شرح ألفية ابن مالك [28]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[ ظن وأخواتها:

انصب بفعل القلب جزءي ابتدا أعني رأى خال علمت وجدا

ظن حسبت وزعمت مع عد حجا درى وجعل اللّذ كاعتقد

وهب تعلّم والتي كصيرا أيضاً بها انصب مبتداً وخبرا ]

فرغ المؤلف رحمه الله في ألفيته من ذكر النواسخ المتقابلة، وهي: كان وأخواتها، وإن وأخواتها، فإن كان وأخواتها ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، وإن وأخواتها تنصب المبتدأ وترفع الخبر، فالنسخ فيهما متضاد، ثم أتى بالقسم الثالث من النواسخ، وهو الذي ينسخ المبتدأ والخبر فينصبهما، وليس عندنا قسم رابع يرفع المبتدأ والخبر؛ لأنه إذا بقي المبتدأ والخبر على الرفع لم يكن هناك ناسخ.

قال المؤلف: (ظن وأخواتها)، أخواتها يعني: مشاركاتها في العمل، كما قيل: كان وأخواتها وإن وأخواتها.

قال رحمه الله:

(انصب بفعل القلب جزئي ابتداء أعني رأى خال علمت وجدا)

انصب: فعل أمر، والفاعل مستتر وجوباً تقديره أنت.

جزءي: مفعول انصب.

بفعل القلب: متعلق بانصب.

أعني: أي: أقصد وأريد.

رأى خال علمت وجدا ظن حسبت...: كل هذه معطوفات بإسقاط حرف العطف.

قوله: (انصب بفعل القلب): أفعال القلوب كثيرة منها: المحبة، والكراهة، والبغض، والعداوة، والخوف، والرجاء، وغير ذلك، وليس مراده بفعل القلب هنا جميع أفعال القلوب؛ لأنه قال: (أعني رأى...)، وهذا هو فائدة قوله: (أعني رأى ...) أي: أنه ليس كل فعل قلبي ينصب المبتدأ والخبر؛ بل هي أفعال خاصة.

وقوله: (جزءي ابتدا) فيه تجوز؛ لأن الابتداء أمر معنوي، والمبتدأ والخبر أمر لفظي، والمراد بقوله: (جزءي ابتداء) أي: جزءي جملة ذات ابتداء، وهي: المبتدأ والخبر.

قوله: ( أعني رأى) أي: من أفعال القلوب التي سأذكرها: رأى، ومثاله قول الشاعر:

رأيت الله أكبر كل شيء محاولةً وأكثرهم جنودا

ومنه قوله تعالى: وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج:7]، (نراه) أي: نعلمه قريباً، والمقصود يوم القيامة.

وتطلق (رأى) على معنى آخر غير فعل القلب وهو الرؤية بالبصر، فتنصب مفعولاً واحداً، تقول: رأيت زيداً، أي: بعيني، وتطلق: رأيت زيداً بمعنى: ضربته على رئته، والمقصود من (رأى) هنا القلبية.

قوله: (خال) هو أيضاً من أفعال القلوب، تقول: خلتُ الطالبَ فاهماً، وهي بمعنى: ظن، ومضارع خال يخال، كخاف يخاف.

(علمت) أيضاً تنصب مفعولين، وهي بمعنى: اعتقدت، فهو علم يقين، وليس علم عرفان، كما سيأتي بأن علم العرفان إنما ينصب مفعولاً واحداً.

مثال ذلك: علمت زيداً كريماً، أي: اعتقدته وعلمته علماً يقينياً أنه كريم.

(وجد) أيضاً تنصب مفعولين، كقوله تعالى: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22]، ويحتمل أن تكون في الآية ليست من الوجدان القلبي، بل من: وجد الشيء يجده.

وأوضح منه قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا [ص:44]، أي: إنا علمناه صابراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30].

