أرشيف المقالات

قضايا التاريخ الكبرى

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2 - من قضايا السحرة صفحة من الجرائم المروعة للأستاذ محمد عبد الله عنان كان لظهور هذه الحقائق المروعة عن جرائم السحرة وقع عميق في باريس وفي فرنسا بأسرها؛ ولم يكن القضاء العادي ليكفي لسحق هذه الطغمة الآثمة وتطهير المجتمع من عيثها الذريع، فرأى لويس الرابع عشر ووزرائه أن يعهد بعقابها إلى القضاء الاستثنائي، وانتدبت لذلك محكمة خاصة هي (الغرفة الساطعة) الشهيرة في ذلك العصر، وسميت كذلك لأن المحاكم الخاصة التي تنتدب للنظر في الجرائم الكبرى كانت تجلس في غرفة تجلل جدرانها بالسواد وتنار بالمشاعل والمصابيح وعقدت (الغرفة الساطعة) جلستها الأولى في العاشر من أبريل سنة 1679، وقررت أن تكون إجراءاتها وتحقيقاتها سرية حتى لا يقف الجمهور على شيء من الأعمال السحرية أو أسرار السموم؛ وتولى الرآسة المستشار لوي بوشرا كونت دي كومبان يعاونه عدة من أعضاء مجلس الدولة؛ وتولى لاريني مهمة القاضي المحقق؛ وكانت إجراءاتها تتلخص في أن كل من تقع عليه شبهة الاتهام يقبض عليه بأمر الملك أعني بواسطة (اللتر دي كاشيه) (أو رقعة السجن)، وتقدم نتيجة التحقيق الأول إلى النائب العام، وله وحده أن يقرر المواجهة بين الشركاء، وعند انتهاء التحقيق يرفع به تقرير ضاف إلى (الغرفة الساطعة)؛ وهي تقرر ما إذا كان يجب الاستمرار في اعتقال المتهم، فإذا قررت ذلك، أستمر التحقيق معه؛ وعند نهايته، ترفع أوراق الاتهام إلى المحكمة، فيقرؤها القضاة، ويقدم نائب الملك (النائب العمومي) طلباته سواء بتبرئة المتهم أو بالحكم عليه؛ ثم تسمع أقوال المتهم فوق منصة المحكمة وبعدها تصدر المحكمة حكمها غير قابل للاستئناف وكانت (الغرفة الساطعة) تعقد في قصر (الأرسنال)؛ واستمر انعقادها باستمرار حتى يوليه سنة 1682 عدا فترة أشهر وقفت فيها جلساتها؛ وبلغ عدد المتهمين الذين قدموا إليها 442 متهماً، تقرر استمرار اعتقال 118 منهم؛ وحكم بالإعدام على ستة وثلاثين، وتقرر تعذيبهم بالتحقيق العادي وبالتحقيق الاستثنائي، ثم أعدموا حرقاً كما سيجيء؛ ومات اثنان في السجن؛ وحكم على خمسة بالأشغال الشاقة، وبالنفي على ثلاثة وعشرين؛ وأطلق سراح الباقين لا لأنهم أبرياء، ولكن لأن لهم شركاء في التهم المسندة إليهم من أكابر الدولة والسادة وأرفع سيدات البلاط يقول فولتير في كتابه (عصر لويس الرابع عشر) في حديثه عن قضية السحرة، إن أعظم رؤوس في المملكة استدعوا لإبداء أقوالهم أمام (الغرفة الساطعة) ومنهم ابنتا أخت الكردينال مازاران؛ والدوقة دي بويون، والكونتة دي سواسون والدة البرنس أوجين، والمارشال دي لوكسمبورج؛ وقد كان لهؤلاء جميعاً ولغيرهم من أكابر المملكة علائق ومعاملات مع السحرة وقد كشف التحقيق عن واقعة أشنع وأفظع هي أن حياة الملك ذاتها كانت موضعاً لائتمار السحرة، وأن التحريض على اغتيالها لم يجيء إلا