عام الحزن وخروج النبي إلى الطائف


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، والبشير النذير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

فمن الأحداث العظيمة التي حصلت في العام السادس من البعثة النبوية المباركة إسلام السيد الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد كان إسلامه نصراً، وكانت هجرته فتحاً، وكانت خلافته من بعد رحمة، فرضي الله عنه وأرضاه، ولما علم المشركون بأن دين الله قد عز بإسلام حمزة ومن بعده عمر لجئوا إلى المقاطعة العامة من أجل أن يفتوا في عضد المسلمين، ويحملوهم على ترك الدعوة إلى الله عز وجل، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبروا ثلاث سنوات، حتى اضطروا إلى أن يأكلوا أوراق الشجر، إلى أن سعى بعض المشركين فيهم المطعم بن عدي و أبو البختري بن هشام ، وغيرهم إلى نقض هذه الصحيفة وإبطال ما فيها.

وكان مما ابتلي به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بثلاث سنوات موت عمه أبي طالب الذي كان عوناً له وعضداً.

حزن النبي على موت عمه على الكفر

ومما زاده ألماً صلوات الله وسلامه عليه أن عمه أبا طالب مات على غير الإسلام، وما شهد شهادة التوحيد رغم إلحاح النبي صلى الله عليه وسلم عليه في ذلك، قال له: ( يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله )، فكان منطق أبي طالب غريباً! قال له: ( يا ابن أخي! لولا أن يقول الناس: قد قالها جزعاً من الموت لأقررت عينك بها )، وفي بعض الروايات بأنه قال: (لولا المسبة والعار لقلتها)، ففكر في المسبة والعار، وفيما يقوله الناس، وفيما ستلوكه الألسنة، ولم يفكر في نجاة نفسه، فمات على الكفر، فاغتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابه الحزن العظيم، فأنزل الله عز وجل قوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56]، أي: أنت يا محمد! تهدي إلى صراط مستقيم، تبين للناس الحق والخير والهدى والسنة وسبيل الاستقامة، لكنك لا تملك الهداية التي بمعنى التوفيق والتسديد، وخلق الإيمان في القلب، فهذا لا يملكه إلا الله عز وجل، ولا يقدر عليه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا أحد من خلق الله.

استغفار النبي لعمه ونزول القرآن بنهيه عن ذلك

ولما نزلت هذه الآية قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لأستغفرن لك مالم أنه عنك )، (لأستغفرن لك) أي: لعمه، (مالم أنه عنك)، فأنزل الله عز وجل قوله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:113-114]، فحرمت هذه الآية على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين أن يستغفروا لمن مات على الكفر، يعني: أي إنسان مات كافراً على أي ملة من ملل الكفر: وثنية، يهودية، نصرانية، شيوعية، وغير ذلك. لا يصلح أن نقول: اللهم اغفر له وارحمه، ولا يصلح أن نقول: رحم الله فلاناً، هذا غير جائز.

وكذلك من كان منافقاً نفاقاً اعتقادياً، قال الله عز وجل عن المنافقين: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]، وهذه الآية كما لا يخفى نزلت في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول وذلك أنه لما أدركه الموت جاء ولده عبد الله -وكان من صالحي المؤمنين- إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ( يا رسول الله! إن أبي قد هلك، أعطني قميصك أكفنه فيه لعل الله يرحمه )، فالنبي عليه الصلاة والسلام من محبته للخير أعطى عبد الله ذاك القميص ليكفن فيه أباه، وما اكتفى بذلك عليه الصلاة والسلام، بل أدركهم في المقبرة بعدما وضعوه في لحده، فأخرجه عليه الصلاة والسلام وتفل في فمه من ريقه الشريف عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك وضعه ليصلي عليه صلاة الجنازة، فقال له عمر : ( يا رسول الله! إنه عبد الله ابن سلول الذي قال كذا يوم كذا، والذي قال كذا يوم كذا )، يعدد صحيفة سوابقه، يقول: هذا الخبيث هو الذي قال: ( لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل )، وهو الذي قال: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون:7]، وهو الذي قال: ما نحن ومحمد إلا كما قالت العرب: سمن كلبك يأكلك، وهو الذي قال: زوجة نبيكم تبيت مع رجل غريب، والله ما نجت منه ولا نجا منها، إلى غير ذلك من الفحش والكفر والقبح الذي صدر منه. ومع ذلك الرءوف الرحيم الصفوح الحليم عليه الصلاة والسلام قال: ( دعني يا عمر فإن الله قد خيرني فاخترت، قال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80]، لأزيدن على السبعين، وصلى عليه صلاة الجنازة، فنزلت الآية: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84] ).

