شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [4]


الحلقة مفرغة

حكم الوضوء

قال المؤلف رحمه الله: [لا يصح الوضوء ولا غيره من العبادات إلا أن ينويه].

الوضوء حكمه أنه شرط لصحة الصلاة, وأيضاً شرط لمس المصحف، يعني: لا يحل مس المصحف إلا بوضوء، كما أن الصلاة أيضاً لا تصح إلا بوضوء.

وسيأتينا إن شاء الله ما هي الأشياء التي تشترط لها الطهارة، أو تشرع لها الطهارة وما هي الأشياء التي لا تشترط أو تشرع لها الطهارة.

دليل شرطيته للصلاة: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، وهذا في الصحيحين.

النية في الوضوء

قال المؤلف رحمه الله: [لا يصح الوضوء ولا غيره من العبادات إلا أن ينويه؛ لحديث عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )].

فالوضوء عبادة لا بد لها من النية؛ لأن الإنسان قد يغسل أعضاءه الأربعة على وجه التنظف، أو على وجه التبرد، أو على وجه التعبد، فلا بد من النية التي تميز العبادة عن العادة.

البسملة في الوضوء

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يقول بسم الله].

البسملة المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنها واجبة للوضوء مع الذكر، وتسقط بالنسيان، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.

واستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ).

وهذا الحديث أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي وله شواهد كثيرة، وله طرق كثيرة؛ فمن شواهده حديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه, وحديث أبي سعيد الخدري وحديث عائشة وحديث أبي سبرة وأم سبرة وغيرهم.

واختلف أهل العلم رحمهم الله في ثبوت هذا الحديث، هل هو ثابت أو ليس ثابتاً؟

على رأيين لأهل العلم في ثبوته: فبعض أهل العلم لم يثبته؛ ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: لم يثبت في هذا الباب شيء.

وبعض العلماء أثبت هذا الحديث، وممن أثبته وقواه ابن حجر, وكذلك أيضاً المنذري، وحسنه ابن الصلاح وابن كثير ، وقال ابن أبي شيبة : ثبت.

فإن ثبت هذا الحديث فإنه لا يدل على الوجوب كما ذكر الحنابلة رحمهم الله, وإنما يدل على المشروعية والاستحباب؛ لأن أكثر الذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا التسمية كـعثمان وعبد الله بن زيد ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمرو .. إلخ, فالذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ما يقرب من اثنين وعشرين صحابياً.

هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد أن التسمية واجبة مع الذكر وتسقط بالنسيان، لو أن الإنسان نسي ولم يذكر التسمية حتى انتهى من وضوئه فإن وضوءه صحيح.

الرأي الثاني: رأي جمهور أهل العلم أن التسمية مستحبة وليست واجبة؛ ودليل ذلك ما تقدم من الجمع بين حديث أبي هريرة : ( لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ) وبين ما تقدم إيراده أن أكثر الذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا التسمية.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن التسمية أصلاً ليست مشروعة، بناء على أن هذا الحديث ليس ثابتاً.

غسل الكفين ثلاثاً

قال المؤلف رحمه الله: [ويغسل كفيه ثلاثاً].

يستحب للإنسان في بدء الوضوء أن يغسل يديه ثلاث مرات؛ ودليل ذلك حديث عثمان رضي الله تعالى عنه الثابت في الصحيحين، لما حكى صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فإنه غسل كفيه ثلاث مرات. إلا إذا كان الإنسان قائماً من نوم الليل الناقض للوضوء كما سبق لنا فإنه يجب عليه أن يغسل يديه ثلاث مرات؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده ).

المضمضة والاستنشاق

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يتمضمض ويستنشق يجمع بينهما بغرفة واحدة أو ثلاث].

المضمضمة: إدخال الماء في الفم، وسيأتينا إن شاء الله أن المضمضمة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: مضمضة واجبة. والقسم الثاني: مضمضة مستحبة.

كذلك أيضاً الاستنشاق يأتينا أنه ينقسم إلى قسمين: استنشاق واجب. واستنشاق مستحب.

