شرح متن الرحبية [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

قال المؤلف رحمه الله:

ونسأل الله لنا الإعانه فيما توخينا من الإبانه

عن مذهب الإمام زيد الفرضي إذ كان ذاك من أهم الغرض

من السنة في كل عمل مهم يقصد به وجه الله تعالى أن يستأنف بالدعاء، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستأنف حجه، وعمرته، وأسفاره، وجهاده، بالدعاء؛ ولذلك جاء بالدعاء ثالثاً بعد حمد الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، فسأل الله سبحانه وتعالى، فقال: ( ونسأل الله )، وكان مقتضى السياق أن يقول: وأسأل الله؛ لأنه مفرد، ولكنه يدعو باسمكم جميعاً، فأنتم مشاركون له في دعائه، ويريد إدخال غيره حتى لا يرد الدعاء، فالإنسان يرجو ويخاف، فيرجو لكرم الله جل جلاله، ويخاف لتقصيره هو في جنب الله، فيرجو استجابة الدعاء لكرم الله جل جلاله، ويخاف رده لتقصيره هو ونقصه، لكن إذا كان معه غيره وبالأخص إذا كانوا عدداً غير محصور، فإن ذلك مظنة للإجابة لأن يكون فيهم المجابون، وهذا السياق تبع فيه سياق الفاتحة، ففيه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، (إياك نعبد) فالفعل هنا مسند لضمير جميع العابدين بمن فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنبياء الله، وملائكته الكرام، وكل العابدين في السموات وفي الأرض، (وإياك نستعين) كذلك يشمل جميع المستعينين الداعين في السموات وفي الأرض، فلهذا قال: ( ونسأل الله ) عطفاً على ما مضى، نسأل الله، أي: نطلب منه الإعانة، ( لنا الإعانه ) معناه: أن يعطينا الإعانة، ( فيما توخينا من الإبانه )، معناه: على ما توخينا من الإبانة، أي: الإظهار ( عن مذهب الإمام زيد الفرضي ) معناه: أن يعيننا على إظهار ما توخينا، معناه: ما قصدنا إظهاره من مذهب زيد بن ثابت رضي الله عنه.

والإعانة معناها: أن يخلق الله قدرةً واستطاعةً للإنسان، وأن يوجهها إلى فعل المأذون فيه، فيكون ذلك إنفاذاً له، فالإنسان لا يستطيع أن يفعل الفعل إلا بمشيئة الله، ثم بعد ذلك بعونه؛ لأن الله قال: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29]، فلا يمكن أن ينجز عملاً إلا بعون الله جل جلاله، ولهذا يقول الحكيم:

إذا كان عون الله للمرء صاحباً تهيا له من كل صعب مراده

وإن لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده

(فيما توخينا) معناه: قصدنا، وتوخى بمعنى: قصد، يقال: توخى فلان جهة المشرق، أي: قصد جهة المشرق، ومن ذلك قول الشاعر:

فلما رأى أن النطاف تعذرت رأى أن ذا الجنبين لا يتعذر

توخى بها مسرى سهيل ودونه من الشام أجبال تطول وتقصر

(توخى بها) معناه: قصد، (مسرى سهيل)، سهيل: الكوكب الذي يطلع من الجنوب دائماً، ومسراه الاتجاه الغربي.

(من الإبانه) الإبانة: هي الإظهار، وهي مصدر أبان الشيء يبينه، وهذا الفعل يستعمل لازماً، ويستعمل متعدياً، فيقال: أبان الشيء، بمعنى: ظهر، ويقال: أبانه فلان، أي: أظهره، ( عن مذهب الإمام زيد الفرضي )، (عن) هنا نائبة عن اللام، وحروف الجر يقع التبادل بينها، فالمقصود من الإبانة لمذهب زيد، ومذهبه معناه: جهة ذهابه، فالمذهب تطلق على الزمان والمكان، وتطلق على المصدر، فهي مفعل من ذهب يذهب.

