صد قريش عن دين الله [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

تقدم معنا الكلام أن المشركين أعداء الله لما وجدوا أن حربهم النفسية واتهاماتهم الباطلة التي يوجهونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تثنه عن دعوته، ولم تؤثر في همته فإنهم لجأوا إلى الإيذاء الجسدي، فحاول أبو جهل لعنه الله أن يشدخ رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر وهو ساجد عند الكعبة، فمنعه الله من ذلك، وأتى عقبة بن أبي معيط بسلا جزور فطرحه على رأس النبي عليه الصلاة والسلام، ومرة اجتمع عليه المشركون فصار بعضهم يدفعه وبعضهم يخنقه، وبعضهم يلكزه حتى جاء الصديق أبو بكر رضي الله عنه فدفع عنه أولئك القوم، وهذا كله ما كان إلا بعد وفاة أبي طالب ، فإن قريشاً ما استطاعت أن تنال شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعدما مات أبو طالب فهو الذي كان له وزير صدق.

ثم لجأوا إلى الاعتداء على الصحابة رضوان الله عليهم، فـأبو بكر الصديق وهو سيد من سادات قريش لم يسلم من أذاهم حتى فكر في الهجرة فراراً بدينه، ولولا أن رجلاً يقال له ابن الدغنة رد أبا بكر من الطريق، ثم وقف في قريش خطيباً، ووبخهم على صنيعهم.

اعتداء المشركين على عبد الله بن مسعود

وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جهر بالقرآن في المسجد الحرام، فنظر المشركون وقالوا: ما يقول ابن أم عبد ؟ فقال بعضهم : إنه يقرأ شيئاً مما جاء به محمد، فقاموا إليه وما زالوا يضربونه حتى أدموه، فرجع رضي الله عنه إلى الصحابة، فقالوا له: قد كنا نخشى عليك مثل ذلك، فقال: (والله ما كان أعداء الله أهون علي مما هم اليوم)، يعني: هذا الأذى الذي نالني ما زادهم عندي إلا هواناً، (ولئن شئتم لأغادينهم بها غداً)، يعني: أرجع مرة أخرى فأقرأ القرآن، يعني: كأن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: أنا لا أهابهم ولا أرهبهم ولا أخاف منهم، وهذا الشيء الذي حملهم على أن يضربوني يمكن أن أعيده غداً، لكن الصحابة رضوان الله عليهم قالوا: حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون.

اعتداء المشركين على عمر وعثمان ومصعب بن عمير

وعثمان بن عفان رضي الله عنه كان عمه الحكم بن أبي العاص يأخذه ويلفه في حصير، ثم يوقد تحته ناراً من أجل أن يؤذيه.

وكذلك مصعب بن عمير رضي الله عنه تسلطت عليه أمه وكانت على دين الشرك، فأخرجته من بيته ومنعت عنه الطعام والشراب حتى صار جلده رضي الله عنه خشناً، وصار متغير اللون بعد أن كان منعماً عند أمه حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رآه دمعت عينه، وقال: ( ما رأيت في مكة فتى أنظر ولا أنعم من مصعب )، يعني: لما كان على دين قومه كان منعماً يعيش في رغد، ولما دخل في دين الله عز وجل تنكرت له الدنيا.

وكذلك اعتدوا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحاولوا قتله؛ لأنه كان دائم الأذى لهم، رضي الله عنه. ومنعه الله بـالعاص بن وائل السهمي.

عثمان بن مظعون واعتداء المشركين عليه

وكذلك عثمان بن مظعون الجمحي رضي الله عنه كان ممن هاجروا إلى الحبشة، ثم لما سرت شائعة بأن المشركين قد أسلموا قفل راجعاً، وكان سبب تلك الشائعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على الناس سورة النجم، فلما بلغ آخرها عند قوله تعالى: أَزِفَتْ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:58-62]، فسجد القوم جميعاً مسلمهم ومشركهم، حتى إن الوليد بن المغيرة وكان شيخاً قد أسن لا يستطيع السجود، أخذ كفاً من تراب فوضع جبهته عليها.