فالمضمضمة: هي إدخال الماء في الفم، والاستنشاق هو جذب الماء إلى الأنف عن طريق النفس، وسيأتي إن شاء الله ما يجزئ من المضمضة والاستنشاق.

يقول المؤلف رحمه الله: (يجمع بينهما بغرفة واحدة) المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن المضمضة والاستنشاق كلاً منهما واجبة، واجبة في الطهارة الصغرى وفي الطهارة الكبرى، ويجب إذا توضأ أن يتمضمض وأن يستنشق، وإذا اغتسل أيضاً غسلاً عن حدث أكبر فإنه يجب عليه أن يتمضمض وأن يستنشق، كذلك أيضاً إذا اغتسل غسلاً مشروعاً لا يتم ذلك إلا بالمضمضمة والاستنشاق، فهم يرون أن المضمضة والاستنشاق كلاً منهما واجبة في الطهارة الصغرى وفي الطهارة الكبرى.

ودليلهم على ذلك قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] فقال الله عز وجل: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، ومما يدخل في غسل الوجه المضمضة والاستنشاق، إذ إن الفم من الوجه، والأنف من الوجه.

ويدل لذلك أن الإنسان إذا كان صائماً وأوصل الماء إلى فمه أو أنفه فإنه لا يفطر؛ ويدل لذلك أيضاً إلى ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله حديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر )، وهذا أمر, والأمر يفيد الوجوب.

وأيضاً ورد في سنن أبي داود من حديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا توضأت فمضمض )، ومما يدل أيضاً على ما ذهب إليه الحنابلة من وجوب المضمضة والاستنشاق أن الذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وكما سبق لنا ما يقرب من اثنين وعشرين صحابياً لم يذكروا أن النبي عليه الصلاة والسلام أخل بهما، فكون النبي عليه الصلاة والسلام داوم عليهما هذا مما يشهد للوجوب.

وعند الشافعي رحمه الله ومالك أن المضمضة والاستنشاق سنة في الوضوء, في الطهارة الكبرى وفي الطهارة الصغرى، وعند أبي حنيفة رحمه الله أن المضمضة والاستنشاق واجبتان في الطهارة الكبرى دون الطهارة الصغرى.

لكن ما ذكرناه من الأدلة يشهد لما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله, وأن المضمضة والاستنشاق كلاً منهما واجبة في الطهارة الكبرى وفي الطهارة الصغرى.

قال المؤلف رحمه الله: (يجمع بينهما بغرفة واحدة أو ثلاث).

هذا بيان للأفضلية، أن السنة إذا أردت أن تتوضأ تجمع بين المضمضة والاستنشاق لا تفصل بينهما؛ ولهذا قال ابن القيم رحمه الله إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فصل بين المضمضة والاستنشاق.

فحديث زيد بن ثابت الثابت في الصحيح يدل على أن السنة أن تجمع بين المضمضة والاستنشاق سواء كان ذلك في ثلاث غرفات أو في غرفة واحدة، المذهب أن تأخذ غرفة تمضمض ببعضها وتستنشق بالباقي، ثم تأخذ الغرفة الثانية، تمضمض ببعضها وتستنشق بالباقي، وهكذا الثالثة.

قال المؤلف: (بغرفة واحدة). تأخذ غرفة تتمضمض ببعضها وتستنشق، ثم تتمضمض وتستنشق، ثم تتمضمض وتستنشق، وهذا كله وارد من حديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه, فإن عبد الله بن زيد لما ذكر صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ( أن النبي عليه الصلاة والسلام تمضمض واستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات ), وهذا في الصحيحين, وفي صحيح البخاري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنشق ثلاثاً بغرفة واحدة )، ولو أن الإنسان فصل، تمضمض ثم أخذ الماء واستنشق هذا لا بأس، لكن السنة كما ذكر المؤلف رحمه الله: أن تتمضمض وتستنشق بثلاث غرفات، ولا يفصل بين المضمضة والاستنشاق، فليأخذ غرفة، ويتمضمض ببعضها ويستنشق بالباقي، وهكذا الثانية، وهكذا الثالثة.

