النبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

تقدم معنا أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ بجميع الأسباب الأرضية المادية التي تفضي إلى نجاح هجرته صلوات ربي وسلامه عليه، ومن ذلك أنه جعل الأمر سراً بينه وبين أبي بكر ، ومن ذلك أنه استأجر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً، وهو عبد الله بن أريقط ، ومن ذلك أنه طلب من أسماء تزويدهما بالطعام، وأمر عبد الله بن أبي بكر بأن يأتيهما بالأخبار، وكذلك أمر عامر بن فهيرة بأن يرعى الأغنام ليعفي الآثار، ثم إنه قد اختبأ في غار ثور أياماً ثلاثة حتى خف الطلب، وقد واعد عبد الله بن أريقط عند الغار أن يأتي بالراحلتين بعد ثلاث.

ثم رصد المشركون الجوائز، وضربوا المشارق والمغارب بحثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ووصلوا إلى الغار، لكن عناية الله عز وجل حالت دون أن يعثروا على النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه؛ لأن الله عز وجل كان معهما.

ولما انقطع الطلب وأيس المشركون من الوصول إلى المهاجرين الكريمين جاء عبد الله بن أريقط بعد ثلاث ليال ومعه الراحلتان، ومعهما عامر بن فهيرة فصار الركب أربعة: النبي عليه الصلاة والسلام، ومعه أبو بكر، وعامر بن فهيرة الذي هو مولى أبي بكر والدليل الذي هو عبد الله بن أريقط . وكان لسان النبي صلى الله عليه وسلم خلال الطريق رطباً بذكر الله عز وجل، وهو مطمئن إلى أن عناية الله ترعاه، وعين الله تكلؤه وتحفظه.

تظليل الصخرة للنبي من الشمس

ثم حصلت خلال الطريق بعض الأمور الخارقة للعادة التي فيها تثبيت لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأييد له، ومن ذلك: أنه لما أرادوا أن يقيلوا في شدة الحر وأن يستريحوا إلى أن تخف حرارة الشمس، رفع الله لهم صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليها الشمس، فسوى أبو بكر ما تحت ذلك الظل من تراب من أجل أن يقيل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي أبو بكر يراقب الطريق، فالنبي عليه الصلاة والسلام نام واستراح، ولكن أبا بكر رضي الله عنه بقي متيقظاً متوثباً متحفزاً لئلا يصيب النبي عليه الصلاة والسلام مكروه.

ورأى راعياً مقبلاً يريد أن يلتمس من الظل مثلما التمسا، فتكلم أبو بكر مع ذلك الراعي وعرف أنه من أهل مكة، وكان من رحمة الله أنه يعرف أبا بكر ولا يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلب من شاة له فوضع أبو بكر رضي الله عنه ذلك الحلوب، وكره أن يوقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل انتظر إلى أن استيقظ فشرب عليه الصلاة والسلام من ذلك الحليب.

وصف أبي بكر للنبي بالهادي عند السؤال

وكان أبو بكر إذا لقيهما أحد في الطريق فسأله: من هذا الذي معك يقول: (هذا هاد يهديني الطريق)، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وكما قال الله عز وجل: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7]، والمخاطب كان يفهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم دليل في الصحراء من أجل أن يدل أبا بكر على الطريق، لكن أبا بكر كان يقصد الأول.

قصة لحاق سراقة بالنبي وما جرى بينهما

أيضاً من المعجزات التي حصلت ما رواه الإمام البخاري في صحيحه من خبر سراقة بن مالك رضي الله عنه: (أنهم مروا في طريقهم بحي بني مدلج) أي: النبي صلى الله عليه وسلم و أبو بكر و عامر مروا بطريق بني مدلج (فرآهم رجل منهم، فرجع إلى مجلس من مجالس قومه وفيهم سراقة بن مالك ، فقال: يا سراقة ! إني قد رأيت آنفاً أسودة بالساحل) أسودة يعني: ظل إنسان (وأُراها محمداً وأصحابه) يعني: هذا الرجل يقول لـسراقة : أنا أظن بأن تلك الأسودة التي رأيتها ليست إلا محمداً وأصحابه، (يقول سراقة : فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا) من أجل أن يصرف الرجل عن تتبع النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ويخرج هو ليفوز بالجائزة.

(ثم لبث في المجلس ساعة) يعني: سراقة من أجل أن ينسى الناس الأمر، (ثم قام فدخل داره، وأمر جاريته أن تخرج بفرسه إلى ما وراء الأكمة)، والأكمة: الكثيب من الرمل، ونحن نسميه: القوز، (ثم تجهز) يعني: أخذ سلاحه وبعضاً من الزاد، (ثم خرج إلى مكان فرسه فركبها وانطلق بها في أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه).