والمشركون لما سجدوا لا لأنهم آمنوا، وإنما لأن القرآن أخذ بمجامع قلوبهم، وسيطر على مشاعرهم بفصاحته وبلاغته وسلاسة أسلوبه وجزالة نظمه وتسلسل منطقه، ففي نهاية سورة النجم وجه الله إليهم هذا السؤال: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ [النجم:59-61]، أي: لاهون لاعبون، ثم أتى بالأمر: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:62]، فسجدوا كلهم مؤمنهم وكافرهم، فسرت شائعة بأن القوم قد أسلموا، فبعض من كان مهاجراً في أرض الحبشة رجع، ومنهم هذا الرجل المبارك: أبو السائب عثمان بن مظعون رضي الله عنه، ودخل في جوار الوليد بن المغيرة ، يعني: مجرد ما علم بأن إسلام قريش شائعة وليست حقيقة، وأن العذاب على أشده دخل في جوار الوليد بن المغيرة المخزومي ، ثم بعد ذلك نظر رضي الله عنه إخوانه يعذبون، فهذا مسلسل في الحديد، وهذا مطروح في الشمس، وذاك محبوس، وهذا قد وضعت الأغلال في عنقه، فقال: ما هذا بإنصاف، ثم ذهب إلى الوليد بن المغيرة وقال له: (قد رددت عليك جوارك -أنا ما أريد أن تحميني- قال له: لم يا ابن أخي؟ هل نابك ما تكره؟ قال: لا. ولكني أرضى بجوار الله).

ثم بعد ذلك جلس في مجلس من مجالس قريش، وكان أحد الناس ينشد شعراً وهو لبيد بن ربيعة ، وكان مما قاله في شعره: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. فقال له عثمان : صدقت. ثم قال: وكل نعيم لا محالة زائل. فقال له: كذبت. نعيم الجنة لا يزول، فهذا الرجل الشاعر تضايق فقال: (يا معشر قريش! متى حدث هذا الحدث فيكم، ما كان جليسكم يسمع ما يكره؟! فأحد الكفرة الفجرة قال له: لا تبال به فهذا سفيه من سفهائنا، يعني عثمان بن مظعون فرد عليه عثمان وعظم أمرهما وكثر القول بينهما حتى قام الكافر فلطم عثمان على عينه فاخضرت، و الوليد بن المغيرة

جالس يرى هذا كله، ثم قال له شامتاً: لقد كنت غنياً عن هذا، يعني: لما كنت في جواري ما كان أحد يستطيع الاعتداء عليك، لقد كنت غنياً عن هذا، فقال له عثمان رضي الله عنه: لا والله إن أختها لأحوج للذي أصابها في الله، فقال الوليد : إن شئت جعلتك في جواري، قال: لا. أنا في جوار الله).

وهنا نستفيد بأن المسلم إذا جلس مجلساً، وهذا المجلس قيل فيه ما يستنكر ينبغي أن ينكر، فإن لم يستطع الإنكار فعليه أن ينصرف؛ لأن الله عز وجل هددنا فقال: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [النساء:140]، من أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. يعني: إنسان سمع ناساً يسخرون من القرآن أو يسخرون من السنة أو يسخرون من بعض الأحكام، فأنكر عليهم وقال لهم: اتقوا الله، هذا باطل، هذا منكر، لا تقولوا هكذا، فقد برئ، لو أنه كره ما قالوا وغادر المجلس فقد سلم، لكن لو أنه جلس يتبسم لهم، ويضاحكهم، فحكمه حكمهم.

ولذلك لما جيء لـعمر رضي الله عنه بجماعة شربوا خمراً، قال: (اجلدوا كل واحد ثمانين، قالوا: يا أمير المؤمنين! كان معهم فلان ما شرب، كان جالساً معهم. قال: اجلدوه مائة)، فالذي كان قاعداً وما شرب هذا اجلدوه مائة، وتلا هذه الآية: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء:140].

