شرح متن الرحبية [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

يقول المؤلف رحمه الله:

(أول ما نستفتح المقالا بذكر حمد ربنا تعالى)

بعد البسملة افتتح كتابه بما افتتح الله به كتابه؛ اقتداءً بكلام الله جل جلاله، فإن الله افتتح القرآن بعد البسملة بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، فهو كذلك أول ما يستفتح به مقاله، والاستفتاح معناه: طلب الفتح، والمقصود به: ابتداء الكلام، (بذكر حمد ربنا تعالى) معناه: بأن نحمد ربنا جل جلاله، وذكره يشمل ذكر القلب، وذكر اللسان، فذكره بالقلب بمعنى: تذكر أن الله يستحق الحمد، والتفكر في ذلك بمحامده كلها، فمنها صفات ذاته، ومنها ما أسداه إلى خلقه من المعروف، والجود، والكرم، فهو يستحق الحمد لذاته جل جلاله؛ لأنه اتصف بكل كمال، وتنزه عن كل نقص، وهو عليه محال، ويستحق الحمد لنعمه، فإن نعمه لا تحصى، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53].

وحمد الله معناه الثناء عليه بما هو أهله، وذكر محامده جل جلاله (بذكر حمد ربنا تعالى)، فهو ربنا، أي: مربينا، وموصلنا إلى كمالنا بالتدريج شيئاً فشيئاً، والرب: أصل هذه الكلمة: راب، فاعل، فحذف منها الألف؛ لكثرة الاستعمال، وهذا نادر، وله أمثلة في اللغة، ومن ذلك قول ابن مالك رحمه الله:

وينحذف بقلة مضاعفًا منه ألف

فإذا كان فاعل مضاعفاً، فإنه ينحذف منه الألف بقلة في لغة العرب، فيقال: رب وشت وفذ، بمعنى: راب، وشات، وفاذ، والعرب يستعملون من هذه المادة أربعة أفعال، فيقولون: ربه يربه، إذا ترأس عليه وتأمر، ومن ذلك قول صفوان بن أمية بن خلف يوم حنين: فلأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن، أي: أن يتأمر علي، ويترأس علي رجل من قريش خير من أن يترأس علي رجل من هوازن، وقد كانت بين قريش وهوازن في الجاهلية حرب تسمى حرب الفجار، وقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم أحد أيامها، ويقال: رباه يربيه، ومن ذلك قول الشاعر:

وربيته حتى إذا تم واستوى كمخة ساق أو كمتن إمام

قرنت بحقويه ثلاثاً فلم يزغ عن القصد حتى بصرت بدمام

وقول آخر:

وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه

وبالمحض حتى آض جعدًا عنطنطا إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه

ويقال أيضاً: رببه يرببه، ومن ذلك قول أمية بن أبي الصلت الثقفي:

بيضاً مرازبةً غلباً أساورةً أسداً ترببن في الغيضات أشبالا

وتقلب إحدى الباءين تاءً، فيقال: ربته يربته، ومن ذلك قول الشاعر:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً بجمهور حزوى حيث ربتني أهلي

بلاد بها نيطت علي تمائمي ومزقن عني حين تم بها عقلي

فهنا قال: حيث ربتني أهلي، بمعنى: رباني أهلي، والرب اسم من أسماء الله جل جلاله، وإن كان غير معدود في الأسماء التسعة والتسعين، كما في حديث أبي هريرة الذي قيل بإدراجه، ولكن الله سبحانه وتعالى تمدح به في كتابه، فأبلغ ثناء على الله ربوبيته للعالمين، وأبلغ ثناء على المخلوقين عبوديتهم لله، فأبلغ ما يثنى به على الله ربوبيته للعالمين؛ ولذلك كان ذلك أول ثنائه على نفسه بالقرآن: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].

وأبلغ ثناء على المخلوق عبوديته لله، كما قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، فهذا مقام إجلال وإكرام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يوصف بالخلة ولا بالنبوة ولا بالرسالة في هذا المقام، وإنما وصف بالعبودية لله جل جلاله، فلهذا قال: (حمد ربنا تعالى) تعالى بمعنى: علا، فتفاعل تأتي موافقةً لفَعَل في المعنى، فتعالى بمعنى: علا، وهو العلي على عباده جل شأنه، وهذا الذكر جسده بقوله:

فالحمد لله على ما أنعما حمداً به يجلو عن القلب العمى

(فالحمد لله على ما أنعما) معناه: وفاءً بأننا نذكر حمد ربنا تعالى، فنقول: الحمد لله، وهذه جملة اسمية تفيد الدوام والاستمرار، وهذه قاعدة الجملة الاسمية، أنها تفيد الدوام والاستمرار، وأن الجملة الفعلية تفيد التجدد والحدوث، فمن دلالة الجملة الاسمية على الاستمرار قول الشاعر:

قالت أمامة ما تبقى دراهمنا وما لنا سرف فيها ولا خُرُق

إنا إذا اجتمعت يوماً دراهمنا ظلت إلى طرق المعروف تستبق

لا يألف الدرهم المضروب صرتنا لكن يمر عليها وهو منطلق

حتى يصير إلى نذل يخلده يكاد من صره إياه ينمزق

فقوله: (وهو منطلق) جملة اسمية، وهي تدل على الاستمرار، فكذلك (الحمد لله) معناه: كان محموداً في الأزل قبل خلق الكون، وهو محمود مع الكون في وقت خلقنا، وسيبقى محموداً بعدنا، فهو المحمود على كل لسان في كل أوان، فلم يكتسب من خلقه للخلق صفةً، فهو الخالق ولا خلق، وهو الرازق ولا رزق، وهو على ما عليه كان قبل خلق الكون كله جل شأنه.

