مقدمة الطهارة وسائل التطهير أنواع النجاسات


الحلقة مفرغة

تعريف الطهارة

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار.

وصلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد، ما اختلف الليل والنهار.

وصلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا لما تحب وترضى.

أما بعد:

الطهارة في اللغة: هي النظافة، تقول: طهر الثوب من القذر، يعني: تنظف.

وأما في الشرع فهي: صفة اعتبارية أو معنوية قدرها الشارع شرطاً للصلاة.

أقسام الطهارة وأهميتها

الطهارة تنقسم إلى طهارة ظاهرة وطهارة باطنة، فالظاهرة: تشمل تطهير البدن والمكان والثوب، والباطنة تشمل تطهير القلب بالإيمان واجتناب الشرك، والإنسان إذا لم يطهر باطنه أولاً فلا فائدة له من طهارة الظاهر.

فالنوع الأول من الطهارة: طهارة الباطن، أو الطهارة المعنوية أو الأصلية.

وعدم طهارة الباطن قد يطلق عليها: نجاسة، كما في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ[التوبة:28]، وقد يطلق عليها: مرض، كما في قوله: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ)[الأحزاب:32].

وأمراض القلوب هي عبارة عن نجاسة معنوية، وهي تتدرج وتتفاوت، فمن أمراض القلوب الشرك، والشرك هو: أن تصرف شيئاً من العبادة لغير الله، أو أن تحب شيئاً من الأشياء كحب الله، أو تعتقد في أحد غير الله أنه يملك لك الضر أو النفع.

وهذا الشرك، إن لم يطهر الإنسان منه قلبه، فيا خسارته! قال الله عز وجل: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ[المائدة:72].

وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ[الحج:31].

ومن أمراض القلوب أيضاً: الرياء، وهو: أن يعمل العبد العمل لا يريد به وجه الله، أو أنه يريد به وجه الله وغيره، فهذا هو: الرياء.

ومن أمراض القلوب كذلك: الحسد، وهو: تمني زوال النعمة عن الغير.

فهذه فالطهارة الباطنة نسميها الطهارة المعنوية، أو الطهارة الأصلية، وهي أهم من طهارة البدن، بل لا يمكن أن تقوم طهارة البدن مع وجود نجس الشرك، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)[التوبة:28]، فلو أن إنساناً سجد للصنم، أو للبشر، ثم بعد ذلك تطهر بأحسن صابون ووضع أطيب العطور، ولبس أحسن الثياب فهو نجس؛ لأن نجاسة القلب لا تغني عنها طهارة البدن.

والنوع الثاني: طهارة ظاهرة: وتسمى الطهارة الحسية، أو الطهارة الفرعية، وهي: ارتفاع الحدث، وزوال الخبث مثلاً: إنسان يصيبه الحدث، والحدث هو: وصف حكميٌ يقوم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها مما تشترط له الطهارة.

فلو أن إنساناً خرج منه ريح، فهذا نسميه حدثاً، أو خرج منه مذي نسميه حدثاً كذلك، ولو كان الحدث الأكبر: مثل خروج المني، فهو حدث أيضاً، فالطهارة الفرعية هي: ارتفاع الحدث وزوال الخبث، والمقصود به: النجاسة، وهي الأشياء التي حكمت الشريعة بأنها نجسة وسيأتي تفصيلها، مثل بول الآدمي ورجيعه، والدم المسفوح والعذرة لما لا يؤكل لحمه، كعذرة الحمار أو الكلب، فهذه كلها نسميها: أعيان نجسة، فكلمة نجس تعادل كلمة خبث.

فالطهارة الظاهرة هي ارتفاع الحدث، وزوال الخبث. قلنا: وزوال الخبث، ولم نقل: وإزالة الخبث؛ لأنه قد يزول بنفسه، مثلاً: لو جاء كلب -أكرمكم الله- فبال في أرض المسجد، ثم أنزل الله عز وجل من السماء ماء طهوراً، فغسل تلك النجاسة وأزالها المطر دون أن نعمل في إزالتها؛ ولذلك نقول: الطهارة هي ارتفاع الحدث وزوال الخبث.

