شرح متن الرحبية [6]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

قال المؤلف رحمه الله: (باب الفروض المقدرة في كتاب الله)، عقد هذا الباب للفروض التي قدرها الله؛ أي: سماها في كتابه وحددها، وهي ستة كما سبق من يذكرنا بها؟ النصف ونصفه ونصف نصفه، نعم، ثلثان ونصفهما ونصف نصفهما، نعم؛ فلذلك قال:

(واعلم بأن الإرث نوعان هما فرض وتعصيب على ما قسما)

أي: اعلم أن الإرث ينقسم إلى قسمين: إلى إرث بالفرض، وإرث بالتعصيب، فالإرث بالفرض هو الذي يرث به الإنسان نصيباً مقدراً في كتاب الله، وأصحاب الفروض حدد الله لهم أنصباءهم في كتابه، فهؤلاء الذين يرثون نصيباً مقدراً في كتاب الله هم الوارثون بالفرض.

والنوع الثاني: تعصيب، وتعصيب مشتق من العصبة، والعصبة معناه: الذين يحتمون للإنسان وينصرونه من ذويه، والمقصود بالإرث بالتعصيب: إرث العاصب، وهو من يرث المال كله إذا انفرد، وما أسأرت الفروض إن كانت، وما أسأرت الفروض، معناه: ما تركت الفروض إن كانت، معناه: إن كانت فروض، والسؤر والسأر والسائر معناه: البقية.

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه وسائره باد إلى الشمس أكتع

سائره معناه: بقيته، يسمى السائر، ويسمى السؤر: البقية، ما أسأرت الفروض هو الذي يرثه العاصب، فليس له نصيب محدد في كتاب الله، ولكنه يرث المال كله إذا انفرد، مثل الابن والأخ فإنه يرث المال كله إذا انفرد، وكذلك يرث ما أسأرت الفروض؛ أي: ما أبقت، إن كان في المسألة فروض، (على ما قسما)؛ أي: على ما قسم الإرث، معناه: على أية هيئة قسم الإرث لا يخلو من إرث بفرض أو بتعصيب، فلا إرث إلا بالفرض أو بالتعصيب، ويمكن أن تقول: على ذا قسم؛ أي: قسم الإرث على (ذا)؛ أي: على هذين القسمين، واسم الإشارة المفرد وهو (ذا) قد يشار به للجملة، مثل قول الله تعالى: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة:68]، (بين ذلك)؛ أي: بين ذينك المذكورين، فأشير بالمفرد للمثنى، ومثل ذلك قول الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67]، (كان بين ذلك)؛ أي: بين ذينك، فاسم الإشارة المفرد قد يشار به لأكثر من مفرد، إذا كان يجمعه شيء فكان جملةً واحدةً كما هنا،؛(على ذا قسما).

(فالفرض في نص الكتاب سته لا فرض في الإرث سواها البته)

الفرض في نص الكتاب؛ أي: فيما حدده الله في القرآن، والنص في اللغة: الرفع، كقول امرئ القيس:

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش إذا هي نصته ولا بمعطل

مفهوم النص لغة واصطلاحا

(إذا هي نصته)، معناه: رفعته، ولا بمعطل.

ويطلق على الإسراع في السير، كما في الحديث الصحيح ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وجد فرجةً نص )، نص؛ أي: أسرع، والنصيص: ضرب من السير معروف، ويطلق النص على التصريح، فواضح الدلالة الذي لا يحتمل إلا معنىً واحداً هو الذي يسمى نصاً عند المتكلمين من الأصوليين، فالأصوليون يقسمون اللفظ من ناحية المعنى إلى قسمين: إلى واضح الدلالة، وخفي الدلالة، فالمتكلمون يقسمون كل واحد منهما إلى قسمين: يقسمون واضح الدلالة إلى: نص، وظاهر، فالنص: هو ما أفاد معنًى لا يحتمل غيره.

والظاهر: هو ما أفاد معنىً يحتمل غيره مرجوحاً.

وخفي الدلالة يقسمونه إلى قسمين: إلى مجمل، ومتشابه.

والحنفية يقسمون واضح الدلالة إلى أربعة أقسام، وهي: المفسر، والمبين، والنص، والظاهر، ويقسمون خفي الدلالة إلى أربعة أقسام، وهي: المجمل، والمشكل، والخفي، والمتشابه.

