوبنا، واسلل سخيمة صدورنا) (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك) ونحو ذلك مما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، وهي أدعية كثيرة.

السجود على ما فيه رفاهية

الرابع: السجود على ما فيه رفاهية، قال سعيد بن المسيب و محمد بن سيرين : الصلاة على الطنفسة محدثة، وهي مثل هذا الفراش الذي يسمى بالموكيت، ومع هذا بعض الناس لشيء في نفسه يأتي من بيته بسجادة فيفرشها فوق هذا الفراش ويسجد عليه، فلو أنه ترك هذا الترف لكان خيراً له، ولا يتميز عن الناس.

والمالكية يقولون: يستحب السجود على الأرض أو على الحصير، قالوا: ولا يسجد على شيء سميك، اللهم إلا إذا كان وقفاً من قبل بناء المسجد، والحقيقة أن الأمر واسع إن شاء الله، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شكا إليه الصحابة الحر فلم يشكهم، يعني ما التفت إلى شكواهم، ثم أذن لهم صلى الله عليه وسلم أن يبسط أحدهم ثوبه فيسجد عليه، فدل ذلك على أن الإنسان لو بسط رداء أو ثوباً من غير ترفه فلا حرج في ذلك إن شاء الله والصلاة صحيحة.

الالتفات في الصلاة بلا حاجة

الخامس من مكروهات الصلاة: الالتفات في الصلاة بلا حاجة، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)، والاختلاس هو من أخذ الأمر خلسة أي: بخفة وبسرعة، قال النووي رحمه الله: الجمهور على أن الالتفات مكروه ما لم يبلغ إلى حد استدبار القبلة، والحكمة في النهي عنه ما فيه من نقص الخشوع، والإعراض عن الله تعالى، وعدم القدرة على مخالفة وسوسة الشيطان، ومن ذلك التلفت بالعينين.

أما من استدبر القبلة فصلاته باطلة؛ لأنه قد أخل بشرط من شروط الصحة. أما إذا كان الالتفات في الصلاة لحاجة فلا كراهة إن شاء الله، ودليل جواز الالتفات لحاجة حديث جابر رضي الله عنه قال: (اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، فالتفت إلينا فرآنا قياماً فأشار إلينا)، رواه مسلم ، ومعنى اشتكى أي مرض، يقال هو شاكٍ أي مريض، ولا تقل: شاكٌ بالتشديد والتنوين، لأنه يكون بمعنى شك.

وحديث سهل بن سعد رضي الله عنه في صلاة أبي بكر بالناس حين ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلح بين بني عمرو بن عوف، وهو متفق عليه.

وحديث سهل بن الحنظلية قال: (ثوب بالصلاة -أي أقيمت صلاة الصبح- فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب) رواه أبو داود بإسناد صحيح.

إذاً نقول: من مكروهات الصلاة الالتفات، وهذا الالتفات إما أن يكون لحاجة أو لغير حاجة، والالتفات لغير حاجة مثاله: إنسان يصلي في المسجد فأحس بداخل فالتفت لينظر من هذا الداخل أو أحس بخارج فالتفت لينظر من هذا الخارج، أو شعر بأن إنساناً دخل يحمل في يده شيئاً فالتفت لينظر ما في يد هذا الإنسان، هذا كله التفات بغير حاجة، وهو مكروه، أما الالتفات لحاجة فلا كراهة.

الأول: يكره الدعاء أثناء الفاتحة، والمصلي لا يخلو من ثلاثة أحوال:

إما أن يكون إماماً، أو منفرداً، أو مأموماً، فالإمام والمنفرد يقرأان، والمأموم ينصت، فالمصلي لا يخلو من هذين الحالين، إما أن يقرأ، وإما أن ينصت، ولا محل للدعاء، وبعض الناس يدعو عندما يقرأ الإمام: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5]، فتجد أحدهم يقول: استعنت بالله، وبعض العلماء يبطل الصلاة بهذه الكلمة، ويجعلها من الكلام الأجنبي الذي هو من غير جنس الصلاة.

وأيضاً بعض الناس إذا قال الإمام: وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7] يدعو بدعوات كثيرة: رب اغفر لي ولوالدي والمؤمنين يوم يقوم الحساب، وفي ظنه أن الناس حين يقولون: آمين، أنهم يؤمنون على دعائه هو! فهذا من الأمور المكروهة في الصلاة، فما ينبغي أن يدعو الإنسان حال قراءة الفاتحة، بل إما أن يقرأ، وإما أن ينصت.

الثاني: الدعاء أثناء الركوع، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قسم الأذكار في أثناء الصلاة، ففي حال القيام القراءة، وفي حال الركوع ذكر معين، وهو تعظيم الرب جل جلاله، وفي أثناء السجود ذكر معين مع الإكثار من الدعاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)، فالإنسان حال ركوعه إما أن يقول: سبحان ربي العظيم، وإما أن يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده، وإما أن يقول: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح)، وهذا ثابت في صحيح مسلم، ولا يختص بقيام الليل، وإما أن يقول: اللهم لك ركعت وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقلت به قدمي لله رب العالمين.

ويستثنى من الدعاء ذكر واحد ثبت من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في آخر حياته من أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)، قالت: كان يتأول القرآن؛ لأن الله تعالى قال له: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:3]، وفي البخاري وغيره أن عبد الله بن عباس رضي الله عنه كان يدخله عمر في مجلسه وهو شاب، فكأن بعض الصحابة وجد في نفسه وقال: لم يدخل عمر هذا الفتى وعندنا أبناء مثله؟! فـعمر رضي الله عنه كأنه علم بما قالوا فسألهم في مجلس من مجالسه: ما تقولون في قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ[النصر:1]؟ فقال بعضهم: أمرنا ربنا إذا نصرنا وفتح علينا أن نستغفره ونسبحه، وسكت آخرون فلم يقولوا شيئاً، فقال عمر : وأنت ما تقول يا ابن عباس ؟ فقال رضي الله عنه: هذه السورة نعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه فقال الله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا[النصر:1-2]، وذلك علامة أجلك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:3]، فقال له عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول.

إذاً: الركوع يشرع فيه تعظيم الرب، إما أن تقول: سبحان ربي العظيم، وإما أن تقول: سبحان ربي العظيم وبحمده، وإما أن تقول سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وإما أن تقول: اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقلت به قدمي لله رب العالمين، وإما أن تقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، ولا تجعل الركوع محل الدعاء، وإنما محل الدعاء هو السجود.

وبهذه المناسبة أقول: الحنفية رحمهم الله يقولون ببطلان الصلاة بالدعاء بما يشبه كلام الناس كمن يقول: اللهم زوجني فلانة، والحنفية رحمهم الله ليس عندهم على هذا دليل، وهذا دعاء مشروع من حسنة الدنيا، فدعاء: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً[البقرة:201] فسرت الحسنة منه بالزوجة الصالحة، والإمام المجد بن تيمية رحمه الله ليس أبا العباس وإنما جده صاحب منتقى الأخبار ترجم باب من دعا بما ليس مشروعاً إذا كان جاهلاً، وأتى بقصة الأعرابي الذي بال في المسجد، ثم دعا فقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فهذا الدعاء ليس بمشروع، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة؛ لأنه جاهل، فإذا كان هذا ما بطلت صلاته، فمن باب أولى من قال: اللهم زوجني فلانة.