أو يأخذ غرفة واحدة ويتمضمض بالبعض ويستنشق، ثم يتمضمض ويستنشق، ثم يتمضمض ويستنشق، كما في حديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه.

غسل الوجه

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يغسل وجهه ثلاثاً من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً].

هذا هو الركن الأول من أركان الوضوء: غسل الوجه، وغسل الوجه دل عليه القرآن والسنة والإجماع، القرآن كما تقدم في آية المائدة، والسنة أن الذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك، كما في حديث عثمان وعبد الله بن زيد وعلي وعبد الله بن عمرو ، والإجماع قائم على وجوب غسل الوجه.

وبين المؤلف رحمه الله حده فقال: (من منابت شعر الرأس طولاً).

قال العلماء رحمهم الله: من منابت شعر الرأس المعتاد، فلا عبرة بالأقرع، الأقرع الذي ينحسر شعر رأسه، ولا عبرة بالأجلح، الأجلح الذي يكون له شعر ينزل على الرأس ويكون في الجبهة، لا عبرة بالأقرع، ولا عبرة بالأجلح.

وحد بعض العلماء حداً أحسن من هذا قال: بدلاً من أن نقيد من منابت شعر الرأس نقول: بأن الوجه الذي يجب غسله هو ما تحصل به المواجهة، فإذا حصل انحناء الرأس فإنه لا يجب غسله، ما يتعلق بالانحناء هذا لا يجب غسله، لكن غسله هو ما تحصل به المواجهة, هذا من جهة الأعلى.

وأما من جهة الأسفل، فبينه المؤلف رحمه الله قال: (إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً).

أما بالنسبة لشعر اللحية فهذا سيأتي بيانه إن شاء الله.

قال المؤلف رحمه الله:[ومن الأذن إلى الأذن عرضاً].

لأن هذا كله يطلق عليه وجه في اللغة العربية وتحصل به المواجهة، ويدخل في الوجه كما سبق لنا: المضمضة والاستنشاق، فإن المضمضة والاستنشاق كلٌ منهما واجب، ومن غسل الوجه.

تخليل اللحية

قال المؤلف رحمه الله: [ويخلل لحيته إن كانت كثيفة، وإن كانت تصف البشرة لزمه غسلها].

بالنسبة لشعر اللحية ذكر المؤلف رحمه الله فيه تفصيلاً فقال: إن كان شعر اللحية كثيفاً فيجب أن يغسل ظاهرها فقط، أما بالنسبة لتخليل شعر اللحية فهذا سيأتينا إن شاء الله، وأن المؤلف رحمه الله يجعله من سنن الوضوء.

أما الواجب فإنه يجب عليه أن يغسل الظاهر إذا كانت اللحية كثيفة؛ لأن هذا مما تحصل به المواجهة، وأما إن كانت خفيفة ترى البشرة من ورائها فإنه يجب غسل هذه البشرة، ويجب غسل اللحية والبشرة التي ترى من ورائها؛ لعموم قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، وما دامت هذه البشرة ترى وظاهرة لكون اللحية خفيفة فهذه البشرة داخلة في قول الله عز وجل: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6].

غسل اليدين إلى المرفقين

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يغسل يديه الى المرفقين ثلاثاً ويدخلهما في الغسل].

يغسل يديه، هذا أيضاً الركن الثاني من أركان الوضوء، وغسل اليدين هذا دل عليه القرآن والسنة والإجماع:

أما القرآن: فقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، وأما السنة فالذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا أن النبي عليه الصلاة والسلام أخل بغسل اليدين، والإجماع قائم على ذلك.

وقول المؤلف رحمه الله: (ويدخلهما في الغسل) يعني: يدخل المرفقين في الغسل، هذا رد على قول الظاهرية، فإن الظاهرية يرون أن المرفقين لا يجب غسلهما أخذاً بظاهر القرآن في قول الله عز وجل: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، فقالوا: (إلى) هذه تفيد الغاية، وعلى هذا المرفق ليس داخلاً في الغسل؛ لأن الله عز وجل قال: إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6].

