عرض كتاب الإتقان (16) - النوع التاسع معرفة سبب النزول [7]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

بقي عندنا في أسباب النزول القضايا الأخيرة فيما طرحه السيوطي وهي المسألة الخامسة، أخذنا التنبيه في الدرس الماضي، والآن نأخذ المسائل التي ذكرها في المسألة الخامسة.

الترجيح بالنظر إلى العبارة الواقعة في سبب النزول

أول قضية طرحها السيوطي في هذه المسألة أنه قال: [كثيراً ما يذكر المفسرون لنزول الآية أسباباً متعددة، وطريق الاعتماد في ذلك: أن ينظر إلى العبارة الواقعة، فإن عبر أحدهم بقوله: نزلت في كذا، والآخر: نزلت في كذا وذكر أمراً آخر؛ فقد تقدم أن هذا يراد به التفسير لا ذكر سبب النزول، فلا منافاة بين قولهما إذا كان اللفظ يتناولهما كما سيأتي تحقيقه في النوع الثامن والسبعين] والنوع الثامن والسبعون المراد به: شروط المفسر وآدابه.

قال: [ وإن عبر واحد بقوله: نزلت في كذا، وصرح الآخر بذكر سبب خلافه فهو المعتمد وذاك استنباط]، واستدل على ذلك بما ورد عن ابن عمر في قوله سبحانه وتعالى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة:223] قال: أنزلت: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة:223] في إتيان النساء في أدبارهن، قال: [وتقدم عن جابر التصريح بذكر سبب خلافه، فالمعتمد حديث جابر لأنه نقل، وقول ابن عمر استنباط منه، وقد وهم فيه ابن عباس وذكر مثل حديث جابر ، كما أخرجه أبو داود و الحاكم ].

هذه هي المسألة الأولى عندنا، يعني: أول قضية ننظر إليها هي قوله: أن ينظر في العبارة الواقعة. وهناك سؤال سبق الإشارة إليه: هل العبارة أصل أو قرينة قوية في إرادة سبب النزول؟

الجواب: ليست مجرد قرينة، وإنما هي قرينة أولية. إذاً: العبارات الواردة من مثل عبارة: (كان كذا فنزل) كما سبق أو (فأنزل الله) تحمل قرينة قوية في إرادة السببية، أما عبارة: (نزلت في كذا) فهي قرينة قوية في إرادة التفسير، لكن لا يمنع أن ترد هذه في هذا المعنى وتلك في المعنى الآخر، لكن المقصد أن نعلق على قوله: (وطريق الاعتماد في ذلك: أن ينظر إلى العبارة الواقعة) فقط فنقول: إن العبارة قرينة قوية وليست حتمية في سبب النزول.

وعند الاختلاف في سبب نزول الآية فإننا هنا ننظر إلى مسألة الاحتمال، يعني: هل الآية تحتمل المعنيين؟ فإن احتملتهما صارت كاحتمال أهل التفسير، وصار من باب اختلاف التنوع، ويكون ذكر هذه الأقوال من باب التفسير؛ لأن عبارة (نزلت في كذا) يغلب عليها أنها في باب التفسير، فلو ذكر سبب نزول فإنه يحكم عليه أنه من باب التفسير، وأن الاختلاف فيه من باب اختلاف التنوع.

والإشكال الذي يقع فيما لو اختلفت العبارة، فبعضهم قال: نزلت في كذا، وآخر قال: كان كذا فنزل أو فأنزل الله، فيكون عندنا اختلاف في عبارتين، فنقول: نفس القضية أن التعبير بـ(فأنزل الله) أو (فنزلت) قرينة قوية في إرادة النزول.

وعندنا أيضاً من القرائن: النظر في نفس الرواية، فلو لاحظنا عبارة ابن عمر في قوله: قال: (أتدري فيما نزلت كذا؟ قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن)، فهذه العبارة منه عبارة محتملة أن يكون فهم هو هكذا؛ ولهذا قال السيوطي : (وقول ابن عمر استنباط منه). أي أنه احتمال أن يكون من باب الاستنباط، أما جابر و ابن عباس وإن اختلفا في تفاصيل السبب إلا أنهما اتفقا على أن المراد هو إتيان النساء في القبل من الدبر.

