النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

تقدم معنا الكلام بأن نبينا عليه الصلاة والسلام أول ما وصل إلى المدينة وبركت ناقته سأل عن ذلك المكان، وعلم أنه مربد لغلامين من الأنصار عليهم من الله الرضوان، فاشترى عليه الصلاة والسلام ذلك المكان بعد أن ساومهما، ثم أمر بنخل كانت من ورائها فقطعت، وأرض خربة فسويت، وقبور للمشركين فنبشت، وشرع هو وأصحابه في بناء المسجد المبارك، واستغرق البناء اثني عشر يوماً.

وكان بناءً متواضعاً من اللبن، وأعمدته من الجذوع، وسقفه من الجريد، وفرشه من التراب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة على كتفه الشريفة إلى أن اكتمل البناء بحمد الله، وهو وأصحابه داخلون دخولاً أولياً في قوله عليه الصلاة والسلام: ( من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة ).

وهذا المسجد كان مكاناً للصلاة، وتعليم القرآن، وإيواء الغريب، وتعليم الجاهل، وإرشاد الغافل، وربط الأسير، وكذلك مكاناً للشورى، وعقد ألوية الجيوش، ويجتمع فيه الرجال والنساء، والكبار والصغار كلهم يجد حظه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه القصة قصة بناء المسجد تدلنا على مبدأ التعاون على البر والتقوى الذي ذكره ربنا حين قال: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].

وقد استنبط العلماء رحمهم الله من ذلك أحكاماً، ومن هذه الأحكام:

تصرف غير البالغ

أن تصرف غير البالغ أو غير الرشيد لا ينفذ إلا بإجازة الولي. قال الله عز وجل: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ [النساء:5]، والسفه إما أن يكون سببه الصغر، وإما أن يكون سببه سوء التصرف، فالصغير الذي ترك له أبوه مالاً سواء كان هذا المال عقاراً أو منقولاً فإنه لابد أن يقام عليه وصي، فهذا الصبي لا يتصرف في ماله إلا بإذن وإجازة الوصي، فلذلك العلماء رحمهم الله قالوا: ما كان فيه مصلحة محضة للصغير فإنه يباح تصرفه. فلو أن إنساناً قال للطفل: وهبتك أرضاً في مكان كذا، فقبلها الطفل، هذا لا يحتاج إلى إجازة الولي أو الوصي، لم؟ لأن فيه مصلحة خالصة، مصلحة محققة لهذا الصغير.

النوع الثاني: ما كان فيه ضرر على الصغير فإنه لا يجاز، كالتبرعات والهبات وما إلى ذلك.

النوع الثالث: ما كان متردداً بين المصلحة والمفسدة، أو بين النفع والضر فإنه موقوف على إجازة الصبي.

نبش قبور المشركين والتصرف في القبور أرض المندرسة

ومن الأحكام: أن قبور المشركين لا حرمة لها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنبشها، وأدخلها ضمن الأرض التي بني عليها المسجد المبارك.

ومن الأحكام أيضاً: أن القبور إذا كانت دارسة فإنه يجوز التصرف في أرضها إن لم تكن موقوفة.

ومعنى هذا أن القبر حبس على أصحابه، يعني: فلان من الناس دفن في هذا المكان، هذا المكان محبوس عليه لا يجوز نبشه ولا يجوز كشفه ولا يجوز استعماله لغير الغرض، واستدلوا بقول الله عز وجل: أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً [المرسلات:25-26]، يعني: أنا عندي بيت على ظاهر الأرض وأنا حي، فهذا البيت لا يجوز نزعه مني ولا يجوز دخوله إلا بإذني.

وأيضاً عندي بيت بعد موتي لكنه في باطن الأرض، في الحياة على ظاهرها وبعد الممات في باطنها، فهذا البيت تبقى له هذه الأحكام، قالوا: اللهم إلا إذا درست القبور وعفت. يعني: لو أن القبور جاء عليها مدة طويلة وكانت عافية، وما بقي فيها شيء، لا بقي فيها أجساد ولا بقي فيها عظام، وفني أهلها، صاروا تراباً ولم تكن هذه الأرض موقوفة فإنه يجوز التصرف فيها بأنواع التصرفات المشروعة.

النوم في المسجد

وأيضاً من الأحكام التي أخذت: جواز النوم في المسجد، وهذا فيما يتعلق بخبر أهل الصفة، وفيما يتعلق بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنهم كانوا ينامون في المسجد.

زخرفة المساجد وصونها من الروائح الكريهة

والتواضع الذي كان في بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه نداء لكل جماعة من المسلمين أن تكون مساجدهم متواضعة. يعني: الاستفادة من المساجد ليست موقوفة على ضخامة مبانيها، ولا على لمعان جدرانها، ولا على أن يكون فرشها وثيراً، وأثاثها فخماً، ورخامها كثيراً، بل إن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه شيء من متاع الدنيا، ومع ذلك غير الله به وجه التاريخ.

ومن هنا أيضاً قال علماؤنا: تكره الزخرفة التي فيها مبالغة كما قال عمر رضي الله عنه لما بنى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام قال له: (وإياك أن تحمر أو تصفر). يعني: المساجد نحن مأمورون برفعها ومأمورون بصيانتها، نصونها عن الروائح الكريهة، نصونها عن رفع أصواتنا، نصونها عن بيعنا وشرائنا، نصونها عن إقامة حدودنا، نصونها عن نشدان الضالة فيها، نصونها عن خلافاتنا ونزاعاتنا.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً فليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم )، والثوم والبصل ما يخفى عليكم بأنها من المباحات؛ لكن لأن لها رائحة مستكرهة منع النبي صلى الله عليه وسلم آكلها من أن يأتي إلى المسجد.