وقواعد المفعل أربعة:

من ذي الثلاثة لا يفعل له ائت بـمفـ عل لمصدر او ما فيه قد عملا

من زمان أو مكان، معناه: أن الفعل الثلاثي الذي مضارعه غير مكسور وهو غير واوي، الفاء ولا معتل اللام، فالمصدر والزمان والمكان منه بالفتح، وهذه القاعدة الأولى.

القاعدة الثانية: (كذاك معتل اللام مطلقاً).

معناه: أن معتل اللام مطلقاً سواءً كان مضارعه بالفتح أو بالكسر، فإن المفعل منه للمصدر والزمان والمكان بالفتح أيضاً.

القاعدة الثالثة: (وإذا الفا كان واوً فكسر مطلقاً حصلا).

معناه: إذا كان الفعل واوي الفاء مطلقاً، فإن المفعل منه بالكسر للمصدر، والزمان، والمكان.

والقاعدة الرابعة: (في غير ذا عينه افتح مصدراً وسواه اكسر).

معناه: أن ما سوى هذه القواعد الثلاثة يفتح المصدر منه، ويقال فيه: الـمفعَل، ويكسر الزمان والمكان، فيقال فيه: المفعِل.

فالمذهب بالفتح للمصدر، والزمان، والمكان، وعلى هذا يحمل قول الشاعر:

ذهبت من الهجران في غير مذهب ولم يك حقاً كل هذا التجنب

(ذهبت من الهجران في غير مذهب) إما أن يكون المعنى في غير ذهاب، أو في غير مكان ذهاب، أو في غير وقت ذهاب، فيكون مصدراً، أو زماناً، أو مكاناً.

والمذهب في الاصطلاح هو طريقة للتعامل مع النصوص، فالنصوص الشرعية هي الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتاباً وسنةً، وهذا الوحي متضمن لما يريده الله من عباده من الأقوال، والأفعال، والنيات، والاعتقادات، والأخلاق، ولكن ذلك قد يكون واضحاً جلياً، وقد يكون خفياً فيتفاوت الناس في فهمه، والنوازل والوقائع تتجدد دائماً، والنصوص محصورة لا يمكن أن ينزل منها شيء بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبموت النبي صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء، فلا يمكن أن يزداد القرآن، ولا أن تزداد السنة، والنوازل والوقائع متجددة، كل يوم يعرض منها جديد، فنحتاج إلى بيان حكمه، وقد أحالنا الله في ذلك إلى استنباط أولي الأمر، وهم العلماء العاملون الذين نور الله بصائرهم بنور الوحي، وألهمهم رشدهم، فاهتدوا إلى مراد الله جل جلاله من كلامه، ففهموا منه ما لم يفهمه سواهم؛ ولذلك قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، فأولئك هم العلماء العاملون الذين رسخت أقدامهم في العلم والتقوى، فنور الله بصائرهم، وألهمهم رشدهم، ولا يمكن أن يفهم أحد عن الله ولا عن رسوله إلا من فهمه الله جل جلاله، وقد أخبر الله بخصوص ذلك بأولي العلم، فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، فهم الذين يفهمون عن الله جل جلاله، وأولئك لهم طرق في فهم النصوص والتعامل معها، ولم يكن ذلك في الصدر الأول، ففي العهد النبوي لا نحتاج إلى مذهب؛ لأن الدين مأخوذ من الوحي ما دام النبي صلى الله عليه وسلم حياً، إما من قوله، وإما من فعله، وإما من إقراره لغيره، لكن لما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم لم تشتد حاجة الصحابة أيضاً إلى البحث فيما خفي؛ لأن حياتهم لم تتغير عما تركهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد الخلفاء الراشدين المهديين، وحصلت تغيرات في أشياء قليلة اجتهدوا فيها، لكن لا يمكن أن تغطي مساحةً كبيرة،ً فلا يمكن أن تكون لهم مذاهب.