فإذاً: ليس كما ذهب إليه عبد الله بن عمر . وهذا الفرق بين قول ابن عمر وكلام جابر و ابن عباس صريح في السببية.

فإذاً: المقصد المعتمد في مثل هذا هو كلام جابر و ابن عباس ، لكن قد يرد في بعض الأمثلة ما يخالف ذلك، فنقول: إن هذا من باب القرائن القوية الدالة على أن هذا هو سبب النزول.

فإذاً: حكاية السبب أو صيغة السبب أو صيغة الحدث أيضاً تدلنا على السببية.

الترجيح بين ما كان أحد الإسنادين صحيح والآخر ضعيف

أما القضية الثانية التي ذكرها وهي قوله: [وإن ذكر واحد سبباً وآخر سبباً غيره؛ فإن كان إسناد أحدهما صحيحاً دون الآخر فالصحيح المعتمد] وهذه قاعدة ليس فيها خلاف، لكن قد تأتي قضية أخرى وهي: أن يكون السبب الآخر وإن كان ضعيفاً إلا أن الآية تحتمله، فهل يصح التفسير به وإلا ما يصح؟ لا شك أننا نفسر بالمعنى الصحيح أولاً، لكن هل يجوز لنا أن نفسر بالمعنى الآخر أم لا يجوز؟

الأصل أنه يجوز؛ لأن باب التفسير واسع أوسع من باب النزول، ولا نقول: هذا هو سبب النزول، لكن نقول: المعنى الذي تضمنه ما حكي في سبب النزول وإن كان فيه ضعف إلا أنه معنىً محتمل؛ لأننا في التفسير ننظر إلى احتمال المعاني، فهذا الذي ذكره صحيح، لكن أيضاً فقد ينبه على مثل هذه المسألة. وذكروا أمثلة في ذلك.

الترجيح فيما إذا استوى الإسنادان في الصحة

الحال الرابع قال: [أن يستوي الإسنادان في الصحة، فيرجح أحدهما بكون راويه حاضر القصة أو نحو ذلك من وجوه الترجيحات]. إذا استويا في الصحة كما يذكر هذا في الغالب في قضية ستأتي بعد قليل ويذكرها وأنه لا يلزم أن يكون كلا القولين صحيح في السببية، فقد يكون هناك إشكال معين في أحد القولين يؤخذ من حال الرواية نفسها.

فعلى سبيل المثال في قوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء:85]، قال: [أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم: لو سألتموه، فقالوا: حدثنا عن الروح...)] إلى آخر الأثر هذا.

[وأخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: (قالت قريش لليهود: أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح...)]، فلو أردنا أن نطبق قاعدة السيوطي فإن ما رواه البخاري أصح، والإشكالية في السورة أنها مكية، والآية هذه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء:85] لأن الحدث الذي ذكره ابن مسعود إنما كان في المدينة، قال: فمر بنفر من اليهود. ولا مانع أن توجد آية مدنية في سورة مكية، لكن في مثل هذا الحال نحتاج إلى نظر وتحرير، فما دام ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوحي إليه.. لأن ابن مسعود قال: (فقام ساعة ورفع رأسه فعرفت أنه يوحى إليه، حتى صعد الوحي، ثم قال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]) إلى آخره. فهذا يكتب من أحوال الوحي عند الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أنه رفع رأسه، فهو كان قائماً، قال: (وهو يتوكأ على عسيب)، مع أنه قائم ومتوكئ على عسيب رفع رأسه يتلقى الوحي، ثم لما ذهب الوحي عنه، قال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].

الترجيح بين ما كان فيه أكثر من سبب وتنزل الآية عقيبها

الحال الخامس قال: [أن يمكن نزولهما عقيب السببين والأسباب المذكورة بأن لا تكون معلومة التباعد] إلى آخر ما ذكره.