إذاً: فالطهارة لغة: النظافة. وهي نوعان:

الأول: طهارة باطنة.

الثاني: طهارة ظاهرة.

والطهارتان مطلوبتان، فلا يقول أحد: أنا قلبي نظيف، فلماذا أتوضأ؟! قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ) ، ولو كان قلبه أطهر القلوب.

الحث على الطهارة

أمرنا ربنا جل جلاله بالطهارة على اختلاف أنواعها، فمن ذلك: قول الله عز وجل: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ[المائدة:6]، فهذه هي الطهارة الظاهرة وهي: الوضوء.

وقال سبحانه: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا[المائدة:6] يعني: الغسل، وهو: طهارة ظاهرة.

وفي طهارة الثياب قال سبحانه: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ[المدثر:4].

وفي طهارة المكان قال سبحانه: طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ[البقرة:125].

فالمطلوب: طهارة البدن، وطهارة الثياب، وطهارة المكان، وقبل ذلك كله طهارة القلب، ولذلك قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ[البقرة:222] يُحِبُّ التَّوَّابِينَ )) أي: من طهروا بواطنهم، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ )) أي: من طهروا ظواهرهم.

فوائد الطهارة

للطهارة فوائد عظيمة جداً، أول هذه الفوائد: أنها سبب لمحبة الله للعبد، قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ[البقرة:222]، وهناك آية في سورة التوبة تتكلم عن مسجد الضرار وفيها قوله تعالى: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ[التوبة:108].

الفائدة الثانية: أنها سبب لدخول الجنة، فالإنسان الذي يحرص على الطهارة دائماً من أهل الجنة إن شاء الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم! اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فتحت له أبواب الجنة الثمانية) . فأبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة، قال الله عن جهنم: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ[الحجر:44].

الفائدة الثالثة: الطهارة سبب لتكفير الذنوب والخطايا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم رجل يقرب وَضوءه) وكلمة الوَضوء بالفتح: اسم للماء، والوُضوء بالضم: اسم للفعل، (ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض ويستنشق، إلا خرت خطايا وجهه -وفيه وخياشيمه-).

الفائدة الرابعة: هي سبب للنور التام يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمتي يبعثون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء)، والغرة هي: بياض في جبهة الفرس، وقوله: محجلين من التحجيل، وهو: جمع محجل، والتحجيل أيضاً: بياض في ركبتي الفرس، يعني: أن المؤمن يوم القيامة يكون بين عينيه نور، وفي يديه ورجليه نور، كما قال الله عز وجل: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ[الحديد:12]. فمن أسباب هذا النور: الوضوء.

الفائدة الخامسة: أن في المحافظة على الطهارة تشبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذي كان أنظف الناس ثوباً، وأطيبهم ريحاً، فقد كان عرقه صلى الله عليه وسلم كريح المسك، ولذلك لما نام نومة القيلولة، في وقت الظهر في بيت أم حرام بنت ملحان -وكانت خالته من الرضاعة- يعني: رضعت مع أمه آمنة ، (استيقظ صلى الله عليه وسلم، فوجدها تمسح العرق عن وجهه، ثم تعصره في سكٍ لها) السك: ما تحفظ فيه المرأة طيبها، (فقال لها: ما تصنعين يا أم حرام ؟ قالت: أخلط عرقك بطيبنا فيكون أطيب الطيب).

فالرسول صلى الله عليه وسلم علمنا النظافة، ومن ذلك أنه علمنا صلى الله عليه وسلم أن نستاك فقال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وكان يستاك، حتى في مرض موته عليه الصلاة والسلام، فقبل أن يتوفى بقليل كان يستاك عليه الصلاة والسلام، وعلمنا صلى الله عليه وسلم النظافة في كل شيء، دخل عليه بعض الصحابة، وشعره كثير منتفش، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحلقه، أو يرجله، أي: ينظمه، فذهب الصحابي، ثم رجع بعد ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟!).

الفائدة السادسة: أنها استجابة لأمر الله عز وجل، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل أمر بالطهارة فقال: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ[المدثر:4]، وقال: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ[الحج:26]، وقال: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ[المائدة:6]، وهذه كلها أوامر، فالمتطهر مستجيب لأمر الله، وكذلك مستجيب لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ) .

