النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

تقدم معنا الكلام أيها الإخوة الكرام في نبينا عليه الصلاة والسلام وصل إلى المدينة، ومعه صاحباه الصديق أبو بكر و عامر بن فهيرة رضوان الله عليهما، وأنه مكث في ديار بني عمرو بن عوف أربعة عشر يوماً ابتنى خلالها مسجد قباء، وهو الذي قال بعض المفسرين بأنه المقصود بقول ربنا: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108].

وهذا المسجد المبارك مسجد قباء بيّن النبي عليه الصلاة والسلام أن الصلاة فيه تعدل أجر عمرة: ( من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له أجر عمرة )، أي صلاة من الصلوات يوفق العبد لأدائها، سواء كانت فريضة أو نافلة يكتب الله له أجر عمرة.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم توجه يوم الجمعة إلى المدينة فأدركته الصلاة بمسجد الوادي، وادي رانوناء، فجمَّع بأصحابه وصلى بهم الجمعة في ذلك المكان، ثم استمر عليه الصلاة والسلام، وكان في الطريق إذا مر بدور الأنصار فإنهم يتعلقون بركابه، ويعرضون عليه النزول عندهم، فمر بديار بني حارثة وبني سلمة وبني بياضة وبني عبد الأشهل، وغيرهم رضوان الله عليهم وكلهم كانوا يقولون: يا رسول الله! هلم إلى العدد والعدة، هلم إلى القوة والمنعة، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: ( خلوا سبيلها فإنها مأمورة )، يعني الناقة، حتى وصلت الناقة إلى مكان معين فبركت ثم قامت فمشت، ثم رجعت فألقت بجرانها وتحلحلت، فقال عليه الصلاة والسلام: ( ها هنا المنزل )، وأخذ أبو أيوب رضي الله عنه رحل النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيته، فقال عليه الصلاة والسلام: ( المرء مع رحله ).

ثم بعد ذلك اعتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول مهاجره إلى المدينة بثلاثة أمور عظيمة:

الأمر الأول: توثيق صلة المؤمنين بربهم.

والأمر الثاني: توثيق صلة المؤمنين بعضهم ببعض.

والأمر الثالث: تنظيم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين.

أما بالنسبة للأمر الأول وهو: توثيق العلاقة بالله رب العالمين، فتمثل في بناء المسجد.

والأمر الثاني: توثيق علاقة المؤمنين بعضهم مع بعض، وهذا تمثل في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.

وأما الأمر الثالث: فقد أبرمت معاهدات بين النبي عليه الصلاة والسلام ويهود بني النضير ويهود قريظة ويهود بني قينقاع.

وتفصيل هذه الأمور الثلاثة كالتالي:

أولاً: بالنسبة للمسجد فإنه لما بركت الناقة في ذلك المكان سأل النبي عليه الصلاة والسلام عنه فإذا هو مربد لغلامين يتيمين من بني النجار أحدهما سهل والآخر سهيل ، والمربد هو الحوش الذي يستعمل لتجفيف التمر، يعني: بعدما يحشون التمر يجعلونه في ذلك المكان من أجل أن يجف، ثم بعد ذلك تحمله الرواحل إلى بلاد الشام وغيرها.

فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( يا بني النجار! ثامنوني بحائطكم )، (ثامنوني) أي: اطلبوا فيه الثمن، قالوا: لا نطلب ثمنه إلا من الله، فأبى عليه الصلاة والسلام إلا بالثمن، وساوم الغلامين، وفي بعض الروايات أنه ساوم عمهما، والحافظ ابن حجر رحمه الله جمع بين الأمرين فقال: بأن الغلامين كانا في حجر عمهما، يعني: كان عمهما وليهما.

لكن لماذا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يدفع الثمن؟

الجواب: لئلا يأتي آت من المنافقين بعد حين فيقول: إن محمداً قد خدع الغلامين وسلبهما حقهما، أو أخذ ميراثهما، فقطعاً لقالة السوء فالنبي عليه الصلاة والسلام أبى إلا أن تكون تلك الأرض بالثمن، وكان وراءها قبور للمشركين، فأمر بها فنبشت، وكانت هناك أرض خربة فيها بعض النخل فقطعت، وأمر بتلك الخربة فسويت، وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بناء ذلك المسجد المبارك الذي يرى جمهور المفسرين بأنه المعني بقول ربنا: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108]، والآية تصدق على المسجدين، مسجد قباء والمسجد النبوي كلاهما أسس على التقوى من أول يوم.

