خطب ومحاضرات
شرح متن الرحبية [5]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بالنسبة لموانع الإرث التي ذكرناها هي موانع في اصطلاح الفرضيين، وإلا فليس ينطبق عليها تعريف المانع لدى الأصوليين؛ لأن المانع لدى الأصوليين لا بد فيه من تحقق السبب، والزنا النسب فيه- وهو سبب الميراث- غير موجود؛ لأن المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً، فالنسب ولو كان موجوداً حساً إلا أنه معدوم شرعاً، وكذلك اللعان، فالنسب فيه معدوم شرعاً، ومعدوم حسّاً أيضاً باعتبار الدنيا؛ لأن العبرة فيها بما يحكم به القاضي؛ لذلك اعتبار اللعان والزنا ونحو ذلك من الموانع إنما هو في اصطلاح الفرضيين لا في اصطلاح الأصوليين.
النبوة مانعة من الإرث
ويمكن أن نضيف إلى ما ذكر النبوة، فالنبوة تمنع الإرث من جهة واحدة، معناه: من كان نبياً فإنه لا يورث، ولكنه يرث، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة )، فالنبوة مانعة مع قيام السبب، فالسبب مثلاً: البنوة، أو الإخوة، أو الأمومة، أو نحو ذلك؛ أي: النسب، ونحوه، والنكاح، وغير ذلك من أسباب الإرث قائمة، ومع ذلك لا يرثون نبياً مات، ولا يرد على هذا بقول الله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ [النمل:16]؛ لأنه لا يقصد: أنه ورثه في المال، وإنما يقصد: أنه قام مقامه في الخلافة في الأرض: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ [ص:26]، فقد استخلف الله سليمان مكان داود، فاعتبر ذلك وراثةً، كما أن الله هو وارث الأرض ومن عليها: وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89]، كما قال الله سبحانه وتعالى عن نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم وارث للأنبياء الذين قبله، ومعنى ذلك: أنه خالف لهم، أما الجهة الأخرى- وهي كون النبي يرث ممن يرثه- فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث دار آمنة بنت وهب، وورث من أبيه: شُقران، وبركة أم أيمن، وقطعةً من الغنم، وقطعة من الإبل أيضاً، وفي ذلك يقول الشيخ محمد عالي رحمة الله عليه:
قد ورث النبي أم أيمنا من أبِهِ فوالها ما أيمنا
وقطعةً من إبل لا يغتنم مثالها وثلةً من الغنم
وهكذا ورث دار الأم ودار زوجه النبي الأمي
دار خديجة بنت خويلد.
اعتراض على عد النبوة من موانع الإرث
وقد يعترض على عد النبوة مانعاً من موانع الإرث بأنها تمنع جانباً واحداً، ومن الأسباب ما لا يقع معه التوارث من الجانبين، كأم أبيك وهي: الجدة من جهة الأب (أم الأب)، فإنك ترثها ولا ترثك، وكذلك أم الأم، فهي ترثك، وأنت لا ترثها، ولا يسمى ذلك مانعاً من موانع الإرث، وسيأتينا في ميراث الجدات، وفيه يقول أحد الفقهاء:
أم أبيك إرثها لا يجهل وهكذا إرثك منها يا فل
وأم أمك لها الإرث وجب وأنت لا ترثها وذا عجب
بعكسها أم أبي أبيكا فاشدد على ما قلته يديكا
فأم أبي الأب أنت ترثها، وهي لا ترثك، وأم الأم ترثك، ولا ترثها، وأم الأب ترثها وترثك، وسيأتينا ميراث الجدات، وأن الحنابلة لهم توسع فيه، يجوز عندهم ميراث أربع جدات في فريضة واحدة، والجمهور يخالفونهم في ذلك، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الحجب، وفي ميراث الجدة.
القتل المانع من الإرث وأقسامه
كذلك ذكرنا القتل في موانع الإرث، ولكن نحتاج فيه إلى تفصيل، وقد سأل عنه أحد الطلاب في أواخر الدرس الماضي، فالقتل الذي يمنع الإرث مختلف فيه، فقد حصل الإجماع في الجملة على أن القتل مانع من موانع الإرث، وورد فيه حديثان كلاهما معلل، أحدهما: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس لقاتل ميراث )، والثاني: ( لا يرث القاتل شيئاً )، وكلا الحديثين له علة، ولكنهما باجتماعهما يكون أحدهما شاهداً للآخر، وقد قوى ( لا يرث القاتل شيئاً ) أبو عمر بن عبد البر، فالقتل أقسام، منه: القتل العمد، وهو: ما اجتمع فيه علتان أو علة مؤلفة من صفتين هما: العمد، والعدوان، كمن اعتدى على إنسان بقصد قتله فرماه برصاصة، أو ضربه بمثقل، أو ضربه بسيف، أو طعنه برمح عمداً عدواناً، فهذا القاتل عمداً عدواناً بالمباشرة لا يرث إجماعاً.
