خطب ومحاضرات
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فأسأل الله سبحانه كما جمعنا في هذا المكان أن يجمعنا في جنات النعيم.
أنبه إلى أن بعض الإخوة إذا كتب اسم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يكتفي بالإشارة إليه بالرمز (ص) وهذه آفة قديمة قد نبه عليها العلماء الأولون، كالإمام السخاوي رحمه الله، فقالوا: إذا كتب الإنسان اسم النبي صلى الله عليه وسلم، فإما أن يصلي عليه كتابة، فيكتبها كاملة: صلى الله عليه وسلم، أو يكتب: عليه الصلاة والسلام، أو يكتفي بأن ينطق بها لفظاً، كما كان يفعل الإمام أحمد رحمه الله.
أما أن يكتب: (ص)، أو: (صلعم)، كما يفعل بعض الناس، وكذلك إذا ذكر اسم الصحابي يكتب: (رض)، بدلاً من أن يكتب: رضي الله عنه، فيكتب: راء ضاد، فليس هذا صنيع طلبة العلم الفضلاء. بل أول ما ينبغي لطالب العلم أن يلتزم به: الأدب مع الله عز وجل ومع رسوله صلى الله عليه وسلم ومع أهل العلم، فمن الأدب مع الله تعالى إذا ذكر أن يذكر بالتقديس والإجلال، فيقول: الله جل جلاله، أو الله عز وجل، أو الله تبارك وتعالى، أو الله تبارك اسمه، أو سبحانه وتعالى.. ونحو ذلك، وإذا ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يتبعه بالصلاة والسلام عليه؛ عملاً بقوله تعالى: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وكذلك إذا ذكر الصحابة لا بد أن يترضى عنهم، وإذا ذكر من بعدهم من أهل العلم وأهل الصلاح فيترحم عليهم، كما قال بعضهم: قبيح بكم أن تنقلوا عنا ولا تترحموا علينا، فإذا ذكرت اسم واحد من العلماء فلا بد أن تقول: رحمه الله تعالى.
تنبيه آخر وهو أن فحول العلماء الكبار، كان الواحد منهم يردد الدرس قبل أن يلقيه أربعين مرة، فمثلاً سلطان العلماء الإمام العز بن عبد السلام ، ذكروا عنه بأنه كان يردد الدرس أربعين مرة قبل أن يلقيه على الناس، فليس من العيب أن الإنسان يردد الشيء حتى يرسخ، وكما قال علماؤنا: ما ثبت نبت، فالإنسان الذي يحفظ حفظاً سريعاً أو حفظاً تجارياً، سرعان ما ينسى، لكن لو أنه تأنى وكرر فما يكاد ينسى، ولو أنه نسيه سرعان ما يستعيده؛ ولذلك كرروا ولا تيئسوا، فإن شاء الله يأتي عليكم يوم يكون حديث أم معبد عندكم كفاتحة الكتاب.
لقد مدح ربنا جل جلاله المتواضعين في كتابه، فقال سبحانه: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63]، هؤلاء المتواضعون يمشون على الأرض هوناً، وفي مقابل هؤلاء يقول لقمان لابنه: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [الإسراء:37]، والنبي صلى الله عليه وسلم ذم الإنسان الذي يمشي متبختراً ينظر في عطفيه، معجباً بنفسه، وكلما أصابه شيء من تراب تضجر. نسأل الله العافية!
وبعض الناس إذا تكلم لا ينظر إلى الناس، وهذه كلها مظاهر من مظاهر الكبر المذمومة، وكما قال القائل:
يا مظهر الكبر إعجاباً بصورته انظر خلاك فإن النتن تثريب
لو فكر الناس فيما في بطونهم ما استشعر الكبر شبان ولا شيب
فلو تفكر الإنسان بما في بطنه من النجاسات والقاذورات ما كان أبداً سيشعر بالكبر، وكما قال الآخر: عجبت لابن آدم كيف يتكبر على الله وهو الذي تنتنه عرقة، وتؤذيه بقة، وتقتله شرقة، أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو ما بين هذا وذاك يحمل في جوفه العذرة.