والشاهد من هذا الكلام: أنه لا يجوز الاستغفار ولا الترحم على من مات كافراً أو منافقاً نفاقاً اعتقادياً.

وللأسف أن بعض الناس يقول: قال ربنا: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، ونحن نقول له: أكمل الآية من أجل أن تعرف معناها، قال ربنا: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ [الأعراف:156-157]، فمن لم يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصدق بنبوته، فإنه لا نصيب له في هذه الرحمة.

ومما زاده ألماً صلوات الله وسلامه عليه أن عمه أبا طالب مات على غير الإسلام، وما شهد شهادة التوحيد رغم إلحاح النبي صلى الله عليه وسلم عليه في ذلك، قال له: ( يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله )، فكان منطق أبي طالب غريباً! قال له: ( يا ابن أخي! لولا أن يقول الناس: قد قالها جزعاً من الموت لأقررت عينك بها )، وفي بعض الروايات بأنه قال: (لولا المسبة والعار لقلتها)، ففكر في المسبة والعار، وفيما يقوله الناس، وفيما ستلوكه الألسنة، ولم يفكر في نجاة نفسه، فمات على الكفر، فاغتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابه الحزن العظيم، فأنزل الله عز وجل قوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56]، أي: أنت يا محمد! تهدي إلى صراط مستقيم، تبين للناس الحق والخير والهدى والسنة وسبيل الاستقامة، لكنك لا تملك الهداية التي بمعنى التوفيق والتسديد، وخلق الإيمان في القلب، فهذا لا يملكه إلا الله عز وجل، ولا يقدر عليه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا أحد من خلق الله.

ولما نزلت هذه الآية قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لأستغفرن لك مالم أنه عنك )، (لأستغفرن لك) أي: لعمه، (مالم أنه عنك)، فأنزل الله عز وجل قوله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:113-114]، فحرمت هذه الآية على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين أن يستغفروا لمن مات على الكفر، يعني: أي إنسان مات كافراً على أي ملة من ملل الكفر: وثنية، يهودية، نصرانية، شيوعية، وغير ذلك. لا يصلح أن نقول: اللهم اغفر له وارحمه، ولا يصلح أن نقول: رحم الله فلاناً، هذا غير جائز.

وكذلك من كان منافقاً نفاقاً اعتقادياً، قال الله عز وجل عن المنافقين: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]، وهذه الآية كما لا يخفى نزلت في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول وذلك أنه لما أدركه الموت جاء ولده عبد الله -وكان من صالحي المؤمنين- إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ( يا رسول الله! إن أبي قد هلك، أعطني قميصك أكفنه فيه لعل الله يرحمه )، فالنبي عليه الصلاة والسلام من محبته للخير أعطى عبد الله ذاك القميص ليكفن فيه أباه، وما اكتفى بذلك عليه الصلاة والسلام، بل أدركهم في المقبرة بعدما وضعوه في لحده، فأخرجه عليه الصلاة والسلام وتفل في فمه من ريقه الشريف عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك وضعه ليصلي عليه صلاة الجنازة، فقال له عمر : ( يا رسول الله! إنه عبد الله ابن سلول الذي قال كذا يوم كذا، والذي قال كذا يوم كذا )، يعدد صحيفة سوابقه، يقول: هذا الخبيث هو الذي قال: ( لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل )، وهو الذي قال: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون:7]، وهو الذي قال: ما نحن ومحمد إلا كما قالت العرب: سمن كلبك يأكلك، وهو الذي قال: زوجة نبيكم تبيت مع رجل غريب، والله ما نجت منه ولا نجا منها، إلى غير ذلك من الفحش والكفر والقبح الذي صدر منه. ومع ذلك الرءوف الرحيم الصفوح الحليم عليه الصلاة والسلام قال: ( دعني يا عمر فإن الله قد خيرني فاخترت، قال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80]، لأزيدن على السبعين، وصلى عليه صلاة الجنازة، فنزلت الآية: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84] ).