كذلك القسم الثاني: هو القتل خطأ، وهو: أن يقتل الإنسان الإنسان من غير قصد قتله، وهذا ينقسم إلى قسمين: إلى قتل بالمباشرة، وقتل بالتسبب، فالقتل بالمباشرة ينقسم إلى قسمين: إلى ما حصل فيه الفعل بتصرف مقصود، وما لم يحصل فيه قصد أصلاً، والقتل غير المباشر: كأن يحفر الإنسان بئراً في الطريق فيقع فيها إنسان آخر، أو أن يرسل سبعاً فيعدو على إنسان فيقتله، أو أن يرمي بقية نار -كبقية دخان أو نحو ذلك- فيقع حريق، فيموت بسببه بعض الناس، فهذا القتل غير مباشر، وهو خطأ.
والقتل المباشر منه ما يكون الإنسان غير قاصد له، كمن كان نائماً، إذا نامت المرأة فانقلبت على ولدها الرضيع فمات، وكفعل المجنون والصبي، ففعلهما لا يعتبر مقصوداً قطعاً، وكذلك فعل المكره إكراهاً ملجئاً، فالإكراه ينقسم إلى قسمين: إلى إكراه ملجئ، وإكراه غير ملجئ، فالإكراه غير الملجئ كمن يرفع سيفاً على شخص ويقول له: اقتل فلاناً أو أقتلك، وهذا لا يبيح قتله إذا كان مسلماً معصوم الدم؛ لأنه ليس أولى بالحياة من الذي يقتله، فهو مهدد بالموت ليقتل، وليس هو أولى بالحياة ممن سيقتله، فكلاهما معصوم الدم، فلا يحل له أن يقتل إنساناً بسبب الإكراه على قتله، ويدخل في هذا الأوامر التي يصدرها القادة لمقوديهم كقادة الجيوش، وقادة الشرطة ونحوهم، فإذا أطلق القائد أمراً لمقوده بأن يقتل مسلماً، أو أن يؤذيه، فإن ذلك لا يرفع الإثم عن المأمور؛ لأنه حتى ولو كان مكرهاً فإكراهه غير ملجئ؛ لأنه يستطيع ألا ينفذ العمل أصلاً، يستطيع أن يتخلص من الوظيفة بالكلية، هذا الإكراه غير ملجئ؛ فلذلك يأثم، ويشارك في الجريمة،وتكون مشتركةً بينهما، والإكراه الملجئ كمن أخذ إنساناً فرمى به من السطح فوقع على إنسان آخر فمات، فهو لا يستطيع التصرف حينئذ، هذا إكراه ملجئ؛ لأنه ألجئ إلى القتل، فقد أخذ ورمي به من سطح فوقع على إنسان فمات، فهذا قتل خطأ بالنسبة له هو؛ لأنه أكره إكراهاً ملجئاً لا يستطيع التصرف معه، ولكن الذي رماه هو القاتل الحقيقي المسئول شرعاً في هذه المسألة.
لدينا قسم آخر، هذان القسمان وهما: القتل عمداً، والقتل خطأً منصوصان في كتاب الله، كما تقرءون في سورة النساء قول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً [النساء:92]، وقبلها: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93]، فهذان قسمان هما: القتل عمداً، والقتل خطأً.