فالإنسان لا ينبغي له أبداً أن يتكبر، بل المفروض أن يتواضع، قال صلى الله عليه سلم: ( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد )، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه: ( ثلاثة أقسم عليهن: ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) الحديث، فالإنسان المتواضع يرفعه الله عز وجل، والمتكبر يضعه الله عز وجل؛ ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن المتكبرين يحشرون يوم القيامة كأمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم )، فهؤلاء الذين كانوا في الدنيا منتفخين، والواحد منهم يشمخ بأنفه، فإنه يوم القيامة يحشر كأمثال الذر، والناس يدوسونه.
وقد ضرب الله لنا أمثلة في القرآن الكريم من أمثال فرعون الذي قال: مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى [غافر:29]، ومثل قارون الذي قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، وإبليس الذي قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، و أبي لهب وأمثالهم، فهؤلاء جميعاً جعلهم الله عبرة للآخرين، فيا أيها الإنسان كن متواضعاً.
وكلمة تواضع: بمعنى تفاعل، وهي مأخوذة من مادة: وضع، والضعة، ولها مرادفات كخفض الجناح، قال الله عز وجل: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215]، وقال بالنسبة للوالدين: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24]، أي: تواضع مع والديك، فلا تجلس ووالدك قائم، ولا تمش أمامه، ولا ترق سطحاً هو تحته، ولا ترفع عليه صوتاً، ولا تشر إليه بأصبعك وأنت تتكلم، بل كن دائماً مع والدك متواضعاً ذليلاً، قبل رأسه، قبل يديه، قبل رجليه، اخفض صوتك عنده، أطع أمره، نفذ طلبه ومن باب أولى مع الوالدة التي هي أعظم حقاً من الوالد.
فالتواضع مأخوذ من مادة: الواو والضاد والعين، قالوا في تعريفه: أن تقبل الحق ممن صدر، ولو كان صغيراً، ولو كان ضعيفاً، فأي إنسان أرشدك إلى الحق ينبغي أن تقبل إرشاده، ولو كان هذا الإرشاد صادراً ممن هو أصغر منك سناً أو أقل منك علماً أو شأناً، فتقبل الحق ممن صدر.
وقيل: هو إظهار التنزل عن المرتبة لمن يراد تعظيمه؛ ولذلك منبر الرسول صلى الله عليه وسلم من ثلاث درجات، وقف صلى الله عليه وسلم في الدرجة الثالثة، فجاء أبو بكر فوقف في الدرجة الثانية، ثم جاء عمر فوقف في الدرجة الأولى. ومثال آخر في شأن عمر بن الخطاب وهو أمير المؤمنين، الذي كان يحكم الدنيا، قال له بعض الناس: يا أمير المؤمنين! أنت خير أم أبو بكر ؟ فبكى عمر رضي الله عنه وقال: والله لليلة لـأبي بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار خير من عمر وآل عمر ، يا ليتني شعرة في صدر أبي بكر ، كان أبو بكر هادياً مهدياً أطيب من ريح المسك، وأنا أضل من بعير أهله، وهذا من تواضع عمر رضي الله عنه مع أبي بكر بعد موته؛ لكي لا يقال: إنما قال هذا الكلام تملقاً، وإنما قاله بعد موت أبي بكر ، وما عاد أبو بكر يملك لـعمر شيئاً.
وكذلك علي رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين يتواضع، ويقول للناس: لا أوتى برجل يفضلني على أبي بكر و عمر إلا جلدته حد المفتري، وحد المفتري ثمانون جلدة، فلو سمعت إنساناً يقول: علي أفضل من أبي بكر و عمر يجلد ثمانين جلدة في ظهره، وهذا من تواضع علي رضي الله عنه.