الحمد لله، و(أل) في الحمد إما أن تكون جنسيةً، وإما أن تكون عهديةً، فإن كانت جنسيةً فالحمد أربعة أقسام: حمدان قديمان، وحمدان حادثان، فالحمدان القديمان: حمد الله لنفسه، وثناؤه على نفسه جل شأنه، مثل ما نقرؤه في كتابه: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2-3]، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255]، ونحو ذلك من الثناء مثل قوله: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:14-16]،ومثل قوله في ثنائه على نفسه: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [الحشر:1]، ونحو ذلك، فكل هذا من ثنائه على نفسه جل شأنه، فهو من الحمد القديم.

والقسم الثاني من الحمد القديم: ثناؤه على بعض خلقه، فإن الله جل جلاله أثنى على بعض خلقه، كثنائه على محمد صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29].

وقوله: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح:1-2].

ومثل قوله: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157].

ومثل قوله: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:1-4].

ومثل قوله: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:1-4].

ومثل قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الحاقة:40-43].

ومثل قوله: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:1-5].

ومثل قوله: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:1-4].

أما الحمدان الحادثان فهما حمدنا لله جل جلاله، فكل حمد يصدر منا لله جل جلاله فهو مستحق له، هذا الحمد الحادث.

والقسم الثاني من الحمد الحادث: حمد بعضنا لبعض، وحينئذ إذا قدرنا أن (أل) جنسية، فاللام في (لله) يختلف معناها باختلاف أنواع الحمد، ففي حمد الله لنفسه: اللام للاستحقاق، وفي حمده لبعض عباده: اللام للاختصاص، وفي حمدنا لله: اللام للاستحقاق، وفي حمد بعضنا لبعض: اللام للملك، فهو مالك الحامد والمحمود، فاللام تختلف إذاً باختلاف أنواع الحمد.

وإذا قدرنا أن (أل) عهدية، فالمقصود بالحمد: ثناؤه على نفسه، فنحن عاجزون عن الثناء الذي يستحقه، فلا نثني عليه إلا بثنائه على نفسه، ولذلك أخرج مسلم في الصحيح، ومالك في الموطأ، في دعاء السجود، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك )، وفي رواية: ( وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك )، والحديث فيه احتمالان:

أحدهما: ( لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) أي: لا أحصي ثناءً عليك، (أنت): أنت ضمير مؤكد للكاف، ( لا أحصي ثناءً عليك أنت )، ( كما أثنيت على نفسك ) أي: ثناءً كثنائك على نفسك، فـ(كما) إعرابها هنا، ما هو؟ ما ناب عن المطلق؛ لأنها بمثابة المصدر، معناه: ثناءً كثنائك على نفسك.

الاحتمال الثاني في التفسير: لا أحصي ثناءً عليك، وتقف هنا، ثم تبدأ الجملة، فتقول: أنت كما أثنيت على نفسك، أنت: مبتدأ، كما أثنيت على نفسك خبر المبتدأ، معناه: أنت صادق فيما أخبرت به عن نفسك، وهذا يقتضي إثبات كل ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، وأن كل ذلك من الكمال، والثناء عليه جل شأنه، فتكون (أل) حينئذ عهدية، معناه: الحمد المعهود الذي عرفناه بحمده لنفسه هو الذي نثني عليه به، الحمد لله.

(الله): اسم للباري جل جلاله، وهو اسم يشمل جميع الأسماء والصفات، فغيره من الأسماء لا يتناول إلا صفةً واحدة، فالرحمن لا يتناول صفة الانتقام، ولا صفة الجبروت، ولا صفة الكبرياء، والمتكبر لا يتناول صفة الرحمة مثلًا، لكن (الله)، هذا الاسم يتناول جميع الصفات، يتناول المنتقم، المتكبر، الجبار، الرحيم، وجميع ما له من الصفات يتناولها هذا الاسم الكريم، وقد قال كثير من أهل العلم: هو اسم الله الأعظم، وهذا الاسم مختلف فيه: هل هو من اللغة العربية، أو هو من اللغات كلها؟ اللغات التي تطلقه هي اللغات السامية، أي: لغات ذرية سام بن نوح، وإذا كان من العربية، فقد اختلف فيه أيضاً هل هو مشتق أو مرتـجل؟ فالأسماء تنقسم إلى قسمين: إلى مشتق له مادة، وإلى مرتجل، وهو ما ليست له مادة كسعاد وأدد، فعلى القول بأنه مشتق فقيل: هو إله عُرِّف بــ(أل)، وهذا مشكل؛ لأن الإله إذا عرف بـ(أل) قيل فيه: الإله، ولم يقل فيه: الله، لكن يقال: حذفت الهمزة، وحصل الادغام تخفيفاً لكثرة الاستعمال، وهذا كثيراً ما يقع في اللغة، فاللفظ الذي يكثر استعماله يغير، وبالأخص إذا كان فيه همزة، وبالأخص إذا اجتمعت معها الهاء، فهما حرفان من آخر الحلق -والهمز في النطق به تكلف- كما تعرفون، فلذلك يحذف؛ لكثرة الاستعمال، كقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:

يقول لي المفتي وهن عشيةً بمكة يجررن المهدَّبة السحلا

تق الله لا تنظر إليهن يا فتى وما خلتني في الحج ملتمساً وصلا

تق الله، معناه: اتق الله، لكن لكثرة الاستعمال حذفت الهمزة، فقال: تق الله، وإذا حذفت ذهب الادغام بالكلية، وحينئذ إما أن يكون من لاه بمعنى احتجب؛ لأنه لا تدركه الأبصار، ومن ذلك قول الشاعر:

لاهت فما عرفت يوماً بخارجة يا ليتها برزت حتى عرفناها

أو من أُله إلهةً، كعبد عبادةً وزناً ومعنى، ومنه قيل للشمس: إلهة؛ لأن بعض الناس كان يعبدها، أو من أله، بمعنى: ارتفع، لارتفاعه على خلقه، فهو العلي جل جلاله، وقد تكون تسمية الشمس إلهةً من ذلك لارتفاعها، ومن هذا الإطلاق قول الشاعر:

تروحنا من الدهناء عصراً وأعجلنا الإلهة أن تغيبا

أي: أعجلنا الشمس أن تغيب.

أو من أله إليه، بمعنى: اشتاق لاشتياق قلوب العارفين به إليه.

أو من أله إليه، أي: قصده في أموره وحوائجه، ومن ذلك قول الشاعر:

ألهت إليكم في أمور تهمني فألفيتكم فيها كراماً أماجدا

ألهت إليكم، أي: قصدتكم، فهو المقصود المصمود جل جلاله، فلا يستحق أحد أن ترفع إليه الحوائج إلا هو، وقد شهر كثير من أهل العلم عدم الاشتقاق فيه، ولذلك يقول شريف بن موف التندغي رحمة الله عليه:

وشهروا عدم الاشتقاق في علم الرب العزيز الباقي

والأشهر عدم الاشتقاق.

(على ما أنعما)، هذا الحمد قيده بأنه حمد على نعمه، وقد ذكرنا من قبل إطلاقه، فهو حمد على الفضائل والفواضل، فالفضائل: صفة ما في النفس، والفواضل: النعم الواصلة إلى الغير، فهو يستحق الحمد على كل ذلك، يستحق الحمد على فضائله، أي: صفات ذاته، ويستحق الحمد على فواضله، أي: النعم الواصلة منه جل شأنه.

(على ما أنعما)؛ أي: على ما أنعم به علينا من أنواع النعم.

(حمداً به يجلو عن القلب العمى)؛ أي: حمداً به يكشف الله جل جلاله عن القلب العمى، أي: ينوره به، فإن مَنْ أثنى على الله جل جلاله، وحمده، ينور الله بصيرته بحمده لله جل جلاله، فالذاكرون لله يذكرهم الله، ومن ذكره الله لا يموت قلبه؛ ولذلك في الحديث القدسي الصحيح أن الله جل جلاله يقول: ( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً ).

والمقصود بالقلب هنا: قلب الحامد، والمؤلف يكني بذلك عن قلبه هو، والقلب: هو الجارحة التي هي محل الإدراك، وسميت قلباً لتقلبها، فمحل الإدراك في الإنسان لا يهدأ، منذ يقظته إلى منامه وهو يتقلب، إما أن يتفكر في الماضي، وإما أن يفكر في المستقبل، ويسمى عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن المعاطب، ويسمى بصيرةً لأنه يبصر به الإنسان مستقبله، يتبصر به في المستقبل، وهو محل إدراك؛ لأن الله يقول: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، والآية فيها مجاز في اللفظ؛ لأن النفي هنا لا يقصد به انتفاء الماهية، وهذا ما يخفى على كثير من الناس فكثيرًا من الذين لم يرسخوا بعد في العلم إذا وجدوا نفياً في الشرع حملوه على نفي الماهية المطلقة، فتزل الأقدام بعد ثبوتها، فهنا لو كان المعنى لا تعمى الأبصار، لكان المعنى أنك لا ترى أحداً أعمى البصر أبداً، وهذا غير صحيح، فالمقصود: أن عمى الأبصار ليس مهماً، فإذا كان القلب مبصراً فلا يضر عمى العين، فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، أي: عماها هو المهم، وهو المضر، والقلوب التي في الصدور هي محل الإدراك، وإذ كان العلم الحديث يذكر أن كثيراً من القوى إنما هي في الدماغ، لكن الحياة كلها محلها القلب؛ لأنه محل الأذينين اللذين بهما حركة الدم، ولا يتغذى الدماغ بدونهما أبداً، ولذلك إذا سكن القلب قطعاً مات الدماغ وغيره، وماتت الجوارح كلها، فلا يمكن أن يقع الاختلاف في هذه المسألة، والخلاف الطويل العريض في محل الإدراك، هل هو الدماغ أو القلب؟ وتجدونه مفصلاً في كتب التفسير، وكتب علم الكلام، وكتب الجدل، لا طائل من ورائه؛ لأنه لا خلاف أن القلب إذا مات ذهب الجميع، لكن التيار الموجود الذي به الإدراك حتى لو تغير القلب فأزيلت المضغة وزرع للإنسان قلب آخر حتى لو كان قلب بهيمة أو قلب كافر فإنه لا يكفر بذلك؛ لأن التيار موجود مثل تيار الكهرباء، إذا أزيلت هذه النجفة وجعلت مكانها نجفة أخرى، فليس الضوء في ذات النجفة، إنما هو تيار تستمده النجفة فتضيء، فإذا أزيلت ووضعت مكانها نجفة أخرى، استمر التيار كما هو، فكذلك إذا نزعت عضلة القلب وزرعت مكانها عضلة أخرى لكافر أو لبهيمة، لا يقتضي ذلك كفر الإنسان، ولا يقتضي نقصاً في معلوماته، ولا زوالاً لمدركاته، سيبقى ممتعًا بما كان ممتعًا به، والعمى المقصود به هنا: الضلال، فهو العمى الحقيقي، وهو الضلال عن منهج الله جل جلاله، وعدم اتباع سبيله.