قال: (وعندما دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عثرت به فرسه، فنزل عنها وأخرج الأزلام، فاستقسم بها ليعرف هل يضرهم أم لا؟) وهذه كانت طريقة المشركين، فقد كان الواحد منهم إذا أراد شيئاً -لكونهم كانوا يتعلقون بالخرافات- أخرج الأزلام، وأحدها مكتوب فيه: خير، والثاني مكتوب فيه: شر، والثالث من غير كتابة ويجيلونها ثم يخرج، فإذا خرج خير مضى، وإذا خرج شر رجع، وإذا خرج الفارغ أعاد الاستقسام.

وكان من طرقهم أيضاً: التطير، واستعمال الطير، فكان الواحد منهم إذا أراد سفراً يأتي بطائر ويطيره، فإن طار يميناً تفاءل وتيامن، وإن طار شمالاً تشاءم ورجع، يعني: كان الذي يحكم المسير طائر يطير بقدر الله يميناً أو شمالاً، وهم يرتبون على ذلك أحكاماً.

أما نحن المسلمين فلا نتعلق بذلك أبداً، لا بطائر ولا حيوان ولا بشهر ولا بيوم، والآن الأوروبيون الذين بلغوا في الحضارة المادية شأواً بعيداً يتشاءمون من بعض الأرقام، فعندهم الرقم ثلاثة عشر في بعض المصاعد تجده مشطوباً، وفي بعض الفنادق لا يوجد غرفة برقم ثلاثة عشر؛ لأنهم يعتقدون بأن هذا الرقم شؤم، مثلما كان العرب الأولون يتشاءمون بصفر، ومثلما يوجد الآن بعض المسلمين المغفلين إذا رأى كديسة (قطة) سوداء فإنه يتشاءم جداً ويقول: اليوم سيكون نحس وشر، ثم يرجع ويمكث في البيت.

فالمسلم يعلم بأن كل شيء عند الله مقدر، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مكتوبة عند الله في اللوح المحفوظ، مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا من قبل أن نخلقها، إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:22-23].

والنبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا ( أن الطيرة شرك )، التطير شرك؛ لأنك تعتقد أن فاعلاً غير الله، والكديسة (القطة) والبومة وشهر صفر أو غيره، هذه كلها ليست إلا أوعية للأحداث، وإلا فإن الفاعل حقيقة والمقدر هو الله جل جلاله فهو الذي يفعل؛ ولذلك الطيرة لا يسلم منها أحد، فربما يخرج الإنسان من بيته فيرى حادثاً مثلاً بين سيارتين أو بين سيارة وغيرها وسالت الدماء، فيضيق صدره وتتكدر نفسه ويتشاءم، وفي هذه الحالة علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول أحدنا: ( اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا يأتي بالخير غيرك )، (لا طير إلا طيرك) يعني: لا قدر إلا قدره جل جلاله، ( اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا يأتي بالخير غيرك، ويمضي )، يواصل في الأمر الذي خرج له أو انتدب له.

(فـسراقة نزل عن فرسه وأخرج الأزلام فاستقسم بها، ليعرف هل يضرهم أم لا. فخرج السهم الذي يكره، وهو: ألا يضرهم)، وإذا أراد الله أمراً هيأ له أسبابه، ولكنه عصى، فركب فرسه، وهكذا الإنسان إذا كان معتقده فاسداً فإنه يسير وفق هواه، (فركب فرسه وانطلق إلى أن وصل مكاناً قريباً يسمع منه دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فساخت يدا فرسه في الأرض حتى بلغت الركبتين)، يعني: في المرة الأولى فرسه تعثرت، لكن في هذه المرة (ساخت) يعني: غاصت في الأرض إلى أن بلغت الركبتين، فنزل عنها ثم زجرها، فنهضت، وعندما انتزع الفرس يديه من الأرض تبعهما دخان كالإعصار، فعرف حين رأى ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ممنوع، ولن يستطيع أن يصله بشيء من أذى، وأن أمره سيظهر.

لكنه رجع مرة أخرى فاستقسم بالأزلام فخرج الذي يكره، فناداهم بالأمان، أي: أمن الرسول عليه الصلاة والسلام ومن معه فوقفوا، فركب سراقة فرسه حتى جاءهم، ووقع في نفسه حين لقي ما لقي من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن قومه قد جعلوا فيه الدية مائة من الإبل، وأخبرهم أخبار ما يريد الناس، وعرض عليهم الزاد والمتاع، ولكنهم لم يطلبوا منه شيئاً، واعتذروا عن ذلك، وطلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفي عنهم، وسأله سراقة أن يكتب له كتاب أمان، فأمر عامر بن فهيرة أن يكتب له ما أراد في قطعة من أدم، أي: من جلد، ثم مضوا.