إذاً: فالتواضع هو: إظهار التنزل عن المرتبة لمن يراد تعظيمه، وقيل: هو تعظيم من فوقه لفضله، وقيل: هو الاستسلام للحق وترك الاعتراض في الحكم، ولعل التعريف الأخير الذي ذكره ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين هو الذي يناسب التعريف النبوي للكبر، قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قالوا: يا رسول الله! إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، قال: ليس ذلك من الكبر، الكبر: بطر الحق وغمط الناس )، وفي رواية: ( وغمص الناس )، وبطر الحق: رده، وهو أن الإنسان لا يقبل الحق، ويقول للمتكلم: اسكت، أو دعنا من هذا.. ونحو ذلك، هذا هو الكبر نسأل الله العافية!
فبطر الحق: رده، وغمط الناس: احتقارهم.
بعض مظاهر تواضع نبينا صلى الله عليه وسلم، وبالجملة نقول: ما عرفت الدنيا أحداً كان أعظم تواضعاً من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
فالإنسان قد يتواضع مع الكبير، الذي هو أعلى منه منزلة، ولكن يصعب على النفس أن تتواضع مع القرين والمثيل والند والشبيه، وأصعب من ذلك أن تتواضع لمن كان دونك، ولكن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان التواضع سجية له مع الكبير والصغير والمثيل ومن دونه، وتواضع مع العالم والعامي، وتواضع مع الفقير والغني، وتواضع مع الذكر والأنثى، وتواضع مع العربي والأعجمي.. وعلى كل أحواله صلوات ربي وسلامه عليه نجد التواضع ملازماً له.
تواضعه صلى الله عليه وسلم مع الأنبياء
ولذلك انظروا إلى تواضعه مع الأنبياء لما قال أحد اليهود: والذي اصطفى موسى على البشر، ويحلف بالله الذي اصطفى موسى على البشر، فأحد المسلمين رفع يده فلطمه، قال له: أتقول هذا -يا عدو الله- ورسول الله بين أظهرنا؟! فجاء اليهودي -كما يقول السودانيون: ضربني وبكى وسبقني واشتكى!- إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو أن المسلم لطمه، فاستفسر النبي صلى الله عليه وسلم من المسلم، فأخبره بالأمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تخيروا بين الأنبياء )، أي: لا تقولوا: فلان خير من فلان.
ونبينا صلى الله عليه وسلم خير من موسى بن عمران، واصطفاه الله عز وجل على سائر الأنبياء، والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر، فالله عز وجل قال: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253]، يعني: موسى، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة:253]، يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، وقال الله عز وجل: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً [الإسراء:55].
ومن مظاهر تفضيله صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى جعله للأنبياء إماماً في بيت المقدس، وكلهم رحبوا به بقولهم: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، وكلهم شهد له بالرسالة وكلهم انقاد إليه.
ومن مظاهر تفضيله: أنه يوم القيامة هو سيد ولد آدم، فمن دونه تحت لوائه.
ومن مظاهر تفضيله: أنه صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، وأنه أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة.. إلى غير ذلك من الأدلة، ومع ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: ( لا تخيروا بين الأنبياء ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: نهى صلى الله عليه وسلم عن التخيير بين الأنبياء إذا كان ذلك على سبيل الحمية، أما إذا كان لبيان الحكم الشرعي فلا مانع من أن نقول: أفضل الأنبياء: الخمسة أولو العزم، وأفضل أولي العزم الخمسة: الخليلان إبراهيم ومحمد عليهما صلوات الله وسلامه، وأفضل الخليلين محمد عليه الصلاة والسلام، هذا جائز على سبيل تقرير الحكم الشرعي، وأما إذا كان على سبيل الحمية والانتقاص فلا يجوز.
وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام: ( ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى )، يونس بن متى لقبه ذو النون، والنون هو الحوت، وقد ذكر الله قصته في القرآن فقال الله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87]، وفي الآية الأخرى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:142-144]، فبعض الناس قد يقع في نفسه انتقاصاً ليونس عليه السلام؛ لأنه ذهب مغاضباً، وخرج بغير إذن الله، فعاقبه الله بأن التقمه الحوت، وبعد أن تاب لفظه الحوت في العراء، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين، وهو القرع أو الدباء، ولهذا قد يقع في نفس بعض الناس تنقص ليونس عليه السلام؛ ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم نص على يونس بن متى فقال: ( ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى ).
وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم: ( نحن أولى بالشك من إبراهيم )، ويقول عليه السلام: ( ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم دعيت لأجبت الداعي )، هذا الكلام فيه تواضع عجيب، يقول: ( نحن أولى بالشك من إبراهيم )، حين قال إبراهيم: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى [البقرة:260]، بالجزم، وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لو شك إبراهيم - وهو من هو - فنحن أولى بالشك منه؛ لأننا دونه، والمعنى: أن إبراهيم ما شك؛ ولذلك نحن لم نشك.
ومن تواضعه أنه لما دخل الكعبة وجد المشركين قد صوروا إبراهيم مستقسماً بالأزلام، قال: ( قاتل الله المشركين، والله ما كان شيخنا يستقسم بالأزلام )، فسمى إبراهيم شيخاً، ( ما كان شيخنا.. )، يعني: شيخ الأنبياء.
ويقول عليه الصلاة والسلام: ( ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم دعيت لأجبت الداعي )، فيوسف لبث في السجن بضع سنين، كما قال القرآن، ومن ثم جاءه.. ليس مدير السجون، وإنما جاءه مندوب أو من الديوان الملكي، فقال له: إن الملك يريدك، فلو كنت أنا أو أنت وجلسنا في السجن بضع ساعات، ليس بضع سنين لأجبنا -نسأل الله ألا يبتلينا، نسأل الله العافية!- لأن بعض الناس يظن أن السجن فيه شرف في ذاته، والرسول صلى الله عليه وسلم ما سجن، فالسجن ليس شرفاً يطلبه المرء ويحرص عليه، ولا ينبغي للإنسان أن يفخر به بين الناس، فيقول لك: فلان هذا ظل في السجن كذا..! وكما يقول المصريون: السجن للرجالة! أو للجدعان! فقال له الآخر: والذي أجدع منه الذين لا يدخلونه!
فيوسف عليه السلام دعي إلى الخروج فأبى؛ من أجل أن يفتح التحقيق مرة أخرى وتثبت براءته، فيخرج بشهادة شرف، فلما جاءه الرسول وقال له: إن الملك يدعوك، قال: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ [يوسف:50]، يعني ملكك، فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50]، فالملك اضطر أن يفتح التحقيق فشهد النسوة: قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ [يوسف:51]، والمرأة صاحبة المكيدة قالت: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا [يوسف:51]، أنا السبب، أنا المتهمة، أنا المخطئة، أنا المتعدية.. فخرج يوسف عليه السلام مرفوع الرأس، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لو كنت أنا مكان يوسف ولبثت في السجن ما لبث يوسف، ثم دعيت لأجبت الداعي، وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يتواضع مع الأنبياء، ويتواضع مع الصغار، ويتواضع مع الكبار، ويتواضع في نفسه عليه الصلاة والسلام.
تواضعه صلى الله عليه وسلم وجلوسه مع أصحابه
ومن تواضعه أنه كان يجلس مختلطاً بأصحابه حيث انتهى به المجلس، حتى إن الداخل إلى المسجد إذا كان مسلماً جديداً، يقول: أيكم رسول الله؟ لأنه لا يتميز على الصحابة بلباس أو بشعار، حتى اضطر الصحابة أن يبنوا له دكاناً، -والدكان: هو المكان المرتفع- يجلس عليه صلى الله عليه وسلم، من أجل أن يعرف أن هذا الجالس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما هاجر ومعه أبو بكر و عامر بن فهيرة ، دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة و أبو بكر إلى جنبه، ولم يكن كثير من الأنصار قد جاء إلى رسول الله، فيقولون: جاء رسول الله.. ولكن لا يدرون أيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: حتى زال الظل فقام أبو بكر فخلع رداءه وظلل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فعرفنا أن الجالس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكان صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه مختلطاً بهم حيث انتهى به المجلس، وما رئي مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له، فكان لا يجلس جلسة البطر أبداً، وللأسف تجد الآن بعض الناس ممن يقول عن نفسه أنا طالب علم، يجلس في المسجد، وتجد بعض الشيوخ الكبار من الطاعنين في السن يدرس، وهذا الشاب قد مد رجليه، وكل فترة يلعب بهما، وإذا قيل له: يا أخي! تواضع، وتأدب في جلستك، فيقول: ليس عندنا أوثان وتقديس للناس، كلنا سواء، فهذا مخبول، لا يعرف الأدب الواجب على طالب العلم.