لكن لما جاء التابعون بدءوا بالتفكير والتقعيد، ومع ذلك لم تظهر لهم مذاهب وإن كان أبو حنيفة معدوداً في نطاق التابعين؛ لأنه رأى أنس بن مالك رضي الله عنه يصلي، فرآه يشير للتشهد بإصبعه، وهذا يدل على أنه تابعي؛ لأنه روى عن صحابي، فالتابعي ليس شرطه كشرط الصحابي، فالصحابي شرطه مجرد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ولو لم يرو عنه شيئاً، لكن التابعي من شرطه أن يروي عن الصحابي، فإذا عاش معه زماناً طويلاً ولم يرو عنه شيئاً، لا يعتبر من التابعين، فلا بد للمسلم في شرط التابعية أن يكون روى عن الصحابي ولو روى عنه فعلاً واحداً، أو قولاً واحداً، فـأبو حنيفة معدود في التابعين، لكن إنما كان إنتاج مذهبه فيما بعد، وبعد ذلك في أيام أتباع التابعين ظهرت المذاهب، فاجتهد المجتهدون، واستعملوا النصوص، وعرفوا دلالاتها، فوجدوا أن اللفظ يدل على المعنى من أربعة أوجه: بمنطوقه، وبمفهومه، وباقتضائه، وبمعقوله، فغطوا مساحات كبيرة من النوازل التي تتجدد من خلال النصوص المحصورة، لم يبتدعوا، ولم يأتوا بشيء من عند أنفسهم، وما أتوا بجديد من ناحية الدليل، لكن أتوا بجديد من ناحية الاستدلال، وفرق بين الدليل ودلالته، فهم استنبطوا دلالات للدليل، ولكن لم يزيدوا الأدلة، فالأدلة محصورة، وهي جاءت من عند الله جل جلاله، لكن دلالاتها هي التي ترجع إلى فهم الناس وعقولهم، و زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه من الصحابة، بل من كبارهم، فليس له مذهب مخصوص، ولكن بما أنه تخصص في الفرائض، وزكاه النبي صلى الله عليه وسلم في علمها، وقد خالفه بعض الصحابة في مسائل قليلة منها، ذكر هو أن ما يذكره من الفرائض هو على مذهب زيد، وهذا من قبيل ما كان بعض الأئمة يستأنس به، فقد كان مالك يقول: لا أعدل عن مذهب عمر، وابنه عبد الله بن عمر، ويقصد بذلك أقضية عمر في زمان إمارته، وكذلك فتاوي عبد الله بن عمر، فقد عاش حتى لم يبق على وجه الأرض أفضل منه بعد أن مات العشرة المبشرون، ومات كثير من كبار الصحابة، عاش ابن عمر حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: عاش حتى لم يبق على وجه الأرض أفضل منه، ولذلك لم يعدل مالك عن مذهبه، وكان يتبعه، فما رواه عن نافع عن ابن عمر لا يعدل عنه، فكذلك في الفرائض قال الشافعي: لا أعدل بمذهب زيد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم زكاه في الفرائض، وقد سبق أن المؤلف من أتباع مذهب الشافعي، فلذلك قال: (عن مذهب الإمام زيد)، ولم ينسبه، وهو ابن ثابت الأنصاري رضي الله عنهما.

الفرضي، معناه: المنسوب إلى الفرائض، أو إلى الفريضة، فالنسبة تكون إلى المفرد لا إلى الجمع، ومن النادر أن ينسب إلى الجمع، وإذا لم تُسمع فإنها تكون لحناً، فيقال: صَحَفي، ولا يقال: صُحُفي، ويقال: دَوْلي، ولا يقال: دُوَلي؛ لأن النسبة إنما تكون إلى المفرد لا تكون إلى الجمع.

وزيد فرضي، وفعلي نسبة إلى فعيلة، كما تعرفون:

وفعلي في فعيلة عُرف وفعلي في فُعلية أُلِف

فهو فرضي منسوب إلى الفريضة، أي: علم الفرائض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم زكاه فيه.

