عنوان الفتوى : الاستغاثة والتوسل بالأولياء الموتى
السؤال
هناك من يقول بجواز الاستغاثة بالأولياء الموتى والغائبين؛ بحجة أن هذه الاستغاثة يُقصد بها طلب دعائهم، لا طلب ما لا يقدر عليه إلا الله، فعندما نقول: "أغثنا يا رسول الله"، أو "مدد يا حسين"، فمعناها: أغثنا بدعائك الله لنا، فما الرد على شبهتهم هذه؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن طلب الدعاء مشروع من الحي الحاضر، وأما الميت والغائب، فلا يُسأل شيئًا! والأدلة إنما دلت على مشروعية طلب الدعاء من الحي لا الميت، فلا يشرع أن يقال لمن مات من الأنبياء والأولياء: أغثني بدعائك!
ومن أجمع الكتب في هذه القضية كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية: (الاستغاثة في الرد على البكري)، ومما قال فيه: إذا كان معنى الاستغاثة هو الطلب منه، فما الدليل على أن الطلب منه ميتًا كالطلب منه حيًّا؟ وعلو درجته بعد الموت لا يقتضي أن يُسأل، كما لا يقتضي أن يُستفتى، ولا يمكن أحدًا أن يذكر دليلًا شرعيًّا على أن سؤال الموتى من الأنبياء والصالحين وغيرهم مشروع، بل الأدلة الدالة على تحريم ذلك كثيرة. حتى إذا قُدر أن الله وكَّلهم بأعمال يعملونها بعد الموت؛ لم يلزم من ذلك جواز دعائهم، كما لا يجوز دعاء الملائكة؛ وإن كان الله وكّلهم بأعمال يعملونها؛ لما في ذلك من الشرك، والذريعة إلى الشرك. اهـ.
وقال أيضًا: النفي عاد إلى الشيئين: إلى الاستغاثة به بعد الموت، وإلى أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، فكيف إذا اجتمعا جميعًا؟ فإن من الناس من يستغيث بالموتى من الأنبياء والصالحين، ويطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله. اهـ.
وقال أيضًا: لا يمكن أحدًا أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته أن يستغيثوا بميت، لا نبي، ولا غيره، لا في جلب منفعة، ولا دفع مضرة، لا بهذا اللفظ، ولا معناه. فلا يشرع لهم أن يدعوا ميتًا، ولا يسألوه، ولا يدعوا إليه، ولا أن يستجيروا به، ولا يدعوه لا رهبة، ولا رغبة، ولا يقول أحد لميت: أنا في حسبك، أو أنا في جوارك، أو أنا أريد أن تفعل كذا وكذا ... ولا يشرع لأحد أن يقول لميت: سل الله لي، أو ادع لي. ولا يشرع لهم أن يشكوا إلى ميت؛ فيقول أحدهم مشتكيًا إليه: عليّ دين، أو آذاني فلان، أو قد نزل بها العدو، أو أنا مريض، أو أنا خائف، ونحو ذلك من الشكاوى، سواء كان هذا السائل عند قبر الميت، أو كان بعيدًا منه، وسواء كان الميت نبيًّا أو غيره. اهـ.
وقال أيضًا: ما نُفي عنه -صلى الله عليه وسلم-، وعن غيره من الأنبياء والمؤمنين؛ أنهم لا يُطلب منهم بعد الموت شيء؛ ولا يطلب منهم في الغيبة شيء؛ لا بلفظ الاستغاثة، ولا الاستعاذة، ولا غير ذلك، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله: حكم ثابت بالنص، وإجماع علماء الأمة، مع دلالة العقل على ذلك؛ فلا يحتاج إلى ذكر حديث فيه نفي ذلك عن نفسه، كقوله: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله"، فإن هذا اللفظ هو بمنزلة أن يقال: لا يستعاذ به، ولا غيره من المخلوقين، وإنما يستعاذ بالله عز وجل، وهذا كله معلوم، وكذلك لفظ الاستجارة، وأما طلب ما يقدر عليه في حياته، فهذا جائز، سواء سُمي استغاثة، أو استعاذة، أو غير ذلك. اهـ.
ومن أوضح الأدلة على ذلك: فعل الصحابة وحالهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يستغيثوا به -صلى الله عليه وسلم-، ولا طلبوا منه الدعاء، مع الملمات الشديدة التي حصلت لهم، من ردة العرب، وحروب فارس والروم! ولذلك لما حصل القحط في عهد عمر لم يستغث بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما توسل بدعاء عمّه العباس؛ لأنه حيٌّ، قال الشيخ الألباني في كتاب: التوسل أنواعه وأحكامه: التوسل إلى الله عز وجل بالرجل الصالح، ليس معناه التوسل بذاته، وبجاهه، وبحقه، بل هو التوسل بدعائه، وتضرعه، واستغاثته به سبحانه وتعالى، وهذا هو بالتالي معنى قول عمر -رضي الله عنه-: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا"، أي: كنا إذا قل المطر مثلًا، نذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونطلب منه أن يدعو لنا الله جل شأنه. ويؤكد هذا ويوضحه تمام قول عمر -رضي الله عنه-: "وإنا نتوسل إليك بعمّ نبينا، فاسقنا"، أي: إننا بعد وفاة نبينا جئنا بالعباس عمّ النبي صلى الله عليه وسلم، وطلبنا منه أن يدعو لنا ربنا سبحانه ليغيثنا. تُرى لماذا عدل عمر -رضي الله عنه- عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس -رضي الله عنه-، مع العلم أن العباس مهما كان شأنه ومقامه، فإنه لا يذكر أمام شأن النبي صلى الله عليه وسلم ومقامه؟
أما الجواب برأينا فهو: لأن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم غير ممكن بعد وفاته، فأنى لهم أن يذهبوا إليه -صلى الله عليه وسلم-، ويشرحوا له حالهم، ويطلبوا منه أن يدعو لهم، ويؤمّنوا على دعائه، وهو قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، وأضحى في حال يختلف عن حال الدنيا وظروفها مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى!؟ فأنى لهم أن يحظوا بدعائه -صلى الله عليه وسلم-، وشفاعته فيهم، وبينهم وبينه كما قال الله عز شأنه: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}!؟ ولذلك لجأ عمر -رضي الله عنه-، وهو العربي الأصيل الذي صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولازمه في أكثر أحواله، وعرفه حق المعرفة، وفهم دينه حق الفهم، ووافقه القرآن في مواضع عدة، لجأ إلى توسل ممكن، فاختار العباس -رضي الله عنه- لقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية، ولصلاحه ودينه وتقواه من ناحية أخرى، وطلب منه أن يدعو لهم بالغيث والسقيا. وما كان لعمر، ولا لغير عمر أن يدع التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم, ويلجأ إلى التوسل بالعباس، أو غيره لو كان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ممكنًا، وما كان من المعقول أن يقر الصحابة -رضوان الله عليهم- عمر على ذلك أبدًا؛ لأن الانصراف عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بغيره ما هو إلا كالانصراف عن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة إلى الاقتداء بغيره، سواء بسواء. اهـ.
وانظر للفائدة الفتوى: 277003.
والله أعلم.