وأجاب العلماء عن ذلك قالوا: بأن (إلى) هنا بمعنى (مع) كقول الله عز وجل: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء:2] أي: مع أموالكم.

وأيضاً الجواب الثاني: أن السنة بينت أن المرفق يغسل؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ( فإن أبا هريرة توضأ وغسل يديه حتى أشرع في العضد، وغسل رجليه حتى أشرع في الساق، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ).

فقوله: (أشرع في العضد), هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل مرفقيه. وقوله في الحديث: ( أشرع في الساق), هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل كعبيه.

فنقول: بالنسبة للمرفقين داخلان في غسل اليد، يجب على الإنسان أن يغسل مرفقيه، وأما قوله: (إلى) فقلنا: أجبنا عن ذلك بجوابين.

مسح الرأس مع الأذنين

قال: [ثم يمسح رأسه مع الأذنين يبدأ بيديه من مقدمه ثم يمرهما إلى قفاه].

هذا الركن الثالث من أركان الوضوء، أن يمسح رأسه، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه يجب عليه يمسح جميع رأسه، وهذا هو الصواب, وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله ومذهب الإمام مالك أن الإنسان في الوضوء يجب عليه أن يمسح كل رأسه، ولا يجب عليه أن يستوعب كل شعرة بالمسح، بل يجب عليه أن يمر يديه على كل الرأس.

وهذا كما قلنا: مذهب الإمام أحمد رحمه الله ومذهب الإمام مالك، خلافاً لـأبي حنيفة والشافعي فإنهما قالا: يكتفى بالبعض، فعند الشافعية قالوا: لو مسح ثلاث شعرات يكفي ذلك، وعند الحنفية يقيدونه بالربع.

لكن الصواب في ذلك ما ذهب إليه الإمام أحمد ومالك ؛ لقول الله عز وجل: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، والباء هنا للإلصاق.

وأيضاً الذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا أن النبي عليه الصلاة والسلام اقتصر على مسح بعض الرأس, بل كان هدي النبي عليه الصلاة والسلام أنه يمسح كل رأسه.

قال: (مع الأذنين).

أيضاً الأذنان يجب مسحهما؛ ودليل ذلك القرآن، قول الله عز وجل: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، والأذنان من الرأس، والله عز وجل أمر بمسح الرأس، فإذا كان كذلك فيدخل في هذا الأمر الأمر بمسح الأذنين، فيجب مسح الأذنين.

وأيضاً: يدل لذلك حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الأذنان من الرأس )، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وغيرهم، وهذا الحديث إسناده إن شاء الله حسن.

كيفية مسح الرأس

قال المؤلف رحمه الله: [يبدأ بيديه من مقدمه ثم يمرهما إلى قفاه ثم يردهما إلى مقدمه].

هذه الكيفية سنة، كيفما مسح الإنسان رأسه أجزأ، سواء بهذه الكيفية التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى أو بغيرها، المهم أن يستوعب الرأس بالمسح.

لكن الذي دل عليه حديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدّم رأسه إلى قفاه ، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه )، كما ذكر المؤلف رحمه الله. فنقول: السنة للإنسان أن يبدأ بمقدم رأسه إلى فقاه، ثم يرده.

غسل القدمين مع الكعبين

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثاً ويدخلهما في الغسل].

يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثاً, هذا هو الركن الرابع من أركان الوضوء، هذا دل عليه القرآن والسنة والإجماع كما سلف.

قال المؤلف رحمه الله: (إلى الكعبين) (إلى) هنا كما سلف لنا أنها بمعنى (مع), ولا يفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن الكعبين ليسا داخلين في الوضوء، بل الكعبان داخلان في الوضوء.

وتقدم لنا حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم : ( أنه توضأ وغسل يديه حتى أشرع في العضد، وغسل رجليه حتى أشرع في الساق، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ).

وأما قول الله عز وجل: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، فنقول: بأن (إلى) بمعنى (مع) كما في قول الله عز وجل: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء:2] أي: مع أموالكم، أو نقول: بأن ظاهر القرآن دل على عدم دخول الكعبين, والسنة دلت على دخول الكعبين، كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.