وسائل التطهير

التطهير يكون بعدة وسائل وهي على النحو التالي:

الوسيلة الأولى: الماء، قال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا[الفرقان:48].

فالماء، هو أطيب الطيب، ولذلك لو انقطع الماء عن بيتك، ثم جاءوك بأفخر العطور لا تغني عنك شيئاً، ولكن لو كان عندك ماء وما استعملت العطور لا يضرك؛ ولذلك قال الله عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ[الأنبياء:30]، وعد أهل التفسير الماء من أنواع النعيم التي سنسأل عنها يوم القيامة.

الوسيلة الثانية: التراب، وهو بدل عن الماء في رفع الحدث في حالة عدم وجود الماء، وسيأتي معنا التيمم، فالتراب وسيلة تطهير مع الماء في حال ولوغ الكلب، ودليله حديث أبي هريرة و عبد الله بن مغفل رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهن بالتراب). وفي رواية: (أولاهن)، وفي رواية: (إحداهن)، وفي رواية: (أخراهن)، وفي رواية: (وعفروه الثامنة بالتراب). لكن الرواية الصحيحة: (أولاهن بالتراب)، وهذا الذي تقتضيه الناحية العقلية؛ لأن الإنسان يستعمل التراب، ثم بعد ذلك الماء المطهر، لكن لو أننا استعملنا الماء، ثم بعد ذلك التراب، فما تطيب النفس بذلك.

فأول شيء نغسله بالتراب، ثم بعد ذلك بالماء، وكذلك سائر ما يلمسه الكلب بلعابه، فلابد أن يغسل سبعاً أولاهن بالتراب؛ لأن نجاسة الكلب مغلظة.

أقسام المياه

أقسام المياه: الماء ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس.

فالماء الطهور: هو الماء الباقي على أصل خلقته، أي: لم تتغير أحد أوصافه الثلاثة، لا لونه، ولا طعمه، ولا رائحته، فهذا نسميه ماءً طهوراً، ونستعمله في عاداتنا في شربنا، وفي طبخنا، وفي غسلنا، وفي تنظيفنا لبيوتنا، ونستعمله كذلك في العبادات في وضوئنا، وفي غسلنا، وفي تطهير ما تنجس من ثيابنا أو من أماكننا.

فالماء الطهور نستعمله في العادات، وفي العبادات، مثاله: ماء السماء، وهو الماء الذي ينزل من السماء، قال الله عز وجل: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا[الفرقان:48].

وقال سبحانه: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ[الأنفال:11].

ثانياً: ماء العيون؛ لأن ماء العيون أصله من السماء: قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ[الزمر:21].

ثالثاً: ماء البحر، سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: (يا رسول الله! إنا نركب البحر - نكون في السفينة - ويكون معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، فهم سألوا سؤالاً واحداً، والرسول صلى الله عليه وسلم أجابهم إجابتين، أو عن سؤالين، أنتوضأ بماء البحر؟ لو كنت أنا وأنت، فسنقول: نعم، توضئوا، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد فائدة أعظم فقال: (هو الطهور) يعني: ماء البحر (الطهور ماؤه) يعني: توضئوا به واغتسلوا ونظفوا آنيتكم، واطبخوا طعامكم، واشربوا منه واصنعوا ما تريدون، ثم قال: (الحل ميتته).

وهنا سؤال: كان معنا في السفينة خروف، وهذا الخروف قفز، ووقع في البحر فمات، أي: مات في البحر، فهل يحل لنا أكله؟

فإن قال قائل: نعم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (هو الحل ميتته) قيل: هو مات رغماً عن أنفه، وأنت ستموت رغماً عن أنفك، وكلنا سنموت رغماً عن أنوفنا، وهو ليس من دواب البحر، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحل ميتته) أي: ما كان من دوابه فقط، فالخروف إذا مات في البحر ميتة يحرم عليك تناولها.