والشاهد من هذا الكلام: أنه لا يجوز الاستغفار ولا الترحم على من مات كافراً أو منافقاً نفاقاً اعتقادياً.

وللأسف أن بعض الناس يقول: قال ربنا: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، ونحن نقول له: أكمل الآية من أجل أن تعرف معناها، قال ربنا: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ [الأعراف:156-157]، فمن لم يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصدق بنبوته، فإنه لا نصيب له في هذه الرحمة.

بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام، أو بشهر، أو شهر وخمسة أيام، ماتت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها بعدما مرضت، فحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس و علي بن أبي طالب ودفنوها في الحجون، وما صلوا عليها صلاة الجنازة؛ لأن صلاة الجنازة لم تكن قد شرعت بعد.

فلما دفنت خديجة رضي الله عنها رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً مهموماً، فلقيته خولة بنت حكيم ، وهي امرأة من قريش فيها وقار وسكينة، فقالت: ( يا رسول الله! أراك حزيناً؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ماتت ربة البيت وأم العيال )، وهذا الكلام يدل على بالغ المودة تجاه هذه المرأة الصالحة رضي الله عنها، فـخديجة لم تكن مجرد زوجة، لكنها رضي الله عنها كانت مديرة للبيت، تدبر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفر له أسباب الراحة، وهي في الوقت نفسه أم العيال.

وهكذا: فالمرأة إذا كانت صالحة طيبة مطيعة هينة لينة، فإنها إذا ماتت يفقدها الزوج، ويحزن عليها ويتألم لمصابه فيها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة )، يعني: إذا ماتت المرأة فقال زوجها: أنا راض عنها، قال ذلك من قلبه، ولم يقله مجاملة لأهلها، أو علم الله من قلبه الرضا فإنها إلى الجنة، وعلى العكس -والعياذ بالله- إذا كانت المرأة شرسة، كثيرة النكد، تأكل لماً وتوسع ذماً، تشير بالأصابع، وتبكي في المجامع، كلامها وعيد، وصوتها شديد، إن دخل زوجها خرجت، وإن خرج دخلت، وإن بكى ضحكت، وإن ضحك بكت، وتعين الزمان على بعلها، ولا تعين بعلها على الزمان، فمثل هذه إذا ماتت يقول زوجها: الحمد لله. كما قال بعض المساكين وكان مبتلى بزوجة من هذا الصنف، وكانت طويلة العمر سبحان الله! ما ماتت، فقال:

لقد كنت محتاجاً إلى موت زوجتي ولكن قرين السوء باق معمر

فيا ليتها صارت إلى القبر عاجلاً وعذبها فيه نكير ومنكر

يعني: قال: يا ليت ربنا يخلصنا منها.

فالمقصود أن خديجة رضي الله عنها هي المثل الأعلى للزوجة المسلمة في دينها وإيمانها ورجاحة عقلها وحسن تبعلها، وقيامها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومواساتها إياه بنفسها ومالها، هذا كله مما كان لها رضي الله عنها، ولذلك قال الذهبي رحمه الله: (أجزم أن خديجة هي أفضل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ولذلك عاش معها خمساً وعشرين سنة لم يتزوج عليها، ولا تسرى بغيرها صلوات الله وسلامه عليه، يعني: لما ماتت خديجة كان عمره عليه الصلاة والسلام خمسين سنة.