كان نبينا صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة على كتفه، وكان أصحابه رضوان الله عليهم يعملون بجد واجتهاد ويقولون:

لئن قعدنا والنبي يعمل إذاً لذاك منا العمل المضلل

وكان علي رضي الله عنه يرتجز قائلاً:

لا يستوي من يعمر المساجد يدأب فيها قائماً وقاعداً

ومن يرى عن التراب حائداً

وكان الناس ينقلون حجراً حجراً، وكان عمار بن ياسر رضي الله عنهما ينقل حجرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( يا ويح ابن سمية ! للناس أجر وله أجران، تقتله الفئة الباغية )، وهذه من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم الراجعة لصفة العلم، وقد تقدم معنا بأن المعجزات إما أن تكون راجعة لصفة العلم، أو لصفة القدرة، أو لصفة الغنى. فهذه راجعة لصفة العلم، وفعلاً عمار بعد عشرات السنين قتل على يد جيش معاوية .

وكان من هدي النبي عليه الصلاة والسلام في بناء ذلك المسجد أن يوكل لكل إنسان العمل الذي يحسنه، فقد كان هناك رجل يقال له: طلق بن علي اليمامي الحنفي، أخذ المسحاة وبدأ يهيئ الطين الذي يصنع منه اللبن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( دعوا الطين للحنفي فإنه أحسنكم له مساً، وأشدكم له سكاً )، يعني: رجل صنايعي جيد، فأمر الصحابة بأن يتركوا هذه المهمة لـطلق بن علي رضي الله عنه.

وهذا المسجد المبارك كان بناء جدرانه من اللبن، وكانت أعمدته جذوع النخل، وكان سقفه من الجريد، وكان فرشه من التراب، ولك أن تتصور مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، بناؤه من اللبن، وأعمدته جذوع النخل، وسقفه من الجريد؛ ولذلك لما كان المطر ينزل كان المسجد يتحول إلى طين، ففي الليلة التي وافقت ليلة القدر، قال صلى الله عليه وسلم: ( أُريت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين )، ولما كان في إحدى الليالي أمطرت السماء فوكف سقف المسجد، قال بعض الصحابة: ( فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم انصرف وأثر الطين على جبهته وروثة أنفه ) صلوات الله وسلامه عليه.

وكان إذا أراد أن يخطب الجمعة كان هناك جذع نخل يصعد عليه صلى الله عليه وسلم ويخطب في الناس، ولم يكن عنده منبر، حتى صنع غلام من الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم منبراً، والمنبر ما كان منبراً طويلاً فخماً، وإنما كان منبراً من ثلاث درجات، فصعد عليه صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة، فسمع الصحابة لذلك الجذع صوتاً يشبه صوت العشار، والعشار جمع عشراء وهي: الناقة الحامل، يعني: إذا ضربها المخاض يكون عندها صوت، حتى ضج المسجد بالبكاء، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إن هذا الجذع يبكي لما فقد من ذكر الله ومقام رسول الله ) صلى الله عليه وسلم.

ولا نستغرب هذا؛ لأن الله يقول: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44].

المسجد موطن للتعليم

وبعدما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده وقد استغرق هذا البناء اثني عشر يوماً، وهذا المسجد كما يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتل فيه القرآن آناء الليل وأطراف النهار، ويعلم الناس أحكام الإسلام، فصنع منهم رجالاً عمالقة، قال: ثم لما انحدر مستوى الفكر عند المسلمين صاروا يبنون مساجد فخمة تخرج رجالاً أقزاماً، يعني: الفخامة صارت فخامة في المباني، ولكن الفحوى والمعنى غائب، فالمسجد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مكاناً للوعظ، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعظهم بمواعظ بليغة تذرف منها العيون، وتوجل منها القلوب، ويستقيم بها السلوك، وتحسن بها الأخلاق، و( كان عليه الصلاة والسلام إذا خطب علا صوته، واشتد غضبه، واحمرت عيناه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم )، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو الناس إلى المسجد كلما طرأ طارئ، ولو أن إنساناً أسلم وكان لإسلامه قصة فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يدعو الناس ليزداد الذين آمنوا إيماناً.