(ظن) أيضاً من أفعال القلوب، كقولك: ظننت زيداً قائماً، وقد يطلق الظن على الرجحان وهو الأكثر، وقد يطلق على اليقين كما في قوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:46].

وتطلق بمعنى التهمة كقولك: ظننت زيداً، أي: اتهمته، ومنه قوله تعالى: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:24] أي: بمتهم.

(حسبت): أيضاً من أفعال القلوب، وهي للرجحان غالباً، وتطلق بمعنى العلم، كقول الشاعر:

حسبت التقى والجود خير تجارة.

أي: علمتها خير تجارة.

(زعمت) زعم بمعنى: اعتقد الشيء على خلاف ما هو عليه، وهي من أفعال القلوب الدالة على الظن، ومنه قول الشاعر:

زعمتني شيخاً ولست بشيخ إنما الشيخ من يدب دبيبا

(معَ عدْ) أي: معَ عدَّ، لكنه خففها لأجل وزن البيت، تقول: عددت محمداً رفيقاً، أي: اعتقدت في قلبي أنه رفيق، ومنه قول الشاعر:

فلا تعدد المولى شريكك في الغنى ولكنما المولى شريكك في العدم

أي: لا تحسب المولى -وهو الصديق والناصر- من يشاركك إذا كنت غنياً فقط، فإن هذا ليس بمولى؛ لأنه إنما ينفع نفسه.

قال: (حجا) بمعنى: علم، كقول الشاعر:

قد كنت أحجو أبا عمرو أخاً ثقةً حتى ألمت بنا يوماً ملمات

أي: فإذا هو ليس بأخي ثقة، فهو في وقت الرخاء أخو ثقة، لكن لما ألمت به الملمات لم يكن أخا ثقة.

(درى): أيضاً تنصب مفعولين، وهي من أفعال القلوب، تقول: دريت زيداً عالماً، أي: علمته عالماً، ومنه قول الشاعر:

دريتَ الوفيَّ العهدَ يا عرو فاغتبط فإن اغتباطاً بالوفاء حميد

وقوله: (وجعل اللذ كاعتقد)، اللذ: لغة في (الذي)، ولكنها تحذف الياء في بعض اللغات.

وقوله: (اللذ كاعتقد) احترازاً من (جعل) التي بمعنى (صير)، والتي بمعنى (خلق) ، فالتي بمعنى (صير) ليست من أفعال القلوب، ولكنها من أفعال التصيير، والتي بمعنى (خلق) لا تنصب إلا مفعولاً واحداً، مثالها قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، أي: خلقها وأوجدها، ومثال (جعل) التصييرية: قولك: جعلت القطن فراشاً، أي: صيرته، وجعلت العهن غزلاً، أي: صيرته، وما أشبه ذلك.

المهم أن قوله: (جعل اللذ كاعتقد) فيه احتراز من (جعل) التصييرية، و(جعل) التي بمعنى خلق وأوجد.

ومثال (جعل) التي كاعتقد: قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف:19]، فجعل هنا لا تصلح بمعنى الخلق، ولا تصلح بمعنى التصيير، وإنما هي بمعنى الاعتقاد، أي: اعتقدوا الملائكة إناثاً.

(وهبْ)، أي: التي بمعنى: قدَّرْ، أي: قدر في قلبك كذا وكذا، وأما (هب) التي هي فعل أمر من (وهبَ يهبُ)، فتقول: هبْ زيداً ثوباً، فهذه من باب (كسا)، لكن إذا قلت: هبني صديقاً، فهذه هي المرادة من كلام المؤلف، وهي بمعنى: قدرني في قلبك صديقاً لك، ومنه قول الشاعر:

فقلت أجرني أبا مالك وإلا فهبني امرأً هالكا

وتأتي كثيراً في كلام العلماء موصولة بأن، مثل: هب أن الأمر كذا وكذا، فقيل: إن هذا من لحن العلماء، وممن ذهب إليه الحريري فقد قال: وهذا لحن، فإذا قلت: هبْ أن هذا كائن، فقل: هبْ هذا كائناً.