فإن قيل: فما حكم الحيوانات البرمائية التي تعيش في البر وفي الماء؟

فالجواب: نقول: أيها أغلب عيشها في البحر أم عيشها في البر؟ فإذا كان الأغلب عيشها في البحر، فإنها من دواب البحر، وإذا كان الأغلب عيشها في البر، فليست من دواب البحر، والقاعدة تقول: العبرة للأعم الأغلب، لا للشاذ النادر.

وهل كل حيوان بحري يؤكل؟ وما مثاله؟

الجواب: لا، فالتمساح مثلاً اختلف فيه أهل العلم، فبعضهم قال: بجواز أكله لعموم هذا الحديث، وبعضهم قال: لا؛ لأنه مفترس، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع.

ومثله أيضاً خنزير البحر، وشكله مثل الخنزير البري، لكنه يعيش في البحر، فهل يجوز لنا أكله؟ الإمام مالك سئل عن هذا السؤال، فمن ورعه قال للسائل: أنتم تقولون: خنزير، يعني: كيف تستطيبونه واسمه خنزير؟! قال: خنزير اسمه قبيح، ولذلك الخنزير عند اليهود حرام.

ذهب يهودي إلى مطعم، وشم رائحة شوى الخنزير، فدخل في نفسه، وهو يعرف أنه حرام فمشى إلى المطعم، وقال لصاحبه: أريد من هذا السمك، فقال له: هذا خنزير، فقال اليهودي: هل أنا سألتك عن اسمه؟! فهو يريد أن يتحايل على أكله، فيسميه بغير اسمه.

ومن أمثلة الماء الطهور كذلك: ماء الآبار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بئر بضاعة، وهي بئر في المدينة، فقالوا: (يا رسول الله! إنها تلقى فيها الجيف والحيض، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الماء طهور لا ينجسه شيء)، يقصد ماء الآبار، عليه الصلاة والسلام.

وحكم الماء الطهور: أنه طاهر في نفسه، مطهر لغيره، يستعمل في العادات والعبادات.

القسم الثاني: الماء الطاهر: وهو الذي تغير بملاقاة شيء طاهر، كما إذا تغير بطبخ شاي، فيصبح شاياً، يعني: أن تأخذ الماء فتغليه، ثم بعد ذلك تضع فيه شاياً، فهذا الماء صار طاهراً، لكن ليس طهوراً، أو أن تأتي بالماء، ثم تصب عليه محلولاً أحمر، فيصبح عصيراً فهذا نسميه: ماءً طاهراً يستعمل في العادات، كالأكل والشرب، ولا يستعمل في العبادات، كالوضوء والغسل وتطهير الجسد والثوب؛ فإنه لا يرفع حدثاً ولا يزيل خبثاً.

لو جاءت صلاة المغرب فما لقينا ماءً فهل أشتري عصيراً لكي أتوضأ؟! هذا الوضوء باطل، وكذلك المرق؛ لأنه ماء طاهر وليس بطهور.

القسم الثالث: الماء النجس: وهو الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة، مثل ماء تغير لونه بدم مسفوح، أو تغيرت رائحته بهر سقط فيه، يعني: لو أن عندك في البيت برميل في أيام انقطاع الماء، وقفزت في هذا البرميل هرة فأنتن، فلما قمت لصلاة الصبح وجدت ريح الماء قد تغير، فهذا الماء نسميه ماء نجساً؛ لأن رائحته تغيرت بنجاسة، والنجاسة: هي الميتة، وسيأتي الكلام في أن الميتة معدودة ضمن النجاسات.

والماء النجس لا يجوز استعماله، لا في العادات، ولا في العبادات، فلا يجوز لك شربه، ولا يجوز لك الوضوء به، ولا تطهير النجاسة به، بل هو نفسه لو وقع على شيء نجسَه.

إذاً: نحن وضعنا ضابطاً وهو: إذا تغير لون الماء أو طعمه أو ريحه، لكن بفرض أن الماء كثير في برميل، وسقطت فيه قطعة من الصابون فرست في قاعه وما غيرت منه طعماً ولا لوناً ولا ريحاً فهو باق على طهوريته.