أما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رئي مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له، عليه الصلاة والسلام، وكان إذا حدثه أحد الناس أقبل عليه بوجهه وأنصت له، حتى يرى الجالس أنه ليس أحد أكرم عليه منه، فلم يكن من هديه عليه الصلاة والسلام أن يقبل على واحد ويهمل الباقين، وإنما يعطي كلاً نصيبه من حديثه ووجهه صلوات ربي وسلامه عليه.
تواضعه صلى الله عليه في إجابته للدعوة وركوبه الحمار
وفي طعامه عليه الصلاة والسلام كان يقول: ( إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد ).
وكان من تواضعه: أنه يجيب دعوة من دعاه، يقول أنس : ( دعته جدتي مليكة لطعام صنعته )، فكان يجيب دعوة المسكين، فيجيب دعوة العبد، وربما دعي إلى إهالة سبخة، والإهالة: هي مرق قد تغيرت رائحته من طول ما مكث، فيجيب عليه الصلاة والسلام.
( دعته جدتي مليكة لطعام صنعته فأكل منه، ثم قال: قوموا، فأصلي لكم، يعني: من أجل البركة، أصلي في مكان من البيت، قال أنس : فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس -يعني: من طول ما وطئ- فنضحته بماء، فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم انصرف ).
ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام: أنه كان يركب الحمار ويردف خلفه، وكان اسم حماره عفيراً أو يعفوراً، واسم ناقته القصواء، واسم بغلته دلدل، أهداها إليه المقوقس حاكم مصر والإسكندرية.
ومن تواضعه مع الصغار: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا مر على الصبيان وهم يلعبون سلم عليهم وماسحهم، يعني يمسح على رءوسهم عليه الصلاة والسلام، وكان الصبي السعيد الذي يمسح النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه يعرف من بين الصبيان برائحة المسك في رأسه.
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم بعيادته للمريض واتباعه للجنازة
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم ما قاله عثمان بن عفان: ( والله لقد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، فكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير ).
(كان يعود مرضانا): فكان صلى الله عليه وسلم إذا علم أن أحداً من أصحابه مريض يأتيه عائداً، فيدخل عليه، فيسلم ويجلس عند رأسه، ثم يقول له: ( كيف تجدك )؟ يعني: كيف حالك؟ ثم يقول له: ( لا بأس، طهور إن شاء الله )، ولربما قال: ( كفارة وطهور )، ثم يسأله صلى الله عليه وسلم إن كان يشتهي شيئاً، فإذا ذكر شيئاً يشتهيه وعلم صلى الله عليه وسلم أنه لا يضره أمر له به.
وكان صلى الله عليه وسلم يرقي من يمرض من أصحابه، فيضع يده على موضع الألم، ويقول: ( اللهم رب الناس، أذهب الباس، اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً )، ولربما تفل على أصبعه ثم وضعها في الأرض ثم وضعها على موضع الألم وقال: ( بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا بإذن ربنا )، ولربما دعا في ماء أو قرأ ثم نضح به المريض، كما فعل مع جابر بن عبد الله ، قال: ( أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أغمي علي فدعا بماء، فقال فيه ما شاء أن يقول، ثم نضحني به فعقلت )، أي: أفاق مباشرة من غشيته، رضي الله عنه وأرضاه.