وهذه التفصيلات معروفة في الأصول، لكن تفهمون بها أن أمور التركة جاءت نصاً في القرآن عند الجميع، فهي جاءت بلفظ لا يحتمل معنىً آخر، وذلك أن الأعداد نص، فعند الأصوليين أن العدد نص في مدلوله، فإذا قيل: ثلاثة أو أربعة فهذا نص في مدلوله، إلا إذا خرج مخرج التكثير، إذا كان العدد يدل على التكثير، كما إذا قلت: لقد اتصلت عليك مائة مرة، وقصدت بذلك التكثير، ولم تقصد أنك أحصيت الاتصالات الهاتفية إلى أن وصلت إلى مائة، وعليهما جاء تفسير قول الله تعالى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80]، فقيل: العدد هنا نص على مدلوله، فلو زاد على ذلك لقبل، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( لو علمت أني إن زدت غفر لهم لزدت )، وقيل: المعنى التكثير، معناه: إن تستغفر لهم استغفاراً كثيراً فلن يغفر الله لهم، فيكون لفظ (سبعين) غير نص ولكنه للتكثير، جرى مجرى التكثير.

(فالفرض في نص الكتاب سته لا فرض في الإرث سواها البته)

فليس في القرآن فرض مقدر لوارث إلا ستة، وهي التي بينها فقال: لا فرض في الإرث سواها في كتاب الله، وسيأتينا أن للفرضيين فرض آخر وهو: ثلث الباقي، وسنذكره إن شاء الله تعالى، فثلث الباقي في عدد من المسائل يكون فرضاً مقدراً، ولكنه ليس نصاً في كتاب الله، والبتة: معناه قطعاً، فهي مصدر منصوب، ولو كان معرفاً بـ (أل) فإن ذلك لا يمنعه من مصدريته، وأن يكون منصوبا على المفعولية المطلقة، فالمعنى: لا فرض سواها قطعاً، لا فرض سواها بتاً، فقيل: البتة، وهذا اللفظ مستعمل في لغة العرب كثيراً، وقد جاء في القرآن في الآية التي نسخ لفظها وبقي معناها، وهي في سورة الأحزاب في قول الله تعالى: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله)، البتة معناه: إلى الموت.

(نصف وربع ثم نصف الربع والثلث والسدس بنص الشرع)

(والثلثان وهما التمام).

فإذاً هذه الستة: النصف، والربع، والثمن، والثلث، والسدس، والثلثان، فقال: ( نصف وربع ثم نصف الربع ) الذي هو الثمن، ( والثلث والسدس بنص الشرع )؛ أي: كلها بنص شرعي؛ أي: بالقرآن المحكم المنزل، ( والثلثان وهما التمام )؛ أي: تمام الفروض الستة، ( فاحفظ فكل حافظ إمام )، فاحفظ هذه الفروض، فكل حافظ للعلم إمام؛ أي: مقتدىً به؛ لأن الحفظ وسيلة من الوسائل المعينة على بقاء العلم في الأذهان؛ ولهذا قال الشافعي رحمه الله:

علمي معي حيث ما يممت يتبعني قلبي وعاء له لا جوف صندوق

إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق

ومثل ذلك قول أبي محمد علي بن حزم رحمه الله:

فإن يحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري

يسير معي حيث استقلت ركائبي ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري

وقد قال الحكماء:

ليس بعلم ما حوى القِمَطر ما العلم إلا ما حواه الصدر

القمطر: وعاء الكتب، ودليل هذا حديث أبي هريرة في الصحيح أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إني أسمع منك حديثاً كثيراً فلا أحفظه، فأمره أن يبسط رداءه، فحثا له فيه ثلاث حثيات، فضمه إليه فما نسي شيئاً بعد ).

فكل حافظ إمام، والإمام في اللغة: المقتدى به من رئيس ونحوه، ويطلق على الخيط الذي يوضع على البناء فيسوى عليه ساقه، ومن ذلك قول الشاعر:

وربيته حتى إذا تم واستوى كمخة ساق أو كمتن إمام

قرنت بحقويه ثلاثاً فلم يزغ عن القصد حتى بصرت بدمام

ويطلق على الطريق المستقيم، ومنه قول الله تعالى: وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ [الحجر:79]؛ أي: بطريق، ويطلق على المقتدى به في الدين، سواء كان الدين مستقيماً أو غير مستقيم، فمن إطلاقه على الدين المستقيم قول الله تعالى: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].