(إذ كان ذاك من أهم الغرض) معناه: حين كان ذاك، فـ(إذ) ظرف زمان يشمل الماضي والمستقبل، إذ كان ذاك، معناه: حين كان ذلك، أي: الإبانة عن مذهب زيد من أهم الغرض، أي: من أهم ما يقصده الإنسان ويكون هدفاً له، والغرض هو الهدف، فأصله ما يرمى، فإذا وضعت شيئاً وسددت الرمي إليه، فالمرمي هو الذي يسمى هدفاً وغرضاً؛ لأنه مقصود، فكان كل مقصود يسمى هدفاً، ويسمى غرضاً، و(أل) التي في الغرض جنسية، أي: من أهم الأغراض، والأهم معناه: ما يصيب فاقده بالهم، فالهم هو الحزن الشديد، ويحصل بوجود شيء، وبفقد شيء، بوجود شيء؛ كنزول المصائب، وبفقد شيء؛ كالضروريات، والأمور المهمة التي إذا فقدها الإنسان أهمته، أي: أصابته بالهم، وهذا معنى المهم، والمهم معناه: ما إذا فقده الإنسان أصيب بالهم لفقده، ( إذا كان ذاك من أهم الغرض ).

علماً بأن العلم خير ما سُعي فيه وأولى ما له العبد دعي

(علماً): هذا مصدر منصوب، ويمكن أن يعرب بأربعة إعرابات، في كل مصدر منصوب في مثل هذا المكان إما أن يكون مفعولاً مطلقاً، وإما أن يكون مفعولاً لأجله، وإما أن يكون حالاً، وإما أن يكون ما ناب عن المطلق، فيكون المعنى: لعلمنا علماً، هذا إذا كان مصدراً، فيكون نائباً عن فعله المحذوف، تقديره: علمنا علماً، وإذا كان بمعنى المفعول لأجله، يكون المعنى: لعلمنا ذلك، فيكون بمعنى لأجل، إذا كان حالاً، معناه: حال كون علمنا بأن العلم خير ما سُعي إليه.

فالعلم خير ما سعي إليه، معناه: ما مشي إليه، وما قصد، فالسعي يطلق على الإسراع في المشي، ويطلق على المشي فقط، فمن إطلاقه على المشي فقط قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، قال مالك في الموطأ: (فاسعوا): فامضوا، معناه: أن هذا من المتفق عليه بين أهل التفسير جميعاً، أنه لا يقصد الإسراع في المشي، ولا يقصد (اسعوا) بمعنى أسرعوا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أتيتم الصلاة، فلا تأتوها وأنتم تسعون، وائتوها وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا )، وفي رواية: ( وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا )، ( إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون )، أي: تسرعون إسراعاً، فذلك مناف للأدب، والسائر إلى الصلاة في صلاة حتى يأتيها، كما ( رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يشبك أصابعه في طريقه إلى المسجد، فنهاه عن ذلك، وبين له أن الساعي إلى الصلاة في صلاة حتى يشهدها ).

فإذاً السعي بمعنى الإسراع هو الموجود في هذا الحديث ( فلا تأتوها وأنتم تسعون )، والسعي بمعنى المشي دون إسراع هو الموجود في الآية فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9].

والسعي يطلق على العمل مطلقاً، أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم:36-41].

(أن ليس للإنسان إلا ما سعى)، معناه: ما عمل، فلذلك قال: ( علماً بأن العلم )، معناه: تعليماً وتعلماً، والعلم يطلق على صفة النفس، وعلى صفة الفعل، فيطلق على صفة النفس، فيقال: فلان عالم، وهو من استوت عنده العلوم إلى مرتبة يعلمها، أو صالحاً لأن يعلمها، وكذلك يطلق على صفة الفعل، فالتعلم والتعليم كلاهما علم.

(بأن العلم خير ما سعي فيه) معناه: هو خير ما مشي إليه، أو خير ما عمل فيه، أي: كان وظيفة للإنسان، (وأولى ما له العبد دعي) هو أولى ما دعي إليه العبد؛ لأن العبد في هذه الحياة مكلف، وله خطة عمل، وهي أربع مراحل:

المرحلة الأولى: تعلم ما أمر الله به.