لدينا قسم آخر يسمى: القتل شبه العمد، وهذا أثبته الجمهور خلافاً للمالكية فلم يثبتوه إلا في صورة واحدة، فالجمهور يرون أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إلى عمد، وخطئ، وشبه عمد، وشبه العمد هو: أن يقصد الإنسان الضرب ولا يقصد القتل، كمن أخذ عموداً أو عصاً وضرب به إنساناً يريد تأديبه أو ضربه، ولكنه لا يريد قتله، فوقع في مقتل فمات، فهذا النوع لا يكون شبه عمد عند المالكية؛ ولذلك قال خليل رحمه الله في المختصر: (إن تعمد ضرباً وإن بقضيب)، (وإن بقضيب) أشار بـ (إن) إلى خلاف خارج المذهب وهو المذاهب الثلاثة، المذاهب الثلاثة: الحنفية، والشافعية، والحنابلة، يرون هذا قتلاً شبه عمد؛ لأنه قصد الضرب ولو بقضيب، وهذا ورد فيه حديثان: أحدهما أخرجه أصحاب السنن و أحمد في المسند، من حديث يعقوب بن أوس، أو عقبة بن أوس، عن القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا إن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه مائة من الإبل، منها أربعون خلفةً، في بطونها أولادها )، وهذا الحديث يقتضي تغليظ الدية، وأنه شبه العمد، ولكنه معلل بعلل منها: الاضطراب في الإسناد، فقد جاء عن عقبة بن أوس، وعن يعقوب بن أوس، عن القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمر، و عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
وجاء أيضاً في رواية أخرى للنسائي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غير مسمىً، والاضطراب في تسمية الصحابي ليس علةً لدى أهل الحديث؛ لأن الصحابة عدول جميعاً سواء كان عبد الله بن عمرو أو عبد الله بن عمر، أو صحابي آخر، فلا يضر جهل الصحابي، لكن التردد في عقبة بن أوس و يعقوب بن أوس مع الاستواء علة.
الحديث الثاني: حديث ابن عباس، وقد أخرجه النسائي و أحمد أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الخطأ شبه العمد أن ينزو الشيطان بين الناس، فتقع الدماء في غير ضغينة ولا حمل سلاح ).
وفي رواية: ( في رِمِّيَّا أو عِمِّيَّا )، (في رميا) معناه: ترام، أن يتراموا فيما بينهم، أو (عميا) معناه: في فتنة عمياء،لا يعرف المصيب فيها من المخطئ، فهذه الفتن التي تقع كالخلافات بين القبائل، والخلافات على الأرض ونحو ذلك، فتثور الثائرة بين الناس، ويتضاربون فيقع قتلى، فهذا القتل عند الجمهور ليس قتل عمد، وإنما هو خطأ شبه العمد، يسمى قتل الخطأ شبه العمد، وذلك أن الدية فيه مغلظة وهي مثلثة، والدية العادية دية الخطأ مخمسة في أسنان الإبل، كذلك القتل سواء كان عمداً أو خطأً أو شبه عمد ينقسم إلى قسمين: إلى قتل بحق، وقتل بغير حق، فالقتل بحق كالقتل قصاصاً، أو إقامةً للحد حد الزنا أو حد من الحدود التي تؤدي إلى القتل حد الردة مثلاً أو نحو ذلك، وهو أيضاً ينقسم إلى: مباشر، وغير مباشر، فالمباشر: كالمنفذ الذي يضرب بالسيف إقامةً لحدود الله أو إقامةً للقصاص، وغير مباشر: كالقاضي الذي يحكم، أو الشهود الذين يشهدون أن فلاناً قتل فلاناً، أو أنه زنى وهو محصن حتى يقتل، فهذه التفصيلات هي تفصيلات القتل، وعلى أساسها اختلف المذاهب، فذهب الشافعية في الصحيح عندهم إلى: تعميم القتل مانعاً من موانع الإرث، أن القاتل لا يرث مطلقا،ً سواء كان قتله بحق أو بغير حق، وسواء كان عمداً أو خطأً أو شبه عمد، وسواء كان مباشراً أو غير مباشر مطلقاً، فكل قتل سواء كان بالمباشرة أو بغير المباشرة، سواء بحق أو بغير حق، سواء كان عمداً أو شبه عمد أو خطأً فإن صاحبه لا يرث لا من الدية ولا من المال، فهذا مذهب الشافعية في الصحيح منهم.
القول الثاني: أن القتل إذا كان بالمباشرة، وكان بغير حق، فإن صاحبه لا يرث، أما إذا كان بغير مباشرة مطلقاً، سواء كان عمداً أو خطأً أو شبه عمد أو كان بحق، سواء كان بالمباشرة أو بغير المباشرة، فإن صاحبه يرث، وهذا مذهب الحنفية، فالحنفية يرون أن القاتل إذا قتل عمداً أو خطأً أو شبه عمد بغير حق بالمباشرة فإنه لا يرث، أما إذا قتل بالتسبب أو قتل بحق أخذ القصاص من موروثه، أو أقام عليه الحد فإنه يرث.