وهذا ذكر مثاله في قوله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [النور:6]، وهذا لو حررناه لا يصلح لأن يكون مثالاً؛ لأن أحد القصتين أو أحد التسميات فيها خطأ، وإن كانت كلا الروايتين وردت في الصحيح، لكن في إحدى التسميات غلط.

فإذاً: نحتاج هنا أولاً إلى تحرير هذا، فلا يصلح هذا المثال، لكن لو أخذنا مثالاً فيما ذكر في سبب نزول سورة الأنفال على خلاف في ذلك أيضاً؛ لأنه ورد في سبب نزولها ثلاثة أقوال، وأحد الأقوال: لا يلزم أن يكون سبباً في النزول، الذي هو حديث سعد بن أبي وقاص لما قال.. ( إنه غنم سيفاً فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فطلبه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ضعه في السلف. قال: فأنزل الله ثم ذكر آية الأنفال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ [الأنفال:1] فرده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ). وهذا عند مسلم .

فهذا لا يدل على أن فعل سعد هو سبب النزول، لكن الذي يدل عليه حديث: أنهم انقسموا إلى ثلاث فرق فتشاجروا في الأنفال، والحديث الآخر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل قتيلاً فله سلبه)، فلما جاءوا تنازعوا في ذلك، فأنزل الله سبحانه وتعالى آية: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ [الأنفال:1].

وقليل جداً هذا النوع الذي يكون فيه أكثر من سبب وتنزل الآية عقبه، كذلك يمكن أن يحمل حديث جابر و ابن عباس الذي سبق قبل قليل على هذا؛ لأن جابراً حكى أن اليهود كانوا يقولون: إذا جاء المرأة من دبرها فإن الولد يأتي أحول. وابن عباس ذكر سبباً آخر، فهذا أيضاً من الاحتمالات أن تكون نزلت عقب هذين السببين، وأن يكون هذا مما تحدث به في المدينة، فحدث هذا الحدث الذي هو عمل اليهود ومتابعتهم على العمل، وحدث الحدث الآخر الذي تزوج فيه المكي من أنصارية، فيكون هذا وقع وهذا وقع، فنزلت الآية عقب هذه الأسباب، لكنه قليل، أن تنزل آية لسببين.

الحمل على تعدد أسباب النزول وتكررها

[الحال السادس: أن لا يمكن ذلك فيحمل على تعدد النزول وتكرره]، وهذا فيه نظر؛ لأن تكرر النزول فيه نظر، والسبب أصلاً في تكرر النزول هو اختلاف النقل، فيضطر المفسر إلى الجمع بين النقلين بذكر هذه القضية، وهي تكرر النزول.

فإذاً: هو مجرد تخريج عقلي لقضايا نقلية وردت في الآثار.

والمثال الذي عندنا: ذكر ما أخرجه الشيخان أنه لما حضر أبا طالب الوفاة.. إلى آخر ما ذكره في قوله: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنه، فنزلت: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة:113])، فهذه الآية في سورة التوبة، والتوبة مدنية، ولا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جلس كل هذه الفترة يستغفر لـأبي طالب ؛ ولهذا فيه إشكال ولو كان في الصحيح ففيه إشكال من هذه الجهة: هل هذا هو سبب نزول هذه الآية أو أنه قد نهي عن هذه قبل وهذه تأتي من باب التأكيد؟

ثم ذكر الحديث الآخر عن علي ورواه الترمذي قال: (سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان...) إلى آخر الحديث. فهذا يكون فيه نوع من التعارض، وتكرار النزول لم يرد إلا في ست روايات ذكر فيها احتمال تكرار النزول، وكلها يمكن تخريجها، والأصل عدم التكرار؛ لأن القضية أصلاً واضحة، فلو لاحظنا عقلياً للأثر الأول والأثر الثاني فالموضوع فيهم واحد، فالإجابة عن الأول إجابة عن الثاني في النهاية، ولا تحتاج إلى تكرار نزول مرة أخرى، وهذه مما يدل على ضعف مثل هذه التخريجات المتعلقة بتكرار النزول.