ثم الصلاة بعد والسلام على نبي دينه الإسلام

(ثم) للعطف بانفصال، فبعد حمد الله جل جلاله، بعد استفتاح الكتاب بحمد الله جل جلاله، والثناء عليه بما هو أهله نؤدي حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو آكد الحقوق علينا بعد حق الله جل جلاله، فلا بد من تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا ًرسول الله، ولا يمكن التفريق بينهما، فمن شهد أن لا إله إلا الله، ولم يشهد أن محمداً رسول الله غير مسلم، فلا بد من الجمع بين الشهادتين معاً؛ فلذلك نؤدي حق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أداء حق الله جل جلاله، فنقول: (ثم الصلاة بعد)؛ أي: بعد حق الله، بعد الثناء على الله الصلاة، وهي الرحمة المقرونة بالتبجيل، وصلاتنا نحن معناه: طلبنا من الله أن يصلي، فهذه الرحمة المقرونة بالتبجيل لا تكون إلا من الله جل جلاله، ونحن عاجزون عن إسدائها وأدائها، فهي من الله وحده، ومثل ذلك صلاة الملائكة، فهي دعاء أيضاً إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، فهذه الآية فيها ثلاثة أنواع من أنواع الصلاة: صلاة الله جل جلاله، وصلاة ملائكته، وصلاتنا نحن التي فرضت علينا.

فصلاة الله جل جلاله هي رحماته وبركاته مع التوقير والتبجيل.

وصلوات الملائكة وصلاتنا نحن هي الدعاء بذلك، وسؤال الله ذلك.

و(السلام)؛ معناه: الأمان، وهو يطلق على التحية عند القدوم، فكل قادم على أحد من الأدب أن يحييه، ويستأنس في حديثه قبل بداية الشروع في الكلام، فالسلام قبل الكلام؛ ولذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27]، وقد كان أهل الجاهلية يحيون المقدوم عليه حسب حاله ومستواه، وكل ملك يختار تحيةً لنفسه يخاطب بها، فمن الملوك من يحيا بأبيت اللعنة، أي: أبيت كل نقص، ولعن، وذم، ومنهم من يحيا بأنعم صباحاً، وهي تحايا الملوك، وهي في أغلبها، أو في كلها، دعاء للمقدوم عليه، والله جل جلاله لا يمكن أن ندعو له أصلاً، فهو المالك للسلام والتحايا كلها؛ فلذلك نقول في التشهد: التحيات لله، فلا يمكن أن نحييه بمثل ما يحيا به أهل الدنيا من الدعاء؛ فلذلك قال: (السلام)، فالسلام من التحية، والرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا تحية الإسلام، وهي: السلام، أن يقول القادم: السلام عليكم ورحمة الله، وإذا زاد وبركاته، فقد تم الفضل، ولا زيادة بعد ذلك، فإذا قال: السلام عليكم، حصل عشر حسنات، فإذا قال: ورحمة الله، حصل عشرون حسنة، فإذا قال: وبركاته، حصلت ثلاثون حسنة، وهذه هي تحية الإسلام المشروعة، وقد عرفها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلال السلام، فالسلام مما علمهم إياه وعودهم عليه، فلذلك في حديث كعب بن عجرة: ( أما السلام عليك فقد عرفناه، فعلمنا كيف نصلي عليك؟ )، والسلام تحية، وهو في بداية اللقاء، وبداية القدوم، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكره كأنه قدوم عليه؛ لأنه ما من أحد يصلي عليه أو يسلم في أي وقت ولا أي مكان إلا كلف الله ملكاً يوصل إليه التحية، ويرد الله عليه روحه حتى يرد على المصلي عليه، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

والسلام معناه: الأمان من معاطب الدنيا والآخرة.

(على نبي دينه الإسلام)، وهو: محمد صلى الله عليه وسلم، فهو النبي الذي جاء بالإسلام من عند الله، والنبي فعيل، قد تكون بمعنى فاعل، وقد تكون بمعنى مفعول، فإذا كانت بمعنى فاعل فهو المنبئ، أي: المخبر عن الله جل جلاله، وإذا كانت بمعنى مفعول، فهو المنبأ عنه، أي: الذي يأتيه خبر السماء يتنزل عليه الوحي، وهي أيضاً إما أن تكون من النبأ أو من النبوة، فالنبأ الخبر -كما ذكرنا- أو من النبوة، وهي الارتفاع لعلو منزلته، ورفع مقامه.