من أعماق القصر، ومن أقرب المقربين لشخص الملك ذاته كانت مدام دي مونتسبان حظية لويس الرابع عشر الشهيرة، قد وصلت في ذلك العصر إلى ذروة القوة والنفوذ، وتبوأت في البلاط أرفع مكانة، وبسطت سلطانها على المليك المتيم على مدى أعوام طويلة؛ ولكن حل عهد السأم والهجران أخيراً، ومال الملك عن حظيته القديمة إلى حظية جديدة هي فتاة من وصيفات الشرف تدعى الآنسة دي فونتاج، فلما شعرت مدام مونتسبان بأفول نجمها اضطرمت سخطاً ويأساً، وفكرت في أن تنتقم من الملك وحظيته الجديدة معاً، واتصلت بالساحرة لافوازان وزميلة لها تدعى لاتريانون، فتعهدتا بتدبير مشروع لاغتيال الملك؛ وتعهد الساحران المسممان روماني وبرتران بقتل الآنسة دي فونتانج، وبذلت مدام دي مونتسبان للسحرة مالا وفيراً وكانت مدام دي مونتسبان إبان نفوذها وسلطانها وثيقة الصلات بلافوازان وشركائها؛ وكانت تلجأ إلى السحرة التماسا لتوطيد نفوذها بفعل السحر والتمائم؛ وكانت هذه الحسناء المتكبرة تنزل عند دجل السحرة، وتقبل الاشتراك في إجراءات السحر الأسود، فترقد عارية أمام أولئك الطغام، وتقوم لافوازان وزملاؤها بإجراء القربان الدموي والسحر الأسود، وتعتقد الحظية الهائمة أنها بذلك تذكي نار حبها في نفس الملك وتوطد دعائم نفوذها وسلطانها ويتلخص مشروع اغتيال الملك كما دونه لاريني من أقوال لافوازان وشركائها في أن الجناة فكروا أولاً في أن يزهقوا الملك بالسم، وذلك بأن ينثروه على ثيابه أو حيثما أعتاد أن يمر، فيستنشقه تباعاً ويموت ببطء، وتعهدت الآنسة ديزييه وصيفة مدام دي مونتسبان بتأدية هذه المهمة.
ولكن لافوازان رأت بعد التفكير أن تلجأ إلى وسيلة أخرى.
وذلك أن لويس الرابع عشر اعتاد طبقاً لعادة قديمة أن يتلقى بنفسه في أيام معينة العرائض التي يرفعها إليه رعاياه بالتظلم والالتماس، ويسمح لكل بالدخول عليه عندئذ دون فارق أو تمييز، ففكرت لافوازان أن تعد عريضة من هذا النوع تضمخها بنوع من السم الزعاف، فإذا تناولها الملك بين يديه سرى إليه السم وهلك؛ وتعهدت الساحرة لاتريانون بإعداد هذه العريضة، وتعهدت لافوازان بتقديمها إلى الملك.
ورؤى أن يكون موضوعها طلب الغوث لشخص يشتغل بالسيميا ويدعى بلسيس ويعتقله المركيز دي ترم في قصره، وسعت لافوازان لدى وصيف بالقصر من معارفها ليسهل لها مهمة تقديم العريضة بنفسها وارتاع الجناة لجرأة لافوازان، وتنبئوا لها بالوقوع بين براثن القضاة متهمة بجريمة دولة؛ ولم يكن الموت شر ما يخشاه السحرة في تلك العصور، بل كان التعذيب أشد ما يروعهم، بيد أن لافوازان كانت تخلبها وتغريها مائة ألف جعلتها مدام دي مونتسبان ثمناً للجريمة (نحو مليون فرنك من النقد المعاصر)، فقصدت إلى سان جرمان في يوم 5 مارس سنة 1679، ثم في التاسع منه، محاولة أن تصل إلى الملك فتقدم إليه العريضة المسمومة، ولكنها لم تفز ببغيتها، فعادت مكتئبة إلى باريس، ولكن مصممة على أن تعود في أول فرصة.