ومن باب أولى من تناول شيئاً من المحرمات كالسيجارة، يعني: بعض الناس يدخن ثم يأتي إلى المسجد فتضيق صدور المصلين به، ويتمنون أن تنتهي الصلاة من أجل أن يتخلصوا ويخرجوا، فهو آثم بغير شك.

قال علماؤنا: ومن كان ذا رائحة كريهة لا تفارقه لسوء صنعته فإنه يصلي في بيته، ويمنع من حضور الجماعة، قالوا: لأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام.

يعني: قد يكون إنسان مبتلى بمرض -عافانا الله وإياكم والمسلمين- هذا المرض يسبب رائحة كريهة إما تخرج من فمه، وإما رائحة تنبعث من جسده، مثل هذا لا يأتي إلى المسجد بل يصلي في بيته، وإذا علم الله منه أنه يحب الصلاة مع الجماعة ويحرص عليها لكنه عاجز عنها لهذا السبب يكتب الله له أجر الجماعة.

وأخذنا هذا الكلام من الكتاب والسنة، أما الكتاب فمن قول رب الأرباب جل جلاله: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100]، قال علماؤنا: كل من نوى عملاً صالحاً ثم عجز عنه بسبب خارج عن طاقته فإن الله عز وجل يكتب له الأجر.

وأما من السنة فقد قال عليه الصلاة والسلام: ( إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له مثلما كان يعمل مقيماً صحيحاً ). لو أن إنساناً معتاداً على صلاة الجماعة، فقدر الله عليه حادثاً كسرت رجلاه لا يستطيع الوصول إلى المسجد، فهو يصلي في بيته ويكتب الله له أجر من صلى مع الجماعة، لماذا؟ لأن الله عز وجل يعاملنا بفضله ما يعاملنا بعدله وحده، وإنما يعاملنا بعدله وفضله وهو سبحانه الوهاب، وهو سبحانه الشكور.

أن تصرف غير البالغ أو غير الرشيد لا ينفذ إلا بإجازة الولي. قال الله عز وجل: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ [النساء:5]، والسفه إما أن يكون سببه الصغر، وإما أن يكون سببه سوء التصرف، فالصغير الذي ترك له أبوه مالاً سواء كان هذا المال عقاراً أو منقولاً فإنه لابد أن يقام عليه وصي، فهذا الصبي لا يتصرف في ماله إلا بإذن وإجازة الوصي، فلذلك العلماء رحمهم الله قالوا: ما كان فيه مصلحة محضة للصغير فإنه يباح تصرفه. فلو أن إنساناً قال للطفل: وهبتك أرضاً في مكان كذا، فقبلها الطفل، هذا لا يحتاج إلى إجازة الولي أو الوصي، لم؟ لأن فيه مصلحة خالصة، مصلحة محققة لهذا الصغير.

النوع الثاني: ما كان فيه ضرر على الصغير فإنه لا يجاز، كالتبرعات والهبات وما إلى ذلك.

النوع الثالث: ما كان متردداً بين المصلحة والمفسدة، أو بين النفع والضر فإنه موقوف على إجازة الصبي.

ومن الأحكام: أن قبور المشركين لا حرمة لها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنبشها، وأدخلها ضمن الأرض التي بني عليها المسجد المبارك.

ومن الأحكام أيضاً: أن القبور إذا كانت دارسة فإنه يجوز التصرف في أرضها إن لم تكن موقوفة.

ومعنى هذا أن القبر حبس على أصحابه، يعني: فلان من الناس دفن في هذا المكان، هذا المكان محبوس عليه لا يجوز نبشه ولا يجوز كشفه ولا يجوز استعماله لغير الغرض، واستدلوا بقول الله عز وجل: أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً [المرسلات:25-26]، يعني: أنا عندي بيت على ظاهر الأرض وأنا حي، فهذا البيت لا يجوز نزعه مني ولا يجوز دخوله إلا بإذني.

وأيضاً عندي بيت بعد موتي لكنه في باطن الأرض، في الحياة على ظاهرها وبعد الممات في باطنها، فهذا البيت تبقى له هذه الأحكام، قالوا: اللهم إلا إذا درست القبور وعفت. يعني: لو أن القبور جاء عليها مدة طويلة وكانت عافية، وما بقي فيها شيء، لا بقي فيها أجساد ولا بقي فيها عظام، وفني أهلها، صاروا تراباً ولم تكن هذه الأرض موقوفة فإنه يجوز التصرف فيها بأنواع التصرفات المشروعة.

وأيضاً من الأحكام التي أخذت: جواز النوم في المسجد، وهذا فيما يتعلق بخبر أهل الصفة، وفيما يتعلق بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنهم كانوا ينامون في المسجد.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
بداية نزول الوحي 2550 استماع
عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل 2172 استماع
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم 2143 استماع
النبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة [2] 2125 استماع
النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة [1] 2104 استماع
إرهاصات النبوة [2] 2066 استماع
الإسراء والمعراج 2009 استماع
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم 1869 استماع
عام الحزن وخروج النبي إلى الطائف 1816 استماع
صد قريش عن دين الله [1] 1811 استماع