تخليل الأصابع

قال المؤلف رحمه الله: [ويدخلهما في الغسل ويخلل أصابعهما].

تخليل الأصابع سنة، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن تخليل الأصابع سنة مطلقاً، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مداوماً على تخليل الأصابع.

وفي حديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع ), فالنبي عليه الصلاة والسلام أمر بتخليل الأصابع، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي والدارمي وهو ثابت.

فنقول: يستحب للإنسان أن يخلل أصابع اليدين وأصابع الرجلين، لكن لا يداوم على ذلك، بل يفعل ذلك في بعض الأحيان، كما ذكر ابن القيم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم على ذلك.

الذكر بعد الفراغ من الوضوء

قال المؤلف رحمه الله: [ثم يرفع نظره إلى السماء فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله].

رفع النظر إلى السماء واستقبال القبلة ورفع السبابة أثناء الوضوء هذه كلها لا أصل لها، يعني: كون الإنسان إذا انتهى من وضوئه، رفع بصره إلى السماء, واستقبل القبلة, ورفع سبابته هذه كلها لا أصل لها من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال المؤلف رحمه الله: (فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).

هذا ثابت من حديث عمر رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء ), فيستحب للمسلم إذا فرغ من وضوئه أن يقول هذا الذكر.

وكذلك أيضاً في الترمذي يقول: ( اللهم اجعلني من التوابين, واجعلني من المتطهرين )، يزيد أيضاً: ( اللهم اجعلني من التوابين, واجعلني من المتطهرين )، وورد أيضاً ذكر ثالث كما في حديث أبي سعيد : ( سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك ) في عمل اليوم والليلة للنسائي .

وهذا الذكر اختلف العلماء رحمهم الله هل هو مرفوع أو موقوف على أبي سعيد؟ على رأيين، والأظهر كما رجح ابن حجر وكما هو رأي النسائي والدارقطني أنه موقوف على أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، وإذا كان موقوفاً فإن هذا له حكم الرفع؛ لأن مثل هذا لا يقال بمجرد الاجتهاد.

وعلى هذا نقول: إذا انتهى من وضوئه يستحب له أن يذكر الله, فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله .. إلخ. ثم يقول: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

صفات الوضوء

قال المؤلف رحمه الله: [والواجب من ذلك النية، والغسل مرة مرة ما خلا الكفين].

الوضوء ورد له أربع صفات، يعني: الوضوء في السنة بالنسبة لكيفيته ورد له أربع صفات:

الصفة الأولى: أن يتوضأ مرة مرة، يعني: يتمضمض مرة ويستنشق مرة، ويغسل وجهه مرة ويديه .. إلخ. أن يتوضأ مرة مرة، هذه هي الصفة الأولى.

الصفة الثانية: أن يتوضأ مرتين مرتين، أن يتمضمض مرتين ويستنشق مرتين، ويغسل وجهه مرتين, ويديه مع المرفقين مرتين، ومسح الرأس دائماً يكون مرة واحدة، ويغسل رجليه مرتين.

والصفة الثالثة: أن يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً؛ فيتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه ثلاث مرات، ويغسل يديه أيضاً ثلاث مرات، ومسح الرأس يكون مرة واحدة، ويغسل رجليه ثلاث مرات.

والصفة الرابعة: أن يخالف، فيغسل وجهه مع المضمضة والاستنشاق ثلاثاً، ويغسل يديه مرتين، ويغسل الرجلين مرة واحدة.

فهذه أربع صفات للوضوء, وسبق أن أشرنا أن العبادات الواردة على وجوه متنوعة يشرع أن يؤتى بهذه تارة وبهذه تارة لكي يعمل الإنسان بالسنة الواردة عن نبينا صلى الله عليه وسلم كلها.

الترتيب بين أعضاء الوضوء

قال المؤلف رحمه الله: [ومسح الرأس كله وترتيب الوضوء على ما ذكرنا].

هذا الركن الخامس من أركان الوضوء، أن يرتب الإنسان هذه الأعضاء الأربعة كما رتبه الله عز وجل، فيبدأ بغسل الوجه، ثم باليدين، ثم بمسح الرأس ثم بغسل الرجلين، يرتبها هكذا: يبدأ بالوجه، ثم باليدين، ثم الرأس, ثم الرجلين.