بعد وفاة خديجة جاءت خولة بنت حكيم إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالت له: ( يا رسول الله! هلا تزوجت؟ فقال: بكراً أم ثيباً؟ قالت له: إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً. قال لها: من البكر ومن الثيب؟ قالت له: أما البكر فبنت أحب الخلق إليك -تعني: أبا بكر -، وأما الثيب فـسودة بنت زمعة ).

زواج النبي من سودة

أما سودة رضي الله عنها فقد كانت متزوجة من رجل يقال له: السكران بن عمرو رضي الله عنه، ثم مات فصارت أرملة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـخولة : ( اذكريني عليهما )، يعني: اذهبي واذكريني عليهما، فذكرته لـسودة رضي الله عنها، فتزوجها عليه الصلاة والسلام وكانت امرأة مسنة، تزوجها من باب الكفالة؛ لأنها مسلمة، والإسلام في ذلك الوقت غريب وقد مات زوجها، فضمها النبي عليه الصلاة والسلام إليه، وهو الذي قام في الناس خطيباً، فقال: ( أيها الناس! من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فعلي، فأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم )، عليه الصلاة والسلام.

زواج النبي من عائشة

فلما تزوج عليه الصلاة والسلام بـسودة ذهبت خولة بنت حكيم إلى أم رومان ابنة عامر التي هي زوجة أبي بكر والدة عائشة ، فذكرت لها بأن النبي عليه الصلاة والسلام يرغب في الزواج بـعائشة ، فقالت المرأة الصالحة: (وددت. ولكن اصبري حتى أستأمر أباها)، وهذا من صلاحها قالت: (وددت)، يعني: يا أيها الناس! هل هناك زوج أحسن من رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ لا يوجد. لكن المرأة ما استبدت بالأمر، لم تقل لها: قولي له: يحدد ونحن جاهزون، فإذا رجع أبو بكر تقول له: جاءتني خولة بنت حكيم وقالت: الرسول صلى الله عليه وسلم يريد عائشة وأنا أعطيته الموافقة، لا ينفع ذلك، لا يصلح الاستبداد في الحياة الزوجية، قال الله عز وجل: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ [البقرة:233].

الآن للأسف يحصل استبداد أحياناً من قبل الرجل، وأحياناً من قبل المرأة، وبعض الرجال في فهمه دخن، يقول: أنا أتكلم معها، أستشيرها، فإذا قلت: لم؟ يقول لك: الرسول صلى الله عليه وسلم قال: شاوروهن وخالفوهن، تقول له: وأين قال ذلك؟ من أين أتيت بهذا الحديث يا أيها المسكين؟ لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام أبداً، وهو نفسه عليه الصلاة والسلام كان يستشير زوجاته رضوان الله عليهن. فالرجل المسلم الطيب يجعل الأمر شركة بينه وبين الزوجة، خاصة في تزويج البنت ونحو ذلك من الأمور.

وكذلك المرأة لا تستبد بالأمر، الآن بعض النساء تستبد، هناك أشياء للزوج فيها حق. مثلاً: بعض النساء تتناول حبوب منع الحمل دون إذن من الزوج، فالزوج يريد ولداً وهي لا تريد ذلك، فإذا ولد له مولود فإنه بعد ذلك ينتظر خمس سنين وست سنين من أجل أن يأتي له أخوه؛ لأن صاحبته بغير إذن منه تتناول هذه الحبوب التي تمنع حصول اللقاح.