ومن إطلاقه على الإمامة في الدين غير المستقيم: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ [القصص:41]، (أئمةً يدعون إلى النار) فالأئمة المقتدى بهم في الدين إما أن يكون دينهم مستقيماً، وإما أن يكون معوجاً، فإن كان معوجاً؛ أي: مائلاً عن دين الله فهم أئمة في الضلال، وإن كان مستقيماً فهم أئمة هدىً، فكل حافظ إمام.

الوارثون للنصف

ثم ذكر الوارثين للنصف، وهذه بالإمكان أن تأخذوها باختصار، فهذه الفروض الستة لكل واحد منها عدد من الوارثين إلا واحداً مثلاً، فالنصف يرثه خمسة، والربع يرثه اثنان، والثمن يرثه واحد... لأننا سنذكر الأخت لأم أيضاً فيكون الوارثون للسدس ثمانيةً بدل سبعة، فالنصف يرثه خمسة وهم: الزوج إذا لم يكن للميتة فرع وارث، والبنت بنت الصلب إذا لم يكن لها أخ، وبنت الابن إذا لم يكن لها أخ ولم يكن للميتة بنت، والأخت الشقيقة إذا لم يكن للميت فرع، وانفردت أيضاً، والأخت لأب إذا لم يكن للميت فرع ولا أخت شقيقة، فإذاً هذه خمسة: هاء مقابلها خمسة، باء اثنان، ألف واحد، دال أربعة، باء خمسة، حاء ثمانية، فالنصف يرثه خمسة، وهم: الزوج، والبنت؛ أي بنت الصلب، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت لأب.

الوارثون للربع

الربع يرثه اثنان: الزوج عند وجود الفرع الوارث، والزوجة عند عدم وجود الفرع الوارث، سبق أن بينا لكم أن أسباب الإرث الثلاثة واحد منها يورث به بالفرض فقط لا بالتعصيب، وواحد يورث به بالتعصيب فقط لا بالفرض، وواحد يجمع بين الفرض والتعصيب، فالنسب يورث به بالفرض والتعصيب مثل ما رأيتم في النصف، هنا نحن نتكلم عن الفروض فقط، لكن رأيتم أن النصف يرثه البنت وبنت الابن، والأخت الشقيقة والأخت لأب، هذا أربعة بالنسب وواحد الزوج بالنكاح، والربع يرثه اثنان فقط: الزوج عند وجود الفرع الوارث، والزوجة عند عدم وجود الفرع الوارث، الزوج عند وجود الفرع الوارث للزوجة المتوفاة، والزوجة عند عدم وجود الفرع الوارث للزوج المتوفى، والزوجة سواء انفردت أو تعددت فنصيبها هو هو.

الثمن والثلثان والثلث

الثمن يرثه صنف واحد، وهو: الزوجة عند وجود الفرع الوارث، والثلثان يرثهما أربعة أصناف، وهم: ورثة النصف ما عدا الزوج عند التعدد، الزوج لا يقبل التعدد أصلاً، فإذاً لا يمكن أن يرث أكثر من نصف، لكن البنت يمكن أن تتعدد بنت الصلب، فإذا كانتا اثنتين أو أكثر فلهما نصف ما ترك، وبنت الابن إذا تعددت فكن بنتين أو ثلاث بنات أو أربع بنات أو عشر بنات فلهن الثلثان، والأخت الشقيقة إذا تعددت فكن أختين أو عشر أخوات شقائق فلهن الثلثان، والأخت لأب إذا تعددت فكن أختين أو عشر أخوات لأب فلهن الثلثان، إذاً ورثة النصف ما عدا الزوج عند التعدد؛ أي: البنات: (البنات، بنات الابن، الأخوات الشقائق، الأخوات لأب) هؤلاء الذين يرثون الثلثين، الثلث يرثه صنفان، وهما: الأم عند عدم وجود العدد من الإخوة، والعدد من أولاد الأم، العدد من الإخوة لأم إذا كان الميت يرثه أخ وأخت لأم، أو أخوان لأم، أو أختان لأم، أو خمس أخوات لأم، أو أربع أخوات لأم، أو أخوان وأختان لأم، فالجميع يشتركون في الثلث، كما قال الله تعالى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [النساء:12]، إذاً الثلث يرثه صنفان الأم؛ لأنه قال: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء:11]، عند عدم وجود الإخوة.