ولكن أُورد على هذا القول ما يذكر عن عمر رضي الله عنه في قصة الحمارية أنهم قالوا له: هب أن أبانا كان حماراً، ولم يقولوا: هب أبانا حماراً.

وعلى كل حال فقد شائع في كلام الفقهاء رحمهم الله أن تقترن بأن فيقال: هب أن الأمر كذا، لكن لو أردنا أن نأتي بالأفصح لقلنا: هب الأمر كذا، فنكون سلكنا الأصلح واختصرنا الكلام بحذف أَنْ.

(تعلَّم) ليس المراد بذلك طلب العلم، بل المراد: اعلم، تقول: تعلَّم الله قادراً، أي: اعلم أن الله قادر، ومنه قول الشاعر:

تعلَّم شفاء النفس قهر عدوها فبالغ بلطف في التحيل والمكر

فمعنى قوله: (تعلّم شفاء النفس قهر عدوها): اعلم بأن شفاء النفس قهر عدوها.

إذاً: الأدوات التي مر ذكرها هي: رأى، خال، علم، وجد، ظن، حسب، زعم، عدَّ، حجا، درى، جعل، هبْ، تعلّم.

فهذه ثلاث عشرة كلمة كلها من أفعال القلوب، لكن بالنسبة لمعانيها فمنها ما يفيد العلم، ومنها ما يفيد الظن، والذي يفيد الظن قد يفيد العلم أيضاً، والذي يفيد العلم قد يفيد الظن أيضاً، لكن يكون أرجح في الظن، أو أرجح في العلم، فتكون الأقسام أربعة:

ما يفيد العلم يقيناً.

وما يفيد الظن.

وما يفيد الظن في الأصل، وقد يفيد العلم في الفرع.

والعكس.

قال رحمه الله: (والتي كصيرا ... أيضاً بها انصب مبتداً وخبرا)

التي: مبتدأ.

كصيرا: جار ومجرور، لكن ( صيرا ) فعل قصد لفظه، فلهذا دخلت عليه الكاف، أي: والتي كهذا الفعل، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صلة الموصول.

أيضاً: مصدر حذف منه العامل وجوباً، وهو من (آض) إذا رجع.

بها: جار ومجرور متعلق بـ ( انصب ).

انصب: فعل أمر، وفاعله مستتر وجوباً تقديره أنت.

مبتداً: مفعول به.

وخبراً: معطوف عليه، والجملة خبر التي.

يقول المؤلف رحمه الله: والأفعال التي بمعنى (صيَّر) انصب بها مبتدأً وخبراً، فتنصب مفعولين عمدتين أصلهما المبتدأ والخبر.

مثال ذلك: صيرت الحديد باباً، أي: حولته وجعلته.

وتقول: اتخذت فلاناً صديقاً، أي: صيرت.

وتقول أيضاً: رددت البياض سواداً، أي: صيرت.

ومنه قول الشاعر:

فرد شعورهن السود بيضاً ورد وجوههن البيض سودا

الشاهد: قوله: (فرد شعورهن السود بيضاً) أي: صيرها بيضاً، (ورد وجوههن البيض سوداً) أي صيرها سوداً.

ومنه قوله تعالى: واتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ، فهذه الأفعال قد نصبت مبتدأً وخبراً.

إذاً: كل فعل بمعنى (صير) دخل على مبتدأ وخبر فإنه ينصبه كظن وأخواتها، بل هو من أخوات ظن.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

[ وخص بالتعليق والإلغاء ما من قبل هب والأمر هب قد ألزما

كذا تعلّم ولغير الماضِ من سواهما اجعل كل ما له زكن ]

قوله: ( وخص ): يجوز أن يكون فعل أمر، ويجوز أن يكون فعلاً ماضياً مبنياً لما لم يسم فاعله؛ لأن (خص) صالحة للصيغتين، كما تقول: (رد)، فهي صالحة لفعل الأمر، وصالحة للماضي الذي لم يسم فاعله.