وهذا الرجل المبارك عثمان بن مظعون الجمحي رضي الله عنه هو أول من مات من المهاجرين في المدينة، وأول من دفن في بقيع الغرقد، ولما مات رضي الله عنه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما زال يبكي حتى سالت دموعه على عثمان ، ثم إن إحدى النساء يقال لها أم حارثة قالت: (هنيئاً لك الجنة أبا السائب فشهادتي أن الله قد أكرمك). فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( وما يدريك ؟)، أي: ما يدريك أنه من أهل الجنة، وأن الله أكرمه، قالت: (أتوب إلى الله يا رسول الله لا أزكي أحداً بعده، فقال لها عليه الصلاة والسلام: والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل الله بي).

فلا يجوز أن تشهد لمعين من أهل القبلة بأنه في الجنة، إلا من شهد له رسول الله عليه الصلاة والسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم شهد للعشرة: أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وسعد ، وسعيد ، وعبد الرحمن ، والزبير ، وطلحة وأبي عبيدة ، وشهد للحسن والحسين، ( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة )، وشهد لـأبي يوسف عبد الله بن سلام الحبر رضي الله عنه، وشهد لـبلال بن رباح قال له: ( سمعت قرع نعليك في الجنة، أخبرني بأرجى عمل عملته؟ قال: ما أحدثت إلا توضأت، ولا توضأت إلا صليت ركعتين )، فهو من أهل الجنة.

وكذلك شهد لـعمار ووالديه قال: ( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة )، وشهد لـخديجة لما نزل عليه جبريل قال له: ( أقرئ خديجة من ربها السلام، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب )، وشهد لـعائشة لما قالت له: ( يا رسول الله! من أزواجك في الجنة؟ فقال: أنت منهن )، وهذا جواب حكيم، حيث أعطاها الجزء الذي يعنيها فقط أو لم يخبرها عن الأخريات.

فهؤلاء الذين شهد لهم نبينا عليه الصلاة والسلام فإننا نشهد لهم؛ لأن من مقتضيات قولنا: نشهد أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام أننا نصدقه في كل ما أخبر به.

أما بعد ذلك فلو رأيت واحداً من إخوانك يصلي الخمس، ويصوم الشهر، ويصوم يوماً، ويفطر يوماً، ويصلي الضحى، ويصلي السنن القبلية والبعدية، ويقيم الليل، ويتصدق، وهو ممسك للسانه و.. و.. يعني: ظاهره خير محض، لا تشهد له بالجنة؛ لأن هذا خبر عن غيب، والغيب لا يعلمه إلا الله.

وكذلك لا نشهد على معين من أهل القبلة بأنه في النار، يعني: لو أن أحداً من الناس شرير، ولسانه بذيء، وشره كثير، وتارة يصلي، وتارة يترك، وصيامه ملكلك، وما رأيته يوماً يتصدق، إياك! إياك! أن تقول له: يا فلان! أبشرك بالنار، كما يفعل بعض الحمقى. بل اعلم: ( أن الأعمال بالخواتيم )، وقد أخبرنا نبينا الكريم (بأن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، يعني: العكس، فلذلك حكى لنا صلى الله عليه وسلم قصة عابد من عباد بني إسرائيل: كان عنده أحد أرحامه وكان مقصراً متفلتاً، فكان العابد يقول له: اتق الله! اتق الله! ودائماً يوصيه، وذاك يقول له: إليك عني! إليك عني! أي: خليك في حالك، وفي يوم من الأيام كان العابد يصلي وهو ساجد، فجاء هذا الشرير فوضع رجله على رقبته، فالعابد هذا تضايق، فقال له: (ارفع رجلك فوالله لا يغفر الله لك أبداً، فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان: من هذا الذي يتألى -يحلف- علي ألا أغفر لفلان، أخبره أني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك )، فإذا كنت صالحاً لا تغتر فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، وإذا كنت على شر وفساد لا تيأس، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

فـعثمان بن مظعون شهدت له هذه المرأة بالجنة، فأنكر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد زمان بعد حين رأت هذه المرأة عثمان في منامها وله عين تجري، فأخبرت النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ( ذاك عمله )، أي: عمله الصالح الله عز وجل يجري عليه أجره بعد موته.