وهكذا كان المسجد موطناً للتعليم؛ فكان الرسول عليه الصلاة والسلام في مسجده يعلم الناس الأحكام، والحلال والحرام، ويقص عليهم الأخبار، ويضرب لهم الأمثال، وكان يعلمهم تعليماً عظيماً، وكذلك أحياناً كان هناك دروس مخصوصة لأناس معينين، ومثاله: ( لما كان جالساً مع الصحابة رضي الله عنهم فجاء الأعرابي يبول في طائفة من المسجد -أي: في ناحية- فقام عليه الصحابة ليزجروه، قال عليه الصلاة والسلام: لا تزرموه، لا تقطعوا عليه بولته، وأريقوا عليه ذنوباً من ماء، ثم لما فرغ الأعرابي من بوله الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه الدرس الأول، قال له: يا أخ العرب! إن هذه المساجد ما بنيت لشيء من هذه القاذورات، وإنما بنيت لذكر الله وتلاوة القرآن )، فالأعرابي سر وانشرح بما تعلم من شيء كان غائباً عنه، فذهب يدعو فقال: ( اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً )، فاستدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه الدرس الثاني، قال له: ( يا أخ العرب! لقد حجرت واسعاً، إن رحمة الله وسعت كل شيء ).

وكذلك لما كان جالساً مع أصحابه، فجاء رجل فصلى صلاة سريعة لا خشوع فيها ولا طمأنينة، ثم جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: السلام عليك يا رسول الله! قال: ( وعليك السلام ارجع فصل فإنك لم تصل. فذهب الرجل وأعادها، ثم جاء فسلم، فكرر النبي عليه الصلاة والسلام الأمر، ارجع فصل فإنك لم تصل. ثم في المرة الثالثة قال: لا أحسن غيرها علمني فداك أبي وأمي ). فالنبي عليه الصلاة والسلام قال له: ( إذا قمت للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة وكبر واقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تطمئن قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، وافعل ذلك في صلاتك كلها ).

وصلى النبي صلى الله عليه وسلم مرة على المنبر من أجل أن يراه الناس ثم يقول لهم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، فكان المسجد موطناً للتعليم.

المسجد مكان لقضاء حوائج المسلمين

وكان المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مكاناً تقضى فيه الحوائج، ويغاث فيه الملهوف، ويعاد فيه المريض، ويربط فيه الأسير، وكان عليه الصلاة والسلام ذات مرة على المنبر فقدم قوم من مضر مجتابي النمار -أي حالتهم رثة، وثيابهم مقطعة ممزقة- فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما بهم من الفاقة، وقال: ( تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع تمره، من صاع بره، من صاع شعيره )، وبسط ثوباً في المسجد وبدأ الصحابة كل واحد منهم يأتي بما يستطيع، هذا يأتي بقبضة من تمر وذاك بصاع من شعير وهذا بشيء من ثياب، حتى أقبل رجل بمال كثير، فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولما أسر ثمامة بن أثال الحنفي وربط في سارية المسجد، في عمود من أعمدة المسجد بقي ثلاثة أيام مربوطاً، والنبي عليه الصلاة والسلام في كل يوم يقول له: ( يا ثمامة! كيف تجدك؟ فكان يرد بأن يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة حلول: يقول له: يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن ترد الفداء نعطك )، يعني: اختر واحداً من ثلاثة حلول: إما أن تقتلني وعندي من يأخذ بثأري، (إن تقتل تقتل ذا دم)، (وإن تمنن -يعني: تفكنا- تمنن على شاكر)، أي: سأشكرك على ذلك، (وإن ترد الفداء نعطك) أي: إذا أردت فدية نعطيك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عليه حلاً رابعاً يقول له: ( هل لك أن تسلم؟ )، فكان يقول: لا. فبعد الأيام الثلاثة النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أطلقوه )، أي: فكوه، ولكنه عليه الصلاة والسلام بصير يعلم أن الرجل خلال الأيام الثلاثة قد سمع القرآن، وقد شاهد الصحابة يصلون بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى من خشوعهم وبكائهم وأدبهم وحسن سمتهم واستقامة أمرهم، وسمع أيضاً من الرسول صلى الله عليه وسلم المواعظ التي ترقق القلوب وتفتح مغاليق النفوس؛ ولذلك الرجل ذهب فغاب ساعة ثم جاء، ومن المعلوم أنه ليس هناك أسير يطلقوه ثم يرجع مرة أخرى.