فالاستبداد لا يصلح وهو مفسد للحياة الزوجية تماماً، ولذلك أم رومان عليها من الله الرضوان لما جاء أبو بكر ذكرت له ذلك، قالت له: (يا أبا بكر ! ما أدخل الله علينا من الخير والبركة) يعني: أنت لا تعرف ما الذي حدث، قال لها: (وما ذاك؟ قالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر عائشة ). فاستشكل أبو بكر رضي الله عنه الأمر، وقال: (أتصلح له وهو أخي؟) فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( إنما أنا أخوك في الإسلام )، يعني: كلنا الآن إخوة في الإسلام، ويمكن للواحد منا أن يتزوج بنت أخيه، لكن بنت أخيك في النسب لا يجوز لك أن تتزوجها؛ لأن الله ذكر المحرمات من النسب فقال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ [النساء:23]، ومثلهن من الرضاع، وأربع من المصاهرة، قال الله عز وجل: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [النساء:22]، يعني: زوجة أبيك محرمة عليك دخل بها أو لم يدخل، قال سبحانه: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23]، أي: زوجة ابنك محرمة عليك دخل عليها أو لم يدخل، وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ [النساء:23] يعني: أم زوجتك، دخلت بابنتها أو لم تدخل، وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23]، ولذلك قالوا: الدخول بالأمهات يحرم البنات، والعقد على البنات يحرم الأمهات.

فضرب أبو بكر الصديق مثلاً في الوفاء، فقال: ( يا رسول الله! إن فلاناً من المشركين ذكر عائشة لولده، فدعني أستل منه سلاً رفيقاً ). يعني: إلى ذلك الوقت لم يكن نكاح المسلمة حراماً على الكافر، وكذلك لم يكن نكاح المسلم للكافرة حراماً، كانت بينهم المصاهرة، إلى أن نزل قول الله عز وجل: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10].

فذهب إليه وقال له: (يا فلان! ذكرت عائشة لولدك، فإن كنتم تريدون نكاحاً أنكحناكم، فقال له المشرك: أننكح ابنتكم بعدما خالفتم ديننا، وفارقتكم ملة آبائنا، لا حاجة لنا بها، فقال أبو بكر: الحمد لله).

عقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها، وكانت إذ ذاك بنت ست سنين، وبقيت في بيت أبيها، وما بنى عليها وما دخل بها إلا في السنة الثانية من الهجرة عقيب غزوة بدر بشهر في شوال، وكانت بنت تسع سنين.

الآن بعض الناس يستغرب، وذلك أنه يريد أن يحاكم الدنيا إلى فهمه هو وإلى واقعه هو، حتى إن بعض المساكين قال: أنا لا أصدق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وهي بنت تسع سنين، ولو صح هذا لكان فيه اعتداء على حقوق الطفل، وهذا القائل لو سأل زوجته يمكن يكون عرسها وعمرها عشر سنين أو اثنتا عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة.

وعرفنا الفاسد الآن أن البنت لا تتزوج إلا في الثلاثين، ويمكن أيضاً أن يكون عمرها ثلاثاً وثلاثين سنة ويجيء الخاطب لأبيها فيقول الأب: لا زالت صغيرة، قد أنهت الماجستير وهي تريد أن تحضر الدكتوراه، طيب. متى ستزوجها؟ يقول لك: قريب الأربعين بعد أن تنضج. وبعد أن تصبح فاهمة.

هذا عرف فاسد، الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ).

ونلاحظ هنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم همته عالية ونفسه أبية، رغم الحزن والضيق والشدة، إلا أنه عليه الصلاة والسلام يعقد ويتزوج، فلما ماتت خديجة ما بقي يبكي على الأطلال، ويتردد على القبر، ويقول فيها الشعر، فهو عليه الصلاة والسلام يعلم أن عجلة الحياة تمضي، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2]، لكنه كان كلما ذكر خديجة ترحم عليها وترضى عنها، رضي الله عنها وأرضاها.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
بداية نزول الوحي 2553 استماع
النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة [2] 2403 استماع
عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل 2173 استماع
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم 2145 استماع
النبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة [2] 2128 استماع
النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة [1] 2105 استماع
إرهاصات النبوة [2] 2068 استماع
الإسراء والمعراج 2011 استماع
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم 1874 استماع
صد قريش عن دين الله [1] 1815 استماع