والتنبيه الذي ذكره هنا هو تنبيه مهم جداً، وهو مرتبط بالألفاظ التي في الآثار، وهذه في الحقيقة تحتاج إلى بحث مستقل، ألفاظ النزول التي في الآثار.

يقول: [قد يكون في إحدى القصتين فتلا فيهم الراوي فيقول: فنزل. مثاله: ما أخرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: (مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تقول يا أبا القاسم! إذا وضع الله السموات على ذه والأرضين على ذه والماء على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه؟ فأنزل الله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67] الآية)، قال: والحديث في الصحيح: (فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال: وهو الصواب؛ فإن الآية مكية].

وهنا عندنا تصرف في الرواية؛ لأنه في الصحيح: (فتلا)، وعند الترمذي : (فنزلت)، فهذا التصرف في الرواية محتمل أن يكون تصرف من الراوي إما ابن عباس أو من بعده، بغض النظر عن هذا التصرف، لكن المقصد الذي أريد أن ننتبه إليه أن هذا احتمال، وعندنا قضية أيضاً أهم من هذا وهي أن نثبت أنه لو ثبتت فنزلت فإنها لا تدل على السببية؛ ولهذا من نظر في أسباب النزول في هذه العبارة بالذات سيجد أن الصحابة أحياناً يقولون عبارة النزول وإن كانت قليلة لكنها موجودة ولا يريدون بها سبب النزول، وإنما يريدون بها المعنى، فإذا فهم من خلال السياق هذا فليس هناك أي غضاضة في أن نقول: مراد ابن عباس هنا في قوله: (فنزلت) أن المراد به التفسير وليس المراد به سبب النزول.

وهذا مبحث مهم عند جمع الروايات التي يعبر عنها بالنزول ويراد بها التفسير، وهذا من باب التوسع عند السلف في إطلاق العبارة، وليس هذا أول توسع، وقد سبق في قضية النسخ فعندهم توسع أيضاً في عبارة النسخ على غير ما عند المتأخرين.

ذكر سبب واحد في نزول آيات متفرقة

يقول: [ عكس ما تقدم: أن يذكر سبب واحد في نزول آيات متفرقة، ولا إشكال في ذلك، فقد ينزل في الواقعة الواحدة آيات عديدة]، ثم ذكر: [عن أم سلمة قلت: يا رسول الله! لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ [آل عمران:195] إلى آخر الآية. وكذلك أنها قالت: ( قلت: يا رسول الله! تذكر الرجال ولا تذكر النساء، فأنزلت: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ [الأحزاب:35] وأنزلت: إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ [التوبة:120])]، وهذا في الحقيقة ليست من أسباب النزول، وقليل جداً أيضاً بل نادر أن يوجد هذا الذي ذكره السيوطي وهو آيات متعددة نزلت في شأن واحد؛ لأنه إذا نزلت أول مرة لشيء واحد فقد انتهى، هذا هو سبب النزول، وما يأتي بعدها فيما يتعلق بالموضوع فإنه يدخل في باب الزيادة للتأكيد فقط، ولا يدخل في أنه سبب نزول.

إذاً: هذا المبحث فيه نظر في أن يكون يوجد لسبب واحد عدة آيات نزلت متعددة.

آخر ما ذكر في التنبيه قال: [تأمل ما ذكرته لك في هذه المسألة] يعني: المسألة الخامسة. [واشدد به يديك، فإني حررته واستخرجته بفكري من استقراء صنيع الأئمة ومتفرقات كلامهم ولم أسبق إليه] وهذا يعتبر من مبتكرات السيوطي في أسباب النزول فقد نص على أنه لم يأخذه من كتاب، وإنما حرره بنفسه، وكما لاحظنا بعضه يوافق عليه وبعضه فيه نظر، فالمجال في الأخذ والعطاء فيه واسع.

وبهذا يكون قد ختمنا موضوع أسباب النزول.

سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.