لكن ثمامة رجع إلى المسجد ووقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ( يا محمد! والله ما كان دين أبغض إلي من دينك، ولا بلد أبغض إلي من بلدك، ولا وجه أبغض إلي من وجهك، وما على الأرض اليوم دين أحب إلي من دينك، ولا بلد أحب إلي من بلدك، ولا وجه أحب من وجهك، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ) عليه الصلاة والسلام.

ثم بعد ذلك ذهب إلى مكة معتمراً فقال له المشركون: ( أصبوت؟ قال: ما صبوت ولكني تابعت محمداً على دينه، ووالله لا تأتيكم حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وهذا تهديد لأهل مكة، المسجد كان موطناً لهذه الأمور كلها.

المسجد موطن للشورى

وأيضاً المسجد كان موطناً للشورى، فإذا عرض للنبي صلى الله عليه وسلم أمر فإنه كان ينادي في الناس: الصلاة جامعة، فيجتمع الناس في المسجد فيعرض عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ويسمع منهم، ولما كتب إليه العباس بأن قريشاً قد أجمعت على غزوه في المدينة جمع الصحابة واستشارهم، هل يخرجون للقائهم خارج المدينة أم ينتظرون في داخلها؟ والقصة معروفة في غزوة أحد.

حضور النساء والصبيان في المسجد

وكذلك المسجد كان يأتيه الرجال والنساء والكبار والصغار، يعني: ما كان قاصراً على طائفة من الناس دون أخرى، يحضر في المسجد الرجال والنساء، ( فكان النساء يشهدن صلاة الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متلفعات بمروطهن ما يعرفهن من الغلس )، وتقول أم هشام بنت حارثة : ( ما أخذت سورة (ق) إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها على المنبر يوم الجمعة )، فالنساء كن يشهدن الجمعة، ويشهدن صلاة العشاء، قال صلى الله عليه وسلم: ( أيما امرأة مست بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة )، معناه كن يأتين لصلاة العشاء، ولما تأخر عليه الصلاة والسلام يوماً في صلاة العشاء قالوا: ( يا رسول الله! نام النساء والصبيان )، وكذلك الصغار كانوا يأتون إلى المسجد، والدليل: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إني لأدخل في الصلاة وأنا أشتهي أن أطول فأسمع بكاء الصبي -أي: في المسجد- فأخفف رحمة بأمه ).

وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل الحسن و الحسين يتعثران عليهما ثوبان أحمران نزل عليه الصلاة والسلام من المنبر يوم الجمعة وحملهما، ثم صعد وأكمل خطبته، ولما كان ساجداً فعلا الحسن أو الحسين ظهر النبي صلى الله عليه وسلم حتى أطال السجود، وبعد الصلاة قال: ( إن ابني هذا قد ارتحلني -أي: جعلني راحلته- فكرهت أن أعجله ).

والنساء كن يطرحن أسئلتهن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر النساء! أكثرن من الصدقة فإني أريتكن أكثر أهل النار، يقول الصحابة: فقامت امرأة سفعاء الخدين -يعني: لون خديها قد تغير بسبب مرض أو بسبب دواء- فقالت: يا رسول الله! وما لنا أكثر أهل النار؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك سوءاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط ).