ثم إنه لم يقتصر التعذيب الجسدي على المسلمين من أهل مكة، بل حتى من قدم من خارجها، كـأبي ذر جندب بن جنادة الغفاري رضي الله عنه، وكذلك أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم، أجاعوها، وعطشوها، وآذوها، أما الموالي فقد بالغوا في إيذائهم، كـبلال بن رباح رضي الله عنه، كانوا يأتون بالواحد منهم فيوثقونه ويجيعونه ويعطشونه ويلقونه في حر الشمس، ويضعون على صدره الصخرة العظيمة ويقولون له: واللات والعزى لا ندعك حتى تكفر بمحمد وإله محمد.

اعتداء المشركين على زنيرة الرومية رضي الله عنها

زنيرة جارية رومية عذبوها، وأجاعوها، وعطشوها، ثم بعد ذلك صاروا يضربونها بالنعال على رأسها حتى ذهب بصرها من كثرة الضرب؛ لأن مركز الإبصار في المخ تأثر من الضرب فذهب بصرها، وكانت رضي الله عنها إذا عطشت وطلبت الماء، يقولون لها: الماء أمامك ويضعون بعض العوائق حجارة وكذا، فتتعثر وتسقط، ثم بعد ذلك بدءوا يتهكمون عليها، ويقولون لها: أذهب بصرك اللات والعزى، فكانت تقول لهم: (كذبتم وبيت الله، ما تنفع اللات والعزى وما تضر، ما أذهب بصري إلا الله وهو قادر على أن يرده)، فرد الله عليها بصرها، وهكذا الإنسان إذا أحسن الظن بالله فالله لا يضيعه، قال الله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، والله جل جلاله على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم علمنا أن الجزاء من جنس العمل: ( احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله )، فهذا الذي تعلمناه.

اعتداء المشركين على بلال بن رباح

قال ابن مسعود رضي الله عنه: (أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر ، وياسر ، وسمية، وعمار ، وبلال، والمقداد ).

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فقد منعهم الله بأقوامهما، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد منعه الله بعمه، وأما أبو بكر فقد منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالاً فإنه قد هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: (أحد أحد)، رضي الله عنه.

يعني: لما تعب الكبار من الإيذاء والتعذيب دفعوا بلالاً إلى الصبيان يجرونه في شعاب مكة، وهو لابس أدراع الحديد من أجل أن يجتمع عليه حر الشمس وحر الرمضاء وحر الحديد، نكاية به رضي الله عنه.

تعذيب المشركين لآل ياسر

ومن أبرز من نالهم الاعتداء الجسدي من الموالي آل ياسر، ياسر وزوجته سمية بنت خياط وولده عمار رضوان الله عليهم، كان بنو مخزوم يخرجون بهم إذا حميت الظهيرة فيعذبونهم برمضاء مكة، وجاء أبو جهل لعنه الله إلى سمية يوماً من الأيام وهي تعذب، فبدأ يفحش لها في القول، قال لها: (ما أسلمتِ إلا من أجل الرجال)، وهكذا الفرعون دائماً يلجأ إلى البذاءة والسقط من القول، فما ردت عليه شيئاً، فاغتاظ عدو الله وأخذ حربته فطعنها في فرجها، فكانت أول شهيدة، وجاء عمار رضي الله عنه يبكي فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( قتل الله قاتل أمك يا عمار )، يعني: هذا الذي قتل أمك سيقتله الله، وفعلاً قتل لعنه الله يوم بدر، قتل كافراً إلى جهنم وبئس المصير، ولما ( بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله خر لله ساجداً، وقال: هذا فرعون هذه الأمة ).

وكذلك مات ياسر رضي الله عنه في العذاب، وتفننوا في إيذاء عمار حتى أجبروه أن يتلفظ لسانه بكلمة الكفر، يعني: من شدة العذاب أجبروه على سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل، وما تحمل، ثم جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ( يا رسول الله! هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: راودني المشركون على سبك ففعلت. فقال له الرءوف الرحيم عليه الصلاة والسلام: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال: لا عليك، إن عادوا فعد )، وأنزل الله عز وجل قوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ[النحل:106]. فالذي يكفر بالله من بعد إيمانه فله عذاب عظيم، واستثنى ربنا المكرَه، حيث قال سبحانه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106].