الوارثون للسدس

والسدس أهله ثمانية: الأب عند وجود الفرع الوارث، والأم كذلك، وعند العدد من الإخوة أيضاً، الأب، والأم، والجد، والجدة، وبنت الابن، والأخت لأب، بنت الابن معناه: مع وجود البنت، والأخت لأب معناه: مع وجود الأخت الشقيقة، والأخت لأب، والأخ لأم، والأخت لأم، هذه ثمانية: الأب، والأم، والجد، والجدة، وبنت الابن، والأخت لأب، والأخ لأم، والأخت لأم ثمانية، فهؤلاء هم الذين يرثون السدس.

شبهة تمييز الرجال عن النساء في الإرث والجواب عنها

وهنا يأتي الجواب عن الإشكال المعروف لدى كثير من الناس واعتراضهم على الشريعة بأنها تؤثر الرجال على النساء في الإرث، فيجاب: أن الإرث اللازم الدائم هو الإرث بالفرض لا بالتعصيب، والإرث اللازم الدائم ها هو بين أيديكم، وإذا جعلنا هذه الفروض الستة على ستمائة درجة، فسنجد أن النساء يأخذن منها أربعمائة وخمسةً وسبعين جزءاً، وأن الرجال يأخذون مائة وخمسة وعشرين جزء فقط في الفرض، كيف ذلك؟ مثلاً النصف نجعله على مائة درجة، وهو بين خمسة أصناف، فعشرين بالمائة للرجال، وثمانين بالمائة للنساء، والربع بين اثنين: الزوج، والزوجة، فخمسين بالمائة للرجال، وخمسين بالمائة للنساء، والثمن للنساء خالصاً مائة بالمائة، مثل الثلثين أيضاً، الثلثان للنساء خالصاً مائة بالمائة، والثلث للأم والعدد من الإخوة لأم فهذه خمسة وسبعين بالمائة للنساء؛ لأن للأم النصف خمسين بالمائة، والخمسين الأخرى مقسومة بين الإخوة لأم والأخوات لأم، فتكون خمسة وسبعين بالمائة للنساء، وخمسة وعشرين للرجال، والسدس نجد الأب والجد والأخ لأم ثلاثة من الرجال، والباقي كله نساء، فإذا المائة جعلتها على ثمانية، كم جزء السهم؟ اثنا عشر فاصل خمسة تقريباً (12.5)، اثنا عشر فاصل خمسة ضرب ثلاثة سبعة وثلاثين ونصف(37.5) هذه للرجال والباقي للنساء، اثنين وستين فاصل خمسة(62.5) هذه للنساء، فستجد أن نسبة النساء أكبر بكثير من نسبة الرجال، نسبة النساء أربعمائة وخمسة وسبعين تقريباً فاصل...، ونسبة الرجال مائة وخمسة وعشرين.

(إذا هي نصته)، معناه: رفعته، ولا بمعطل.

ويطلق على الإسراع في السير، كما في الحديث الصحيح ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وجد فرجةً نص )، نص؛ أي: أسرع، والنصيص: ضرب من السير معروف، ويطلق النص على التصريح، فواضح الدلالة الذي لا يحتمل إلا معنىً واحداً هو الذي يسمى نصاً عند المتكلمين من الأصوليين، فالأصوليون يقسمون اللفظ من ناحية المعنى إلى قسمين: إلى واضح الدلالة، وخفي الدلالة، فالمتكلمون يقسمون كل واحد منهما إلى قسمين: يقسمون واضح الدلالة إلى: نص، وظاهر، فالنص: هو ما أفاد معنًى لا يحتمل غيره.

والظاهر: هو ما أفاد معنىً يحتمل غيره مرجوحاً.

وخفي الدلالة يقسمونه إلى قسمين: إلى مجمل، ومتشابه.

والحنفية يقسمون واضح الدلالة إلى أربعة أقسام، وهي: المفسر، والمبين، والنص، والظاهر، ويقسمون خفي الدلالة إلى أربعة أقسام، وهي: المجمل، والمشكل، والخفي، والمتشابه.