توسعة المسجد النبوي وبناء بيت للنبي

والمسجد النبوي المبارك وسع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناحية الشمالية، ثم وسع في عهد عمر من الناحية الغربية، ثم لما كان عهد عثمان بناه أحسن البناء حتى أتى بالساجي من بلاد الهند، ثم بعد ذلك كانت التوسعة الكبيرة في عهد بني أمية وقد قام بها الوليد بن عبد الملك، وكان واليه على المدينة عمر بن عبد العزيز رحمة الله على الجميع.

وبعدما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بناء مسجده شرع في بناء بيت له، فبنى حجرتين إحداهما لـسودة بنت زمعة وهي التي تزوجها بعد وفاة خديجة وكان زوجها السكران بن عمرو قد مات رضي الله عنه، فخلفه عليها النبي عليه الصلاة والسلام، وبنى حجرة أخرى لـعائشة التي كان قد عقد عليها ولما يبن بها -أي: لم يدخل بها- رضي الله عنها، وهاتان الحجرتان كما قال الحسن البصري : كنت أدخلهما وأنا غلام مراهق، فكنت إذا مددت يدي نلت سقفها، وإذا بسطت رجلي نلت جدارها، ولو اتكأت عليها لسقطت، كانت من الطين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها )، عليه الصلاة والسلام، فقد كان أزهد الناس في الدنيا مع أنه يملكها، وقد عرض عليه ربه أن يحول له بطحاء مكة ذهباً، فقال: ( بل أشبع يوماً فأشكر، وأجوع يوما ًفأصبر ) عليه الصلاة والسلام.

المسجد دار لإيواء الفقراء والمهاجرين

والمسجد أيضاً كان دار إيواء للفقراء المهاجرين الذين ما عندهم مال ولا بيوت ولا أهل، كانوا ينزلون في المسجد، وقد سموا بأهل الصفة، ينزلون في صفة المسجد، ومن هؤلاء أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، ومنهم أيضاً المقداد بن عمرو ، والحديث في صحيح مسلم قال المقداد : ( قدمت أنا وصاحبان لي وقد بلغ منا الجهد كل مبلغ، فعرضنا أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما قبلنا أحد، قال: فلما بصر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطحبنا معه إلى داره، وكانت له ثلاثة أعنز -ثلاث غنمايات- فقال: احتلبوا هذه بيننا -يعني: نحن الأربعة- لأن المقداد معه صاحبان والرسول صلى الله عليه وسلم رابعهم- احتلبوا هذه بيننا، في كل ليلة هم مكانهم في الصفة، وكانوا يحلبون هذه الأعنز الثلاث ثم يقسمونها على أربعة، كل منهم يشرب نصيبه ثم يرفعون نصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فرغ من عمله كان عليه الصلاة والسلام يأتي يسلم بصوت يسمع اليقظان ولا يوقظ النائم، ثم يأتي إلى المسجد فيصلي ثم يأتي فيرفع الإناء فيشرب، يقول المقداد : فلما كانت ليلة من الليالي أتاني الشيطان فقال لي: يا مقداد ! محمد يأتي الأنصار فيتحفونه وما له بهذه الشربة من حاجة فاشربها، أنت بها أولى، وقد نام صاحباي، فقمت إليها فشربتها، فلما أن وغلت في بطني، يعني تمكنت، وعلمت أنه ليس إلى خروجها من سبيل جاء الشيطان فندمني، قال: شربت نصيب محمد، الآن يأتي فيدعو عليك فتذهب دنياك وآخرتك، وبقيت لا يأتيني النوم، وقد نام صاحباي، ولم يصنعا مثل الذي صنعت، قال: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم صلى، ثم جاء فكشف عن الإناء، فما وجد شيئاً، فرفع رأسه إلى السماء فقلت في نفسي: الآن يدعو عليَّ، فقال: اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني )، يقول المقداد : وكان علي شملة إذا غطيت رأسي بدت رجلاي، وإذا غطيت رجلي بدا رأسي، فشددت علي الشملة ثم أخذت المدية -أي: السكين- لأنظر أيها أسمن فأذبحها، يعني: يريد أن يزيد الطين بلة فبعدما شرب يريد أن يذبح من أجل أن يصيب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ( اللهم أطعم من أطعمني واسق من سقاني ).