ولا اختلاف على المعنيين في القراءة، فقراءة الجمهور تصحيح الهمزة بالواو في النبوة، والنبيين، والأنبياء، في القرآن كله، وقراءة نافع انفردت من بين القراءات العشر كلها بالهمزة: النبوءة والنبيئين والنبيء، وتعرفون أن كلمتين فقط في سورة الأحزاب أدغم فيهما قالون عن نافع، وما سوى ذلك كله لـنافع فيه همز هذه المادة كلها، ولذلك قال الشيخ أحمد بن حمد رحمة الله عليهما في نظمه في مفردات القراء العشرة:

همز النبيء نافع مع بابه مما به انفرد عن أصحابه

(همز النبيء نافع مع بابه)، النبوءة، والنبيئين، والأنبئاء، مما انفرد به عن بقية القراء العشرة.

وعرف النبي بأنه دينه الإسلام، ودينه هذا الدين الذي هو الدين عند الله، والدين في اللغة: الطبع والجزاء، فيطلق على الطبع والعادة، ومن ذلك قول امرئ القيس:

كدينك من أم الحويرث قبلها وجارتها أم الرباب بمأسل

كدينك، أي: كعادتك وطبعك، ويطلق على الجزاء، ومن ذلك قول الشاعر:

لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب عني ولا أنت دياني فتخزوني

لا أنت دياني، أي: محاسبي ومجازي، فتخزوني.

ومنه قول الله تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، أي: يوم الجزاء، والدين المقصود به الملة بكل تشريعها، فيشمل ذلك التكليف وجزاءه، كل ذلك من الدين، التكليف وما رتب عليه من الجزاء، ما رتب على الامتثال والاجتناب من الثواب، وما رتب على الإخلال من العقاب سواءً كان دنيوياً أو أخروياً كل ذلك داخل في لفظ الدين، والإسلام مصدر أسلم، بمعنى: سلم، فيقال: أسلم وجهه لله، بمعنى: سلمه له، ولم يعارض شيئاً من أمره، ولم يخالف شيئاً من منهجه، وأسلم نفسه لله، بمعنى: أودعها عنده، سلمها إليه، اللهم أسلمت نفسي إليك، في دعاء النوم، معناه: أودعتها عندك، فهي أمانة لديك.

والإسلام في الاصطلاح: هو هذا الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومذهب جمهور السلف أن الإسلام هو الإيمان، وأن دلالتهما واحدةٌ، فيدخل في ذلك عمل القلب، وعمل اللسان، وعمل الجوارح، فكل ذلك إيمان وإسلام، وذهب بعض السلف إلى أن الإيمان مختص بعمل القلب، وأن الإسلام مختص بعمل الجوارح إذا اجتمعا، أما إذا افترقا فأطلق الإسلام وحده، فسيشمل الدين كله، أو أطلق الإيمان وحده، فسيشمل الدين كله، ( من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله )، وهذا يشمل الإسلام كله، ( بني الإسلام على خمس ).

وإذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا على الراجح، فإذا اجتمعا افترقا، مثل حديث جبريل، سأله عن الإيمان، وسأله عن الإسلام، وبين كل واحد منهما وحده، وإذا افترقا اجتمعا، مثل حديث وفد عبد القيس: ( أن وفد عبد القيس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إنا نأتيك من شقة بعيدة، ولا نصل إليك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فأمرنا بأمر فصل ندخل به الجنة، ونأمر به من وراءنا، فقال: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فبين لهم أعمالاً من أعمال الجوارح: شهادة أن لا إله إلا الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا الخُمُس من المغنم، وأنهاكم عن أربع: عن الدباء، والحنتم، والمزفت، والمقير، أو ربما قال: النقير )، فبين لهم هذه الأمور، وهي من عمل الجوارح، وسماها الإيمان بالله.

محمد خاتم رسل ربه وآله من بعده وصحبه

هذا النبي هو محمد، فبعد أن أتى به وعرفه بدينه أراد تعريفه باسمه، فقال: (محمد) صلى الله عليه وسلم، وهذا اسمه الذي سماه الله به في كتابه في عدد من المواضع، وقد ألهم الله جده عبد المطلب أن يسميه به، فقيل: لم تسم ابنك هذا الاسم الذي ليس فيه أحد من أجدادك ولا آبائك؟ فقال: رجوت أن يحمده أهل السماء وأهل الأرض، فحقق الله رجاءه.

(خاتم رسْل ربه)؛ أي: هو الذي ختم الله به الرسائل إلى أهل الأرض، فالله يختار من الملائكة رسلاً ومن الناس، وقد ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا يأتي أهل الأرض بعده رسول من عند الله؛ لأن الله قال: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، خاتم النبيئين، خاتم النبيين، فهو الخاتم للرسل جميعاً.