وإذا جعلنا ( خص ) فعل أمر، فالفاعل ضمير مستتر تقديره أنت، أما إذا جعلنا ( خص ) فعلاً ماضياً مبنياً لما لم يسم فاعله فنائب الفاعل قوله: (ما من قبل هب)، وعلى التقدير الأول تكون ( ما ) مفعولاً به.

وقوله: (خص بالتعليق والإلغاء):

الفرق بين التعليق والإلغاء: أن التعليق هو إبطال العمل لفظاً لا محلاً.

وأما الإلغاء فهو أن يلغى العمل بهذه الأدوات لفظاً ومحلاً.

ولهذا إذا جاء التعليق تقول: والجملة من كذا وكذا في محل نصب سدت مسد مفعولي ظن، فعلقت الأداة عن عملها باللفظ، لكنها عملت محلاً.

أما الإلغاء فتلغيها بالكلية.

فإذا قلت: ظننت أن النجمَ طالعٌ، فهذا تعليق.

وإذا قلت: ظننت النجمُ طالعٌ، فهذا إلغاء.

قوله: ( ما من قبل هب ):

الذي قبل (هب) هو: رأى، خال، علم، وجد، ظن، حسب، زعم، عدَّ، حجا، درى، جعل، فهذه إحدى عشرة أداة يجوز فيها التعليق والإلغاء، وأما الذي بعد (هبْ) فلا يجوز فيه تعليق ولا إلغاء.

إذاً: جميع أفعال التصيير لا يدخلها الإلغاء ولا التعليق؛ لأنها داخلة في مفهوم قوله: ( ما من قبل هب ).

تصريف ظن وأخواتها

ثم ذكر المؤلف خصائص أخرى فقال: (والأمر هبْ قد ألزما كذا تعلم).

هبْ: من أفعال القلوب لكنها ملازمة للأمر، أي: لا ترد إلا بصيغة الأمر، فلا ترد بصيغة المضارع ولا بصيغة الماضي، بل هي دائماً بصيغة الأمر.

وقوله: ( والأمرَ ) مفعول مقدم لـ (ألزم).

هبْ: مبتدأ.

قد: حرف تحقيق.

ألزم: فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله، والجملة خبر (هب)، ونائب الفاعل هو في محل المفعول الأول، وتقدير الكلام على ترتيبه الطبيعي: وهبْ قد ألُزم الأمر، أي: أن (هب) لازم للأمر، فلا يأتي مضارعاً، ولا يأتي ماضياً، ولا يأتي اسم فاعل، ولا اسم مفعول، ولا غيرها من المشتقات.

قوله: ( كذا تعلَّم ) أي: قد أُلزم الأمر، فلا يأتي مضارعاً، ولا يأتي ماضياً، ولا اسم فاعل، ولا اسم مفعول، ولا مصدراً.

فصار عندنا أداتان لازمتان للأمر هما: هبْ، وتعلَّم.

ثم قال: (ولغير الماضِ من

سواهما اجعل كل ما له زكن)

أي: لغير الماضي من سوى هبْ وتعلّم.

وقوله: ( ولغير الماضي ) متعلق بـ ( اجعل ).

كل: مفعول أول لـ (اجعل) و(اجعل) التي معنا من أفعال التصيير، يعني: صير ما سواهما لغير الماضي.

وقوله: (لغير الماضي) السابق: مفعول ثان.

ما: موصولة.

له: جار ومجرور.

زكن: فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله، وله: متعلق به، والجملة صلة الموصول، وزكن بمعنى: علم.

وقد أفادنا المؤلف رحمه الله بهذا أن جميع أفعال القلوب وأفعال التصيير كلها تتصرف إلى المضارع والأمر واسم الفاعل واسم المفعول وغير ذلك، إلا صيغتان، وهما: هبْ وتعلَّم، فتقول في ظن: ظننت، وأظنُّ، وظُن، وأنا ظان، وزيد مظنون، وهكذا جميع الأفعال القلبية والتصييرية تتصرف إلا هبْ وتعلَّم، وما تصرف إليه فله حكم الماضي.