يقول رضي الله عنه: ( فأتيتها فإذا هي حفَّل كلهن )، (حفَّل) يعني: مليئة باللبن، والعادة أن الشاة إذا حلبت فإنها لا تحلب إلا بعد ساعات، على الأقل اثنتي عشرة ساعة.

فيقول: ( فإذا هي حفل كلهن، فعمدت لإناء لآل محمد ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه، فحلبت فيه حتى علته الرغوة، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! اشرب، فشرب عليه الصلاة والسلام ثم ناولني فقلت: اشرب، فشرب ثم ناولني، فقلت: اشرب. حتى رأيت أنه قد روي وقد أصابتني دعوته، ضحكت حتى ألقيت على الأرض -يعني: ضحك إلى أن وقع- فقال لي عليه الصلاة والسلام: إحدى سوآتك يا مقداد قال: فقصصت عليه ما كان، فقال: هذه رحمة من ربنا، هلا أخبرتني لنوقظ صاحبيك فيصيبان معنا، فقلت: يا رسول الله! والله ما أبالي بعد إذ أصابتني دعوتك من شرب ومن ترك )، الذي يشرب يشرب والذي ما يشرب ما يشرب.

فالمقصود: بأن المسجد أيضاً كان مركزاً لإيواء هؤلاء المستضعفين، وأيضاً كان ينام فيه الشباب مثل: عبد الله بن عمر ، يقول: كنت شاباً عزباً لا أهل لي وكنت أنام في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث دليل على جواز النوم في المسجد، فلو أنكر عليك منكر وقال لك: المسجد ليس محل نوم، فمباشرة تأتي بالحديث وتقول له: عبد الله بن عمر كان ينام في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو خير المساجد بعد المسجد الحرام.

لكن كان ينام مع المحافظة على حرمة المسجد، يعني: ما كان يحمل صوراً لا تنبغي في المسجد، ولا كان يبصق في المسجد، ولا كان يغتاب ، ولا ينم، ولا يكذب، ولا يفحش، ولا يسب، ولا يلعن، وإنما مجرد راحة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المسجد مكان للذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشعر وغيره

وأيضاً المسجد كان مكاناً لإنشاد الشعر، ذباً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الإسلام، فـحسان بن ثابت رضي الله عنه في زمن عمر وقف ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه عمر ، يعني: عمر نظر إليه بعينه فقال له: ( يا عمر ! قد كنت أنشد في هذا المسجد وفيه من هو خير منك، فمضى عمر رضي الله عنه وكان وقافاً عند حدود الله )، يعني حسان يقول: أنا كنت أنشد الشعر والرسول صلى الله عليه وسلم موجود، وما أنكر علي ففيم هذا الإنكار منك؟!

المسجد مكان لعقد المناظرات

وأيضاً المسجد كان مكاناً لعقد المناظرات، لما جاء وفد نصارى نجران وقد أوكلوا أمرهم إلى ثلاثة السيد و العاقب و عبد المسيح ، ناظرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد حتى أفحمهم، فرضوا بأن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

المسجد مكان لاستقبال السفراء وإرسال السرايا والبعوث

وأيضاً المسجد كان مكاناً لاستقبال الرسل السفراء، ومن أعجب ما هنالك أنه جاءه سفيران من اليمن؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان قد كتب لكسرى كتاباً يدعوه إلى الإسلام، فكسرى بعث إلى عامله على اليمن وكان اسمه باذان ، قال له: ابعث رجلين إلى هذا الذي يزعم أنه نبي فليأتيا به في جامعة، قال له: أرسل له اثنين عساكر قويين يذهبان إلى محمد صلى الله عليه وسلم ويأتيان به، فجاء الرجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبراه بالمهمة التي جاءا من أجلها، يعني: نحن أتينا لنقبض عليك، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يملك أن يأمر عمر أو عاصم بن ثابت أو غيرهما أن يأسر الاثنين أو يقتلهما، لكن النبي عليه الصلاة والسلام نظر إليهما فإذا شواربهم مفتولة ولحاهم محلوقة، قال لهم: ( من أمركما بهذا؟ )، فقالا: ربنا الذي هو كسرى، فقال : ( لكن ربي أمرني بغير هذا، أمرني بأن أحف شاربي وأعفي لحيتي )، يعني: الشارب أخففه، واللحية أتركها كما هي، ثم قال لهما: ( لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما )، ثم قال لهما: ( ارجعا إلى صاحبكما )، يعني: باذان - ( فأخبراه أن ربي قتل ربه الليلة )، الليلة هذه كسرى قُتل.