ولا يجب الترتيب بين المضمضة والاستنشاق؛ فلو غسل وجهه ثم تمضمض واستنشق لا بأس، أو استنشق ثم غسل وجهه هذا لا بأس، لكن الأحسن الإنسان يطبق سنة النبي عليه الصلاة والسلام، يبدأ بالمضمضة ثم بالاستنشاق ثم يغسل وجهه، لكن لو قدم هذه الأشياء بعضها على بعض فإن هذا لا بأس به؛ لأن الوجه عضو واحد.

كذلك أيضاً بالنسبة لليدين هما عضو واحد، لو قدم اليسرى على اليمنى فإن هذا لا بأس به، ولهذا قال علي رضي الله تعالى عنه: لا أبالي بأي أعضاء الوضوء بدأت، يعني: يقصد الميامن والمياسر، فإذا بدأ باليسرى ثم باليمنى هذا لا بأس, لكن يبدأ باليمنى ثم باليسرى؛ ( لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعجبه التيمن في ثلاث: في ترجله, وفي طهوره, وفي شأنه كله )، لكن المقصود بالترتيب هنا أن يرتب هذه الأعضاء الأربعة كما رتبها الله عز وجل، ودليل ذلك القرآن، أن هذه الأعضاء الأربعة وردت مرتبة، والله عز وجل أدخل الممسوح بين المغسولات، فكون الممسوح يدخل بين المغسولات يدل على اشتراط الترتيب، وإلا كان الأولى أن تكون المغسولات ثم بعد ذلك يكون الممسوح، لكن كون الممسوح يدخل بين المغسولات هذا يدل على اعتبار الترتيب.

كذلك أيضاً لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخل بالترتيب، وهذا قول جمهور أهل العلم، أنه يجب الترتيب، وعند أبي حنيفة رحمه الله أن الترتيب في الوضوء ليس واجباً؛ واستدل بحديث المقداد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل كفيه، ثم وجهه ثلاثاً، ثم ذراعيه، ثم تمضمض واستنشق ).

وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما لكن هذا شاذ، وعلى هذا نقول: الصواب في هذه المسألة: أن الإنسان يجب عليه أن يرتب كما ورد في القرآن, وكما رتب النبي صلى الله عليه وسلم.

الموالاة في الوضوء

قال المؤلف رحمه الله: [ولا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله].

هذا الركن السادس من أركان الوضوء وهو الموالاة، بأن لا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله، يوالي بين الأعضاء، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

ويدل لذلك حديث خالد بن معدان رضي الله تعالى عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم، لم يصبها الماء، فأمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يعيد الوضوء والصلاة ).

وهذا الحديث أخرجه الترمذي وغيره, وأيضاً ورد من حديث عمر رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم, فكون النبي عليه الصلاة والسلام يأمره أن يعيد الوضوء هذا دليل على اعتبار الموالاة.

والرأي الثاني: رأي الإمام مالك رحمه الله واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الموالاة واجبة، لكنها تسقط عند العذر، فإذا حصل عذر للإنسان فإن الموالاة لا تجب، فلو أن الإنسان يتوضأ وانقطع عليه الماء احتاج إلى ماء، وتأخر في غسل بعض الأعضاء, أو أنه احتاج إلى أن يزيل الذي يمنع وصول الماء إلى البشرة، وحصل فاصل بين العضوين أو مثلاً الإنسان حصل له ما يشغله، احتاج أن يسعف شخصاً .. إلخ فمادام وجدت هذه الأعذار، فإنها تسقط الموالاة.

واستدل على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأدلة؛ من ذلك قال الله عز وجل في كفارة الظهار: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ -أي: عتق رقبة- فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [المجادلة:4]، فالله عز وجل أوجب في صيام الكفارة أن يصوم الإنسان شهرين متتابعين، وإذا حصل عذر شرعي للإنسان، وأخل بهذا التتابع، فإنه لا يبطل صيامه، فلو أن الإنسان حصل له عذر من مرض وأفطر فإن هذا الإفطار لا ينكر عليه, بل إذا شفي من مرضه فإنه يكمل ويقضي ما أفطره متتابعاً.