(خاتم رسْل ربه)؛ أي: رسل الله جل جلاله، (وآله)؛ أي: الصلاة والسلام أيضاً على آله، وهم: أقاربه المؤمنون به، فيشمل ذلك بني هاشم ومواليهم إجماعاً، وبني المطلب أيضاً على الراجح، فـالمطلب أخو هاشم، ولهما أخوان آخران، وهما: عبد شمس ونوفل، ولكن عبد شمس ونوفلاً انفردا في مقابل بني هاشم وبني المطلب في أول البعثة؛ ولذلك قال أبو طالب:

أيا أخوينا عبد شمس ونوفلا أعيذكما بالله أن تحدثا حربا

قال:

لقد حالفوا قوماً علينا أظنةً يعضون غيظاً خلفنا بالأنامل

فانفردوا، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه عثمان بن عفان وجبير بن مطعم يريدان نصيب بني عبد شمس وبني نوفل من الخمس ذكر لهما أن الخمس مختص ببني هاشم وبني المطلب، فذكر قرابتهما، فقالا: نحن وبنو المطلب سواء، ما افترقنا في جاهلية ولا في إسلام، فهؤلاء هم آله، ويدخل فيهم أزواجه أيضاً فهم من آله، والمسلمون من بني هاشم وبني المطلب، فيتناول ذلك من حرموا الصدقة بعده، وهم بنو العباس، وبنو علي، وبنو جعفر، وبنو عقيل، فهؤلاء الذين بقوا، وأما بنو أبي لهب وإن كانت فيهم بقية، فليسوا من آله؛ لأن الله قطعهم عنه حين أنزل: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]، ولذلك في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن آل أبي فلان -أي: آل أبي لهب- ليسوا لي بأولياء )، وآل لا يضاف إلا إلى العاقل الشريف، فلا يضاف إلى غير العاقل أصلاً، ومن النادر أن يضاف لغير العاقل إلحاقاً له بالعاقل، كقول الشاعر:

من الجرد من آل الوجيه ولاحق تذكرنا أوتارنا حين تصهل

ولا يضاف إلا إلى الشريف، وقد يعترض على ذلك بقول الله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، ويجاب عن ذلك بأن لهم شرفاً باعتبار الحياة الدنيا؛ لأنه قال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51].

(آله من بعده وصحبه) من بعده، أي: بعد أن يصلى ويسلم عليه هو، فآله وصحبه أيضاً يستحقون ذلك، (وصحبه): هم الذين صحبوه، وآمنوا به، ولقوه على الوجه المتعارف في الدنيا، وماتوا على دينه، ولو تخلل ذلك ردة على الصحيح.

كيفية الإلمام بعلم الفرائض

السؤال: كيف أكون خبيراً في الفرائض؟ وما هي وسيلة ذلك؟

الجواب: أن وسيلة ذلك الدراسة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنما العلم بالتعلم )، وهذا الحديث علقه البخاري في الصحيح، ووصله ابن أبي عاصم في السنة، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم ).

تعريف المناسخات

السؤال: تسمية التركة التي توقف حتى يموت بعض الوارثين.

الجواب: لعله يقصد السؤال عن المناسخات، المناسخات هي أن يموت ميت فلا تقسم تركته حتى يموت ميت آخر من الورثة، وستأتي تفصيلاتها، وتسمى مناسخات؛ لأن التركة الأولى نسخت، القسمة الأولى نسخت بقسمة ثانية.

معنى كون علم المواريث نصف العلم

السؤال: ذكرتم أن أهل العلم ذكروا أوجهاً في كون علم المواريث نصف العلم، وعند التفصيل ذكرتم وجهاً واحداً، فما هي الأوجه الباقية؟

الجواب: ذكر بعضهم أوجهاً أخرى غير الوجه الذي ذكرته، لكنها غير متضحة، فمنها أن بعضهم رأى أن العلم منه ما هو قياسي، ومنه ما هو نصي، وعلم الفرائض نصي لا يدخله القياس، وبقية العلوم يدخلها القياس، لكن يجاب عن هذا: بأن بقية العلوم أيضاً فيها نصي، وهذا الوجه هو الذي اختاره عدد من الشراح لهذا الحديث.

ولهم وجوه أخرى، منها: أن كون علم التركات نصف العلوم أن العلوم إما أن تكون في حال تتعلق بالعبادات، أو تتعلق بالمعاملات، فما تعلق منها بالعبادات نصف، وما تعلق بالمعاملات نصف، وأهم ذلك النصف أن الإنسان يمكن ألا يبيع وألا يشتري طيلة حياته، لكن إذا مات لا بد أن ينتقل ماله إلى غيره، فيكون ذلك حتمًا، لكن هذه الوجوه غير جيدة في مقابل الوجه الذي ذكرناه.

تقسيم العلوم إلى ثلاثة هل يعارض أن التركة نصف العلم

السؤال: العلوم ثلاثة: فريضة عادلة، ألا تكون التركة ثلث العلم، ويكون ذلك معارضاً لما سبق من أنها نصفه؟

الجواب: لا، إن هذه الثلاثة ليست متساويةً حتى يقال: إنها أثلاث، إن العلم أثلاث، منقسم إلى ثلاثة بالضرورة.

قسمة التركة هل هي على الفور

السؤال: هل تجب قسمة التركة فورًا أم لا؟

الجواب: لا تجب؛ لأن القسمة المقصود بها تمييز حق، فإذا تنازل بعضهم عن حقه لم تلزم القسمة، كما إذا مات ميت وترك ولدين، فتنازل أحد الولدين للآخر عن نصيبه، فلا تلزم القسمة أصلاً.

ضابط الفورية في قسمة التركة

السؤال: وما مقدار الفورية؟

الجواب: الحق للوارثين، فإذا طلب أحدهم تمييز حقه لم يجز التأخير بحسب المستطاع.