والمرحلة الثانية: العمل بما تعلمه.

والمرحلة الثالثة: الدعوة إلى ما تعلمه وعمل به.

والمرحلة الرابعة: الصبر على طريق الحق حتى يلقى الله.

وهذه الخطة بينها الله بسورة العصر التي قال فيها الشافعي: لو لم ينزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سورة العصر لكفت حجةً على الناس، فقد قال الله تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا [العصر:1-3] والإيمان لا يمكن أن يكون إلا بعلم، فإذاً هذا العلم، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:3] هذا العمل، وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ [العصر:3] هذه الدعوة، وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] هذا الصبر.

وهي أيضاً وصية لقمان لابنه، كما قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، هذا تعليم، ثم قال: يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ [لقمان:17] هذا العمل، ثم قال: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ [لقمان:17]، وهذه الدعوة، ثم قال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17] وهذا الصبر على طريق الحق، فلذلك كان العلم أولى من العمل، وهو سابق عليه، وقد عقد البخاري في الصحيح باباً لذلك، فقال: باب العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، فبدأ بالعلم قبل العمل.

والعلم داخل في نطاق العمل؛ لأنه إما عمل قلب؛ كالتفكر، وإما عمل لسان؛ كالحفظ، وإما عمل أذن وقلب معاً؛ كالاستماع للدرس، فكل ذلك من أعمال ابن آدم التي تكون في كفة حسناته، أو في كفة سيئاته، بحسب نيته، ولذلك سماه الله جهاداً، فقال: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً [الفرقان:52]، أي: بالقرآن، ولا يكون ذلك إلا بتعليمه، والدعوة إليه، وإقامة الحجة به، وقد أخرج مالك في الموطأ: ( من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه، أو يتعلمه، كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً )، فهذا يقتضي أن العلم بمجرد تعليمه، أو تعلمه، أو إرادة ذلك، ولو لم يعلم أحداً ولو لم يتعلم، ( من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه، أو يتعلمه، كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً ).

وهو داخل في أصل العمل، فقد جاء: (من عد كلامه من عمله قل كلامه فيما لا يعنيه)، فالكلام هو داخل في نطاق العمل، فكذلك العلم داخل في نطاق العمل، ولكن هذا من التخصيص، فقد يطلق الاسم العام على جزئه؛ تشريفاً له، كما يطلق الخاص أيضاً على العام، فيقال: تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، لا يقصد بها الرقبة التي هي العضو، بل المقصود بها: الإنسان بكامله، والعكس كذلك، فقد يطلق العام ويراد به الخاص، مثل ما ذكر، فلذلك قال: (وأولى ما له العبد دعي)، ما دعي له العبد، أي: ما أرشد إليه، فيقال: دعاه يدعوه إلى كذا، أي: أرشده إليه، وأصل الدعاء رفع الصوت فيقال: دعا الله سبحانه وتعالى، أي: جأر إليه، ورفع صوته، ولهج بالمسألة، ويطلق الدعاء على ما يفهم ذلك؛ كالإشارة، والكتابة، فكل ذلك دعاء.

وأن هذا العلم مخصوص بما قد شاع فيه عند كل العلما

بأنه أول علمٍ يفقد في الأرض حتى لا يكاد يوجد

معناه: علماً أن هذا العلم -الذي هو علم الفرائض- مخصوص بما قد شاع فيه عند كل العلما، أي: بما عرف ونقل عند كل العلماء، يقصد من وصل إليهم هذا الحديث الذي ذكرناه، وهو: ( تعلموا الفرائض وعلموها )، فالحديث من علمه عرف أنه ينسى، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، والحديث يدل على فقده ورفعه قبل غيره من العلوم؛ لأنه قال: ( تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإنها نصف العلم، وهو ينسى )، وذلك يدل على أنها تمحى قبل غيرها، وسنة الله سبحانه وتعالى في الخلق وفي إزالته التدرج، فهو يأتي الأرض من أطرافها بالنقص، والإنسان كذلك يرجع بالانتكاس، فإذا بدأ الكبر يتراجع طوله، وتتراجع ضخامته، والإنسان الذي كان ضخماً مع الزمان يتراجع، وهكذا في الأشجار، والمخلوقات كلها، فسنة الله فيها التدرج، ( وكان حقاً على الله ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه ).