(ويتبع جنائزنا)، في أي وقت، لأنه أول ما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان الصحابة إذا احتضر أحدهم يدعون النبي صلى الله عليه وسلم يلقنه الشهادة ويقوم عليه، ثم لما كثر الناس قالوا: نجهز ميتنا ثم ندعو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، ولما كثر الناس قالوا: نجهز ميتنا ونحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه، والآن يوجد في المسجد النبوي من ناحية القبر، من الناحية الشرقية خارج الحرم، مستطيلاً مسوراً، فهذا هو مصلى الجنائز، حيث كانت الجنازة توضع فيصلي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
( ولما ماتت المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد، فكره الصحابة أن يؤذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم )؛ لأنها ماتت في وقت متأخر، فغسلوها وصلوا عليها ودفنوها، ( فلما أصبح سأل عنها صلى الله عليه وسلم.. ثم قال: دلوني على قبرها، فدلوه على قبرها فصلى عليها، وقال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم ).
تواضعه صلى الله عليه وسلم بتفقد الناس في الغزو وحل مشكلاتهم ونزاعاتهم
(ويغزو معنا)، وكان عليه الصلاة والسلام في الغزو يسير بسير الضعيف، وكان صلى الله عليه وسلم في الغزو يتفقد الناس، وكان في العزو يحل المشاكل التي تنشب بين الناس، فربما تشاجر اثنان من الصحابة؛ لأن الصحابة في النهاية بشر، فيصلح بينهم، ومثال ذلك: لما تزاحم جهجاه الغفاري مع رجل من الأنصار على الماء وتدافعا ثم تضاربا، ومثله لما تشاجر أنصاري ومهاجري، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، فتدافع الناس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، دعوها فإنها منتنة ).
تواضعه صلى الله عليه وسلم بمواساته لأصحابه بالقليل والكثير
(فيواسينا بالقليل والكثير)، ولذلك يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ( كنت أجوع حتى ألصق كبدي بالأرض من شدة الجوع، قال: فتبعت أبا بكر يوماً أسأله عن آية، والله ما تبعته إلا ليدخلني بيته فيطعمني )، يعني: ما عنده غرض في الآية، لأنه يعرف معناها، ولكن يريد أن يمشي مع أبي بكر حتى يصل معه إلى البيت، فيقول له: تفضل معي، فيدخل معه بيته، قال: ( فأجابني ثم دخل بيته، قال: فرجعت فتبعت عمر أسأله عن آية، فلما وصل بيته - و عمر رجل لماح، ذكي- قال: يا أبا هر ، والله ما يمنعني من إدخالك إلا أنه ليس في البيت شيء، قال: فرجعت لأبيت طاوياً، قال: فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى ما بي، فقال: أبا هر ، قلت: لبيك يا رسول الله! قال: اتبعني -أي: تعال ورائي-، قال: فدخلت معه، فإذا قدح من لبن، فقال لأهله: من أين؟ قالوا: أرسل به آل فلان من الأنصار )، فـأبو هريرة فرح بالقدح! وكان يظن أنه سيكون له نصفه، والرسول صلى الله عليه وسلم له النصف الآخر، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( يا أبا هر ، ادع أهل الصفة )، اذهب ائتِ بالفقراء الذين في المسجد، يقول أبو هريرة : ( فقلت في نفسي: وما يصنع هذا القدح بأهل الصفة؟! ) لأنه كان جائعاً، فلذا قال ذلك في نفسه، ثم قال: ( ولم يكن من أمره صلى الله عليه وسلم بد، -يعني: لا يمكن أناقشه- قال: فذهبت فدعوتهم ولم يكن فيهم شبعان، فقال صلى الله عليه وسلم: اسقهم )، وهذه مصيبة أخرى؛ لأن ساقي القوم آخرهم شرباً، قال: ( فبدأت أسقيهم وأنا أنظر إلى القدح، والله ما أدري أيزيد أم ينقص؟! ). لأنهم يشربون وهو ينظر إلى القدح، قال: ( ثم وضعته في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلي وتبسم، ثم قال: اجلس أبا هر ! ثم أعطانيه، فقال: اشرب، فشربت ثم مددته إليه، فقال: اشرب، فشربت ثم ممددته، فقال: اشرب، فشربت ثم مددته، قال: اشرب، فلم يزل يقول: اشرب، اشرب.. حتى قلت: والله لا أجد له مسلكاً، قال: فأخذه صلى الله عليه وسلم وسمى الله وشرب )، فهذا معنى قول عثمان : (ويواسينا بالقليل والكثير)، وإلا لو كان غيره وعنده قدح من لبن فسيذهب عن أصحابه لينفرد به، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يواسي بالقليل والكثير.