متى يجوز الإلغاء لعمل ظن وأخواتها

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[ وجوز الإلغاء لا في الابتدا وانوِ ضمير الشأن أو لام ابتدا

في موهمِ إلغاء ما تقدما والتزم التعليق قبل نفي ما ]

لما ذكر رحمه الله الأدوات التي يجوز فيها الإلغاء والتعليق، بين حكم الإلغاء وحكم التعليق، وما موضع الإلغاء وما موضع التعليق.

قوله: وجوز: فعل أمر.

الإلغاء: مفعول به.

لا: نافية.

في الابتداء: جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره: لا تجوزه في الابتداء، ويجوز أن يكون متعلقاً بيجوز.

يقول رحمه الله: إنه يجوز الإلغاء، وهو إبطال العمل لفظاً ومحلاً، لكن استثنى رحمه الله الابتداء فقال: (لا في الابتداء) أي: فلا تجوز الإلغاء، فإذا قال قائل: وهل هناك شيء غير الابتداء؟

قلنا: نعم، الأداة إما أن تكون في أول الجملة، أو في وسطها، أو في آخرها، فإذا وقعت الأداة في الابتداء فلا تجوز الإلغاء، مثل أن تقول: ظننت زيدٌ قائمٌ، فهذا ممنوع؛ لأن الأداة وقعت في الابتداء.

وإن وقعت في الوسط جاز الوجهان: الإلغاء والإعمال، فتقول: زيداً ظننتُ قائماً، وتقول: زيدٌ ظننت قائمٌ.

وإن وقعت الأداة في الأخير فكذلك يجوز الإلغاء، فتقول: زيدٌ قائمٌ ظننت، فصارت الأحوال ثلاثة:

الحالة الأولى: أن تتقدم الأداة فيمتنع الإلغاء.

الحالة الثانية: أن تتوسط الأداة فيجوز الوجهان على السواء.

الحالة الثالثة: أن تتأخر الأداة فيجوز الوجهان والإلغاء أرجح؛ لضعفها بالتأخر.

وقال الكوفيون: يجوز الإلغاء وإن كانت الأداة سابقة، فإذا قلت: ظننت زيدٌ قائمٌ، فهو جائز عند الكوفيين، ولا مانع منه عندهم، وقد ورد هذا في كلام العرب، وما كان أسهل فهو أرجح.

وعلى هذا: فإذا قرأ أحد منكم الآن علي كتاباً وقال: وإن ظنّ المطرَ غزيراً فليحمد الله، فقال: وإن ظنّ المطرُ غزيرٌ فليحمد الله، فنقول: إذاً أنت كوفي، أما البصري فلا يجوز هذا، بل يقول: إذا كانت الأداة هي الأولى فلا يجوز الإلغاء.

وأما ما ورد من كلام العرب ما يدل على الإلغاء مع تقدم الأداة فقد قال البصريون: إنه يؤول، ولا بأس بالتحريف في هذا الموضع، من أجل أن نصحح القاعدة.

يقول ابن مالك :

(وانو ضمير الشأن أو لام ابتدا في موهم إلغاء ما تقدما)

(انو) بمعنى: قدر، والمعنى: إذا وجد من كلام العرب ما يقتضي إلغاءها مع التقدم فانو ضمير الشأن.

مثاله قول الشاعر:

كذاك أدبت حتى صار من خلقي أني وجدت ملاك الشيمة الأدبُ

والأصل أن تقول: أني وجدت ملاكَ الشيمة الأدبا، لكنه عربي يقول: أني وجدتُ ملاكُ الشيمةِ الأدبُ، قالوا: إذاً لا نستطيع أن نقول للعربي: أخطأت؛ لأن العرب في النحو في منزلة الدليل في الأحكام الشرعية، فإذا جاء كلام العرب مخالفاً لعقولنا وما أصلناه وجب أن نحرف ونؤول، فنقول: نقدر أحد أمرين: إما ضمير الشأن، وإما لام الابتداء.