ولما رجع سراقة إلى قومه جعل يقول لهم: قد استبرأت لكم الخبر، وقد كفيتم ما هاهنا، يعني: في الطريق فليس فيه رجل، فكان في أول النهار جاهداً من أجل أن يدرك النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وفي آخر النهار كان حارساً يعمي الأخبار ويصرف الأنظار، ويعطي الناس خلاف ما عرف من حقيقتهما، وظل كتاب الأمان عند سراقة.

وفي السنة الثامنة من الهجرة وبعد أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتح مكة غزا حنيناً والطائف، فجاءه سراقة فأخرج له الكتاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اليوم يوم وفاء وبر )، وأسلم سراقة رضي الله عنه، وبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه سيلبس سواري كسرى بن هرمز ، فلما فتحت بلاد فارس ودخل المسلمون قصر كسرى وأخذوا ما فيه من جواهر، ثم بعثوا بها إلى عمر رضي الله عنه، فجعل يعجب من تلك الجواهر الثمينة، ويقول: (إن قوماً أدوا هذا لأُمناء) فقال له علي : (عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا)، فجاء سراقة بن مالك وقال له: يا أمير المؤمنين! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدني أن ألبس سواري كسرى بن هرمز، وكان سراقة رضي الله عنه رجلاً كثير شعر الساعدين، في يديه شعر كثير، فحسر عن يديه وألبسه عمر تلك الأسورة ثم قال: (الحمد لله الذي سلب كسرى بن هرمز ملكه وقد كان يقول: أنا رب الناس، وكسا سراقة بن مالك أعرابياً من بني جشعم بوالاً على عقبيه سواري كسرى بن هرمز ) وهذا كله مصداق لقول الله تعالى: قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26] .

قصة زيارة النبي لخيمة أم معبد والشرب من لبن شاتها

ثم واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه الطريق، وقد نفد زادهم، فمروا بخيمة أم معبد الخزاعية ، وكان اسمها عاتكة بنت خالد، وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء الخيمة، وتطعم وتسقي من يمر بها، ومعنى (برزة)، كبيرة في السن، و(جلدة) يعني: قوية متماسكة، (تحتبي بفناء الخيمة) يعني: ما كانت تجلس داخل البيت وإنما في فنائه، (وتطعم وتسقي من يمر بها)، يعني: أنها كانت امرأة كريمة، إذا مر ناس غرباء تطعمهم وتسقيهم حتى ينصرفوا.

فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لها: ( هل من لبن نشربه؟ أو لحم نشتريه؟ فقالت: فداك أبي وأمي! لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، والشاء عازب ولا حلوبة في البيت ) يعني: والله لو كان هناك شيء لا أتركك تطلب، وإنما أقدم لك ما ينبغي للضيف مباشرة، والغنم بعيدة في المرعى، وليس في البيت شيء يحلب، ( فنظر عليه الصلاة والسلام في كسر الخيمة ) أي: في أقصاها ( فوجد شاة، فقال: ما هذه الشاة؟ قالت: خلفها الجهد عن الغنم ) يعني: أنها مريضة لم تستطع أن تخرج إلى المرعى ( قال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت له: فداك أبي وأمي! إن كان بها حلب فاحلب، فدعا بإناء يربض الرهط ) أي: طلب منها إناءً كبيراً يشبع الجماعة ( ثم مسح على ضرع الشاة وسمى الله، فتفاجت فحلب فيه ثجاً حتى علته الرغوة )، أي: لبناً طازجاً ( ثم أعطى أم معبد فشربت، ثم أعطى أبا بكر فشرب، ثم عامر بن فهيرة فشرب، ثم سمى الله وكان آخر القوم شرباً عليه الصلاة والسلام، ثم حلب فيه ثانية فشربوا عللاً بعد نهل ) يعني: المرة الأولى كان شراب جوع، أما المرة الثانية فكان شراب تفكه ( فشربوا عللاً بعد نهل، ثم خمر الإناء ) أي: غطاه ( وقال: ارفعي هذا لـأبي معبد . فقلما لبثت حتى أقبل أبو معبد يسوق أعنزاً عجافاً يتساوكن هزالاً لا نقي بهن ) يعني: بعد مدة قليلة جاء زوجها يسوق الشياه أو الغنم ضعافاً يتمايلن من الهزال (لا نقي بهن)، يعني: ضعافاً ليس بها مخ؛ لأن السنة سنة قحط (فلما رأى اللبن) وليس رطلاً أو رطلين أو ثلاثة، وإنما لبناً كثيراً، ( قال: ما هذا اللبن يا أم معبد، والشاء عازب ولا حلوبة في البيت؟ قالت: لا والله! إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من خبره كيت وكيت، قال: صفيه لي يا أم معبد ، قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم، قسيم، أحور، أكحل، أزج، أقرن، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، وفي عنقه سطع، أجمل الناس وأحلاه من بعيد، وأحسنه وأبهاه من قريب، لا تشنؤه عين من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له أصحاب يحفون به محفود محشود غير عابس ولا مفلت.