فكل علم اشتغل به الناس لمدة فسيأتيه هذا الأمر الموعود به، وهذا الأمر الموعود به يشمل ما كان داخلاً في إطار الثقافة، وما كان داخلاً في إطار المدنية، وهما قسما الحضارة، فالحضارة تنقسم إلى قسمين: إلى ثقافة، وهي المدركات العقلية، وإلى ماديات، وهي التي تسمى بالمدنية، أي: المدركات الحسية، فالمباني والطرق هي من المدنية لا من الثقافة، والمؤلفات، والعادات، والأشعار، والآداب، هي من الثقافة لا من المدنية، والجميع تشمله الحضارة، فالحضارة شاملة للنوعين، وكلاهما موعود بهذا الفناء، أما المدنية؛ فقد قال الله تعالى: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً [الكهف:8]، وأما الثقافة؛ فيدخل ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري: ( كان حقاً على الله ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه ).

فلهذا قال:

وأن هذا العلم مخصوص بما قد شاع فيه عند كل العلما

(بأنه أول علم يفقد في الأرض)، وفقده هو نسيانه المذكور في الحديث، (حتى لا يكاد يوجد)؛ أي: حتى لا يوجد من يقوم به، وقد ورد ذلك في حديث فيه انقطاع: ( أنه يختلف اثنان في مسألة فلا يجدان علمها عند أحد )، أي: من علم الفرائض.

(وأن زيداً خص لا محاله) معناه: وعلماً أن زيد بن ثابت:

خص لا محاله بما حباه خاتم الرساله

من قوله في فضله منبهاً أفرضكم زيد وناهيك بها

أي: أن زيداً نال شهادةً عاليةً في علم الفرائض من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك قال: ( خص لا محاله )؛ أي: خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الشهادة من بين أصحابه، لا ) محاله(؛ أي: لا يستطيع أحد أن ينفي ذلك، فالمحالة في الأصل هي فقرة الظهر، ففقرات الظهر هي المحال، جمع محالة، وذلك أنها تعترض، إذا كانت السكين تحز في اللحم، تعترضها المحالة فلا تقطعها، فكان الشيء المنتهي قريباً يسمى مما تعرض له المحالة، فإذا قيل: لا محالة، معناه: أن الشيء مستمر لا يعرض له ما يمنعه، كالسكين إذا حزت في لحم لا يعترضها عظم، فهذه لا تجد محالةً في قطعها؛ فلذلك قال: ( لا محاله).

(بما حباه خاتم الرساله)، بما حباه؛ أي: بالشهادة التي حباه بها، أي: أعطاه إياها، والحباء هو العطاء، ويطلق على الصداق، ويطلق على عطايا الملوك، فهو ما ليس له مقابل.

(بما حباه خاتم الرساله)، وخاتم الرسالة، أي: خاتم رسالة الله إلى أهل الأرض، هو محمد صلى الله عليه وسلم، والرسالة جنس، فليس المقصود بها رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، بل المقصود: كل الرسائل إلى أهل الأرض، فقد ختمت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، يقال: الخاتِم والخاتَم، بمعنى: المنهِي، ومنه: الخاتم الذي يوضع على الإصبع، فحدوده حدود الإصبع، على قدره؛ ولذلك جاءت القراءتان بهذا: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] أو (وخاتِم النبيين).

(من قوله) من بيانية، معناه: تبيين ما حباه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما هو؟ هو قوله فيه،أي: في فضله، (في فضله)؛ أي: في فضل زيد، منبهاً للأمة على ما لديه من الفضل؛ ليأخذوه، وليعتنوا به، ( أفرضكم زيد )، وهذا لفظ الحديث الذي أخرجه الترمذي وأحمد والحاكم، وقد سبق ذكره.