القول الثالث: مذهب الحنابلة: أن كل قتل مضمون بقود أو دية أو كفارة فإنه مانع من موانع الإرث، وما سوى ذلك لا يمنع، فالقتل المضمون بقود معناه: بقصاص كالقتل عمداً عدواناً، أو بدية كالقتل شبه العمد والقتل الخطأ بالمباشرة أو بالتسبب إذا لم تكن مباشرة تقطع حكم التسبب، أو بكفارة كفعل النائم والغافل، كالمرأة إذا انقلبت على ولدها فمات، فعند الحنابلة لا ترث منه؛ لأن هذا قتل مضمون بكفارة، وعند الحفية: ترث منه؛ لأنه ليس مقصوداً بوجه من الوجوه.
المذهب الرابع: مذهب المالكية، فالمالكية يقسمون القتل إلى قسمين فقط، فليس عندهم شبه العمد إلا في صورة واحدة، وهي قتل الأب لولده بغير الذبح، إذا أخذ الوالد ولده فأضجعه وذبحه فهذا قتل عمد إجماعاً، لكن إذا رماه بسيف أو برصاصة فأصابه فمات فمذهب المالكية: أنه لا يقتص منه له؛ لأن هذا لا يمكن أن يعتبر عمداً، فيعتبرونه شبه عمد، ويغلظون فيه الدية؛ لما ثبت في الأثر الذي أخرجه مالك في الموطأ، عن عمر بن الخطاب في قصة المدلجي الذي رمى ولده بسيف فأطن ساقه فنزف فمات، فجاء عمر فأخرج مائةً من الإبل، ودعا أخا القتيل وقال: (لا يرث القاتل شيئاً)، فأخذ المالكية بهذا فرأوا: أن القتل شبه العمد إنما هو في هذه الصورة الواحدة، وهي قتل الوالد لولده بغير الذبح تغلظ فيه الدية، والمالكية يرون أن القاتل خطأً لا يرث من الدية، ولكنه يرث من أصل المال، يفرقون بين الدية وأصل المال، فيرون: أن المنع مقيد، كالقتل العمد، يُدخلون فيه شبه العمد، فهو عمد عندهم، والقتل الخطأ -سواء كان بالمباشرة أو بالتسبب- لا يرث صاحبه من الدية، ولكنه يرث من أصل المال الذي يسبق الدية.
أقسام الكفر المانع من الإرث
كذلك تفاصيل أخرى فيما يتعلق بالكفر المانع من الإرث، فالكفر ينقسم إلى قسمين: إلى كفر أصلي، وكفر بالردة عن الإسلام، كفر أصلي، وكفر عارض، فالكفر العارض هو: الكفر بالردة عن الإسلام، فالكفر الأصلي مانع من التوارث بين المسلمين والكفار، فلا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، لكن الكفر العارض إذا كان الإنسان مسلماً فارتد عن الإسلام، فهل الردة مانع من موانع الإرث كالكفر الأصلي أم لا؟ ذهب الشافعية إلى: أن الردة مانع مستقل غير مانع الكفر، هي مانع آخر يعدونه مستقلاً، ويرون المنع فيها، وهذا مذهب المالكية والحنابلة، فالمالكية والحنابلة يرون: أن الكفر الأصلي والعارض سواء، فكلاهما مانع من الإرث، والحنفية يفرقون بين كفر الرجل وكفر المرأة، فالرجل إذا كفر ارتد عن الإسلام فاكتسب مالاً في ردته فإنه لا يرثه المسلم، بل هو فيء للمسلمين، وماله الذي اكتسبه في إسلامه قبل الردة يورث عنه، يرثه ورثته، هذا عند الحنفية.
وعند الحنفية: أن المرأة إذا ارتدت لا تقتل؛ فلذلك يرون أنها تورث مطلقاً؛ لأنها لا تقتل، فالقتل بالردة مختص عندهم بالرجل، ويرون إخراج المرأة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من بدل دينه فاقتلوه )، يخرجون من ذلك المرأة بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها ولو كانت كافرةً أصلية في الحرب، هذا مذهب الحنفية، فإذاً عندهم الرجل إذا ارتد ما اكتسبه في إسلامه قبل الردة يورث عنه، وما اكتسبه في ردته لا يورث عنه، وهو فيء، والمرأة تورث مطلقاً؛ لأنها لا تقتل، فإذا ماتت على الردة ورث مالها عند الحنفية.