معنى القعدد

السؤال: ما معنى القعدد؟

الجواب: القعدد: هم بنو العم الأقعد منهم، أي: الأقرب إلى الإنسان الميت، وهنا قاعدة: أن كل نسب ذكرناه في علم الفرائض فإنما هو إلى الميت، إذا قيل: زوجة، أو قيل: ولد، أو قيل: أخ، أو ابن ابن، فالمقصود للميت دائماً، فكل نسب يذكر في هذا العلم فهو للميت دائماً.

توضيح قول: النصف ونصفه ونصف نصفه

السؤال: ما معنى قولنا: النصف ونصفه ونصف نصفه؟

الجواب: النصف معروف، ونصفه: هو الربع، ونصف نصفه: هو الثمن، والثلثان معروفان، ونصفهما: الثلث، ونصف نصفهما: السدس.

الأخوان التوءمان من اللعان، هل يتوارثان

السؤال: الأخوان التوءمان من اللعان، هل يتوارثان؟

الجواب: نعم، يتوارثان توارث الإخوة لأم؛ لأنهما لأم قطعاً، ولكن ليس أبوهما معتبراً شرعاً، فيرث أحدهما من الآخر الثلث، إن كان وحده، وإن كان معه غيره ورث السدس.

التخلص من الرق بدفع المال

السؤال: هل يجوز التخلص من الرق، بمقابل؟

الجواب: هذا السؤال عن حكم الكتابة، لعله عن حكم الكتابة، والكتابة أمر الله بها في كتابه، فقال تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33]، فمن كان مملوكاً وله مال، أو يستطيع إنتاجه، فله أن يتخلص من الرق بدفع المال لمالكه؛ حتى يتخلص من ذلك، كما أمر الله بهذا في كتابه.

حقوق الميت على الورثة

السؤال: ما حقوق الميت على الورثة؟

الجواب: هذا بحسب حاله هو، وأهمها الدعاء، والبر الذي يبقى لوالديه، فالدعاء؛ لقول الله تعالى: وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، والصدقة عنهما، ووصل أرحامهما، ووصل ذوي صلتهما، ومثل ذلك الوفاء بوصيتهما، ونحو ذلك كإنفاذ وصيتهما، وقضاء ديونهما.

الوالدان من الأقربين

السؤال: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7]، هل معنى ذلك أن الوالدين لا يوصفان بوصف القرابة؟

الجواب: لا، هما من القرابة، لكن هذا من عطف العام على الخاص، فالوالدان لا يمكن أن يحجب الإنسان عن الميراث منهما، والأقارب يمكن الحجب بحسب القرب، لكن من مات وله ولد أو بنت لا يمكن ألا ترث منه أبداً إلا بالمانع إذا حصل مانع من موانع الإرث.

تفسير (الحمد) اصطلاحاً

السؤال: ما هو تفسير (الحمد) اصطلاحاً؟

الجواب: (الحمد) اصطلاحاً، بحسب اصطلاح العلم الذي يذكر فيه، فكثير من الناس يعرف (الحمد) اصطلاحاً بأنه فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعماً، وهذا اصطلاح للفقهاء لا لمن سواهم، فأهل التفسير -مثلاً- اصطلاحهم في (الحمد): هو الوصف بالجميل على الجميل الاختياري أو القديم سواءً كان من باب الإحسان، أو من باب الكمال، وإن شئت قلت: سواءً كان من باب الفضائل، أو من باب الفواضل، أو سواءً كان في مكافأة نعمة أو لا، والحمد اصطلاحاً عند كثير من الناس موافق للشكر لغةً، الشكر لغةً أيضاً هو فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعماً، وهذا الذي يقول فيه علي الأجهوري:

إذا نسبا للحمد والشكر رمتها بوجه له عقل اللبيب يوالف

فشكر لدى عرف أخص جميعها وفي لغة للحمد عرفًا يرادف

عموم لوجه في سوى ذين نسبة فذي نسب ست لمن هو عالم

الحقوق المتعلقة بالتركة

السؤال: ما هي الحقوق المتعلقة بالتركة؟

الجواب: الحقوق المترتبة فيما للميت بعد موته خمسة، وهي: مؤن تجهيزه بالمعروف، ثم حق تعلق بعين -بذاتها- من متروكه، ثم الدين، ثم الوصية بثلث الباقي، ثم ما بقي لوارثه، وهو التركة.

أول من فصل العلوم عن بعضها

السؤال: ذكرتم أن أول من فصل علم التفسير عن الحديث هو يزيد بن هارون، فأريد أن تذكر أسماء الذين فصلوا الفقه والتركة؟

الجواب: بالنسبة للفقه والتركة، الفقه من أوائل من فصله أصحاب أبي حنيفة، وبالأخص محمد بن الحسن الشيباني، ثم بعد ذلك سحنون، أو أسد بن الفرات (المذهب المالكي)، هؤلاء أوائل من فصل الفقه عن الحديث.

رد النبي لمن يسلم عليه من أي مكان

السؤال: هل رد النبي صلى الله عليه وسلم على من سلم عليه مقيد بكون المسلم عليه عند قبره، أو سواءً بأي مكان كان؟

الجواب: لا، لا يختص بالقائم عند قبره، بل إذا سلم عليه الإنسان في أي مكان، رد الله عليه روحه؛ حتى يرد عليه السلام صلى الله عليه وسلم.