بيد أن عين لاريني كانت ساهرة ترقب أعمال السحرة؛ وفي الثاني عشر من مارس قبض عليها وعلى أبنتها مرجريت، وعلى عدة من شركائها حسبما أسلفنا ولما ذاع نبأ القبض على لافوازان وشركائها، ارتاعت مدام دي مونتسبان، وغادرت البلاط في الحال إلى الريف، فمكثت هنالك مدى حين أنفقت المحكمة الخاصة أو (الغرفة الساطعة) أشهراً طويلة في تحقيقات وإجراءات يتسع نطاقها يوماً عن يوم، وكان التحقيق يمتد شيئاً فشيئاً إلى طائفة من الرؤوس الكبيرة، حتى أن المحقق لاريني اضطر أن يطلب حرساً خاصاً لمرافقته في زيارته لسجن فنسان حيث اعتقل المتهمون، وكثر الهمس والوعيد حول قضاة الغرفة الساطعة، واهتم الملك ووزراؤه بالأمر، وكتب لوفوا رئيس الوزراء إلى رئيس المحكمة يقول له: إنه لمناسبة ما نمى إلى جلالته من الحديث حول (الغرفة) وإجراءاتها، فإن جلالته قد أمر بتبليغ القضاة أنه يؤكد لهم حمايته، وأنه يطلب إليهم أن يستمروا في إقامة العدالة بثبات.
ثم زاد الملك على ذلك فاستدعى إليه قضاة المحكمة ليطمئنهم ويشجعهم؛ ويقول لنا لاريني تعليقاً على تلك المقابلة، إن جلالته قد أوصاه بتحقيق العدالة والواجب، وإنه يرجو تحقيقاً لخير المجموع أن ننفذ جهد الاستطاعة إلى أسرار جرائم السموم، وأن نجتث جذورها إذا استطعنا وذلك دون تفريق بين الأشخاص والمقامات بيد أنه قد طلب إلى القضاة من جهة أخرى أن يلزموا التحفظ في بعض الأمور، وظهر أثر هذا التحفظ في الحرص على عدم إحالة لافوازان إلى التعذيب، وذلك خوفاً من أن ينطلق لسانها حين التعذيب بما لا يريد أن يذاع وأن يعرف؛ ومع ذلك فقد صرحت لافوازان في ساعاتها الأخيرة عقب الحكم عليها بالإعدام (أنها مضطرة لأن تقول إراحة لضميرها إن عدداً كبيراً من الناس من جميع الطوائف والطبقات قد لجأ إليها سعياً إلى إزهاق الكثيرين، وإن الباعث الأول لهذه الجرائم إنما هو الفجور) ولما وقف لويس الرابع عشر على أقوال مرجريت مونفوازان ابنة لافوازان عقب إعدام أمها، كتب إلى لاريني يطلب إليه أن يدون اعترافاتها وما يترتب على هذه الاعترافات من مواجهات ومناقشات في ملف خاص، وكذلك أقوال الساحرين روماني وبرتران، وهما من شركاء لافوازان.