والمالكية يرون أن الردة تنقسم إلى قسمين: ردة المعلن، وردة المستسر، فالمعلن بالكفر لا يرث ولا يورث مطلقاً، لا ما اكتسبه قبل ردته، ولا ما اكتسبه بردته، والمستسر معناه: الذي يكتم كفره، وهو الذي كان يسمى في صدر الإسلام: بالمنافق، ويسمى في العصور المتأخرة: بالزنديق، وهو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر: كالشيوعي، والوجودي، والذي يرى الحلول أو الاتحاد أو وحدة الوجود، أو نحو ذلك، فهذا عند المالكية يورث إذا قتل، فليس ماله فيئاً؛ لأن وارثه يدعي أنه مسلم، ولا يراه كافراً أصلاً؛ فلذلك يرون أن الشيوعي إذا مات يرثه أهله من المسلمين، وأن الوجودي إذا مات يرثه أهله من المسلمين، وهكذا في كل كفر يستسر صاحبه به.
والمالكية يفرقون بين الكفر المعلن والكفر المستسر به، فالكفر المستسر ليس له استتابة بالتوبة كما قال خليل: (وقتل المستسر بلا استتابة، إلا أن يجيء تائباً، وماله لوارثه).
(وماله لوارثه) معناه: أن المستسر يورث، بخلاف المعلن للكفر فماله فيء، معنى فيء: أنه لبيت المال، يدخل في خزينة الدولة.
فالقتل إذا كان عمداً بحق معناه: ثلاثة إخوة أشقاء، قتل أحدهم أخاه، فطالب الأخ الثالث بالقصاص على أخيه القاتل، فالقاتل الأول لا يرث مقتوله قطعاً؛ لأنه قتله عمداً عدواناً، هذا لا يرث بغير حق، لكن الأخ الأخير قتل أخاه أيضاً عمداً، ولكن غير عدوان؛ لأنه بحق، فلذلك يدخل الخلاف في القتل الثاني لا في الأول، وهكذا في هذه التفصيلات.
هذا طالب بالقصاص، والقصاص حق شرعي، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قتل له قتيل فهو بين خيرتين: إن شاء أخذه برمته، أو سلم إليه برمته، وإن شاء أخذ الدية )، فهذا الحديث يدل على أن من قتل له قتيل فهو بين خيرتين، معناه: إن شاء أخذ ديةً مغلظةً، وهي دية العمد، وإن شاء قتله قصاصاً، فهو اختار القتل قصاصاً فهذا بحق، لكن مع ذلك لا وارث له إلا هو؛ لأنه أخوه الشقيق، وليس له وارث سواه، فهذا هل يرثه أم لا؟ هذا محل الخلاف الذي سقناه.
والكفر: أصلي، ردة، والردة نوعان: مستسر، معلن، المعلن قسمان: رجل، امرأة؛ لأنه إما أن يكون أصلياً، فالكافر الأصلي لا يرث المسلم، ولا يرثه المسلم، ولكن يأتي خلافات أكبر من هذا، وهي هل الكفر ملة واحدة أو الكفر ملل؟ أو الكفر ينقسم إلى ثلاث ملل فقط؟ فقد قال بعض أهل العلم: الكفر كله ملة واحدة، فيتوارث اليهودي مع النصراني مع المجوسي مع اللاديني، وقالت طائفة: بل الكفر ملل، فكل ملة ينتسب لها إنسان، سواء كانت ديناً سماوياً، أو ديناً أرضياً، أو لا ديناً أصلاً، فأهلها يتوارثون فيما بينهم، ولكن لا يرثون غيرهم، ولا يرثهم غيرهم، فلا يرث النصراني اليهودي، ولا اليهودي النصراني، ولا المجوسي، ولا البوذي، ولا الهندوسي، ولا السيخي.. إلى آخره.
وقال المالكية والحنابلة: الكفر ثلاث ملل: يهودية، ونصرانية، وما سوى ذلك ملة واحدة، فجعلوا اليهود والنصارى ملتين معترفاً بهما في القرآن، والملل الأخرى جعلوها كالملة الواحدة، فيمكن أن يتوارث المجوسي والسيخي أو البوذي أو الهندوسي، فتلك الملل جميعاً جعلوها ملةً واحدة؛ لأن التفريق جاء في كتاب الله، فبعض أهل العلم يميز أيضاً بين المجوسي وغيره من الملل الأخرى؛ لأن المجوسي يفرق بينه وبين غيره في الأحكام، كما في حديث عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المجوس: ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم، ولا محلي ذبائحهم )، فمعنى ذلك: أنه يجوز أخذ الجزية منه وحده دون غيره من الكفرة؛ لأن الله في الأصل في سورة التوبة لم يذكر الجزية إلا من اليهود والنصارى، فقال: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29].