فلو كان ماء فيه صابون كثير، وثيابك فيها بقعة من الدم، فغسلت الثياب بهذا الماء، فلا تعد الثياب طاهرةً، إلا إذا صببت ماءً طهوراً، وهذا الذي يحصل، فالناس يستعملون الصابون في غسل الثياب، ثم يستعملون بعده ماء طهوراً.

مسائل تتعلق بطهارة الماء ونجاسته

هذه مسائل فيها الكثير من الأجوبة على بعض الأسئلة التي طرحت:

المسألة الأولى: لا يؤثر على طهورية الماء تغير ريحه بما يجاوره من النجاسات، فلو أن جيفة بجانب غدير أو بركة وتغير ريح الماء منها فإنه يبقى على طهوريته، وهذا خارج عن الإرادة، مثاله: عندي ماء في البيت، وقدر الله أن كلباً مات في الخارج أو في داخل البيت، وأنا لا أعرف مكانه، والماء بعيد عن هذه الجيفة لكنها أثرت عليه، يعني: أثرت على ريحه فلا تسلبه الطهورية؛ لأن هذا شيء خارج الماء ولم يخالطه ولا مازجه وإذا تغير الماء فتغير لونه، أو ريحه، أو طعمه، بأي نوع من أنواع التغيرات، كملوحته من السبخة التي هي مقره، فلا يؤثر على طهوريته.

المسألة الثانية: لا يؤثر على طهورية الماء ما تولد منه وغيره كالطحلب والسمك ومثاله: عندك ماء في برميل وعندما ذهبت تفتح البرميل وجدت هذا الماء فيه أشياء خضراء تولدت في داخله؛ فلا تؤثر على طهوريته، فما تولد في الماء من داخله لا يؤثر على طهوريته.

المسألة الثالثة: لا يؤثر على طهورية الماء ما يعسر الاحتراز منه كورق وسدر يسقطان في غدير أو بركة، فيتغير الماء.

مثاله: عندنا بركة ماء، وفي الخريف أوراق الشجر تتساقط، فتساقطت بكثرة في هذا الغدير، أو في تلك البركة، حتى تغير لونها، فلا يؤثر فيها؛ لأن هذا شيء يشق الاحتراز منه، ومثله أيضاً ما سيأتي معنا في باب النجاسات، لو أن ذبابة وقفت على عذرة كلب وأكلت منه وحملته بجناحيها، ثم جاءتك وأنت تصلي، فوقفت على قمة عمامتك، وبعد الصلاة خلعت العمامة، ونظرت فإذا شيء قليل من النجاسة، فلا يضر؛ لأنه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[البقرة:286]، فديننا والحمد لله يسر قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[البقرة:185].

المسألة الخامسة: لا يؤثر على طهورية الماء ما غيره مما يستعمل في تطهيره وإصلاحه، ويدخل في ذلك وسائل التعقيم في زماننا مثل مادة الكلور وغيرها التي تستعمل في الماء لتعقيمه.

مسألة: عندنا إناء فيه ماء، فسقطت فيه فأرة فماتت، فحكم الماء أنه نجس؛ لأنه قد لاقته نجاسة فغيرته.

مثال آخر: صهريج يسع ستين جالوناً، وهذا الصهريج دخل إليه حمامة صغيرة فماتت، فلم تغير طعمه ولا لونه ولا ريحه، فحكمه أنه طهور؛ لأن النجاسة يسيرة، والماء كثير، فلم تغير له طعماً، ولا لوناً، ولا ريحاً.

مثال آخر: برميل كان مطلياً بطلاء، فلاحظنا أن لهذا الماء رائحة طلاء، فحكمه طهور؛ لأنه ما تغير بشيء طارئ، وإنما تغير بطول المكث، فهو مثل ما تغير بالسبخة التي هي: طبيعة الأرض التي هو فيها.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار.

وصلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد، ما اختلف الليل والنهار.

وصلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا لما تحب وترضى.

أما بعد:

الطهارة في اللغة: هي النظافة، تقول: طهر الثوب من القذر، يعني: تنظف.

وأما في الشرع فهي: صفة اعتبارية أو معنوية قدرها الشارع شرطاً للصلاة.