وقد كانت أقوال مرجريت مونفوازان ذات أهمية كبيرة لأنها تتعلق بمشروع تسميم الملك، ومن جهة أخرى فقد وعد لوفوا الساحر ليساج بأن ينقذ حياته إذا قال كل شيء، ولكنه لما ذهب في اعترافاته إلى حدود مروعة، رمي بالكذب ولم يقبل المحقق أن يصغي إليه بعد؛ وأدلت متهمة أخرى تدعى فرانسواز فيلاستر بمعلومات مثيرة مدهشة، فأمر الملك بأن تودع أقوالها في ملف خاص، وأن ترفع إلى مجلسه؛ وهكذا بلغ من اهتمام لويس الرابع عشر بهذه القضية أن لبث يتتبع كل أدوارها، وأن يسحب من أوراق التحقيق كل ما لا يرغب في إذاعته؛ والواقع أن لويس الرابع عشر تأثر أيما تأثر لما كشفت عنه التحقيقات من الوقائع والحقائق المؤلمة التي تصيبه في أعز عواطفه وفي كرامته الملوكية. ألم تلجأ حظيته التي كان يعبدها إلى السحرة، وتلوث نفسها وجسمها في معاهدهم سعياً إلى إزهاقه؟ أليست مدام دي مونتسبان أم أولاده المحبوبين؟ ومع ذلك فقد كظم الملك العظيم ألمه وتأثره؛ ولبثت هذه الوثائق الهائلة التي تكشف عن عاره في خزائنه السرية أعواماً طويلة حتى أمر بإحراقها بعد ذلك في مدفئه في يوم من أيام سنة 1709، أعني بعد هذه الحوادث بثلاثين عاما كانت (الغرفة الساطعة) حاسمة صارمة في أحكامها، فقد حكمت بالإعدام والتعذيب على ستة وثلاثين متهماً ثبتت إدانتهم في مزاولة التسميم والأعمال السحرية الإجرامية، وذلك من مجموع قدره مائة وثمانية عشر متهماً.
ونفذ الإعدام في المحكوم عليهم تباعاً؛ وكان إعدام السحرة يجري بطريق الحرق دائماً.
وكانت لافوازان ولافيجوريه ولبساج في مقدمة المحكوم عليهم بهذا الموت المروع.
وقد احرقوا معاً في (ميدان جريف).
وتصف لنا مدام دي سفينية الكاتبة الشهيرة منظر إحراق الساحرة لافوازان - وقد شهدته بنفسها - وتقول لنا (لقد أسلمت لافوازان روحها للشيطان في لطف).
وينقل ألينا الكاهن الذي تولى مرافقة الساحرة إلى المحرقة كلماتها الأخيرة وهي: (إنني مثقلة بأكداس من الجرائم، ولست أدعو الله أن ينقذني من النار بمعجزة، لأن ما سألقاه من الجزاء لا يقاس بشيء مما ارتكبت) ويقدم إلينا فوليتر في كتابه (عصر لويس الرابع عشر) خلاصة لهذه الحوادث والمحاكمات المثيرة ثم يعلق عليها بقوله: (نستطيع أن نتصور أية إشاعات مروعة أذيعت خارج باريس.
بيد أن حكم الإعدام الذي قضي به على لافوازان وشركائها قد وضع في الحال حداً لهذه الأعمال وهذه الجرائم؛ وقد كانت هذه الحرفة المروعة محصورة في شرذمة من الناس، ولم تلوث أخلق الأمة كلها؛ بيد أنها طبعت أذهان الناس بميل سقيم إلى اعتبار الوفيات الطبيعية، نتيجة الجريمة)
والواقع أن هذا الثبت من الآثام والجرائم المروعة يلقي ضياء كبيراً على روح هذا العصر وخلاله - ويؤيد حقيقة تاريخية خالدة، هي أن عصور العظمة القومية، تتكشف في الغالب عن صنوف من الانحطاط المعنوي والاجتماعي تتناسب مع ما تبثه نعماء العصر وترفه من ألوان الفساد الروحي والأخلاقي، ومع ما يذكيه العصر من الشهوات الإنسانية الوضيعة.
وقد كان عصر لويس الرابع عشر بلا ريب على ما بلغه من العظمة والبهاء يعاني فعل هذه العناصر الهدامة التي انحدرت بالمجتمع الفرنسي غير بعيد إلى درك من التفكك والانحطاط، كان نذير الثورة الفرنسية الكبرى تم البحث محمد عبد الله عناق

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