أذية المشركين لخباب بن الأرت

وممن أوذوا: خباب بن الأرت رضي الله عنه، كانوا يأخذون بشعره وكان غزير الشعر، فيجذبونه جذباً عنيفاً، وكانوا يلوون عنقه حتى يكاد يهلك، وأضجعوه مراراً على صخور ملتهبة في حر مكة، ثم وضعوا عليه حجراً حتى لا يستطيع أن يقوم، وأوقدوا له ناراً ووضعوه عليها، فما أطفأها إلا ودك جسده.

وكان أبو بكر صاحب القدح المعلى في شرائهم وتخليصهم يريد بذلك وجه الله عز وجل، حتى قال له أبوه: (يا بني! إني أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك ويقومون دونك؟!)، يعني: يقول له: طالما أنك تريد أن تشتري عبيداً فاشتري رجالاً أقوياء من أجل أن يعينوك على عملك ويدافعوا عنك، فقال له: ( يا أبت! إنما أريد الذي أريد)، وأنزل الله عز وجل في الثناء على أبي بكر : وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17-21]، وقد أجمع المفسرون على أن هذه الآيات نازلة في صديق هذه الأمة وخيرها بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وهو أبو بكر رضي الله عنه.

ثم اعلموا بأن هذا هو طريق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، لما جاء خباب رضي الله عنه وقال: ( يا رسول الله! ألا تدعو لنا! ألا تستنصر لنا! لقد لقينا من المشركين شدة -فاعتدل رسول الله صلى الله عليه وسلم في جلسته وبدأ يعلم خباباً سنة الله عز وجل في الرسل والرسالات- قال له: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يرده ذلك عن دينه، ولقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيوضع المنشار على رأسه حتى يفرق بين رجليه ما يرده ذلك عن دينه، والذي نفسي بيده! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون )، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول لـخباب بن الأرت: أنت تنظر إلى اللحظة الحاضرة، ولكن الله أقام الكون على سنة المداولة: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، فهؤلاء الذين يعذبونكم الآن عما قريب سيكونون بأيديكم، إن شئتم قتلتم وإن شئتم أسرتم، ولكنكم قوم مستعجلين، والإنسان دائماً يستعجل كما قال ربنا: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37]، ينظر إلى اللحظة الحاضرة ولا يرنوا ببصره إلى المستقبل وما فيه من مبشرات.

وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جهر بالقرآن في المسجد الحرام، فنظر المشركون وقالوا: ما يقول ابن أم عبد ؟ فقال بعضهم : إنه يقرأ شيئاً مما جاء به محمد، فقاموا إليه وما زالوا يضربونه حتى أدموه، فرجع رضي الله عنه إلى الصحابة، فقالوا له: قد كنا نخشى عليك مثل ذلك، فقال: (والله ما كان أعداء الله أهون علي مما هم اليوم)، يعني: هذا الأذى الذي نالني ما زادهم عندي إلا هواناً، (ولئن شئتم لأغادينهم بها غداً)، يعني: أرجع مرة أخرى فأقرأ القرآن، يعني: كأن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: أنا لا أهابهم ولا أرهبهم ولا أخاف منهم، وهذا الشيء الذي حملهم على أن يضربوني يمكن أن أعيده غداً، لكن الصحابة رضوان الله عليهم قالوا: حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون.

وعثمان بن عفان رضي الله عنه كان عمه الحكم بن أبي العاص يأخذه ويلفه في حصير، ثم يوقد تحته ناراً من أجل أن يؤذيه.

وكذلك مصعب بن عمير رضي الله عنه تسلطت عليه أمه وكانت على دين الشرك، فأخرجته من بيته ومنعت عنه الطعام والشراب حتى صار جلده رضي الله عنه خشناً، وصار متغير اللون بعد أن كان منعماً عند أمه حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رآه دمعت عينه، وقال: ( ما رأيت في مكة فتى أنظر ولا أنعم من مصعب )، يعني: لما كان على دين قومه كان منعماً يعيش في رغد، ولما دخل في دين الله عز وجل تنكرت له الدنيا.

وكذلك اعتدوا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحاولوا قتله؛ لأنه كان دائم الأذى لهم، رضي الله عنه. ومنعه الله بـالعاص بن وائل السهمي.