أنواع الحمد

السؤال: ما هي أنواع الحمد؟

الجواب: أربعة: حمدان قديمان، وحمدان حادثان، فالقديمان حمده لنفسه، وحمده لبعض عباده، والحمدان الحادثان حمدنا لله، وحمد بعضنا لبعض، قد قال في ذلك العلامة أحمد فال:

وأل بحمد ربنا الرزاق محتمل العهد والاستغراق

فالعهد أن الله لما علما بعجزنا عن حمده الذي سما

حمد نفسه تعالى في الأزل ثم دعا لحمده بذاك جل

ومعنى الاستغراق عند العلما أن جميع الحمد لله انتمى

معنى جميعه الضروب الأربعه أي حادثاه وقديماه معه

أما القديمان فحمد الحق لنفسه ولصفات الخلق

والحادثان حمدنا للوالي وحمد بعضنا لبعض تالي

معنى الأوعية المنهي عنها في حديث وفد عبد القيس

السؤال: ما هي معاني الأوعية المنهي عنها في حديث وفد عبد القيس؟

الجواب: هي من الأوعية التي يوضع فيها الشراب، فقد كانوا أهل نقير، ويكثر في بلادهم شرب الخمر، والسكر، فنهاهم عن أربعة من الأوعية، وهي الدباء، والدباء هو الذي يسمى بالقرع، ويسميه الناس بالعامية الشغلاء، وهو النبات المعروف الذي يشبه البطيخ، وهو كبير، فوعاؤه يسرع التغير لكل ما وضع فيه.

والحنتم: هي الجرار الخضر التي تتخذ من الطين فتطبخ تطبخ، الطين فتكون جراراً، تصنع منه الجرار، وهي القدور التي تشبه قلال هجر، وهذه يسرع التغير لما وضع فيها.

وأما المزفت أو المقير فهو: الإناء الذي طلي بالزفت، أو بالقار، والقار هو الزفت، وهو الذي تسمونه أنتم اليوم بالإسفلت الذي تبلط به الشوارع، فهذه المادة إذا طلي بها الإناء يسرع التغير لما فيه؛ لأنه تتغلق مسامه، فيسرع التغير لما فيه، هو الذي يسمى بالمزفت، والمقير.

وأما النقير فهو: أصل النخلة إذا قطع وانتزع قلبها، فمكان قلبها إذا اتخذ إناءً، فيسرع التغير لما خمر فيه، وقد كان هذا في صدر الإسلام، ثم نسخ، فأبيح استعمال جميع الأواني بما فيها هذه الأربعة، فالحكم فيها منسوخ.

من أسلم من آل أبي لهب ليس من آل البيت

السؤال: هل من أسلم من آل أبي لهب لا يدعى من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟

الجواب: نعم، قد أسلموا ولم يكونوا من آل بيته، لكنهم كغيرهم من قريش.

حالات اللام في (الله)

السؤال: إذا كانت (أل) عهديةً فما هي حالات اللام في (الله)؟

الجواب: إذا كانت عهديةً، فالمقصود به الثناء، اللام تكون للاستحقاق فقط، حالة واحدة؛ لأن حمد المعهود هو حمده لنفسه في الأزل.

أضرار تأخير قسمة التركة

السؤال: ما يفعله بعض الناس من عدم تقسيم تركة الميت، فتبقى بين الأولاد يتصرفون فيها كل على حدة، وقد يختص بها الأكبر عن إخوته فما حكم هذا؟

الجواب: أن هذا مما لا يجوز إلا إذا حصل فيه التراضي، ويصعب حصول التراضي، ويكثر في مثل هذا الحياء، فيستحيي الإنسان أن يطالب بنصيبه، ومع ذلك يجد في صدره على إخوته حين يتصرفون في ماله، فالأفضل لهم أن يقسموا، ثم بعد ذلك من أراد منهم أن يعطي إخوته من ماله، فله الحق في ذلك.

نسبة عبد شمس ونوفل إلى العرب العاربة، أو المستعربة

السؤال: عبد شمس ونوفل هل هما من العرب العاربة، أم من العرب المستعربة؟

الجواب: عبد شمس ونوفل من قريش، من بني عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، وقد قال البدوي رحمه الله:

عبد مناف قمر البطحاء أربعة بنوه هؤلاء

مطلب وهاشم ونوفل وعبد شمس هاشم لا يجهل

لا يعرف الحساب ويريد أن يعرف علم الفرائض

السؤال: هل يمكن لمن لا يعرف الحساب أن يعرف علم الفرائض؟

الجواب: نعم، قد يكون الإنسان لا يعرف الحساب، ولكنه إذا تعلم علم الفرائض، علم من الحساب ما يحتاج إليه فقط، ولا يحتاج إلى أكثر من ذلك.

أقسام الذكر

السؤال: ذكرتم أن الذكر قسمان فما هما؟

الجواب: ذكر اللسان وذكر القلب، وقد يجتمعان معاً.

وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا إيماناً ويقيناً وصدقاً وإخلاصاً وعلماً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح متن الرحبية [5] 3569 استماع
شرح متن الرحبية [7] 3107 استماع
شرح متن الرحبية [11] 3024 استماع
شرح متن الرحبية [9] 2681 استماع
شرح متن الرحبية [13] 2631 استماع
شرح متن الرحبية [3] 2590 استماع
شرح متن الرحبية [12] 2402 استماع
شرح متن الرحبية [14] 2349 استماع
شرح متن الرحبية [10] 2330 استماع
شرح متن الرحبية [8] 2165 استماع