فإذا قدرنا ضمير الشأن فإن الفعل عامل، فنقول:

وجدت: فعل وفاعل، ومفعوله الأول ضمير الشأن محذوف، والتقدير: وجدته، أي: الحال والشأن.

ملاك: مبتدأ. الأدب: خبر، والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب مفعول ثان.

وإذا نوينا لام الابتداء صارت الأداة عاملة في المحل دون اللفظ، فنقول: أني وجدت لملاكُ الشيمة الأدبُ:

وجدت: فعل وفاعل تنصب مفعولين.

لملاك: اللام لام ابتداء.

وملاك: مبتدأ.

الأدب: خبر، واللام علقت عمل وجد، والجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي وجد.

لكن أصحابنا ذوي اليسر والسهولة -وهم الكوفيون- قالوا: لا بأس أن تلغى ولو تقدمت، فيجوز أن تقول: ظننت زيدٌ قائمٌ، وظننت: فعل وفاعل، والمقصود من ذلك: نسبة الظن إلى مدلول الخبر فقط، ولا حاجة أن نسلطه على الجملة، وأنا أقول: ظننت: فعل وفاعل، وزيد: مبتدأ، وقائم: خبر المبتدأ، ولا حاجة لإضمار لام الابتداء ولا لإضمار ضمير الشأن.

وهذا أسهل وأيسر وليس ببعيد، كما لو سألك سائل فقال: أظننت زيداً قائماً؟ فقلت: ظننت، والمقصود: نسبة الظن إلى مدلول الخبر فقط.

وقولهم هو الراجح عندنا، والقاعدة عندنا: أن كل قول أسهل فهو أرجح، أما عن كونه هو الصواب أو غير الصواب فهذا أمر آخر، لكن هو أرجح؛ لأنه لا يحتاج إلى تقدير ولا إلى أي عمل.

مواضع التعليق في عمل ظن وأخواتها

قال رحمه الله تعالى:

[ ...................... والتزم التعليق قبل نفي ما

وإن ولا لام ابتداء أو قسم كذا والاستفهام ذا له الختم ]

قوله: (والتزم التعليق) ذكرنا أن التعليق هو إبطال العمل لفظاً لا محلاً، وقوله: ( التزم ): فعل أمر، وفي الإلغاء قال: ( جوز الإلغاء ) وهذا هو الفرق الثاني بين التعليق والإلغاء.

فبينهما فرق في حد ذاتهما، وبينهما فرق في عملهما، فالتعليق واجب، والإلغاء جائز.

قوله: (التزم): فعل أمر.

التعليق: مفعول به.

قبل نفي: ظرف ومضاف إليه، وهو متعلق بالتزم، ونفي: مضاف، وما: مضاف إليه مبني على السكون في محل جر.

وإن: الواو حرف عطف، إن: معطوفة على ما، أي: وقبل نفي إن.

و(لا): معطوفة على ما، أي: وقبل نفي لا، فعلى هذا تكون (إن) معطوفة على (ما)، و(لا) معطوفة على (ما).

لام ابتداء، لامُ: مبتدأ، وابتداء: مضاف إليه.

أو قسم: معطوفة على (ابتداء)، أي: أو لام القسم. أي: إن لام الابتداء ولام القسم يجب فيهما التعليق. (الاستفهام): مبتدأ أول.

ذا: مبتدأ ثان.

له: جار ومجرور متعلق بانحتم.

انحتم: جملة هي خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ والخبر خبر المبتدأ الأول.

يقول المؤلف: التزم التعليق -وهو إبطال العمل لفظاً لا محلاً- قبل هذه الأمور وهي: نفي ما، ونفي إن، ونفي لا، ولام الابتداء، ولام القسم، والاستفهام.