كذلك أيضاً في كفارة القتل: يجب على الإنسان أن يصوم شهرين متتابعين، لو أن المرأة حاضت فإنها تفطر وتقضي, وهذا الإفطار لا يخل بالتتابع.

ذكر أيضاً ما يتعلق بقراءة الفاتحة؛ لو أن الإنسان قطع القراءة لاستماع القراءة، المأموم يجب عليه أن يقرأ الفاتحة، ثم بعد ذلك قطع قراءة الفاتحة لكونه يستمع إلى إمامه أو غير ذلك من الأعذار فإنه لا تبطل قراءته ولا يخل هذا بالتتابع, هذا الرأي الثاني.

الرأي الثالث: أن الموالاة ليست واجبة، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى؛ واستدلوا بالأثر الوارد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه أنه توضأ ثم دخل المسجد، فدعي بجنازة فمسح على خفيه.

ويجاب عن هذا بأنه محمول على الفاصل، أن ابن عمر توضأ ثم دخل المسجد ثم بعد ذلك مسح على خفيه، وكونه مسح على الخفين في المسجد لا يلزم من ذلك أن يكون الفاصل كثيراً.

والأقرب في ذلك: ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله, وأن الموالاة واجبة، إلا إذا حصل عذر يقطع هذه الموالاة، فإن هذا العذر لا يبطل التوالي، فلا نقول للإنسان: إن وضوءه قد بطل لإخلائه بهذه الموالاة بغير عذر.

وعندنا قاعدة سواء في ذلك الوضوء أو غير ذلك من العبادات: كل عبادة مركبة من أجزاء فإنها لا بد فيها من أمرين:

الأمر الأول: الترتيب. والأمر الثاني: التوالي إلا لعذر بالنسبة للتوالي, وإلا لم تكن على وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

التسمية في الوضوء

قال المؤلف رحمه الله: [والمسنون التسمية].

تقدم أن التسمية على المشهور من المذهب واجبة مع الذكر وتسقط بالنسيان، وهنا المؤلف رحمه الله وافق جمهور أهل العلم وأن التسمية ليست واجبة وإنما هي سنة.

وغسل الكفين أيضاً من سنن الوضوء, كون الإنسان يغسلهما ثلاث مرات؛ كما تقدم من حديث عثمان رضي الله تعالى عنه.

المبالغة في المضمضة والاستنشاق

قال المؤلف رحمه الله: [والمبالغة في المضمضة والاستنشاق].

المضمضة كما أسلفنا لها كيفيتان، والاستنشاق له كيفيتان، أما الكيفية الواجبة للمضمضة أن يوصل الماء إلى داخل الفم، إذا أوصل الماء إلى داخل الفم فقد أتى بالواجب، وأضاف بعض العلماء رحمهم الله قال: أن يحركه أدنى تحريك.

الكيفية الثانية، الكيفية المستحبة: أن يدير الماء في جميع الفم.

فالكيفية الواجبة: أن يوصل الماء إلى داخل الفم, والكيفية المستحبة: أن يديره في جميع الفم.

أيضاً الاستنشاق له كيفيتان: كيفية واجبة, وكيفية مستحبة.

الكيفية الواجبة: أن يوصل الماء داخل الأنف.

والكيفية المستحبة: أن يجذب الماء إلى أقصى الأنف.

وقد ذكر العلماء رحمهم الله أنه إذا أوصل الماء بأي طريق، سواء كان بجذب النفس أو بغيره من الطرق فإن ذلك كاف, المهم أن يصل الماء إلى داخل الأنف.

والمستحب: أن تجذبه إلى أقصى الأنف؛ إلا أن يكون صائماً؛ لحديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، وهذا في الصحيحين.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [22] 2512 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [1] 2460 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [12] 2420 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [2] 2393 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [14] 2348 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [2] 2347 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب النكاح [1] 2309 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [23] 2302 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [6] 2297 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [9] 2269 استماع