فقال لها: والله إنه لصاحب قريش الذي تطلب، ولأجهدن حتى ألقاه ولأتابعنه على دينه ).

تقول عائشة رضي الله عنها: وما عرفنا أين ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر حتى سمعنا صائحاً من الجن في مكة يقول:

جزى الله رب العرش خير جزائه رفيقين حلا خيمتي أم معبد

هما نزلا بالبر وارتحلا به وقد فاز من أمسى رفيق محمد

فيا لقصي ما زوى الله عنكم به من خصال لا تبارى وسؤدد

سلوا أختكم عن شاتها وإنائها فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد

وبعد حين أيضاً مروا براع يرعى غنماً فطلبوا منه طعاماً، فاعتذر إليهم بأنه لا لبن في شياهه إلا شاة قد جف لبنها قريباً، فاستأذنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمس ضرعها فحلبت ورووا منها جميعاً، وعندما رأى الراعي ذلك أسلم؛ لأن الله أراد به خيراً، وطلب أن يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه طلب منه أن يأتيه عندما يسمع بظهوره.

والمقصود من هذا الكلام: أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أجرى الله له معجزات حسية في طريق الهجرة، ولا غرابة، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]، هذه المعجزات والأمور الخارقة للعادة يسوقها الله سوقاً تثبيتاً لقلوب عباده المؤمنين.

تفاؤل النبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة

وكان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم التفاؤل، وقد مر به جماعة وهو في طريق الهجرة فقال لـأبي بكر : ( سلهم من أي القبائل هم؟ قالوا: من أسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سلمت يا أبا بكر . ثم مر به آخرون قال: سلهم من القوم؟ قالوا: من بني سهم. فقال له عليه الصلاة والسلام: ارم بسهمك يا أبا بكر ) يعني: إن شاء الله سيكون جهاد وأنت ترمي بسهمك في سبيل الله ( ومر بهم راع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ قال: مسعود. فالتفت إلى أبي بكر فقال: سعدت يا أبا بكر )، فكان يتفاءل عليه الصلاة والسلام بأسماء القبائل، وبأسماء الأشخاص، وكان يحب الفأل الحسن، وهذا هديه دائماً صلوات ربي وسلامه عليه.

أيضاً بريدة بن الحصيب الأسلمي وكان زعيم بني أسلم في ذلك الوقت، خرج يطلب النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، من أجل أن يفوز بالجائزة المرصودة من قبل قريش، وعندما التقى بالنبي عليه الصلاة والسلام وحدثه بالإسلام فأسلم، وهذا كله يفسر قول الله سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24]، فقد خرج يريد شيئاً وأراد الله شيئاً آخر.

نقف عند هذا الحد.

وأسأل الله أن ينفعني وإياكم، وصلى الله وسلم على النبي محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ثم حصلت خلال الطريق بعض الأمور الخارقة للعادة التي فيها تثبيت لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأييد له، ومن ذلك: أنه لما أرادوا أن يقيلوا في شدة الحر وأن يستريحوا إلى أن تخف حرارة الشمس، رفع الله لهم صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليها الشمس، فسوى أبو بكر ما تحت ذلك الظل من تراب من أجل أن يقيل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي أبو بكر يراقب الطريق، فالنبي عليه الصلاة والسلام نام واستراح، ولكن أبا بكر رضي الله عنه بقي متيقظاً متوثباً متحفزاً لئلا يصيب النبي عليه الصلاة والسلام مكروه.

ورأى راعياً مقبلاً يريد أن يلتمس من الظل مثلما التمسا، فتكلم أبو بكر مع ذلك الراعي وعرف أنه من أهل مكة، وكان من رحمة الله أنه يعرف أبا بكر ولا يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلب من شاة له فوضع أبو بكر رضي الله عنه ذلك الحلوب، وكره أن يوقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل انتظر إلى أن استيقظ فشرب عليه الصلاة والسلام من ذلك الحليب.