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يخالط الصحابة صغارهم وكبارهم ويمازحهم ولا يقول إلا حقاً.
ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام: أنه كان في بيته في مهنة أهله، فيخصف نعله ويرقع ثوبه ويحلب شاته، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
فمن الاقتداء بالسنة أنه الواحد في البيت يقم بيته أحياناً، أو يصلح الفراش أو يغسل بعض الصحون أو الحلل مع زوجته، أو يساعدها إذا كان هناك تنظيف فينظف معها ونحو ذلك، وهذا من الاقتداء بسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، الذي كان يرقع ثوبه ويخصف نعله، ويحلب شاته ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته.
تواضعه عليه الصلاة والسلام في نهيه عن المبالغة في مدحه وإطرائه
من تواضعه عليه الصلاة والسلام: أنه ما كان يحب المبالغة في المدح والإطراء، ومن ذلك لما قال له أحد الناس: يا سيدنا وابن سيدنا، قال: ( مه! لا يستهوينكم الشيطان، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد )، والقديد اللحم، وقال عليه الصلاة والسلام: ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله ).
ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام: ( أنه صلى بالناس يوماً فرأى رجلين جالسين لم يصليا، فقال: علي بهما -أي: ائتوني بهما-، فجيء بهما ترعد فرائصهما )، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عليه مهابة وجلالة، من رآه بداهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه، قال: ( هونا على أنفسكما )، يعني لا تخافا ولا تجزعا، ( هونا على أنفسكما، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد ).
ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام: أنه يتحدث عن ما كان قبل نبوته، فيقول: ( ما من نبي إلا ورعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ).
وبعض الناس إذا بلغ منزلة ومكانة لا يحب أن يظهر ماضيه.
ونكتفي بهذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ولذلك انظروا إلى تواضعه مع الأنبياء لما قال أحد اليهود: والذي اصطفى موسى على البشر، ويحلف بالله الذي اصطفى موسى على البشر، فأحد المسلمين رفع يده فلطمه، قال له: أتقول هذا -يا عدو الله- ورسول الله بين أظهرنا؟! فجاء اليهودي -كما يقول السودانيون: ضربني وبكى وسبقني واشتكى!- إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو أن المسلم لطمه، فاستفسر النبي صلى الله عليه وسلم من المسلم، فأخبره بالأمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تخيروا بين الأنبياء )، أي: لا تقولوا: فلان خير من فلان.
ونبينا صلى الله عليه وسلم خير من موسى بن عمران، واصطفاه الله عز وجل على سائر الأنبياء، والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر، فالله عز وجل قال: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253]، يعني: موسى، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة:253]، يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، وقال الله عز وجل: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً [الإسراء:55].
ومن مظاهر تفضيله صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى جعله للأنبياء إماماً في بيت المقدس، وكلهم رحبوا به بقولهم: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، وكلهم شهد له بالرسالة وكلهم انقاد إليه.
ومن مظاهر تفضيله: أنه يوم القيامة هو سيد ولد آدم، فمن دونه تحت لوائه.
ومن مظاهر تفضيله: أنه صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، وأنه أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة.. إلى غير ذلك من الأدلة، ومع ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: ( لا تخيروا بين الأنبياء ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: نهى صلى الله عليه وسلم عن التخيير بين الأنبياء إذا كان ذلك على سبيل الحمية، أما إذا كان لبيان الحكم الشرعي فلا مانع من أن نقول: أفضل الأنبياء: الخمسة أولو العزم، وأفضل أولي العزم الخمسة: الخليلان إبراهيم ومحمد عليهما صلوات الله وسلامه، وأفضل الخليلين محمد عليه الصلاة والسلام، هذا جائز على سبيل تقرير الحكم الشرعي، وأما إذا كان على سبيل الحمية والانتقاص فلا يجوز.
وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام: ( ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى )، يونس بن متى لقبه ذو النون، والنون هو الحوت، وقد ذكر الله قصته في القرآن فقال الله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87]، وفي الآية الأخرى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:142-144]، فبعض الناس قد يقع في نفسه انتقاصاً ليونس عليه السلام؛ لأنه ذهب مغاضباً، وخرج بغير إذن الله، فعاقبه الله بأن التقمه الحوت، وبعد أن تاب لفظه الحوت في العراء، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين، وهو القرع أو الدباء، ولهذا قد يقع في نفس بعض الناس تنقص ليونس عليه السلام؛ ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم نص على يونس بن متى فقال: ( ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى ).
وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم: ( نحن أولى بالشك من إبراهيم )، ويقول عليه السلام: ( ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم دعيت لأجبت الداعي )، هذا الكلام فيه تواضع عجيب، يقول: ( نحن أولى بالشك من إبراهيم )، حين قال إبراهيم: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى [البقرة:260]، بالجزم، وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لو شك إبراهيم - وهو من هو - فنحن أولى بالشك منه؛ لأننا دونه، والمعنى: أن إبراهيم ما شك؛ ولذلك نحن لم نشك.
ومن تواضعه أنه لما دخل الكعبة وجد المشركين قد صوروا إبراهيم مستقسماً بالأزلام، قال: ( قاتل الله المشركين، والله ما كان شيخنا يستقسم بالأزلام )، فسمى إبراهيم شيخاً، ( ما كان شيخنا.. )، يعني: شيخ الأنبياء.
ويقول عليه الصلاة والسلام: ( ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم دعيت لأجبت الداعي )، فيوسف لبث في السجن بضع سنين، كما قال القرآن، ومن ثم جاءه.. ليس مدير السجون، وإنما جاءه مندوب أو من الديوان الملكي، فقال له: إن الملك يريدك، فلو كنت أنا أو أنت وجلسنا في السجن بضع ساعات، ليس بضع سنين لأجبنا -نسأل الله ألا يبتلينا، نسأل الله العافية!- لأن بعض الناس يظن أن السجن فيه شرف في ذاته، والرسول صلى الله عليه وسلم ما سجن، فالسجن ليس شرفاً يطلبه المرء ويحرص عليه، ولا ينبغي للإنسان أن يفخر به بين الناس، فيقول لك: فلان هذا ظل في السجن كذا..! وكما يقول المصريون: السجن للرجالة! أو للجدعان! فقال له الآخر: والذي أجدع منه الذين لا يدخلونه!
فيوسف عليه السلام دعي إلى الخروج فأبى؛ من أجل أن يفتح التحقيق مرة أخرى وتثبت براءته، فيخرج بشهادة شرف، فلما جاءه الرسول وقال له: إن الملك يدعوك، قال: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ [يوسف:50]، يعني ملكك، فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50]، فالملك اضطر أن يفتح التحقيق فشهد النسوة: قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ [يوسف:51]، والمرأة صاحبة المكيدة قالت: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا [يوسف:51]، أنا السبب، أنا المتهمة، أنا المخطئة، أنا المتعدية.. فخرج يوسف عليه السلام مرفوع الرأس، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لو كنت أنا مكان يوسف ولبثت في السجن ما لبث يوسف، ثم دعيت لأجبت الداعي، وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يتواضع مع الأنبياء، ويتواضع مع الصغار، ويتواضع مع الكبار، ويتواضع في نفسه عليه الصلاة والسلام.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
بداية نزول الوحي | 2556 استماع |
النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة [2] | 2405 استماع |
عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل | 2174 استماع |
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم | 2148 استماع |
النبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة [2] | 2130 استماع |
النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة [1] | 2108 استماع |
إرهاصات النبوة [2] | 2070 استماع |
الإسراء والمعراج | 2013 استماع |
عام الحزن وخروج النبي إلى الطائف | 1826 استماع |
صد قريش عن دين الله [1] | 1819 استماع |