وهذه التفصيلات معروفة في الأصول، لكن تفهمون بها أن أمور التركة جاءت نصاً في القرآن عند الجميع، فهي جاءت بلفظ لا يحتمل معنىً آخر، وذلك أن الأعداد نص، فعند الأصوليين أن العدد نص في مدلوله، فإذا قيل: ثلاثة أو أربعة فهذا نص في مدلوله، إلا إذا خرج مخرج التكثير، إذا كان العدد يدل على التكثير، كما إذا قلت: لقد اتصلت عليك مائة مرة، وقصدت بذلك التكثير، ولم تقصد أنك أحصيت الاتصالات الهاتفية إلى أن وصلت إلى مائة، وعليهما جاء تفسير قول الله تعالى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80]، فقيل: العدد هنا نص على مدلوله، فلو زاد على ذلك لقبل، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( لو علمت أني إن زدت غفر لهم لزدت )، وقيل: المعنى التكثير، معناه: إن تستغفر لهم استغفاراً كثيراً فلن يغفر الله لهم، فيكون لفظ (سبعين) غير نص ولكنه للتكثير، جرى مجرى التكثير.

(فالفرض في نص الكتاب سته لا فرض في الإرث سواها البته)

فليس في القرآن فرض مقدر لوارث إلا ستة، وهي التي بينها فقال: لا فرض في الإرث سواها في كتاب الله، وسيأتينا أن للفرضيين فرض آخر وهو: ثلث الباقي، وسنذكره إن شاء الله تعالى، فثلث الباقي في عدد من المسائل يكون فرضاً مقدراً، ولكنه ليس نصاً في كتاب الله، والبتة: معناه قطعاً، فهي مصدر منصوب، ولو كان معرفاً بـ (أل) فإن ذلك لا يمنعه من مصدريته، وأن يكون منصوبا على المفعولية المطلقة، فالمعنى: لا فرض سواها قطعاً، لا فرض سواها بتاً، فقيل: البتة، وهذا اللفظ مستعمل في لغة العرب كثيراً، وقد جاء في القرآن في الآية التي نسخ لفظها وبقي معناها، وهي في سورة الأحزاب في قول الله تعالى: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله)، البتة معناه: إلى الموت.

(نصف وربع ثم نصف الربع والثلث والسدس بنص الشرع)

(والثلثان وهما التمام).

فإذاً هذه الستة: النصف، والربع، والثمن، والثلث، والسدس، والثلثان، فقال: ( نصف وربع ثم نصف الربع ) الذي هو الثمن، ( والثلث والسدس بنص الشرع )؛ أي: كلها بنص شرعي؛ أي: بالقرآن المحكم المنزل، ( والثلثان وهما التمام )؛ أي: تمام الفروض الستة، ( فاحفظ فكل حافظ إمام )، فاحفظ هذه الفروض، فكل حافظ للعلم إمام؛ أي: مقتدىً به؛ لأن الحفظ وسيلة من الوسائل المعينة على بقاء العلم في الأذهان؛ ولهذا قال الشافعي رحمه الله:

علمي معي حيث ما يممت يتبعني قلبي وعاء له لا جوف صندوق

إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق

ومثل ذلك قول أبي محمد علي بن حزم رحمه الله:

فإن يحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري

يسير معي حيث استقلت ركائبي ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري

وقد قال الحكماء:

ليس بعلم ما حوى القِمَطر ما العلم إلا ما حواه الصدر

القمطر: وعاء الكتب، ودليل هذا حديث أبي هريرة في الصحيح أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إني أسمع منك حديثاً كثيراً فلا أحفظه، فأمره أن يبسط رداءه، فحثا له فيه ثلاث حثيات، فضمه إليه فما نسي شيئاً بعد ).

فكل حافظ إمام، والإمام في اللغة: المقتدى به من رئيس ونحوه، ويطلق على الخيط الذي يوضع على البناء فيسوى عليه ساقه، ومن ذلك قول الشاعر:

وربيته حتى إذا تم واستوى كمخة ساق أو كمتن إمام

قرنت بحقويه ثلاثاً فلم يزغ عن القصد حتى بصرت بدمام

ويطلق على الطريق المستقيم، ومنه قول الله تعالى: وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ [الحجر:79]؛ أي: بطريق، ويطلق على المقتدى به في الدين، سواء كان الدين مستقيماً أو غير مستقيم، فمن إطلاقه على الدين المستقيم قول الله تعالى: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].

ومن إطلاقه على الإمامة في الدين غير المستقيم: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ [القصص:41]، (أئمةً يدعون إلى النار) فالأئمة المقتدى بهم في الدين إما أن يكون دينهم مستقيماً، وإما أن يكون معوجاً، فإن كان معوجاً؛ أي: مائلاً عن دين الله فهم أئمة في الضلال، وإن كان مستقيماً فهم أئمة هدىً، فكل حافظ إمام.