فذهب الرجلان إلى اليمن ووقتا تلك الليلة التي أخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر، وأخبرا باذان ، ثم جاءت الرسل وجاء البريد من بلاد فارس بعد زمن بأن كسرى قتل في تلك الليلة فأسلم أهل اليمن. فلذلك اليمن ما فتحت حرباً وإنما دخلوا في الإسلام صلحاً.

وكذلك المسجد كان مكاناً لعقد ألوية جيوش وسرايا المجاهدين إلى غير ذلك.

نقف عند هذا الحد وأسأل الله أن ينفعني وإياكم.

وبعدما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده وقد استغرق هذا البناء اثني عشر يوماً، وهذا المسجد كما يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتل فيه القرآن آناء الليل وأطراف النهار، ويعلم الناس أحكام الإسلام، فصنع منهم رجالاً عمالقة، قال: ثم لما انحدر مستوى الفكر عند المسلمين صاروا يبنون مساجد فخمة تخرج رجالاً أقزاماً، يعني: الفخامة صارت فخامة في المباني، ولكن الفحوى والمعنى غائب، فالمسجد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مكاناً للوعظ، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعظهم بمواعظ بليغة تذرف منها العيون، وتوجل منها القلوب، ويستقيم بها السلوك، وتحسن بها الأخلاق، و( كان عليه الصلاة والسلام إذا خطب علا صوته، واشتد غضبه، واحمرت عيناه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم )، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو الناس إلى المسجد كلما طرأ طارئ، ولو أن إنساناً أسلم وكان لإسلامه قصة فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يدعو الناس ليزداد الذين آمنوا إيماناً.

وهكذا كان المسجد موطناً للتعليم؛ فكان الرسول عليه الصلاة والسلام في مسجده يعلم الناس الأحكام، والحلال والحرام، ويقص عليهم الأخبار، ويضرب لهم الأمثال، وكان يعلمهم تعليماً عظيماً، وكذلك أحياناً كان هناك دروس مخصوصة لأناس معينين، ومثاله: ( لما كان جالساً مع الصحابة رضي الله عنهم فجاء الأعرابي يبول في طائفة من المسجد -أي: في ناحية- فقام عليه الصحابة ليزجروه، قال عليه الصلاة والسلام: لا تزرموه، لا تقطعوا عليه بولته، وأريقوا عليه ذنوباً من ماء، ثم لما فرغ الأعرابي من بوله الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه الدرس الأول، قال له: يا أخ العرب! إن هذه المساجد ما بنيت لشيء من هذه القاذورات، وإنما بنيت لذكر الله وتلاوة القرآن )، فالأعرابي سر وانشرح بما تعلم من شيء كان غائباً عنه، فذهب يدعو فقال: ( اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً )، فاستدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه الدرس الثاني، قال له: ( يا أخ العرب! لقد حجرت واسعاً، إن رحمة الله وسعت كل شيء ).

وكذلك لما كان جالساً مع أصحابه، فجاء رجل فصلى صلاة سريعة لا خشوع فيها ولا طمأنينة، ثم جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: السلام عليك يا رسول الله! قال: ( وعليك السلام ارجع فصل فإنك لم تصل. فذهب الرجل وأعادها، ثم جاء فسلم، فكرر النبي عليه الصلاة والسلام الأمر، ارجع فصل فإنك لم تصل. ثم في المرة الثالثة قال: لا أحسن غيرها علمني فداك أبي وأمي ). فالنبي عليه الصلاة والسلام قال له: ( إذا قمت للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة وكبر واقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تطمئن قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، وافعل ذلك في صلاتك كلها ).

وصلى النبي صلى الله عليه وسلم مرة على المنبر من أجل أن يراه الناس ثم يقول لهم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، فكان المسجد موطناً للتعليم.