(أفرضكم زيد وناهيك بها)، وأفرضكم أفعل تفضيل، معناه: أن غيره من الحاضرين يشاركونه في ذلك؛ لأن أفعال التفضيل لا يمكن أن تطلق بين غير المشتركين، كما قال المختار بن بونا رحمه الله:

لا بد أن يشارك المفضولا في فضله الفاضل ع المقولا

معناه: لا يمكن أن تصاغ أفعل التفضيل مما ليس فيه اشتراك، فلا يقال: فلان أطول من فلان، والمطول قصير جداً، لا بد أن يشتركا في الطول حتى يقال: فلان أطول من فلان، فكذلك قوله: (أفرضكم زيد) معناه: أنهم -وعلى الأقل يكون الخطاب للحاضرين، أو المقصودين منهم- يعرفون علم الفرائض، ولكن زيداً زائد عليهم في فضله في معرفة ذلك.

(وناهيك بها) معناه: هذه الشهادة ناهية لك عن البحث عن سواها، فهي كافية، وناهيك من الألفاظ التي أصلها صفة مشبهة ولكنها نقلت إلى المصدر، واستعملت للمبالغة، فيقال: ناهيك بهذا الوصف، أي: ينهاك عما سواه، ويكفيك، مثل ما يقال: كافيك به، ومثل ما يقال: بحسبك كذا، وناهيك بها، أي: بهذه الرسالة.

فكان أولى باتباع التابع لا سيما وقد نحاه الشافعي

فكان زيد أولى باتباع التابع، معناه: من أراد أن يتبع، فـزيد أولى بأن يتبع في علم الفرائض؛ للتزكية النبوية المختصة له بذلك، و(باتباع التابع)، ولا يحتاج إلى ياء فيها، فالطباعة هنا فيها خطأ بإضافة الياء، فالمقصود باتباع التابع، أيّاً كان ذلك التابع.

وذلك أن الإنسان لا بد أن يكون له حظ من الاجتهاد، وحظ من التقليد، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ما من أحد إلا له حظ من الاجتهاد، وحظ من التقليد، فالمجتهد المطلق حظه من التقليد ما يتعلق بالجرح والتعديل في الرجال، فالجرح والتعديل لا يمكن أن يوصله اجتهاده إلى الكلام في جرح فلان، أو تعديله، بل يقلد من جرحه وعدله من معاصريه، فإذاً هذا حظ المجتهد المطلق من التقليد، التقليد في الجرح والتعديل، أما العامي فحظه من الاجتهاد ما يختار به من يستفتيه، إذا جاء إلى جماعة وهو يريد استفتاءً فسيختار منهم من يستفتيه، هل هذا الاختيار بوحي، أو بعقل؟ هو باجتهاد منه، فلذلك هذا حظه من الاجتهاد، وهو لكل أحد، ما من أحد إلا وله حظ من الاجتهاد يختار به من يستفتيه، ولو كان عامياً، والأولى بالاتباع في هذا المجال زيد بن ثابت؛ لأنه مزكىً بالوحي المعصوم، فلذلك قال:

فكان أولى باتباع التابع لا سيما وقد نحاه الشافعي

هذا لبن بزبد، أو تمر بزبد، فقد تبعه الشافعي، وقال: لا أعدل عن مذهب زيد في الفرائض، فقد زكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح متن الرحبية [5] 3568 استماع
شرح متن الرحبية [7] 3105 استماع
شرح متن الرحبية [11] 3021 استماع
شرح متن الرحبية [2] 2794 استماع
شرح متن الرحبية [9] 2678 استماع
شرح متن الرحبية [13] 2628 استماع
شرح متن الرحبية [12] 2400 استماع
شرح متن الرحبية [14] 2347 استماع
شرح متن الرحبية [10] 2328 استماع
شرح متن الرحبية [8] 2163 استماع