وحديث عبد الرحمن بن عوف يقتضي أن المجوس كاليهود والنصارى: ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم ولا محلي ذبائحهم )، والمالكية والحنابلة يرون إلحاق غيرهم بهم، فيرون أن المجوس مثلهم جميع الديانات الأخرى، فيمكن أن تؤخذ الجزية من كل كافر حتى لو كان غير يهودي ولا نصراني ولا مجوسي، ولكن لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم، هذا التفصيل ذكرناه أن الكافر الأصلي لا يرث المسلم، ولا يرثه المسلم، وأن الكافر المستسر بكفره يرثه وليه عند المالكية والحنفية، وعند الشافعية والحنابلة: لا يورث، وأن الكافر المرتد ردةً هو معلن بها ليس مستسراً فصل فيه الحنفية: بين أن يكون رجلاً أو امرأةً، فالمرأة تورث مطلقاً، والرجل يورث عنه ما كسبه في الإسلام، ولا يورث عنه ما كسبه في الردة.
ويمكن أن نضيف إلى ما ذكر النبوة، فالنبوة تمنع الإرث من جهة واحدة، معناه: من كان نبياً فإنه لا يورث، ولكنه يرث، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة )، فالنبوة مانعة مع قيام السبب، فالسبب مثلاً: البنوة، أو الإخوة، أو الأمومة، أو نحو ذلك؛ أي: النسب، ونحوه، والنكاح، وغير ذلك من أسباب الإرث قائمة، ومع ذلك لا يرثون نبياً مات، ولا يرد على هذا بقول الله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ [النمل:16]؛ لأنه لا يقصد: أنه ورثه في المال، وإنما يقصد: أنه قام مقامه في الخلافة في الأرض: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ [ص:26]، فقد استخلف الله سليمان مكان داود، فاعتبر ذلك وراثةً، كما أن الله هو وارث الأرض ومن عليها: وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89]، كما قال الله سبحانه وتعالى عن نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم وارث للأنبياء الذين قبله، ومعنى ذلك: أنه خالف لهم، أما الجهة الأخرى- وهي كون النبي يرث ممن يرثه- فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث دار آمنة بنت وهب، وورث من أبيه: شُقران، وبركة أم أيمن، وقطعةً من الغنم، وقطعة من الإبل أيضاً، وفي ذلك يقول الشيخ محمد عالي رحمة الله عليه:
قد ورث النبي أم أيمنا من أبِهِ فوالها ما أيمنا
وقطعةً من إبل لا يغتنم مثالها وثلةً من الغنم
وهكذا ورث دار الأم ودار زوجه النبي الأمي
دار خديجة بنت خويلد.
وقد يعترض على عد النبوة مانعاً من موانع الإرث بأنها تمنع جانباً واحداً، ومن الأسباب ما لا يقع معه التوارث من الجانبين، كأم أبيك وهي: الجدة من جهة الأب (أم الأب)، فإنك ترثها ولا ترثك، وكذلك أم الأم، فهي ترثك، وأنت لا ترثها، ولا يسمى ذلك مانعاً من موانع الإرث، وسيأتينا في ميراث الجدات، وفيه يقول أحد الفقهاء:
أم أبيك إرثها لا يجهل وهكذا إرثك منها يا فل
وأم أمك لها الإرث وجب وأنت لا ترثها وذا عجب
بعكسها أم أبي أبيكا فاشدد على ما قلته يديكا
فأم أبي الأب أنت ترثها، وهي لا ترثك، وأم الأم ترثك، ولا ترثها، وأم الأب ترثها وترثك، وسيأتينا ميراث الجدات، وأن الحنابلة لهم توسع فيه، يجوز عندهم ميراث أربع جدات في فريضة واحدة، والجمهور يخالفونهم في ذلك، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الحجب، وفي ميراث الجدة.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح متن الرحبية [7] | 3109 استماع |
شرح متن الرحبية [11] | 3025 استماع |
شرح متن الرحبية [2] | 2797 استماع |
شرح متن الرحبية [9] | 2683 استماع |
شرح متن الرحبية [13] | 2632 استماع |
شرح متن الرحبية [3] | 2594 استماع |
شرح متن الرحبية [12] | 2403 استماع |
شرح متن الرحبية [14] | 2350 استماع |
شرح متن الرحبية [10] | 2332 استماع |
شرح متن الرحبية [8] | 2168 استماع |