فالتعليق لازم في ستة مواضع:

الموضع الأول: قبل نفي ما:

أي: إذا اتصلت ما النافية بجزءي المبتدأ والخبر وجب التعليق، مثاله قوله تعالى: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ [الأنبياء:65]).

علمت: علم: فعل ماض تنصب مفعولين، المفعول الأول هو المبتدأ، والمفعول الثاني هو الخبر، والتاء فاعل.

ما: نافية.

هؤلاء: اسم (ما) لأنها حجازية.

ينطقون: الجملة خبر (ما).

ومعلوم أن جملة ( ما هؤلاء ينطقون ) جملة خبرية، لكن العامل تسلط عليها محلاً لا لفظاً، فنقول: جملة ( ما هؤلاء ينطقون ) في محل نصب سدت مسد مفعولي علم.

مثال آخر: ظننت ما زيد قائم، أي: ظننت انتفاء قيام زيد.

ظننت: فعل وفاعل.

ما: نافية.

زيد: مبتدأ.

قائم: خبره.

والجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي ظن.

الموضع الثاني: قبل نفي إن:

كقوله تعالى: وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:52]أي: تظنون ما لبثتم إلا قليلاً، ومعلوم أن (تظنون) متصرف من (ظن)، فهو ينصب مفعولين، ولكن هذا الفعل معلَّق لدخول (إنْ) على جزءي الجملة الخبرية.

الموضع الثالث: قبل نفي لا:

تقول: علمت لا زيدٌ قائمٌ ولا عمروٌ، أو: لا زيدٌ قائمٌ ولا قاعدٌ.

علمت: فعل وفاعل.

لا: نافية.

زيد: مبتدأ.

قائم: خبر المبتدأ.

ولا عمروٌ: الواو حرف عطف، ولا: نافية. وعمروٌ: مبتدأ، والخبر محذوف، والتقدير ولا عمرٌو قائم، وإن شئت فقل: إنه معطوف على (لا زيدٌ). والجملة في محل نصب سد مسد مفعولى علم.

الموضع الرابع: لام الابتداء:

أي: إذا اقترنت الجملة الخبرية الواقعة في سياق هذه الأفعال بلام الابتداء، فإن لام الابتداء توجب تعليق الفعل، تقول: علمت لزيدٌ منطلقٌ، ولا يصح أن تقول: علمت لزيداً منطلقاً.

علمت: فعل وفاعل.

لزيد: اللام لام الابتداء، وزيدٌ: مبتدأ.

منطلقٌ: خبره، والجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي علم.

الموضع الخامس: لام القسم:

كقول الشاعر:

ولقد علمت لتأتين منيتي إن المنايا لا تطيش سهامها

الشاهد: قوله: (لتأتين)، ولهذا لا يمكن أن نقول: إن جملة ( تأتين ) في محل نصب، أي: على أنها مفعول وأن الفعل سلط عليها، بل نقول: الجملة من الفعل والفاعل سدت مسد مفعولي ظن؛ لأنك لو قلت: إن الجملة في محل نصب احتجت إلى المفعول الثاني، ولكنه لا نحتاج إليه؛ لأن العمل الآن علق.

الموضع السادس: الاستفهام:

أيضاً إذا وقعت الجملة التي بعد هذه الأفعال استفهاماً فإنها تعلق، تقول: علمت أين زيد.

علمت: فعل وفاعل.

أين: اسم استفهام، وهي خبر مقدم.

زيد: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي علم.

وكذلك لو قلت: علمت أزيدٌ عندك أم عمروٌ، فنقول:

الهمزة: للاستفهام.

زيد: مبتدأ.

عندك: الظرف خبر.

أم: حرف عطف.

عمروٌ: معطوف على زيد، والجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي علم.

ومعنى الجملة: علمت أي الرجلين عندك.